آليات علم الأحياء التخليقي
قراءة لغة الحياة والكتابة بها
يعتمد علم الأحياء التخليقي، أو على الأقل الجزء الذي يهتمُّ بالتعديل في الخلايا الحية منه، على قراءة وكتابة تسلسلاتِ قواعد الدي إن إيه المكوِّنة للجينات. يكاد إجراء التعديل يقتصر على المستوى الجيني؛ لأن الجينات تُتوارَث؛ لذا لا نحتاج إلى هندستها إلا مرةً واحدة. وهذا يجعل بمقدورنا التعايُشَ مع التقنيات الهندسية التي لا يعول عليها؛ فبإمكاننا أن نتقبَّل تطبيقَ التعديل المطلوب بدقةٍ ولو على خلية واحدة فقط وسط الملايين، ما دام بإمكاننا تهيئةُ البيئة المحيطة بحيث لا ينجو فيها إلا الخليةُ المعدَّلة، فتتكاثر وتُسيطر على طبق الاستنبات، تاركةً الخلايا التي أخفقنا فيها ميتة.
سينتج عن هذا خليطٌ من السلاسل بألوانٍ مختلفة وأطوالٍ متفاوتة. ومن ثَم يدخل هذا الخليط في وحدة الفصل الكروماتوغرافي، فتخرج منها جزيئات دي إن إيه مرتبةً حسَب طولها. وفي النهاية تُسجل أداة للفحص اللوني تتابع الألوان الذي تراه بمرور السلاسل المرتبة حسَب الطول من خلالها سلسلة تلو أخرى، وتتابع الألوان هذا يُعبر تعبيرًا مباشرًا عن ترتيب القواعد في الشريط المكمل الجديد الذي صنَعْناه، ويمكننا بسهولةٍ أن نستنتج منه تسلسُلَ الشريط المفرد الأصلي.
في وقتنا الحاضر، تجري كلُّ خطوات عملية قراءة الدي إن إيه أوتوماتيكيًّا، وبإمكان جهاز واحد إجراء مئات العمليات في الوقت نفسه (بل ملايين العمليات في بعض الأجهزة). وهذا مفيد لأن ثمة حدًّا لطول قطعةِ دي إن إيه في تسلسلٍ قبل أن تُشكل أخطاء عشوائية مشكلات. ولهذا السبب فمن المعتاد أن نقسم قِطَع الدي إن إيه الطويلة إلى أجزاءٍ أقصَر قبل أن نُحاول قراءتها. ومن ثَم تستخدم خوارزميات حاسوبية لتدقق في الآلاف من هذه التسلسلات القصيرة، وتحدد مساحات التداخل بينها، وتستنتج التسلسل الطويل الأصلي الذي اشتُقَّت منه كلُّ هذه التسلسلات القصيرة.
أما الكتابة بلغة الدي إن إيه فتجري بإحدى طريقتين رئيسيتين. الأولى هي تصنيع القطعة المطلوبة كاملةً بتقنيات تخليق الدي إن إيه، والأخرى هي قصُّ القطع المفيدة من تسلسل دي إن إيه آخر من كائنٍ ما، سواءٌ كان التسلسل طبيعيًّا أو سبق هندسته وراثيًّا، ومن ثَم وصل هذه القطع معًا. وغالبًا ما تدخل في عملية اللصق هذه قطعٌ قصيرة من الدي إن إيه المخلَّق كُليًّا تحمل تسلسلًا لا نجده في الطبيعة؛ لذا فعادةً ما نحتاج إلى قدرٍ من تخليق الدي إن إيه. وعملية بناء دي إن إيه من الصفر عمليةٌ كيميائية أكثر منها بيولوجية. فمن الصعب أن نصل الوحداتِ البنائيةَ (النيوكليوتيدات) معًا دون استخدام الإنزيمات البيولوجية؛ لذا تعتمد العملية الكيميائية الأكثر شيوعًا على البدء بنيوكليوتيدات معدَّلة، بحيث تحتوي على تركيبٍ نشط كيميائيًّا يسمى الفوسفورأميديت في الموضع الذي تتَّصل فيه النيوكليوتيدات بعضُها ببعض. قد تتسبَّب العملية الكيميائية المسئولة عن ربط هذه النيوكليوتيدات في أن تُكوِّن النيوكليوتيدات روابطَ أخرى على جانبَيها، أو أن يرتبط طرَفَا السلسلة بعضهما ببعض. لهذا السبب تحتوي النيوكليوتيدات المعدَّلة على «أغطية» كيميائية واقية في المواضع التي قد تكون نشطةً كيميائيًّا لتمنعها من التفاعلات غير المرغوب فيها. تُنزع هذه الأجزاء الواقية (بالتعرض لحمض مثلًا) عندما تنتهي عمليةُ تخليق الدي إن إيه، تاركةً لنا شريطَ دي إن إيه عاديًّا.
عملية تصنيع دي إن إيه المُفصلة هذه عملية سريعة، وباتت الآن تُجرى أوتوماتيكيًّا، فصار من الممكن إتمامُ العديد من التفاعلات بالتوازي (في بعض التطبيقات تصل إلى مئات الآلاف). لكنها ليست عمليةً مثالية، فالاحتمالية الصغيرة لحدوث أخطاء في كلِّ خطوة تعني أننا محدودون بطولِ قطع الدي إن إيه التي يمكن أن نصنعَها بكفاءة؛ وهذا الحدُّ يبلغ حاليًّا نحو ألف نيوكليوتيدة، أي طول جين صغير، مع مراعاة أن ٣٠٠ نيوكليوتيدة هو الطول الأجدى اقتصاديًّا. ولذلك تُصنع الأشرطة الطويلة عديدة الجينات بوصل قطعٍ أقصر. ولهذا طرقٌ كثيرة، لكن من أكثرها شيوعًا تقنية جيبسون للتجميع، والمسماة تيمُّنًا باسم مبتكِرها دان جيبسون.
التصميم والبناء
مثل أي فرع آخر من فروع الهندسة، تبدأ عملية التصميم بإرساء أهدافٍ واضحة، ومنها نتوصَّل إلى معايير نجاح المشروع، والمواصفات التي لا بد أن يُحققها المنتج النهائي. عادةً ما تركز المرحلة التالية في التصميم على تصور آلية يمكن أن تصل بنا إلى هذه المواصفات من ناحية التوليف بين عدة وحدات تركيبية، مع تأجيل تفاصيل كلٍّ منها إلى وقت لاحق. يُشبه التصميم على هذا المستوى ما يقوم به مُهندسو الإلكترونيات عند وضع مسوَّدة لدائرة ما بالتوليف بين وحدات تركيبية كالمضخم والمُرشِّحات، أو كما يُلخص المبرمجون أفكارَهم في خرائطِ تدفُّق أو أشباهِ أكواد. وتكمن فائدتها في أنها تساعد على تصميم مسوَّداتٍ عديدة والمقارنة بينها بدون استنزاف الكثير من الوقت في التفاصيل. قد تشمل عمليةُ المقارنة بين التصاميم المتنافسة استخدامَ برامج المحاكاة الحاسوبية؛ حيث إنها أسرعُ بكثير من التنفيذ البيولوجي، وقد تُستخدَم نتائج هذه المحاكاة مرشدًا لنا في عملية التعديل على التصميم، ومن ثَم نُجري المحاكاة مرةً أخرى حتى نصل إلى النتائج المرجوَّة من النظام. من أبرز مميزات النمذجة الحاسوبية أنها تسمح للمصممين بمحاكاة النظام مع إحداث فروقات طفيفة في القيم العددية لعوامل مثل كفاءة إنزيم ما، أو المهلة قبل تفعيل جينٍ معيَّن. يمكن لهذا أن يُدلل على ما إذا كان التصميم يتحمل قدرًا من التغيُّر في هذه العوامل، وعمومًا كلما كان النظام يسمح بوجود تغيرات كبيرة كان أكثرَ نفعًا لنا، أما الأنظمة التي لا تعمل إلا في نطاق حدود ضيقة جدًّا فيجدر بنا تجنبها.
الوحدات التركيبية الجاهزة للتجميع
وجود مكتباتٍ للوحدات التركيبية المتاحة مجانًا، له تأثيرٌ هائل على عملية التصميم؛ لأنه ربما يكون من الأفضل من ناحية الوقت والمال المستخدَم في التطوير أن تُستخدَم وحداتٌ تركيبية جاهزة بالفعل، وأن تقتصر عمليةُ التصميم فيما بعدُ على قطعٍ تُساعد على الربط بينها، أو تؤدي وظيفة جديدة كليًّا. يعتمد المدى الذي توفر فيه هذه الوحدات الوقتَ فعلًا على مدى إلمامِنا بخصائص الوحدات القائمة ومدى حساسيتها لتغيُّر نوع الخلية المُضيفة والعوامل البيئية. بدأَت بعضُ قطاعات مجتمع علم الأحياء التخليقي في التعامل مع هذه المشكلة باقتراح مَعايير؛ في البداية بغرض القياس والاختبار، لكن ربما تستهدف في النهاية تعيين الحدِّ الأدنى من المواصفات الذي عنده تستحقُّ الوحداتُ التركيبية اسمًا ما. بنى العلماءُ المهتمُّون بهذا عددًا صغيرًا من الوحدات التركيبية، وحاوَلوا توصيفها بدقةٍ شديدة، مع أنه ما زال لا يمكن الإلمام بكلِّ الظروف المحتملة.
من الحُجج المتكرِّرة المؤيدة لضرورة التنبُّؤ الدقيق بتصرفِ كلٍّ من المكونات كل على حدة في مختلف السياقات والظروف: أن دقة المنتج النهائي محدودة بدقة أسوأ مكوِّن فيه. هذا القول يبدو وجيهًا، لكنه في الحقيقة مغلوط. فالممارسة الهندسية السليمة تستخدم أنظمة تحكُّم مغلقة، حيث يُعاد استخدام ناتج العملية، ويُعاد توجيهه كمُدخَل هذه المرة لإدارة العملية وتوجيهها فيما بعد. تُتيح هذه التغذية الراجعة أن نحصل على نظام عالي الدقة من مكونات منخفضة الدقة. ومن الدروس الأولى التي يتعلمها طالبُ الهندسة الكهربية أن ثَمة طريقَين أساسيين لعمل دائرة تضخيم كهربية بنسبة تضخيم، ولْتكن عشْرَ مرات. الأول لا يستخدم التغذية الراجعة، ويعتمد على استخدام ترانزستورات مواصفاتها معلومة بدقة شديدة؛ وهذا مكلِّف. أما الآخر فيُغذي الدائرة بجزء من الخرج حتى تنتقي الدائرة المقدار الذي تحتاج إليه من إشارة الدخل بما يكفي ليُصبح خرجُها عشَرة أضعاف الدخل؛ وهذه الدائرة يمكن أن تستخدم ترانزستورات رخيصةً لها هامشُ خطأ كبير. المكونات الوحيدة في هذه الدائرة التي يلزم أن تتصرَّف على نحو متوقَّع بدقة هي القِطَع القليلة المسئولة عن مسار التغذية الراجعة، وحتى هنا يشيع استخدام مكونات قابلة للضبط لتعويض الفارق بين السلوك المثالي والحقيقي. وفي علم الأحياء التخليقي، كما في الهندسة الكهربية، بالتصميم الذكي لدائرة تحكم مغلقة قد يُصبح النظام كله أكثرَ تقبُّلًا للتغيرات في أداء مكوناته.
بأخذ كل هذا في الاعتبار، نرى أن الموازنة بين مميزات وعيوب استخدام المكتبات القياسية للقِطَع المستخدَمة في علم الأحياء التخليقي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الغاية النهائية. فللمشاريع قصيرة الأجل، كالمشاريع الطلابية، قد تكون هذه المكتباتُ ذاتَ فائدة كبيرة. فهي تُيسر عملية التصميم السريع وتجميع القطع بحيث تعمل جيدًا. أما في المشاريع الكبيرة التي تهدف لإنتاج أفضلِ تركيب ممكن من أجل تطبيقات عملية واقعية، فربما يكون من الأفضل أن تستثمر الوقتَ في تصميم كل شيء ليُلائم الغرض الدقيق المطلوب، وألا تستخدم الوحدات التركيبية الموجودة بالفعل إلا إذا كانت حقًّا تؤدي الوظيفة المرغوب فيها بدقة تامة. في ستة فقط من المشاريع الاثنين والثلاثين التي سنتعرض لها في الفصول القادمة استُخدِمَت مكتبات علم الأحياء التخليقي بتوسُّع. ينبغي ألا يغيب هذا عن الأذهان عندما نقرأ مزاعمَ مفادُها أن مكتبات القطع القياسية هي محورُ ميدان علم الأحياء التخليقي.
قد نحتاج إلى التضحية بفكرة التصميم المدروس من أجل إنتاج أنظمة مُثلى. فنحن لا نفهم بعدُ ما يكفي عن مواضيعَ مثل بِنْية الإنزيمات لنتمكن باستخدام مبادئ أولية من تصميم جين يحمل شفرةَ أفضلِ إنزيمٍ ممكن؛ لذا من الشائع أن يصنع علماء علم الأحياء التخليقي عددًا ضخمًا من النسخ المتشابهة من الجين، ثم ينتقوا الأفضل من بينها. أحيانًا يحتاج هذا منهم إلى مجهودٍ مُضنٍ في عمل اختباراتٍ كَمِّيَّة للجينات بالتتابع، لكن غالبًا ما يكون من الممكن وضعُ الجين المخلَّق داخل حيز وحدة تركيبية أخرى لا تسمح للخلايا بالنمو إلا بما يتناسب مع كفاءة عمل البروتين الذي يُنتجه الجين الجديد. وهكذا تزدهر الخلايا التي تحمل أفضلَ نسخٍ من الجين وتسيطر على طبق الاستنبات. ربما يتبع ذلك عدةُ جولات من التحورات في الجين الرابح لنرى إن كان من الممكن أن يصبح أفضل بتعديلات بسيطة. تحاكي هذه الآلية التطور الطبيعي، فهي ليست غيرَ عقلانية بمعنى كونِها اعتباطية، لكنها تَحيد عن فكرة «التصميم العقلاني» التي تعمل بالانتقال في اتجاهٍ واحد من المعرفة حتى المنتج النهائي.
إدراج الأنظمة المُخَلَّقة داخل الخلايا الحية
بعد الانتهاء من تركيب البِنية المُخَلَّقة، يَحين وقت إدراجها داخل خليةٍ مضيفة. غالبًا ما يتم ذلك ببنائها على قطعةٍ من دي إن إيه بإمكانها أن تستوطن الخلية، على الأقل مؤقتًا، لكنها تظلُّ منفصلة عن جينوم الخلية نفسه. ويعتمد الاختيار على نوع الخلية المضيفة وحجم البنية الجديدة. قد تضم الخلايا البكتيرية بطريقة طبيعية بلازميدات، وهي قطعٌ دائرية من الدي إن إيه بطولِ بضعة آلاف من النيوكليوتيدات، وتحتوي على تسلسلات خاصة للتأكد من أن الخلية المضيفة استنسخَتها. ومع أن هذه الخاصية تجعل البلازميدات تبدو متطفلةً على الخلايا، فإنها غالبًا ما تحمل جيناتٍ مفيدةً للبكتيريا مثل إعطائها مقاومةً للمضادات الحيوية في الاستخدامات الطبِّية. تستطيع البلازميدات حمل ما يصل إلى بضعة آلاف من النيوكليوتيدات ذات الدي إن إيه المعدَّل، التي عادةً ما تحتوي على جين يُكسِبها مناعةً ضد أحد المضادات الحيوية المستخدَمة مَعمليًّا. غالبا ما تُدرج البلازميدات داخل الخلايا البكتيرية بعمليةٍ عشوائية بعضَ الشيء بإتلاف جدار الخلايا وأغشيتها بما يكفي لإحداث فجوات، ثم تُنقع الخلايا في محلولٍ من البلازميدات التي يدخل بعضُها على الأقل إلى الخلايا. وهذه الخلايا هي الوحيدة التي ستنجو عند تعريضها للمضاد الحيوي فيما بعد.
إن كانت البِنيات الجينية المخلَّقة أكبر من أن تحملها بلازميدات، يمكننا وضعُها داخل باكتيريوفاج (وهو فيروس بإمكانه أن يجتاحَ الخلايا البكتيرية)، بحيث يحلُّ الدي إن إيه المخلَّق محلَّ أغلب الدي إن إيه الذي يحمله الباكتيريوفاج. ينتج عن هذا بكتيريوفاج يمكنه أن يُصيب البكتيريا ويضع داخلها مادته الوراثية لكن لا يمكنه عندئذٍ أن يُتابع دورة حياة فيروسية طبيعية. الكروموسومات البكتيرية الاصطناعية أكبر، ويمكنها حملُ حمولة جينية مُخَلَّقة طولها بضع مئات الآلاف من النيوكليوتيدات. لذا فهي كبيرة بما يكفي لتَحمِل بنياتٍ مخلقةً ضخمة إلى داخل الخلايا.
بإمكان خلايا الخميرة أن تحمل بلازميدات صغيرة، وكذلك كروموسومات بكتيرية اصطناعية للخميرة. هذه الكروموسومات الاصطناعية ليست دائريةً بل خطية، مثل الكروموسومات الطبيعية، وتحتوي على تسلسلات تسمح لها بأن تُستنسَخ وتتحرك مثل الكروموسومات الطبيعية عندما تنقسم الخلايا. تستطيع هذه الكروموسومات أن تحمل مليون نيوكليوتيدة من الدي إن إيه، وهذا عمومًا أكثرُ بكثير مما نحتاج إليه في التطبيقات التخليقية الحاليَّة، لكنه مفيدٌ في المشاريع الضخمة مثل «الخميرة ٢٫٠» كما سنرى لاحقًا. وتوجد أيضًا كروموسومات اصطناعية للثدييات وفي ذلك كروموسومات اصطناعية بشرية. من غير المعتاد نسبيًّا أن تُستخدم الكروموسومات الاصطناعية للثدييات والبشر لتَحمل التشكيلات الجينية المُخَلَّقة بشكل منفصل عن الجينوم المضيف، خصوصًا في خلايا الثدييات؛ لأن الكروموسومات الاصطناعية أكبرُ بكثير مما يمكن التعامل معه. في الغالب تدخل البنيات الجينية إلى خلايا الثدييات محمولةً على بلازميدات بكتيرية، أو داخل فيروس من فيروسات الثدييات غير قادر على التكاثر، بنيَّة أن تصبح البنيات الجينية بذلك جزءًا من جينوم الخلايا المضيفة نفسه.
يظهر في آلية كريسبر/كاس ٩ للتعديل الجيني بشكلٍ مصغر ثلاثُ سمات مهمة تُميز علم الأحياء التخليقي. أوَّلها أن هذه التقنية تستند في الأصل إلى أبحاثٍ بحتة لم تكن في البداية بغرضٍ تطبيقي. فجرى التعرفُ على كريسبر في فضاء استكشاف الجينوم البكتيري، واستغرق الأمر عقودًا حتى باتت أساسَ أداةٍ تطبيقية مهمة، ويَكاد الأمر نفسه يسري على كل شيء يستخدمه علماء علم الأحياء التخليقي. أما السمة الثانية فهي أنها تعتمد عقلية «قرصانٍ» يسطو على ما تطوله يده ويستخدمه لصالحه، وفي هذه الحالة يظهر هذا في استخدام إنزيم كاس ٩ لتسخير منظومة إصلاح الأعطاب في الخلايا لإدماج الجينات المصطنعة في داخل الجينوم. والثالثة هي أن الآلية ليست مضمونةً مائة بالمائة، وتُقابلنا أشياءُ غير متوقَّعة وغير مفيدة، ودائمًا ما نحتاج إلى وسيلةٍ لانتخاب الخلايا التي طُبِّقت عليها الآلية بنجاح والتخلص من البقية.
التداخل والاستقلالية
مادة علم الأحياء التخليقي هي مادة الحياة، وهذا يُشكل مشكلةً محتملة. ربما ستحتفظ الجينات وعناصر التحكم فيها، التي نستعيرها من الكائنات الحية التي تطورت فيها، ببعضٍ من نشاطاتها الأصلية. حتى وإن استخدمناها في خلايا من نوع الخلايا نفسه التي أتت منها نسختها الطبيعية في الأصل، فلا يزال من المحتمل جدًّا أن يتفاعلوا مع أنظمة التحكُّم الخلوية. ربما يُجاهد علماء علم الأحياء التخليقي للحدِّ من هذا التفاعل بين الأنظمة المخلَّقة والطبيعية؛ أي لجعل الأنظمة «مستقلة»، حيث تعني هنا أنها لا يؤثر بعضها في بعض.
الاستقلالية في علم الأحياء التخليقي هي مفهومٌ نسبي فحسب. فالعمليات البيولوجية الأساسية جميعها، سواءٌ كانت عمليات طبيعية أو تخليقية، تضغط على الموارد الأساسية في الخلية مثل الطاقة والمواد الخام والإنزيمات المسئولة عن بعض العمليات مثل عمليات نسخ الجينات ومضاعفتها. حتى عندما يكون النظام المخلَّق مصمَّمًا بعنايةٍ فائقة لكيلا تتفاعل جيناته وبروتيناته تفاعلًا مباشرًا مع جينات وبروتينات الخلايا المضيفة، يمكن أن يتسبَّب التنافس على الموارد في تغيرات في سلوك الخلية. لذلك يجب على المناصرين لدرجةٍ عالية من الاستقلالية أن يُصمموا أنظمتهم بحيث تكون محدودة المتطلبات من الخلية المضيفة، فلا تؤثر على عملياتها الحيوية ولا على مدى أهليتها. والبديل هو أن ننسى أمر الاستقلالية، عندما تسمح لنا اعتباراتُ السلامة، ونتقبل أن التفاعلات ستحدث لا محالة، ونعمل على تصميم مجموعة مؤتلفة من النظام المخلق والخلية المضيفة والبيئة بحيث تنجح هذه المجموعة المؤتلفة في أداء المهمة المطلوبة بكفاءة.