الفصل الثاني

التصوف والأدب

١

أنشأ الصوفية أدبًا منثورًا ومنظومًا ضمنوه فلسفتهم وطريقهم ورياضهم ودعاءهم ومناجاتهم وما يشعرون به من العشق والوجد، وما يلوح لهم في سلوكهم من لمعات إلهية، وجذبات روحية، كما ضمنوه أخلاقًا لهم وآدابًا وأمورًا كثيرة تتصل بهذه الأمور.

وقد شاركوا غيرهم في كثير من الآراء والعواطف والأخلاق والآداب، وامتازوا بعقائدَ وآراءٍ وعواطفَ، كما امتازوا بطريقهم في التحقيق والتدقيق، والنظر إلى المواطن، والقصد إلى الغاية في الأمور الدينية والنفسية التي عالجوها.

وقد أُثر عنهم، منذ كانوا في الجماعة الإسلامية، كلمات ومقالات وأبيات وقصائد تطورت على القرون تطورًا بعيدًا، وضموا إلى ما أنشأوا أشعارًا أنشأها غيرهم وتبنوها هم فجعلوها تصويرًا لما تجيش به نفوسهم، وقصدوا بها مقاصدَ تخالف ما قصد منشوعًا.

ولم يكن لهم بد من الاستعانة بالألوان والأشكال التي أبدعها غيرهم لتصوير ما خفي في سرائرهم، ودق في ضمائرهم لاجئين إلى التشبيه والتمثيل والإشارة والرمز، وفي هذا يقول ابن عربي في «ترجمان الأشواق»:

كل ما أذكره من طلل
أو ربوع أو مغان كل ما
وكذا إن قلت ها أو قلت يا
وألا إن جاء فيه أو أما
وكذا إن قلت هي أو قلت هو
أو همو أو هن جمعًا أو هما
وكذا إن قلت قد أنجد لي
قدر في شعرنا أو أتهما
وكذا السحب إذا قلت بكت
وكذا الزهر إذا ما ابتسما
أو أنادي بحداة يمموا
بانة الحاجر أو ورق الحمى
أو بدور في خدور أفلت
أو شموس أو نبات أنجما
أو بروق أو رعود أو صبا
أو رياح أو جنوب أو سما
أو طريق أو عقيق أو نقا
أو جبال أو تلال أو رما
أو خليل أو رحيل أو رُبَى
أو رياض أو غياض أو حما
أو نساء كاعبات نهد
طالعات كشموس أو دمى
كل ما أذكره مما جرى
ذكره أو مثله أن تفهما
منه أسرار وأنوار جلت
أو علت جاء بها رب السما
لفؤادي أو فؤاد من له
مثل ما لي من شروط العلما
صفة قدسية علوية
أعلمت لصدقي قدما
فاصرف الخاطر عن ظاهرها
واطلب الباطن حتى تعلما

وقد نشأت لهم لغة خاصة واصطلاحات شرحوها في كتبهم، ونظم فيها محمود الشبستري كتابه «كلشن راز»، وجمعها بعضهم في معاجمَ.

فأما اللغة العربية فقد حوت كتبها منذ العصر الأول أقوالًا وأدعية وصلها القوم بأمثالها على مر الزمان؛ من أقوال الحسن البصري ومن تبع أثره من الزهاد والعباد، إلى أقوال معروف الكرخي وبشر الحافي والسري السقطي والجنيد والشبلي وأبي يزيد، إلى أقوال من لحق بهم في الطريق كالنفري وابن عربي وأبي الحسن الشاذلي وابن عطاء الله السكندري، ومن نهج هذا النهج من بعد.

ونشأ شعراء غلب التصوف على أشعارهم كابن الفارض وابن عربي وعبد الغني النابلسي، وآخرون عُرفوا بقصيدة أو قصائدَ صوفيةٍ كالشهرزوري والسهروردي، وفي رسالة القشيري، و«قوت القلوب» للمكي، و«اللمع» لأبي نصر السراج، و«المواقف» للنفري، و«حكم ابن عطاء الله» غنية لمن يريد تتبع أقوال القوم؛ ولا سيما المنثور منها.

وفي كتاب «التوهم» للمحاسبي المتوفى سنة ٢٤٣ﻫ مثل من الأدب الصوفي في القرن الثالث الهجري، وهنا وصفه للحشر يوم القيامة:

فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق عراة حفاة صموتًا أجمعين بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم، وصوت المنادي، والخلائق مقبلون نحوه وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نُزع الملك من ملوك الأرض ولزمتهم الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة بعد عتوهم وتجبرهم على عباد الله — عز وجل — في أرضه، ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رءوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق، ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها، ولا خطية لذل يوم القيامة أصابتها، فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور، وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكسة رءوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله — سبحانه — فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور، حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعًا في موقف العرض والحساب … إلخ.

ومن كتاب «المواقف» للنفري:

موقف الموت

أوقفني في الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات، ورأيت الخوف يتحكم في الرجاء، ورأيت الغنى قد صار نارًا ولحق بالنار، ورأيت الفقر خصمًا يحتج، ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء، ورأيت المُلك غرورًا، ورأيت الملكوت خداعًا، وناديت يا علم فلم يجبني، وناديت يا معرفة فلم تجبني، ورأيت كل شيء قد أسلمني، ورأيت كل خليقة قد هربت مني، وبقيت وحدي، وجاءني العمل فرأيت فيه الوهم الخفي، والخفي الغابر، فما نفعني إلا رحمة ربي، وقال لي: أين معرفتك؟ فرأيت النار، وكشف لي عن معارفه الفردانية فخمدت النار.

وقال لي: أنا وليُّك. فثبت، وقال لي: أنا معرفتك. فنطقت، وقال لي: أنا طالبك. فخرجت.

موقف الرفق

أوقفني في الرفق وقال لي: الزم اليقين تقف أمامي، والزم حسن الظن تسلك محبتي، ومَن سلك في محجتي وصل إليَّ.

وقال لي: إذا اضطربت فقل بقلبك: اليقين؛ تجتمع وتوقن، وقل بقلبك: حسن الظن؛ تُحسن الظن، وقال لي: من أشهدته أُشهدت به، ومن عرفته عُرفت به، ومن هديته هُديت به، ومن دللته دُللت به.

وقال لي: اليقين يهديك إلى الحق، والحق المنتهي، وحسن الظن يهديك إلى التصديق، والتصديق يهديك إلى اليقين.

وقال لي: حسن الظن طريق من طرق اليقين.

وقال لي: إن لم ترنى من وراء الضدين رؤية واحدة لم تعرفني.

وأما الشعر فكان ابن الفارض إمامه، ولست في حاجة إلى التمثيل بشعره. ونظم ابن العربي كثيرًا ولكنه لم يجد الشعر إلا قليلًا، وأحسن شعره في «ترجمان الأشواق».

ومن شعره في هذا الديوان قصيدته التي مطلعها:

إني عجبت لظني من محاسنه
يختال ما بين أزهار وبستان١

وفيها يقول:

ومن أعجب الأشياء ظبي مبرقع
يشير بعناب ويومي بأجفان
ومرعاه ما بين الترائب والحشا
ويا عجبًا من روضة وسط نيران
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

وممن رُوي لهم شعر صوفي ولم يبلغوا أن يعدوا شعراء عبد الله الشهرزوري المتوفى سنة ٥١١ﻫ صاحب القصيدة التي أولها:

لمعت نارهم وقد عسعس الليـ
ـل ومل الحادي وحار الدليل
فتأملها وفكري من البيـ
ـن عليل ولحظ عيني كليل
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى
وغرامي ذاك الغرم الدخيل
ثم قابلتها وقلت لصحبي
هذه النار نار ليلى فميلوا
فرموا نحوها لحاظًا صحيحا
ت فعادت خواسئًا وهو حول
ثم مالوا إلى الملام وقالوا
خلب ما أريت أم تخييل؟

وللسهروردي يحيى بن حبش المقتول سنة ٥٨٧ﻫ شعر صوفي منه قصيدة في النفس على مثال قصيدة ابن سينا وقصيدته الحائية المعروفة التي أولها:

أبدًا تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والروح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح

ومنها قوله:

والله ما طلبوا الوقوف ببابه
حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون بغير ذكر حبيبهم
أبدًا فكل زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم
فتهتكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشف لهم
حجب البقا فتلاشت الأرواح

وجاء على آثار هؤلاء الشعراء جماعة نظموا؛ فمنهم الشاعر ومنهم ناظم وصايا وآداب، وممن نظموا في آداب السلوك في هذا العصر الشيخ حسن رضوان المصري مؤلف كتب «روض القلوب المستطاب».

٢

وأما الأدب الفارسي، ويتبعه الأدب التركي والأدب الأردي فقد ترجم فكر الصوفية ووجدانهم بالشعر لا بالنثر.

وبلغ شعراء الفرس في هذه السبيل غاية لم يدركها شعراء أمة أخرى، فأخرجوا المعاني الظاهرة والخفية والدقيقة في صور شتى معجبة مطربة وقد فتح عليهم في هذا فتحًا عظيمًا فكان شعرهم فيضًا تضيق به الأبيات والقوافي والصحف والكتب حتى ليمسك القارئ أحيانًا حائرًا كيف تجلت لهم هذه المعاني، وكيف استطاعوا أن يشققوا المعنى الواحد إلى معانٍ شتى، ثم يخرجوا كل واحد منها في صور كثيرة عجيبة كأنها أزهار المرج ونباته تزدحم في العين ألوانها وأشكالها وماؤها واحد وترابها واحد.

كان أبو سعيد بن أبي الخير الخراساني من رجال القرنين الرابع والخامس (٣٥٧–٤٤٠ﻫ) فارط شعراء الصوفية في الأدب الفارسي فنظم رباعيات كثيرة هي أحسن ما في الشعر الصوفي من رباعيات فيما أعلم، وجاء بعده عبد الله الأنصاري المتوفى سنة ٤٨١ﻫ وله ديوان في الشعر الصوفي، ثم جاء الشاعر الكبير مجد الدين سنائي الغزنوي المتوفى سنة ٥٤٥ فنظم حديقة الحقائق ومنظومات أخر، وتلاه فريد الدين العطار فأكثر وفاض ونظم نحو أربعين منظومة، ثم جاء مولانا جلال الدين الرومي شيخ شعراء الصوفية كلهم فاستولى على الأمد، ونظم الديوان وهو شعر صوفي رقيق بليغ، والمثنوي وهو شعر وفلسفة وأخلاق وتفسير للقرآن والشريعة بأسلوب صوفي، وقد سماه المجبون به القرآن في اللغة الفارسية، وقالوا عن صاحبه: لم يكن نبيًّا، ولكن أوتي كتابًا.

ثم جاء عبد الرحمن الجامي العلم الشاعر المتوفى ٨٩٨ﻫ وهو يعد آخر شعراء الصوفية العظام.

وإلى جانب هؤلاء شعراء كثيرون لهم في التصوف شعر جيد كابن يمين، والعراق صاحب اللمعات، والشيخ محمود الشبستري صاحب المنظومة كلشن راز (حديقة السر) وقسم الأنوار والمغربي، ولا ننسى الشاعر العظيم الذي فاق الشعراء طرًّا بجمال شعره ودقته وإن لم يبلغ في الشعر الصوفي الصريح وفي الفلسفة مبلغ كبار الشعراء؛ وهو حافظ الشيرازي.

ولا يخلو شاعر فارسي من نزعة صوفية تظهر في شعره؛ لشدة ما سيطر شعراء الصوفية على الشعر الفارسي منذ نبغ كبار الشعراء الصوفية إلى يومنا هذا.

٣

وسار الشعر التركي على نهج الشعر الفارسي وحرص كبار الشعراء من التُّرك على تقليد شعراء الفرس واقتفاء آثارهم، ولم يزل شعراء التُّرك ومتأدبوهم يدرسون الفارسية حتى هذا العصر.

وأئمة الشعر الصوفي في الإسلام هم شعراء الفرس؛ ولكن حظ الشعر التركي من التصوف ليس قليلًا، بل قَل أن يخلو شاعر منهم من شعر صوفي أو مسحة صوفية في شعره؛ ذلكم بأن الشعر التركي طُبع على غرار الشعر الفارسي بعد أن تسلط شعراء الصوفية على شعر الفرس فنشأ الشعر التركي في رعاية الشعر الصوفي وسلطانه.

فأما البلاد التركية الشرقية — أي تركستان — فقد انتشر فيها التصوف بانتشار الإسلام، وكثير ممن نشروا الإسلام فيها صوفية.

وفي القرن السادس الهجري نبغ هناك صوفي عظيم لا تزال طريقته شائعة في تركستان وبلاد أخرى؛ هو أحمد اليسوي المتوفى سنة ٥٦٢، وقد نظم بالتركية الشرقية قطعًا صوفية كل واحدة تسمى «حكمة»، وتلاه سليمان آتا المتوفى سنة ٥٨٢ وهو خليفة اليسوي في خوارزم.

وتسربت طريقة اليسوي وأشعاره إلى الأناضول فتلقاها الناس بالقبول؛ ولا سيما في القرى والبادية، ونبغ فيها شعراء ينظمون بالأوزان التركية العامية أكبرهم يونس أمره.

وأما التركية الغربية أو العثمانية فكان أو شعرائها سلطان ولد ابن جلال الدين الرومي، وقد نظم بالتركية المعاني الصوفية التي تلقاها عن أبيه فكان أول الشعر التركي شعرًا صوفيًّا؛ بل نظم سلطان ولد بالتركية؛ لينشر الآراء الصوفية بلغة يفهمها الناس في الأناضول.

وقفا أثره شعراء يغلب عليهم التصوف مثل أحمد الفقيه نظم بالتركية منظومة صغيرة في المواعظ والأخلاق الصوفية، وعاشق باشا وله كتاب منظوم في التصوف اسمه غريب نامه.

ونشأ التصوف — ولا سيما الطريقة المولوية — شعراء كبار مثل شيخي المتوفى سنة ٨٢٦ ناظم قصة خسرو وشيرين بالتركية، وسنان بشا صاحب كتاب التضرع (تضرع نامه) وهو أحد العلماء والوزراء في عهد الفاتح، توفي سنة ٨٩١.

ومنهم حمدي المتوفى سنة ٩١٤ وله منظومات خمس على سنة نظامي الكنجوي الشاعر الفارسي، ومن تبعه في نظم خمس منظومات، ويحيى بك المتوفى ٩٩٠ وله خمس منظومات كذلك، وروحي البغدادي المتوفى سنة ١٠١٢؛ وهو معدود من شعراء المولوية، والشيخ غالب صاحب قصة حسن وعشق؛ وهو من كبار شعراء المولوية، توفي سنة ١٢١٣.

ويضيق المجال عن إثبات فصول من الشعر الفارسي والتركي الصوفي هنا.

هوامش

(١) ينظر اختلاف الوزن بين المطلع والأبيات الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤