تَمْهِيدٌ

– هَاتِ الْمِنْظَارَ يَا «رَشَادُ»!

– هَاكَ الْمِنْظَارَ يَا أَبَتَاهُ.

وَلَكِنْ أَيُّ فَائِدَةٍ لَكَ مِنْهُ؟ لَعَلَّهُ يُسَاعِدُكَ عَلَى الْقِرَاءَةِ.

– نَعَمْ يَا عَزِيزِيَ الصَّغِيرَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ بِدُونِهِ.

لَقَدْ ضَعُفَتْ عَيْنَايَ، وَأَصْبَحَتَا — بَعْدَ أَنْ كَبِرْتُ — عَاجِزَتَيْنِ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ مِنْظَارٍ؛ كَمَا يَعْجِزُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ (الطَّاعِنُ فِي السِّنِّ) عَنِ السَّيْرِ — فِي طَرِيقِهِ — إِلَّا إِذَا تَوَكَّأَ عَلَى عَصَاهُ.

– مَا أَعْجَبَ مَا تَقُولُ يَا أَبِي! وَمَا كُنْتُ أَحْسَبُ الزُّجَاجَ نَافِعًا إِلَى هَذَا الْحَدِّ!

– كَيْفَ لَا، وَمِنْهُ يُصْنَعُ الْمِجْهَرُ (الْمِنْظَارُ الْمُكَبِّرُ)، وَالْمِرْقَبُ (الْمِنْظَارُ الْمُقَرِّبُ)؟

– وَهَلْ تَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا فِي الْقِرَاءَةِ أَيْضًا؟

– كَلَّا يَا عَزِيزِي، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا الْعُلَمَاءُ الْبَاحِثُونَ.

فَلَوْلَا الْمِجْهَرُ لَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَرَوا الْآلَافَ الَّتِي لَا تُحْصَى مِنَ الْكَائِنَاتِ الصَّغِيرَةِ، وَالْجَرَاثِيمِ الْمُتَنَاهِيَةِ فِي الدِّقَّةِ.

وَلَوْلَا الْمِرْقَبُ لَعَجَزُوا عَنْ رُؤْيَةِ الْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ الْبَعِيدَةِ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَرْسَهَا، وَتَعَرُّفَ حَقَائِقِهَا وَمِقْدَارِ أَحْجَامِهَا وَمَدَى مَسَافَاتِهَا وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

– مَا أَعَجَبَ شَأْنَ الزُّجَاجِ، فَمَا كَانَ يَخْطُرُ عَلَى بَالِي شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتَ!

– كَيْفَ، وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْمَوَادِّ الَّتِي لَا نَسْتَغْنِي عَنْهَا فِي كُلِّ مَنَاحِي الْحَيَاةِ؟

وَلَوْلَاهُ لَعَجَزَتْ آلاتُ التَّصْوِيرِ عَنِ الْتِقَاطِ الصُّوَرِ، وَلَمَا تَمَكَّنَ الْعُلَمَاءُ مِنَ اخْتِرَاعِ الْبَارُومِتْرِ (مِقْيَاسِ الْجَوِّ)، وَهُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي نَعْرِفُ بِهِ مِقْدَارَ ثِقَلِ الْهَوَاءِ.

وَلَوْلَاهُ لَمَا تَمَكَّنُوا مِنْ صُنْعِ التِّرْمُومِتْرِ (مِيزَانِ الْحَرَارَةِ وَمِقْيَاسِهَا).

وَلَوْلَاهُ — يَا عَزِيزِيَ — لَمَا وُفِّقَ الْمُخْتَرِعُونَ إِلَى صُنْعِ الْآلَاتِ الْكَهْرَبِيَّةِ النَّافِعَةِ.

وَلَوْلَاهُ لَمَا ظَفِرَتِ الدُّورُ والْقُصُورُ بِمَا تَزْدَانُ بِهِ مِنَ الْمَرَايَا وَالْمَصَابِيحِ وَالثُّرَيَّا وَالْأَقْدَاحِ وَالْآنِيَةِ الْبَدِيعَةِ الصُّنْعِ، الرَّائِعَةِ النَّقْشِ.

– عَجِيبٌ مَا أَسْمَعُ!

– أَيُّ عَجَبٍ فِي ذَلِكَ؟

وَلَكِنَّهَا عَادَةُ الْإِنْسَانِ، أَلَّا يَفْطَنَ إِلَى قِيمَةِ الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا حُرِمَهُ.

فَالصِّحَّةُ لَا يَقْدُرُهَا إِلَّا الْمَرِيضُ الَّذِي سُلِبَ نِعْمَةَ الْعَافِيةِ.

وَالنَّظَرُ لَا يَقْدُرُهُ إِلَّا الضَّرِيرُ الَّذِي حُرِمَ نِعْمَةَ الْإِبْصَارِ.

وَالسَّمْعُ لَا يَقْدُرُهُ إِلَّا الْأَصَمُّ الَّذِي فَقَدَ حِسَّ الْأُذُنِ.

وَالْبَدْرُ يَفْتَقِدُهُ النَّاسُ (يَطْلُبُونَهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ)، إِذَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ ظَلَامُ اللَّيْلِ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْقَائِلُ:

«وَفِي اللَّيلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفتَقَدُ الْبَدْرُ.»

– فَكَيْفَ اخْتُرِعَ الزُّجَاجُ يَا أَبِي؟

– ذَلِكَ مَوْضُوعٌ طَوِيلٌ، أَلَّفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْبُحُوثِ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمُمْتِعَةِ.

•••

لَمْ يَنْتَهِ الْحِوَارُ، حَتَّى أَدْرَكَ أَبُو «رَشَادٍ» شَغَفَ وَلَدِهِ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ الطَّرِيفِ، وَرَغْبَتَهُ فِي الِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ.

فَأَسْرَعَ الْوَالِدُ إِلَى مَكْتَبَتِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مُؤَلَّفًا مِنْ أَنْفَسِ الْمُؤَلَّفَاتِ الَّتِي ظَفِرَتْ بمَوْفُورِ إِعْجَابِهِ — وَهُوَ فِي أَيَّامِ شَبَابِهِ — عُنْوَانُهُ: مَدِينَةُ الزُّجَاجِ.

ثُمَّ قَصَّ خُلَاصَةَ الْكِتَابِ عَلَى وَلَدِهِ، بَعْدَ أَنْ أَضَافَ إِلَيْهَا طَرَائِفَ مِمَّا قَرَأَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ.

فَامْتَلَأَتْ نَفْسُ الْفَتَى الصَّغِيرِ إِعْجَابًا بِمَا سَمِعَهُ مِنْ صَادِقِ الْحَقَائِقِ، وَبَدِيعِ الْأَخْيِلَةِ.

وَلَمْ يَشَأْ وَالِدُهُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ صَغِيرُهُ بِهَذِهِ الْبَدَائِعِ (أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا وَحْدَهُ)، وَرَأَى مِنْ وَاجِبِهِ أَنْ تَشْرَكَهُ — فِي التَّمَتُّعِ بِهَا — أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَصَوَاحِبُكَ مِنْ قُرَّاءِ هَذِهِ الْقِصَصِ، لِتَنْعَمُوا بِمَا نَعِمَ بِهِ فَتَاهُ مِنْ طَرَائِفَ وَمُتَعٍ، لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْهَا صَفْحَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ صَفَحَاتِ هَذَا الْكِتَابِ.

كامل كيلاني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤