الْفَصْلُ السَّابِعُ

(١) فِي مَصْنَعِ الزُّجَاجِ

– أَيُّ عَالَمٍ بَهِيجٍ مِنْ عَوَالِمِ الْمَعْرِفَةِ، فَتَحْتَ آفَاقَهُ يَا أَبِي، بِمَا جَلَوْتَهُ لَنَا مِنَ الْحَقَائِقِ، وَمَا قَصَصْتَهُ عَلَيْنَا مِنَ الْأَخْيِلَةِ، فِي اللَّيَالِي السَّابَقَةِ!

– إِنَّ خَيْرَ وَسِيلَةٍ — يَا أَبْنَائِي الْأَعِزَّاءَ — لِمَعْرِفَةِ صِنَاعَةِ الزُّجَاجِ، هِيَ أَنْ نَذْهَبَ إِلَى بَعْضِ مَصَانِعِهِ.

وَقَدْ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْحَظِّ أَنَّ لِي صَدِيقًا صَحِبْتُهُ، مُنْذُ كُنَّا طَالِبَيْنِ فِي أَوَّلِ عَهْدِنَا بِالدِّرَاسَةِ، وَهُوَ الْآنَ يُدِيرُ أَحَدَ مَصَانِعِ الزُّجَاجِ.

وَقَدِ اسْتَأْذَنْتُهُ فِي اصْطِحَابِكُمْ غَدًا لِزِيَارَةِ مَصْنَعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَبْهَجَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ تَلْبِيَةِ هَذِهِ الرَّغْبَةِ.

وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ يَكُونَ غَدًا مَوْعِدُ هَذِهِ الزِّيَارَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُبَارَكَةِ. وَسَتَذْهَبُ بِنَا السَّيَّارَةُ إِلَى الْمَصْنَعِ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

وَلَا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ الْأُسْرَةِ حِينَ جَاءَ الْغَدُ، وَذَهَبَتْ بِهِمُ السَّيَّارَةُ إِلَى مَصْنَعِ الزُّجَاجِ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ فِي ضَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ.

وَكَانَ مُدِيرُهُ مِثَالًا لِلدَّمَاثَةِ وَاللُّطْفِ، وَسَعَةِ الثَّقَافَةِ وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ. وَقَدْ رَحَّبَ بِزَائِرِيهِ أَكْرَمَ تَرْحِيبٍ، وَأَدْخَلَهُمْ أَوَّلَ حُجْرَاتِ الْمَصْنَعِ الْكَبِيرِ، وَهِيَ بَهْوٌ فَسِيحٌ يَتَخَلَّلُهُ الْهَوَاءُ، وَقَالَ:

«انْظُرُوا هَذِهِ الْأَكْيَاسَ، إِنَّهَا تَحْوِي مَادَّةَ «السِّيلِيسِ». وَهُنَاكَ الصُّوَدَا وَالْبُوتَاسَا. وَهَذِهِ هِيَ الْمَوَادُّ الْأَوَّلِيَّةُ الضَّرُورِيَّةُ.

وَمِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ — مُنَقَّاةً — يُصْنَعُ زُجَاجُ النَّوَافِذِ وَآلَاتُ الْكِيمْيَاءِ (الْأَدَوَاتُ الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا الْكِيمْيَاوِيُّونَ فِي مَعَامِلِهِمْ)، وَأَكْوَابُ الشَّرَابِ، وَأَقْدَاحُ الشَّايِ.»

– مَاذَا تَعْنِي بِالسِّيلِيسِ؟

– هُوَ «أُكْسِيدُ السِّيلِسْيُومِ»، وَهُوَ رَمْلٌ نَاعِمٌ جِدًّا.

تَأَمَّلُوا — أَيُّهَا الْأَعِزَّاءُ — فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ الزُّجَاجِيَّةِ الشَّفَّافَةِ الْبَيْضَاءِ، أَلَا تَجِدُونَهَا غَايَةً فِي الصَّقْلِ وَالنَّقَاءِ؟ وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكُمْ، فَقَدْ صُنِعَتْ مِنَ الْمَوَادِّ الشَّفَّافَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَكُمْ.

– قَلْتَ لَنَا: إِنَّ «السِّيلِسْيُومَ» هُوَ رَمْلٌ نَاعِمٌ جِدًّا، فَأَيْنَ يُوجَدُ؟

– مَا أَكْثَرَ مَا تَجِدَونَهُ فِي رِمَالِ «مِصْرَ»؛ فِي رِمَالِ «الْأَهْرَامِ»، وَفِي رِمَالِ «الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ»، وَلَعَلَّ «أُسْوَانَ» وَ«الْفَيُّومَ» هُمَا أَغْنَى الْمَنَاطِقِ بِهِ. وَالسِّيلِيسُ — كَمَا قُلْتُ لَكُمْ — هُوَ أَهَمُّ الْمَوَادِّ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا صِنَاعَةُ الزُّجَاجِ.

– فَأَيْنَ تُوجَدُ بَقِيَّةُ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى!

أَيُمْكِنُ الْعُثُورُ عَلَيْهَا فِي «مِصْرَ»؟

– لَا مِرَاءَ فِي هَذَا، أَيُّهَا الْأَعِزَّاءُ، فَعِنْدَنَا الْجِيرُ وَالصُّودَا وَالْمَنْجَنِيزُ وَالْبُوتَاسَا، وَهَذِهِ هِيَ أَهَمُّ الْعَنَاصِرِ الَّتِي نَحْتَاجُ إِلَيْهَا.

أَمَّا بَقِيَّةُ الْمَوَادِّ فَهِيَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا نَطْلُبُهُ مِنْهَا لَا يَتَجَاوَزُ مَقَادِيرَ قَلِيلَةً مَيْسُورَةً، لَا يَعِزُّ اسْتِيرَادُهَا، وَلَا يَصْعُبُ الْحُصُولُ عَلَيْهَا.

وَلَا رَيْبَ أَنَّكُمْ عَرَفْتُمْ — مِمَّا قَرَأْتُمُوهُ — أَنَّ بَرَاعَةَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ قَدْ بَلَغَتْ حَدًّا يَدْعُو إِلَى الْإِعْجَابِ؛ فَقَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ وُفِّقَ إِلَى اخْتِرَاعِهِ مُنْذُ أَقْدَمِ الْعُصُورِ، ثُمَّ حَالَفَهُمُ التَّوْفِيقُ، فَتَدَرَّجُوا فِي تَجْوِيدِهِ، مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ، حَتَّى تَمَكَّنُوا مِنْ صَوْغِ نَفَائِسَ مِنْ تُحَفِهِ وَطَرَائِقِهِ، لَا تَكَادُ تَخْتَلِفُ فِي مَنْظَرِهَا وَلَأْلَائِهَا عَنِ الْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ.

– وَلَوْ ذَهَبْتُمْ إِلَى دَارِ الْآثَارِ، لَرَأَيْتُمْ مَا يُبْهِرُ أَنْظَارَكُمْ مِنْ بَدِيعِ الثُّرَيَّا وَالْمَصَابِيحِ الزُّجَاجِيَّةِ.

لَقَدْ شَاءَ اللهُ أَنْ تَزْدَهِرَ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ الْمِصْرِيَّةُ، فَهَيَّأَ لَهَا الْأَسْبَابَ.

وَهَكَذَا اجْتَمَعَ نَشَاطُ «الْفِينِيقِيِّينَ» وَبَرَاعَتُهُمْ فِي التِّجَارَةِ، إِلَى تَجْوِيدِ «الْمِصْرِيِّينَ» وَبَرَاعَتِهِمْ فِي الصِّنَاعَةِ، فَرَاجَتْ صِنَاعَةُ الزُّجَاجِ بِفَضْلِ مَا بَذَلَهُ «الْفِينِيقِيُّونَ» مِنْ جُهُودٍ مَوْصُولةٍ فِي نَقْلِهِ إِلَى جَمِيعِ أَرْجَاءِ الْعَالَمِ.

وَاشْتَدَّ إِعْجَابُ «الرُّومَانِيِّينَ»، بِمَا رَأَوْهُ فِي «مِصْرَ» مِنْ طَرَائِفِ صُنْعِهِ، فَفَرَضُوا عَلَى الْمِصْرِيِّينَ ضَرِيبَةً مِنَ التُّحَفِ الزُّجَاجِيَّةِ يُصَدِّرُونَهَا إِلَى «رُومَةَ».

فَلَّمَا وَلِيَ «نِيرُونُ» الْحُكْمَ، اشْتَدَّ إِعْجَابُهُ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَمَاسَةُ لِاقْتِبَاسِهَا، وَإِدْخَالِهَا إِلَى «رُومَةَ». فَاسْتَقْدَمَ طَائِفَةً مِنْ مَهَرَةِ الصُّنَّاعِ الْمِصْرِيِّينَ الْبَرَعَةِ، خَلَقُوا فِيهَا ثَوْرَةً صِنَاعِيَّةً، آتَتْ أَطْيَبَ الثَّمَرَاتِ.

وَكَانَ لِلْمِصْرِيِّينَ فَضْلُ تَعْرِيفِ «الرُّومَانِ» بِهَذَا الْفَنِّ الزُّجَاجِيِّ، وَالتَّمْكِينِ لِصِنَاعَتِهِ فِي «رُومَةَ»، حَيْثُ انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ بُلْدَانِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى.

– تَعْنِي أَنَّ «رُومَةَ» قَبَسَتْ مِنْ «مِصْرَ» صِنَاعَةَ الزُّجَاجِ؟

– نَعَمْ، ثُمَّ نَقَلَتْهَا الْبِلَادُ الْأُخْرَى عَنْ «رُومَةَ»، فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ عَرَفَتْهَا «فَرَنْسَا» وَ«إِسْبَانْيَا» وَغَيْرُهُمَا.

وَمَا زَالَتْ تَنْتَقِلُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ فِي مَدِينَةِ «الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ»، فِي عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْعَامِلِينَ عَلَى تَشْجِيعِهَا، وَالتَّمْكِينِ لَهَا فِي بِلَادِهِ.

وَكَانَتْ «رُومَةُ» شَدِيدَةَ الْحِرْصِ عَلَى الِاحْتِفَاظِ بَهَذِهِ الصِّنَاعَةِ — حِينَ قَبَسَتْهَا — فَلَمْ تَسْمَحْ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَسْرَارِهَا، فَفَرَضَتْ عُقُوبَةَ الْمَوْتِ عَلَى كُلِّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِإِذَاعَةِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَحَصَرَتْ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ وَعُمَّالَهَا فِي جَزِيرَةِ «الْبُنْدُقِيَّةِ»، وَفَرَضَ حُكَّامُ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ عُقُوبَةَ الْإِعْدَامِ عَلَى كُلِّ مَنْ يُحَاوِلُ إِذَاعَتَهَا.

– فَهَلْ بَقِيَ السِّرُ مَكْتُومًا؟

– هَيْهَاتَ! فَقَدْ تَسَرَّبَ — كَمَا عَلِمْتُمْ — إِلَى «فَرَنْسَا» وَ«إِسْبَانْيَا» وَ«إِنْجِلْتِرَا» وَ«بَلْجِيكَا» وَ«أَلْمَانْيَا».

– كُلُّ سِرٍّ جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ ذَاعَ.

– تُرَى هَلْ يُصْنَعُ زُجَاجُ الْمَرَايَا مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ الَّتِي يُصْنَعُ مِنْهَا الزُّجَاجُ؟

– زُجَاجُ الْمَرَايَا لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي تَرْكِيبِهِ. وَالْمُهِمُّ فِي زُجَاجِ الْمَرَايَا لَيْسَ تَرْكِيبُهُ، بَلْ هُوَ طَرِيقَةُ صُنْعِهِ وَصَقْلِهِ حَتَّى يَبْدُو شَفَّافًا تَمَامًا.

– وَزُجَاجُ الْقَوَارِيرِ؟

– الشَّائِعُ الْمُتَّبَعُ — فِي صِنَاعَتِهِ — أَنْ يَكُونَ مِزَاجًا مِنْ كَرْبُونَاتِ الصُّودَا وَالرَّمْلِ وَأُكْسِيدِ الْحَدِيدِ وَالْمَنْجَنِيزْيَا. وَنَظَرًا لِأَنَّ زُجَاجَ الْقَوَارِيرِ هُوَ — عَلَى الْأَغْلَبِ — مُلَوَّنٌ، فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي صِنَاعَتِهِ رَمْلٌ أَقَلُّ نَقَاءً.

– مَا بَالُنَا لَا نَرَى هَذَا الزُّجَاجَ فِي مِثْلِ بَيَاضِ زُجَاجِ النَّوَافِذِ؟

– إِنَّ اللَّوْنَ الْأَخْضَرَ الدَّاكِنَ الَّذِي تَتَمَيَّزُ بِهِ أَكْثَرُ الْقَوَارِيرِ، إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ إِضَافَةِ أُكْسِيدِ الْحَدِيدِ.

– لِمَاذَا تَذْكُرُ دَائِمًا كَرْبُونَاتِ الصُّودَا؟ أَهِيَ لَازِمَةٌ دَائِمًا فِي صُنْعِ الزُّجَاجِ؟

– الْمَادَّةُ الْأَسَاسِيَّةُ فِي صُنْعِ الزُّجَاجِ هِيَ الرَّمْلُ، وَمِنْهُ يَتَكَوَّنُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَزْنِهِ، إِلَّا أَنَّ الرَّمْلَ لَا يَنْصَهِرُ إِلَّا فِي دَرَجَةِ حَرَارَةٍ عَالِيَةٍ؛ لِذَلِكَ يُضَافُ إِلَيْهِ مَادَّةٌ تُخَفِّضُ مِنْ دَرَجَةِ انْصِهَارِهِ، وَهِيَ كَرْبُونَاتُ الصُّودَا أَوْ كَرْبُونَاتُ الْبُوتَاسْيُومِ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ: «الْبُوتَاسَا»، وَلَكِنْ بِاتِّحَادِ الرَّمْلِ مَعَ كَرْبُونَاتِ الصُّودَا أَوِ الْبُوتَاسَا، تَتَكَوَّنُ مَادَّةٌ تَتَأَثَّرُ بِالْمَاءِ تَأَثُّرًا شَدِيدًا، فَمِنْ هُنَا وَجَبَ إِضَافَةُ مَادَّةٍ ثَالِثَةٍ هِيَ: كَرْبُونَاتُ الْكَلْسِيُومِ؛ أَيِ الْجِيرُ.

– وَزُجَاجُ «بُوهِمْيَا» الْمَشْهُورُ، أَتُرَاهُ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ؟

– نَعَمْ، فَهُوَ زُجَاجٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ نَاصِعِ الْبَيَاضِ، فَهُوَ يُصْنَعُ مِنَ الرَّمْلِ النَّقِيِّ وَالْبُوتَاسَا وَالْجِيرِ.

– مَاذَا تَعْنِي بِالرَّمْلِ النَّقِيِّ؟

– الرَّمْلُ النَّقِيُّ فِي صِنَاعَةِ الزُّجَاجِ هُوَ الْأَكْثَرُ خُلُوًّا مِنْ أُكْسِيدِ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأُكْسِيدَ — كَمَا ذَكَرْتُ لَكَ — يُلَوِّنُ الزُّجَاجَ الْأَخْضَرَ.

– وَهَلْ يُوجَدُ رَمْلٌ خَالٍ تَمَامًا مِنْ أُكْسِيدِ الْحَدِيدِ؟

– لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا؛ لِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ عِدَّةُ طُرُقٍ لِلتَّخَلُّصِ — جُهْدَ الْمُسْتَطَاعِ — مِنْ تَأْثِيرِ أُكْسِيدِ الْحَدِيدِ السَّيِّءِ عَلَى الزُّجَاجِ.

– وَالزُّجَاجُ الْبَلُّورُ (الْكِرِيسْتَالُ)، هَلْ هُوَ نَوْعٌ آخَرُ غَيْرُ زُجَاجِ «بُوهِمْيَا»؟

– كَلَّا، بَلْ هُوَ مِنْ نَفْسِ النَّوْعِ. إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَبْدَلُ بِمَادَّةِ الْجِيرِ مَادَّةُ «الْمِينْيُومِ».

– مَاذَا تَعْنِي ﺑِ «الْمِينْيُومِ»؟

– هُوَ أُكْسِيدُ الرَّصَاصِ الشَّدِيدُ الِاحْمِرَارِ.

وَهُنَا رَأَى مُدِيرُ الْمَصْنَعِ «ثَرْوَةَ» وَإِخْوَتَهُ يُدَوِّنُونَ — فِي أَوْرَاقِهِمْ — مَا يَسْمَعُونَ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمُ الْمَقَادِيرَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا صَانِعُ الْبَلُّورِ، وَهِيَ:
  • (١)

    مِائَةُ جُزْءٍ مِنَ الرَّمْلِ الْأَبْيَضِ النَّاعِمِ.

  • (٢)

    سِتَّةٌ وَسِتُّونَ جُزْءًا مِنَ الرَّصَاصِ الْأَحْمَرِ.

  • (٣)

    ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ كَرْبُونَاتِ الْبُوتَاسْيُومِ (الْبُوتَاسَا).

  • (٤)

    عَشْرَةُ أَجْزَاءٍ مِنَ النَّتْرَاتِ.

  • (٥)

    مِنْ سِتِّينَ جُزْءًا إِلَى مِائَةٍ، مِنْ حُطَامِ الزُّجَاجِ (الزُّجَاجِ الْمَكْسُورِ).

وَسَأَلَهُ «ثَرْوَةُ»، يَسْتَزِيدُهُ بَيَانًا عَنِ الْمِينْيُومِ: أُكْسِيدِ الرَّصَاصِ الْأَحْمَرِ.

فَقَالَ: «اعْلَمْ — يَا عَزِيزِي — أَنَّ هَذَا الْمِينْيُومَ هُوَ الَّذِي نَسْتَخْدِمُ لَوْنَهُ الْأَحْمَرَ الْجَمِيلَ دِهَانًا لِلْحَدِيدِ، لِيَقِيهِ مِنَ الصَّدَأِ.»

– وَلَكِنْ، مَا بَالُ لَوْنِهِ لَا يَظْهَرُ فِي الْبَلُّورِ؟

– لَا بَقَاءَ لِلَّوْنِ إِذَا ذَابَ، عَلَى أَيِّ حَالٍ.

وَلَكِنَّ فَائِدَةَ هَذَا الرَّصَاصِ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي وَزْنِ الزُّجَاجِ، وَيَجْعَلُهُ أَثْقَلَ مِنَ الزُّجَاجِ الْعَادِيِّ، وَأَكْثَرَ رَنِينًا، كَمَا يَجْعَلُهُ أَسْرَعَ إِلَى الْكَسْرِ.

وَهُوَ يُجَهَّزُ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ، وَيُسْتَعْمَلُ لِآلَاتِ النَّظَرِ، وَهُنَاكَ بَلُّورٌ أَصْفَى مِنْ هَذَا وَأَنْقَى، وَمِنْهُ تُصَاغُ الْحُلِيُّ الزُّجَاجِيَّةُ، عَلَى هَيْئَةِ الْمَاسِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ الْأُخَرَى، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَمْزُجُونَهُ بِهَا مِنْ أَلْوَانٍ.

– مَا أَبْدَعَ اخْتِرَاعَ الزُّجَاجِ! فَهُوَ — فِيمَا يُخَيَّلُ لِي — يَحْتَمِلُ كُلَّ مَا يُسْتَوْدَعُ مِنْ أَنْوَاعِ السَّوَائِلِ الَّتِي تَأْكُلُ الْخَشَبَ وَالْحَدِيدَ.

– لَا تَطْمَئِنِّي إِلَى هَذَا الرَّأْيِ — يَا بُنَيَّتِي — فَإِنَّ أَجْمَلَ نَوْعٍ مِنَ الزُّجَاجِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِيبِهِ كَثِيرٌ مِنَ الصُّودَا أَوِ الْبُوتَاسَا، لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ الْمَاءُ إِذَا تَوَالَى عَلَيْهِ، وَطَالَ بِهِ الزَّمَنُ.

أَلَمْ تُلَاحِظِي أَلْوَاحًا مِنَ الزُّجَاجِ تَغَيَّرَ لَوْنُهَا مِنَ الصَّفَاءِ إِلَى الْقَتَامَةِ، لِطُولِ الْقِدَمِ، وَأَصْبَحَتْ أَلْوَانُ «قَوْسِ قُزَحَ» تَنْعَكِسُ عَلَيْهَا؟

– صَدَقْتَ. وَطَالَمَا شَهِدْتُ ذَلِكَ فِي نَوَافِذِ الْبُيُوتِ الْقَدِيمَةِ فِي الْخَلَاءِ.

– حَسَنٌ! لَقَدْ رَأَيْتِ كَيْفَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُ الزُّجَاجِ بَعْدَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ سَنَوَاتٍ عِدَّةً، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ تَضُرَّ بِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا. عَلَى أَنَّهُ لَنْ يَلْبَثَ أَنْ يَسْتَرِدَّ لَوْنَهُ الْأَوَّلَ إِذَا اسْتَخْدَمْنَا فِي تَنْظِيفِهِ قِطْعَةً رَقِيقَةً مِنَ الْجِلْدِ.

– وَلِفَقَاقِيعِ الصَّابُونِ أَلْوَانُ «قَوْسِ قُزَحَ» أَيْضًا.

– وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي الدَّوَارِقِ الزُّجَاجِيَّةِ، الَّتِي صُنِعَتْ فِي قَدِيمِ الْعُصُورِ، وَلَبِثَتْ مَطْمُورَةً زَمَنًا طَوِيلًا قَبْلَ أَنْ يَهْتَدِيَ الْكَاشِفُونَ إِلَيْهَا.

وَلَمَّا أَتَمَّ مُدِيرُ الْمَصْنَعِ حَدِيثَهُ الْعِلْمِيَّ الشَّائِقَ، صَحِبَ زَائِرِيهِ إِلَى حُجْرَةٍ أُخْرَى فَسِيحَةٍ بِهَا أَفْرَانٌ كَبِيرَةٌ، حِجَارَتُهَا صُلْبَةٌ، لَا تَتَأَثَّرُ بِالْحَرَارَةِ. وَكَانَتِ التَّنَانِيرُ (الْأَفْرَانُ) أَشْبَهَ شَيْءٍ بِقِبَابٍ ذَاتِ فَتَحَاتٍ، تَكْثُرُ فِي بَعْضِهَا، وَتَقِلُّ فِي الْأُخْرَى، وَقَدِ اسْتَعَرَتْ فِيهَا نَارٌ مُتَأَجِّجَةٌ، ذَاتُ حَرَارَةٍ مُرْتَفِعَةٍ، يَنْبَعِثُ مِنْهَا — مَعَ تَيَّارَاتِ الْهَوَاءِ — لَهِيبٌ جَاحِمٌ (مُضْطَرِمٌ).

ثَمَ قَالَ: «فَوْقَ هَذِهِ النِّيرَانِ الْحَامِيَةِ بَوَاتِقُ، مُلِئَتْ كُلُّ بَوْتَقَةٍ بِالسَّائِلِ الزُّجَاجِيِّ. وَهَذِهِ الْبَوَاتِقُ مَكْشُوفَةٌ — كَمَا تَرَوْنَ — وَفِيهَا تَذُوبُ الْمَوَادُّ الَّتِي يُصْنَعُ مِنْهَا الزُّجَاجُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.

وَبَوَاتِقُ الْبَلُّورِ كَمَا تَرَوْنَهَا أَمَامَكُمْ مُغَطَّاةٌ؛ لِأَنَّ حَرَارَةَ الْأَتُونِ (الْفُرْنِ) نَاتِجَةٌ مِنَ الْفَحْمِ الْحَجَرِيِّ؛ فَإِذَا غُطِّيَتْ كَانَ ذَلِكَ أَكْفَلَ بِنَقَائِهَا، وَأَدْعَى لِوِقَايَتِهَا مِمَّا يَتَسَاقَطُ مِنْ مَوَادِّهِ الَّتِي تُعَكِّرُ صَفَاءَهَا.

وَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تَرَوْنَ فِي الْحُجْرَةِ طَائِفَةً مِنَ الْعُمَّالِ يُمْسِكُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَنَابِيبَ طُوَالًا مِنَ الْحَدِيدِ، مَحْفُورَةً، يَضَعُونَهَا فِي الْبَوَاتِقِ الَّتِي يَصْهَرُونَ فِيهَا مَادَّةَ الزُّجَاجِ وَيُذِيبُونَهَا، ثُمَّ يَسْحَبُونَ ذَائِبَهَا الْمَصْهُورَ بِأَسْرَعِ مَا يَسْتَطِيعُونَ؛ فَتَخْرُجُ الْأَنَابِيبُ وَفِي أَطْرَافِهَا أَقْبَاسٌ مِنْ هَذِهِ الْعَجِينَةِ الْمُشِعَّةِ.

انْظُرُوا: هَا هُوَ ذَا أَحَدُ الْأَبْهَاءِ الطَّوِيلَةِ الْمُعْتِمَةِ، وَهَا هُوَ أَتُونٌ (فُرْنٌ) شَدِيدُ الْحَرَارَةِ، مُسْتَعِرُ اللَّهَبِ، وَهَا هُوَ ذَا عَامِلٌ قَوِيُّ الْجِسْمِ، مَفْتُولُ السَّاعِدَيْنِ، يُمْسِكُ بِيَدِهِ أُنْبُوبَةً طَوِيلَةً مُجَوَّفَةً؛ يُدْخِلُهَا فِي هَذَا الْأَتُونِ الْمُلْتَهِبِ ثُمَّ يُخْرِجُهَا مِنْهُ، وَفِي طَرَفِهَا كُرَةٌ مِنَ الْعَجِينِ الزُّجَاجِيِّ عَالِقَةٌ بِهِ.

هَا هُوَ ذَا يُحَرِّكُهَا أَمَامَكُمْ — فِي الْهَوَاءِ — حَرَكَاتٍ مُتَّئِدَةً بَطِيئَةً. ثُمَّ يُدْنِي طَرَفَ الْأُنْبُوبَةِ مِنْ فَمِهِ حَتَّى تَلْمُسَ شَفَتَيْهِ.

وَيَظَلُّ يَنْفُخُ فِي الْأُنْبُوبَةِ، مُتَرَفِّقًا فِي النَّفْخِ. فَمَاذَا تَرَوْنَ الْآنَ؟

هَا هِيَ ذِي كُرَةُ الْعَجِينِ الْمُلْتَهِبِ تَنْتَفِخُ.

فَأَيَّ شَكْلٍ تَرَوْنَهَا قَدِ اتَّخَذَتْ؟»

– أَصْبَحَتْ عَلَى هَيْئَةِ بَصَلَةٍ!

– صَدَقْتَ، وَأَجَدْتَ التَّشْبِيهَ، أَيُّهَا الصَّغِيرُ الْعَزِيزُ.

وَهَا هُوَ ذَا يُدِيرُ الْأُنْبُوبَةَ فِي الْهَوَاءِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا يَزَالُ يُحَرِّكُهَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى، ثُمَّ يُعِيدُ نَفْخَهَا، كَمَا بَدَأَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَكَيْفَ تَرَوْنَهَا الْآنَ؟

– أَصْبَحَتْ عَلَى هَيْئَةِ كُرَةٍ تَامَّةِ التَّكْوِيرِ.

– فَمَاذَا يَصْنَعُ بِالْكُرَةِ الْمُلْتَهِبَةِ؟

– مَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّجَاجِ. وَالْآنَ أَنْتَقِلُ بِكُمْ لِتَشْهَدُوا صِنَاعَةَ الْقَوَارِيرِ: عِنْدَمَا يَسْتَخْرِجُ الْعَامِلُ بِهَذِهِ الْأُنْبُوبَةِ مَا يَكْفِي مِنَ الزُّجَاجِ السَّائِلِ، يُدِيرُ الْأُنْبُوبَةَ بِسُرْعَةٍ فِي الْهَوَاءِ، بِحَرَكَةٍ تُمَاثِلُ حَرَكَةً مِنْ طَارِقِ جَرَسٍ، ثُمَّ يَنْفُخُ لِيُدَوِّرَ الْقِطْعَةَ. فَإِذَا اسْتَدَارَتْ، وَضَعَهَا فِي قَالَبٍ، وَلَا يَزَالُ يَنْفُخُ — وَهُوَ يُدِيرُهَا — حَتَّى يُسَوِّيَهَا قَارُورَةً عَلَى أَيِّ شَكْلٍ شَاءَ.

فَإِذَا تَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ، أَضَافَ إِلَى عُنُقِهَا قِطْعَةً مِنَ الْعَجِينِ الزُّجَاجِيِّ لِيُهَيِّئَ لَهَا فَمًا مُنَاسِبًا، يَسْتَقِرُّ فِيهِ سِدَادُهَا، ثُمَّ يُعِيدُ تَسْخِينَ الْقَارُورَةِ لِتُصْبِحَ صَالِحَةً لِلِاسْتِعْمَالِ، مُعَدَّةً لِلْبَيْعِ.

figure

– مَا أَشَقَّهُ عَمَلًا، وَمَا أَتْعَبَهَا مِهْنَةً لِهَؤُلَاءِ الرِّجَالِ!

– إِنَّ الْحَيَاةَ جِهَادٌ حَافِلٌ بِأَلْوَانِ الْمَتَاعِبِ كَمَا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلَا الْمَشَقَّةُ لَمَا عُرِفَ فَضْلُ الرَّاحَةِ!

وَفِي مَكَانٍ آخَرَ تَرَوْنَ كَيْفَ يُصْنَعُ زُجَاجُ النَّوَافِذِ.

وَأَلْوَاحُ هَذَا الزُّجَاجِ يُخْرِجُهَا الْعَامِلُ، كَمَا يُخْرِجُ زُجَاجَ الْقَوَارِيرِ؛ أَعْنِي أَنَّهُ يَتَلَقَّفُ بِأُنْبُوبَتِهِ قَبَسًا مِنَ الزُّجَاجِ السَّائِلِ، ثُمَّ يُدَحْرِجُهُ عَلَى مَائِدَةٍ مِنَ الرُّخَامِ.

وَيَظَلُّ يُوالِي نَفْخَهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، حَتَّى يَنْتَفِخَ.

ثُمَّ يَتَنَاوَلُ أَقْبَاسًا جَدِيدَةً مِنَ الزُّجَاجِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَيَعُودُ إِلَى نَفْخِهَا وَتَدْوِيرِهَا بِعَصَاهُ الْأُنْبُوبِيَّةِ الْمُتَرَجِّحَةِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ الْقَوَارِيرَ.

وَمَتَى اتَّخَذَتِ الْكُرَةُ الزُّجَاجِيَّةُ هَيْئَةَ أُسْطُوَانَةٍ ذَاتِ تَخَانَةٍ كَافِيَةٍ، أَسْرَعَ عَامِلٌ آخَرُ إِلَى طَرَفَيْهَا فَقَطَعَهُمَا، ثُمَّ انْثَنَى إِلَى الْأُسْطُوَانَةِ فَشَقَّهَا، مُسْتَعِينًا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيدَةٍ شَدِيدَةِ الْحَرَارَةِ حَمْرَاءِ اللَّهَبِ، وَقَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ.

ثُمَّ يُلَيِّنُ الزُّجَاجَ فِي الْفُرْنِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى مَائِدَةٍ مُسَطَّحَةٍ، حَيْثُ تَدْحُوهُ الْأُسْطُوَانَةُ الْخَشَبِيَّةُ الَّتِي تَرَوْنَهَا أَمَامَكُمْ.

وَبِهَذَا يَتِمُّ صُنْعُ الْوَرَقَةِ الزُّجَاجِيَّةِ، فَيُسَوِّيهَا الصُّنَّاعُ فِيمَا يَخْتَارُونَهُ لَهَا مِنْ أَشْكَالٍ.

وَأَغْلَبُ مَا تَرَوْنَهُ مِنَ الْأَكْوَابِ وَالدَّوَارِقِ وَالْأَوَانِي وَالْمَلَّاحَاتِ وَمَا إِلَيْهَا، قَدْ أَعْدَدْنَا لِصُنْعِهَا قَوَالِبَ وَفْقَ مَا نَخْتَارُهُ لَهَا مِنْ أَحْجَامٍ وَأَشْكَالٍ وَأَنْمَاطٍ.

وَانْتَقَلَ بِهِمْ مُدِيرُ الْمَصْنَعِ إِلَى بَهْوٍ آخَرَ، لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا يُخْرِجُهُ الْمَصْنَعُ مِنْ أَشْيَائِهِ الْبَلُّورِيَّةِ، كَالثُّرَيَّا (الشَّمْعِدَانِ وَالنَّجَفَةِ) وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَوَانِي الْفَنِّيَّةِ، وَالتُّحَفِ الزُّجَاجِيَّةِ.

وَلَا تَسَلْ عَنْ إِعْجَابِ الزَّائِرِينَ بِمَا رَأَوْهُ مِنْ أَبْرَاجٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ، أُعِدَّتْ لِتَنْظِيفِ الزُّجَاجِ وَالْبَلُّورِ وَنَحْتِهِمَا وَصَقْلِهِمَا. وَأَرَاهُمْ — عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهَا — عَجَلَاتٍ مِنَ الْحَدِيدِ، مَعَ رَمْلٍ مُبَلَّلٍ لِتَرْقِيقِهِمَا، وَقَالَ:

«ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ التَّنْظِيفِ وَالصَّقْلِ، فَنَخْتَارُ لِكُلِّ نَوْعٍ مَا يُلَائِمُهُ مِنْ أَدَوَاتِهِمَا؛ فَالْعَجَلَاتُ الْخَشَبِيَّةُ لِلزُّجَاجِ الْعَادِيِّ، وَمَسْحُوقُ الْحَجَرِ الْإِسْفِنْجِيِّ لِأَقْدَاحِ الزُّجَاجِ.

أَمَّا الْبَلُّورُ فَقَدْ أَعْدَدْنَا لَهُ مَسْحُوقَ الْقَصْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَوَادَّ الْأُخْرَى تَتْرُكُ فِيهِ خُطُوطًا.»

وَهُنَا سَأَلَهُ «ثَرْوَةُ»: «مَاذَا تَعْنِي — يَا سَيِّدِي — بِالْحَجَرِ الْإِسْفِنْجِيِّ؟»

فَقَالَ الْمُدِيرُ: «هَا هُوَ ذَا الْحَجَرُ الْإِسْفِنْجِيُّ أَوِ الْكِدَانُ (Piérre Foncée) ويُطْلِقُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ اسْمَ: الشَّوَّافَةِ، أَوْ حَجَرِ الْخَفَّانِ.»

ثُمَّ انْتَقَلَ بِهِمْ إِلَى نَاقِشِي الزُّجَاجِ، وَقَالَ لَهُمْ:

«هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تَرَوْنَ نَقَشَةَ الزُّجَاجِ، وَهُمْ يُغَطُّونَهُ بِطَبَقَةٍ مِنَ الدِّهَانِ، مُؤَلَّفَةٍ مِنْ مَادَّتَيِ الشَّمْعِ وَالتَّرَبَنْتِينِ.

ثُمَّ يُثَبِّتُونَ عَلَيْهِ بِمِنْقَاشِهِمْ مَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ رُسُومٍ.

ثُمَّ يَضَعُونَ الزُّجَاجَ تَحْتَ التَّأْثِيرِ الْأَكَّالِ لِحَامِضِ اﻟْ «فِلِيُورِيدْرِيكِ»، الذَّيَ يَأْكُلُ الْأَجْزَاءَ غَيْرَ الْمُغَطَّاةِ. وَيُنْحَتُ الْبَلُّورُ — عَلَى الْأَغْلَبِ — كَمَا يُنْحَتُ زُجَاجُ النَّظَّارَاتِ.

وَإِلَيْكُمْ جَمْهَرَةً تَرَوْنَهَا أَمَامَكُمْ، بَعْدَ أَنْ تَمَّ صُنْعُهَا لِيُسْتَعْمَلَ بَعْضُهَا نَظَّارَاتٍ عَادِيَّةً، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ لِلنَّظَرِ الطَّوِيلِ.»

(٢) اخْتِرَاعُ النَّظَّارَاتِ

فَسَأَلَهُ «مَحْمُودٌ»: «كَيْفَ اخْتُرِعَتِ النَّظَّارَاتُ؟»

فَابْتَهَجَ مُدِيرُ الْمَصْنَعِ لِهَذَا السُّؤَالِ، الذَّي يَنُمُّ عَنْ ذَكَاءِ سَائِلِهِ، وَهَشَّ لَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:

«لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ يَتَكَهَّنُ الْإِنْسَانُ بِالْمُصَادَفَاتِ الْمُتَتَابِعَةِ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَى اخْتِرَاعِ النَّظَّارَاتِ! عَلَى أَنَّ التَّارِيخَ قَدْ أَثْبَتَ لَنَا بَعْضَ حَوَادِثَ مُفْرَدَةٍ، تُزِيحُ السِّتَارَ قَلِيلًا عَنْ هَذَا السِّرِّ الْمَحْجُوبِ؛ فَقَدْ حَدَّثَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ «نِيرُونَ» كَانَ يَلْجَأُ إِلَى الزُّمُرُّدِ الْمُقَعَّرِ لِيَتَلَافَى بِهِ قِصَرَ نَظَرِهِ.

وَقَدِ اسْتَطَاعَ بِهَذِهِ النَّظَّارَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا لِعَيْنَيهِ أَنْ يَرَى — مِنْ خِلَالِ الزُّمُرُّدِ — مَا عَجَزَ عَنْ رُؤْيَتِهِ مِنَ الْمَعَارِكِ، بِالنَّظَرِ الْمُجَرَّدِ.»

– ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّ الزُّمُرُّدَةَ الَّتِي لَمْ تُثْقَبْ، أَشْبَهُ شَيْءٍ بِمَا نُشَاهِدُهُ مِنْ عَدَسَاتِ الْمَنَاظِيرِ الْمُقَعَّرَةِ، الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا قِصَارُ النَّظَرِ فِي رُؤْيَةِ الْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ.

– أَتَعْنِي أَنَّ النَّظَّارَاتِ اخْتُرِعَتْ فِي عَهْدِ «نِيرُونَ»؟

– كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا لَوِ انْتَفَعَ النَّاسُ بِهَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ وَتَعَهَّدُوهَا بِالدَّرْسِ.

وَلَكِنَّهَا مَرَّتْ — لِسُوءِ حَظِّهِمْ — دُونَ أَنْ يُفِيدَ مِنْهَا أَحَدٌ، وَبَقِيَتْ فِي طَيِّ الْخَفَاءِ، حَتَّى جَاءَ الْقَرْنُ الرَّابِعَ عَشَرَ.

– كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ أَلَمْ تَقُلْ لَنَا: إِنَّ الْقُدَمَاءَ قَدْ عَرَفُوا سِرَّ الزُّجَاجِ؟

– ذَلِكَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَطَالَمَا صَنَعُوا مِنْهُ أَشْكَالًا مُتَعَدِّدَةً.

وَكَانَ «سَلَفِينِي» الْفُلُورَنْسِيُّ أَوَّلَ مَنَ اهْتَدَى إِلَى اخْتِرَاعِ النَّظَّارَاتِ — فِيمَا يَقُولُ الْبَاحِثُونَ — فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِخَيَالِهِ أَنْ يَصْنَعَ نَظَّارَةً مِنَ الزُّجَاجِ عَامَ ١٢٨٥م. وَقَدْ مَاتْ فِي «فُلُورَنْسَا» عَامَ ١٢١٧م، وَإِنْ جَهِلَ الْبَاحِثُونَ الْوَسِيلَةَ الَّتِي سَلَكَهَا فِي صُنْعِ الْعَدَسَاتِ الَّتِي اخْتَارَهَا لِلنَّظَّارَاتِ.

فَسَأَلَهُ «ثَرْوَةُ»: «وكَيَفَ اهْتَدَى النَّاسُ إِلَى صُنْعِ النَّظَّارَاتِ الْمُقَرِّبَةِ؟»

فَهَشَّ لَهُ الْمُدِيرُ، وَقَالَ لَهُ، بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَى بَرَاعَتِهِ وَمُلَاحَظَتِهِ:

«يَرَى الْبَاحِثُونَ أَنَّ الْمُصَادَفَةَ — وَحْدَهَا — هِيَ الَّتِي كَانَ لَهَا فَضْلُ هَذَا الِاخْتِرَاعِ.

فَفِي يَوْمٍ كَانَ نَجْلٌ صَغِيرٌ لِصَاحِبِ مَحَلِّ نَظَّارَاتٍ هُولَنْدِيٍّ يَلْعَبُ بِزُجَاجَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا مُقَعَّرَةٌ، وَالْأُخْرَى مُحَدَّبَةٌ.

فَوَضَعَ الْأُولَى أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَالثَّانِيَةَ فِي مُقَابَلَتِهَا، عَلَى مَسَافَةٍ تَبْعُدُ عَنْهَا قَلِيلًا، فَهَالَهُ مَا رَأَى مِنْ خِلَالِ الزُّجَاجَتَيْنِ!

لَقَدْ كَانَتْ مُفَاجَأَةً عَجِيبَةً لَمْ تَخْطُرْ لَهُ — مِنْ قَبْلُ — عَلَى بَالٍ، فَصَاحَ مِنْ فَرْطِ الدَّهْشَةِ: «مَا لِي أَرَى مَا بَعُدَ مِنَ الْأَشْيَاءِ دَانِيًا إِلَى نَاظِرِي؟»

ثُمَّ أَعَادَ التَّجْرِبَةَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ تَتَغَيَّرِ النَّتِيجَةُ، وَتَجَلَّتِ الْحَقِيقَةُ الْجَدِيدَةُ مَاثِلَةً لِعَيْنَيْهِ؛ إِذْ رَأَى بِوُضُوحٍ مَا هُوَ فِي الْجِهَةِ الْأُخْرَى مِنَ الطَّرِيقِ، مِمَّا كَانَ يَسْتَبْهِمُ إِذَا رَآهُ بِعَيْنِهِ الْمُجَرَّدَةِ، دُونَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَاتَيْنِ الزُّجَاجَتَيْنِ.

فَصَاحَ الصَّغِيرُ يُنَادِي أَبَاهُ! لِيُطْلِعَهُ عَلَى مَا رَآهُ.

وَمَا سَأَلَهُ أَبُوهُ عَمَّا دَهَاهُ، حَتَّى قَالَ لَهُ:

«تَعَالَ — يَا أَبِي — وَانْظُرْ هَذَا الشَّيْءَ الْبَدِيعَ.

هَا هُمَا تَانِ زُجَاجَتَانِ تُقَرِّبَانِ مَا بَعُدَ.»

فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: «مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ جُنِنْتَ يَا وَلَدِي، أَوْ أَصَابَكَ مَسٌّ مِنْ خَبَالٍ!»

فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: «إِذَنْ فَانْظُرْ بِنَفْسِكَ، لِتَرَى أَعَلَى صَوَابٍ أَنَا أَمْ أَنَا مِنَ الْوَاهِمِينَ.»

وَوَضَعَ تَاجِرُ النَّظَّارَاتِ الزُّجَاجَتَيْنِ كَمَا وَضَعَهُمَا وَلَدُهُ؛ فَرَأَى أَنَّهُ وُفِّقَ إِلَى كَشْفٍ رَائِعٍ عَجِيبٍ، وَرَأَى أَنْ يُثَبِّتَ الزُّجَاجَتَيْنِ، فَوَضَعَهُمَا فِي أُنْبُوبٍ.

وَهَكَذَا وُجِدَ الْمِنْظَارُ الْمُقَرِّبُ الَّذِي أَتَاحَ رُؤْيَةَ مَا بَعُدَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَفَتَحَ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِعُيُونِ النَّاسِ.

وَمَا زَالَ الْعِلْمُ يَرْتَقِي بِهِ حَتَّى صَنَعَ الْعُلَمَاءُ مِرْقَبًا (تِلِسْكُوبًا) هَائِلَ الْحَجْمِ، كَبِيرَ النَّفْعِ، لَهُ عَدَسَةٌ مُقَعَّرَةٌ وَزْنُهَا عِشْرُونَ طُنًّا، وَقُطْرُهَا مِائَتَانِ مِنَ الْبُوصَاتِ.

وَكَانَ لِهَذَا الْمِرْقَبِ فَضْلٌ عَظِيمٌ فِي كَشْفِ جَمْهَرَةٍ مِنَ النُّجُومِ، الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْتَطَاعِ رُؤْيَتُهَا مِنْ قَبْلُ.

وَقَدْ صُنِعَتْ هَذِهِ الْعَدَسَةُ الْعَظِيمَةُ فِي بَعْضِ مَعَاهِدِ «كَالِيفُرْنِيَا».

فَقَالَ «مَحْمُودٌ»: «وَمَا الْفَائِدَةُ مِنْ تَكْبِيرِ حَجْمِهَا؟»

فَأَجَابَهُ: «كُلَّمَا اتَّسَعَ قُطْرُهَا، زَادَتْ قُدْرَتُهَا عَلَى تَقْرِيبِ مَا بَعُدَ مِنَ الْمَسَافَاتِ، وَالتَّمْكِينِ مِنْ رُؤْيَتِهَا.»

وَسَأَلَتْ «لَيْلَى»: «أَيْنَ هَذَا الْمَرْصَدُ الْهَائِلُ؟»

فَقَالَ: «فِي كَالِيفُرْنِيَا»، عَلَى ذُرْوَةِ جَبَلِ «بَالُومَارَ» فِي حَيِّ «سَانْ بَرْدِنْيُو»، وَقَدْ أُنْشِئَ الْمَرْصَدُ عَلَى هَيْئَةِ دَائِرَةٍ، قُطْرُهَا ١٢٧ قَدَمًا، وَيَبْلُغُ ارْتِفَاعُ حَوَائِطِهِ سِتِّينَ قَدَمًا.»

وَسَأَلَ «ثَرْوَةُ»: «مَا فَائِدَةُ الْحَوَائِطِ الْمُرْتَفِعَةِ؟»

فَأَجَابَهُ: «لَقَدْ رَفَعُوا بِنَاءَهَا لِيُرَكِّبُوا عَلَيْهَا شَرِيطَيْنِ مِنَ الْقُضْبَانِ الْحَدِيدِيَّةِ.»

فَسَأَلَهُ «مَحْمُودٌ» عَنْ فَائِدَةِ الشَّرِيطَيْنِ، فَقَالَ: «لِتُيَسِّرَ دَوَرَانَ الْمَرْصَدِ عَلَيْهِمَا.»

(٣) دُمُوعُ الزُّجَاجِ

وَبَيْنَمَا الْأَوْلَادُ يَسْمَعُونَ هَذِهِ النَّادِرَةَ، جَاءَهُمْ عَامِلٌ فِي يَدِهِ كُرَةٌ زُجَاجِيَّةٌ صَغِيرَةٌ، تَنْتَهِي بَطَرَفٍ دَقِيقٍ، وَهِي أَشْبَهُ شَيْءٍ بِدَمْعَةٍ جَمَدَتْ وَتَحَجَّرَتْ.

فَقَالَ الْمُدِيرُ: «هَذِهِ نُقْطَةٌ مِنْ زُجَاجٍ سَائِلٍ، أُلْقِيَتْ بَغْتَةً فِي مَاءٍ بَارِدٍ، فَانْعَقَدَتْ وَجَمَدَتْ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِاسْمِ: الدُّمُوعِ الزُّجَاجِيَّةِ.

وَسَتَرَوْنَ مَبْلَغَ صَلَابَتِهَا، أَيُّهَا الْأَعِزَّاءُ.»

ثُمَّ تَنَاوَلَ مُدِيرُ الْمَصْنَعِ مِطْرَقَةً، وَوَضَعَ دَمْعَةَ الزُّجَاجِ هَذِهِ عَلَى سِنْدَانٍ، وَضَرَبَ الطَّرَفَ الْكَبِيرَ بِقُوَّةٍ، فَتَحَمَّلَ الضَّرْبَةَ. وَهَشَّ الْأَوْلَادُ كَثِيرًا.

فَقَالَ ثَرْوَةُ: «إِنَّ دُمُوعَ الزُّجَاجِ أَشَدُّ صَلَابَةً مِنَ الْحَدِيدِ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ اكْتَسَبَ الزُّجَاجُ هَذِهِ الصَّلَابَةَ، لَوْلَا أَنَّهُ نَوْعٌ غَيْرُ عَادِيٍّ، نَوْعٌ غَيْرُ مَا عَرَفْنَاهُ!»

فَقَالَ لَهُ الْمُدِيرُ: «لَا يَا صَدِيقِي، بَلْ هُوَ زُجَاجٌ عَادِيٌّ، لَا يَخْتَلِفُ عَمَّا شَهِدْتُمُوهُ! وَسَتَرَوْنَ مِصْدَاقَ ذَلِكَ الْآنَ.»

وَأَخْرَجَ الْعَامِلُ مِنَ الْبَوْتَقَةِ الَّتِي تَحْوِي سَائِلَ الزُّجَاجَاتِ قَلِيلًا مِنَ الْمَادَّةِ السَّائِلَةِ، وَأَلْقَاهَا فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ أُخْرَى، أَخْرَجَ دَمْعَةً زُجَاجِيَّةً مُمَاثِلَةً لِلدَّمْعَةِ الْأُولَى، فَلَمْ تَتَأَثَّرْ بِأَشَدِّ الضَّرَبَاتِ.

فَقَالَتْ «لَيْلَى»: «يَا لَهَا مِنْ أُعْجُوبَةٍ فَذَّةٍ! إِنَّ الدُّمُوعَ الزُّجَاجِيَّةَ الَّتِي تُصْنَعُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ صَلْدَةٌ لَا تُكْسَرُ، فَلْنَشْتَرِ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الدُّمُوعِ، فَإِنِّي فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا؛ لِأَنِّي وَاثِقَةٌ مِنَ احْتِمَالِهَا.»

فَقَالَ لَهَا الْمُدِيرُ: «خُذِي — يَا بُنَيَّتِي — هَذِهِ الدَّمْعَةَ الزُّجَاجِيَّةَ، مَا دُمْتِ تَرَيْنَهَا عَجِيبَةً.»

وَوَضَعَ دَمْعَةَ الزُّجَاجِ فِي يَدِ الصَّغِيرَةِ.

وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهَا طَرَفًا مِنْ عَجَائِبِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، فَكَسَرَ مِنْ طَرَفِ الدَّمْعَةِ الزُّجَاجِيَّةِ الدَّقِيقِ قِطْعَةً صَغِيرَةً، وَمَا إِنْ فَعَلَ، حَتَّى سَمِعَ الْحَاضِرُونَ صَوْتَ انْفِجَارٍ خَفِيفٍ، تَحَوَّلَتْ دَمْعَةُ الزُّجَاجِ فِي أَثَرِهِ تُرَابًا مَهِيلًا!

فَصَرَخَتْ «لَيْلَى» صَرْخَةَ دَهَشٍ، وَذَهِلَ شَقِيقُهَا أَيْضًا لَهَذِهِ الظَّاهِرَةِ.

فَقَالَ «مَحْمُودٌ»: «مَا أَعْجَبَ مَا نَرَى! إِنَّهُ أَشْبَهُ بِسِحْرِ سَاحِرٍ! وَلَا أَكَادُ أُصَدِّقُ مَا تَرَاهُ عَيْنَايَ! جِسْمٌ يُضْرَبُ بِالْمِطْرَقَةِ ضَرَبَاتٍ فَلَا يَتَأَثَّرُ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ — بِلَمْسَةٍ بَسِيطَةٍ — أَنْ يُسْحَقَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلَ ذَرَّاتٍ مِنَ التُّرَابِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، كَيْفَ تَمَّ ذَلِكَ؟»

فَضَحِكَ الْمُدِيرُ وَالْعُمَّالُ؛ لِأَنَّهُمْ طَالَمَا رَأَوْا أَمْثَالَ هَذِهِ الدَّهْشَةِ تَبْدُو عَلَى وُجُوهِ مَنْ يَرَوْنَ الدُّمُوعَ الزُّجَاجِيَّةَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَيُقَابِلُونَ بَيْنَ صَلَابَتِهَا وَاسْتِعْصَائِهَا عَلَى الْكَسْرِ، وَبَيْنَ تَفْتِيتِهَا بِأَيْسَرِ جُهْدٍ!

وَقَالَ مُدِيرُ الْمَصْنَعِ: «لَيْسَ مِنَ الْيَسِيرِ أَنْ أَشْرَحَ لَكُمْ ذَلِكَ بِطَرِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْكُمُ الْآنَ، وَحَسْبُكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ الْبُرُودَةَ هِيَ — وَحْدَهَا — سَبَبُ مَا رَأَيْتُمُوهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَقَعُ أَحْيَانًا فِي الصُّلْبِ.»

وَسَأَلَهُ «ثَرْوَةُ»: وَهَلْ يُمْكِنُ اسْتِخْدَامُ دُمُوعِ الزُّجَاجِ هَذِهِ فِي الصِّنَاعَةِ؟

فَأَجَابَهُ: «لَا يَا صَاحِبِي، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الصَّاغَةِ أَنْ يَثْقُبَهَا، كَمَا يَثْقُبُ اللَّآلِئَ، فَلَمْ يُفْلِحْ.

فَمَا نَفَذَ الْمِثْقَابُ إِلَى دَاخِلِهَا حَتَّى كُسِرَتْ، كَمَا تَحَطَّمَتْ دَمْعَةُ الزُّجَاجِ — أَمَامَكُمْ — حِينَ كَسَرْتُ طَرَفَهَا.»

وَلَا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى نُفُوسِ الْإِخْوَةِ الْأَعِزَّاءِ مِنَ الْبَهْجَةِ، بِمَا كَشَفُوهُ مِنْ سِرِّ هَذِهِ الدُّمُوعِ الزُّجَاجِيَّةِ، وَمَا عَرَفُوهُ مِنْ عَجِيبِ تَكْوِينِهَا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤