الفصل الرابع والعشرون

هجومٌ عظيمٌ، ونصرٌ مبين

٩٦٣–١٠٢٥

الجيش في القرن العاشر

وعُني الروم في هذه الحقبة عناية فائقة بالجيش، وقال أحدُ كبرائهم: «إن الجيش للدولة كالرأس للجسم، إن هو ضعف تعرضت الدولة للخطر.»١
وكان هذا الجيش يتألف من عناصرَ وطنية وعناصر أجنبية، وكانت العناصر الوطنية خيَّالة تُقطع أراضٍ لها ولذريتها لا تصادر ولا تتحول ملكيتها، وكانت العناصر الأجنبية مرتزقة يستهويها سخاء الروم، فتؤمُّ القسطنطينية من أوروبة وآسية، وكان بينها الخزري والبتشناغي والنروجي والصقلبي والدانيماركي والنورماندي والسكسوني والكرجي والتركي والعربي، ولم يكن هنالك ما يمنع التحاق هؤلاء بِأَيَّةِ فرقة من فرق الجيش، ففرقة الحرس الهترية Heteria كانت تتألف من الروس والنروجيين والدانيماركيين والخزر، ولم يكن في صفوفها أَيُّ عنصر وطني، وكثر عدد الأرمن في الجيش بصورة خاصة وتقلدوا أعلى الرتب.
وكان هذا الجيش يقسم إلى قسمين رئيسين: التغامتا Tagmata في العاصمة وضواحيها، والثيماتا Themata في الولايات، وشمل القسم الأول فرق الخيالة الأربع: السوكولس Scholes والإكسكوبيتور Excubitor والأريثموس Arithmos والهيكاناتس Hicanates، وفرقة المشاة النوماري Numeri، وكانت كُلُّ فرقة من فرق الحرس الخمس تتألف من أربعة آلاف مُقاتل، وتخضع لقيادة ضابط كبير يحمل رتبة دوميستيكوس Domesticus، وكان قائد فرقة السوكولس قائد الجيش الأكبر، وكان القسم الثاني جيش الولايات الثيماتا يتألف من أربعةِ آلافٍ إلى عشرة آلاف مقاتل ويخضع لقيادة ضابط من رتبة إستراتيجوس Strategos، وكان معظم هؤلاء من الخيالة أيضًا بنوعيها الثقيل Cataphractes والخفيف Trapazistes، وكان هنالك أيضًا جيش الحدود Acritai وكانت مهمة هؤلاء تقضي بالدفاع عن اللامس Limes وبالمحافظة على الأبراج والقلاع وسائر أنواع التحصينات التي كانت تنتشر على طول خط الحدود، وكان عليهم أيضًا أن يراقبوا الأعداء ويسدوا الممرات ويردوا الهجوم بهجوم مماثل.

ولم يكن عدد هذا الجيش كله كبيرًا؛ فإنه لم يزد على السبعين ألفًا في آسية ومثل ذلك في أوروبة، ولكنه امتاز بانتظامه وشجاعته وحُبه للوطن واندفاعه في سبيله، وتقوَّى بحذقٍ في صنع الأسلحة، ومهارةٍ في تخطيط القلاع وبنائها، واستعمل النار الإغريقية في الحروب، كما استعان بالمجانيق الكبيرة في أعمال الحصار وبمجانيق أصغر منها في قتال الميدان، وكانت هذه تنقل بمركبات خاصة تحمل المنجنيق ورجاله فتنقل القصف حيث تدعو الحاجة.

ويستدل من مضمون رسالة في علم التكتيك، صنِّفت في عهد نيقيفوروس فوقاس،٢ أن الحرب التي كان يخوضُها هذا الجيش كانت حرب كمين واستطلاع ومفاجآت والتحامات، وأن أبراج المراقبة كان تنبئ بالخطر بإشارات نارية، فيهب المشاة إلى الممرات يكمنون فيها، وتنطلق دوريات الفرسان الخفاف حاملة مئونة يوم واحد من الزاد مخفية سلاحها تستطلع حركات العدو، ويهرع السكان من القرى والدساكر إلى القلاع والأبراج، بينما يتجمع الجيش في نقاط معينة استعدادًا للعمل.

ويستدل من هذه الرسالة أيضًا وغيرها من نوعها أن ترتيبات القيادة كانت كاملة تشمل خُطط التجسس والاستطلاع، ونقل العتاد والمؤن، وتجمُّع الوحدات، وكيفية سيرها، ويدل ما تبقى من الروايات المعاصرة أن تدريب هذا الجيش كان متواصلًا غيرَ منقطع، وأن التمريس في القتال كان يشمل جميع ضروب التعب وأنواع الضنك والقلة، وأن الأباطرة كانوا يعيرون الجنود نصيبًا وافرًا من عنايتهم الشخصية فيُفيضون عليهم النعم ويغمرونهم بالإحسان ويشملونهم بشتى مظاهر التقدير والإكرام. وكانوا لا ينفكون عن الإشارة إلى الماضي المجيد الحافل بالانتصارات العسكرية وإلى صيانة الفادي الحبيب الذي لا يغفل ولا ينام، وكان مِن حُسن حظ الجيش أَنْ تولى قيادته عددٌ متسلسلٌ من كبار الرجال، أمثال غرغون وفوقاس وسكيليروس وشمشيق.

وتلخص نقائص هذا الجيش بأن نظام التعبئة فيه كان يربط الجنود بكبار رجال الإقطاع ربطًا وثيقًا يشجع هؤلاء على الانتقاض على السلطة، وأن المرتزقة كانوا لا يهتمون إلا للغنائم.٣

نيقيفوروس فوقاس (٩٦٣–٩٦٩)

وتُوُفي رومانوس الثاني في الرابعة والعشرين من عمره، إما مسمومًا من زوجته ثيوفانو، أو مسقومًا من فرط انصبابه على الملذات، فتسلمت زوجته زمام الحكم بالوصاية على ولديها القاصرين باسيليوس وقسطنطين، وكانت تكره أبرينكاس الوزير كرهًا شديدًا وتحب نيقيفوروس القائد، فاستدعت نيقيفوروس من حلب، وسمح هذا لجُنُوده أن ينادوا به فسيلفسًا في قيصرية، ثم تقدم نحو العاصمة فقامت ثورة ضد إبرينكاس، ودخل القائد الفسيلفس إلى العاصمة في الثالث من آب سنة ٩٦٣ وتقبل التاج من يد البطريرك مشتركًا في الحكم مع كلٍّ من باسيليوس وقسطنطين القاصرين، وبعد شهر واحد تزوج من ثيوفانو الوصية الأرملة، ولما جاء إلى الكنيسة وطلب أن يدخل من الباب الملوكي اعترضه البطريرك بوليفكتوس بسبب زواجه من الثانية في حياة الأولى خلافًا للناموس.٤

وكان نيقيفوروس جنديًّا مدهشًا وتكتيكيًّا قديرًا، وقائدًا محنكًا، فأحبه الجُنُود وتعلقوا به، وكان زاهدًا قنوعًا، قاسيًا متصلبًا، ولكنه كان في الوقت نفسه محبًّا عطوفًا، وأصبح رجل الساعة بقوة إرادته وتَمَسُّكه بالسلطة وحبه للدولة وإخلاصه لها.

فتوحات الروم في سوريا (٩٦٣–٩٦٩)

وأوقفت ثورة القسطنطينية الأعمالَ الحربية في قيليقية وسورية، فعاد سيف الدولة إلى حلب واستعاد عين زربا ومصيصة وغيرهما في قيليقية، وأصبح يوحنا بن شمشيق قائد قوات الروم في الشرق، فحاصر مصيصة في صيف السنة ٩٦٣ ولم يستولِ عليها، وقام إلى ادنه فتحداه حاكم طرسوس فهزمه ابن شمشيق هزيمة كبيرة ولكنه اضطر أن يغادر قيليقية لما حلَّ بها من قحط وجوع وأوبئة.

وفي ربيع السنة ٩٦٤ تولى الفسيلفس بنفسه قيادة جيوشه، فأنشأ قاعدة هامة للتموين في قيصرية قبدوقية وزحف برجاله على قيليقية، فاقتحم عين زربا وأدنه وعشرين حصنًا عربيًّا واستولى على إِسوس عند مدخل سورية، وعاد إلى قبدوقية لتمضية فصل الشتاء، وفي ربيع السنة ٩٦٥ أنفذ أخاه لاوون فوقاس إلى حصار طرسوس وقام هو إلى مصيصة فاقتحم أسوارها ودخلها عَنْوَةً، ثم عاد إلى طرسوس فسلَّمت تسليمًا. وهكذا، فإن قيليقية بأسرها عادت إلى الروم بعد أن كانت زهاء ثلاثة قرون متتالية قاعدةً بريةً بحريةً تنقضُّ منها جيوشُ العرب وأساطيلهم على الإمبراطورية، وجعل نيقيفوروس منها ثيمة جديدة وجعل طرسوس عاصمتها، وفي شتاء هذه السنة عينها جهَّز الفسيلفس حملة بحرية بقيادة نيقيطاس وأنفذها إلى قبرص، فاحتلت الجزيرة وأصبحت قبرص أيضًا ثيمة جديدة.

وثارتْ حلب وأنطاكية في وجه سيف الدولة فقاسى الأَمَرَّيْن في إخضاعهما، ثم طلب إلى نيقيفوروس تبادُل الأسرى فأجابه الفسيلفس إلى ذلك، وتم التبادُل على الفُرات في الثالث والعشرين من حُزيران سنة ٩٦٦، ففاق عددُ أسرى الروم عددَ أسرى الحمدانيين بثلاثة آلاف، فافتدى البيزنطيون هؤلاء بمائتي ألف دينار بيزنطي، وعاد أبو فراس إلى وطنه بعد أن قضى أربع سنوات أسيرًا في القسطنطينية.٥
وفي شتاء السنة ٩٦٦ أغار نيقيفوروس على الجزيرة، فدخل دارا ونصيبين ووصل إلى الحد الذي كان يفصلُ دولة الروم عن دولة الفُرس في أوائل القرن السابع واستولى على الآجرة المقدسة Karmidion التي كانت تحمل صورة السيد العجائبية، ثم انقضَّ على أنطاكية في حملة إرهابية، وعاد مستعجلًا إلى القسطنطينية لينظر في قضية بلغارية، وفي خريف السنة ٩٦٨ عاد إلى الفتح فحاصر ابن سيف الدولة في حلب وأزال النجدة التي جاء بها قرغويه من مصر. وبدلًا من أن يحاصر حلب قام بجيشه إلى حمص فدخلها ثم انحدر منها إلى عرقة فطرطوس فجبلة، وأبقى في جميع هذه المدن حاميات من الروم، ثم ظهر أمام أنطاكية يشدد الحصار عليها بإمرة ميخائيل بورجس البطريق ويرمم قلعة بغراس في طريق أنطاكية الإسكندرونة، وأقام ابن أخيه بطرس فوقاس قائدًا عامًّا وأوصاه بوجوب انتظاره وعدم اقتحام أنطاكية قبل عودته، وقام إلى القسطنطينية فدخلها بموكب نصر عظيم في مطلع السنة ٩٦٩.
وفي أثناء غيابه اتصل نصارى أنطاكية بقيادة الروم مؤكدين وقوع الفوضى في صفوف المسلمين، فاندفع بورجس البطريق وقام ببعض رجاله فتسلق الأسوار ودخل بعض الأبراج وكاد يموت موتًا لولا وصول لاوون وإسعافه، وسقطت أنطاكية بيد الروم في الثامن والعشرين من تشرين الأول بعد أن بقيت إسلامية عربية ثلاثة قرون ونيفًا، واغتاظ نيقيفوروس وأقال بورجس من منصبه، واشتد حماس الجند وألحوا بوجوب اقتحام حلب، وفعلوا، فسقطت المدينة في يدهم في كانون الأول من السنة ٩٦٩، ووقَّع صاحبها قرغويه معاهدة مع الروم اعترف فيها بسيادتهم وحمايتهم، واعترف الرومُ بولايته على حلب وولاية بكجور بعده على أن يعينوا أميرًا عليها من يرونه لائقًا من أبناء حلب بعدهما. ومن شُرُوط هذه المعاهدة أيضًا أن يقيم في حلب ممثلٌّ رسميٌّ للفسيلفس، وأن يدفع الحلبيون دينارًا عن كل ذَكَر في كل سنة، وأن يمتنعوا عن جباية الجِزية من النصارى، وأن يؤمِّنوا طُرُق التجارة، وأن تُشرف لجنةٌ من الروم والحلبيين على جباية الكمارك.٦

نيقيفوروس والغرب

وكان أوثون الأول Otton قد أعاد الإمبراطورية الغربية في السنة ٩٦٢، فادعى بجميع إيطالية، وكان الأمراء اللومبارديون أجمعين قد اعترفوا بسلطته، وكان هو قد زار بنيفنتوم Beneventum وكابوة Capua في السنة ٩٦٧، وجاءت السنة ٩٦٨ فزحف أوثون على أبولية وحاصر باري قاعدة الروم فارتد عنها حسيرًا، فأرسل لويدبراندو أسقف كريمونة يفاوض في القسطنطينية في زواج ابن أوثون وولي عهده «أوثون الثاني» من الأميرة حنة ابنة ثيوفانو من رومانوس، فأنكر نيقيفوروس إجابةَ طلب أوثون وأظهر كدره من تسلطه على رومة التي كان يعتبرها العاصمة الأولى لمملكته، ثم أرسل البابا يوحنا الثالث عشر (٩٦٥–٩٧٢) يتوسط في عقد هذا الزواج، وسمَّى الفسيلفس في تحاريره إمبراطور «اليونان» فأيَّد بعمله هذا الفكرة التي قال بها سلفُهُ البابا لاوون الثالث وقد كانت ترمي إلى تجزئة حقوق الفسيلفس الشرقي في الحكم، وذلك بإقامة إمبراطورٍ غربيٍّ ينافس الفسيلفس وريث رومة الشرعي، فاغتاظ نيقيفوروس ورجال دولته من البابا، وأصبح هذا خصمًا سياسيًّا لا بد من مقاومته، وبذرت بذور الشقاق في أوساط الكنيسة الأم الكاثوليكية الأرثوذكسية ممهدة السبيل للانشقاق الكبير، ودخل الفسيلفس في نزاع مع إمبراطور الغرب وكنيسة رومة، وغادر الوفد الباباوي المفاوض عاصمة الروم، وأغار أوثون الأول على ثيمات الروم في إيطالية ولم يفلح، وانكسر الأمير بالدولفوس Paldolphus ووقع أسيرًا في يد الروم.٧

الروم وبلغارية وروسية

وكانت معاهدة السنة ٩٢٧ بين الروم والبلغار قد قضت بأن يدفع الروم للبلغار مالًا سنويًّا محددًا، وكانت بلغارية في تقهقُرٍ داخليٍّ مستمرٍّ، وكان بعضُ رجال الإقطاع فيها قد عادوا إلى سابق نفوذهم، فأصبحوا مستقلين استقلالًا فعليًّا، فرأى نيقيفوروس أَنْ يستغل هذا الظرف لمصلحة دولته وشعبه، فاتخذ مِنْ تَجَرُّؤِ بعض العصابات المجرية وعبورها الدانوب ووصولها إلى أراضي الروم عبر بلغارية عذرًا للتوقف عن دفع المال السنوي المقرر. وهكذا، فإننا نراه يصفع في السنة ٩٦٧ مندوبي بلغارية الذين أَمُّوا عاصمته يطالبون بالمال السنوي ويطردهم طردًا.

ثم رأى نيقيفوروس قبل أن يبدأ الحرب أن يستعين بالروس؛ ليضع البلغاريين بين نارين، فأوفد إلى كيِّف عاصمة الروس من يسعى للتحالف مع سواتوسلاف Sviatoslav أميرهم الكبير، فلبى الأمير الطلب وأنزل في السنة ٩٦٧ جيشًا روسيًّا كبيرًا في الساحل البلغاري، فرحب بعض أمراء الإقطاع من البلغاريين بالروس وتمكن الأميرُ الروسي من اكتساح الموقف، ثم اضطر أن يعود إلى كيِّف لإخماد ثورة أشعلها البتشناغ، وعاد في السنة ٩٦٩ إلى بلغارية لضمها إلى مُلكه، فأدرك نيقيفوروس الخطأ الذي ارتُكب، فصالح البلغاريين، ولكن وفاة بطرس ملكهم وظهور سيسمان يناظر ولي العهد أشعل الفوضى في بلغارية.٨

يوحنا جيمسكي (٩٦٩–٩٧٦)

ولم ترضَ ثيوفانو الفسيلسة الأم عن حياتها الزوجية مع نيقيفوروس؛ نظرًا للتفاوُت في السن بينهما، ونظرًا لانهماك نيقيفوروس بمشاغله وتشاغله عنها، وكان ابن أخته يوحنا جيمسكي Jean Tzimisces جميل الصورة ولا يزال في الخامسة والأربعين من عمره، فأحبتْه ثيوفانو فأبعده نيقيفوروس عن القسطنطينية، فأخذت ثيوفانو تسعى لإرجاعه، فأقنعت زوجها نيقيفوروس برَقِيقِ أُسلوبها فأَرْجَعَهُ إلى البلاط، وكانت مؤامرة بين ثيوفانو ويوحنا، فذبح نيقيفوروس في غرفته ذبحًا في العاشر من كانون الأول ٩٦٩ وأسلم الروح وهو ينادي «يا والدة الإله!» وفي الغد نُودي بيوحنا جيمسكي فسيلفسًا بالاشتراك مع باسيليوس وقسطنطين القاصرين.
وبقي الفسيلفس الجديد أُسبوعًا كاملًا في القصر لا يخرج منه، ثم نزل إلى كنيسة الحكمة الإلهية ليتوِّجه فيها البطريرك المسكوني بوليفاكتوس، غير أن هذا الشيخ الورع لم يسمح للفسيلفس بالدخول إلى الكنيسة إلا بعد أن يقوم بأمور ثلاثة: أولها أن يطرد ثيوفانو المجرمة من البلاط، والثاني أن يعترف بالقاتل أيًّا كان، والثالث أن يُرجع للمجمع المقدس حق انتخاب الأساقفة، وأن يترك البَتَّ في الأُمُور الكنائسية للمجمع، فأذعن الفسيلفس ونفى ثيوفانو من القسطنطينية، واعترف باسم القاتل ونفاه، وأعاد إلى المجمع المقدس ما كان نيقيفوروس قد أخذه منه، وتوِّج فسيلفسًا في الخامس والعشرين من كانون الأول من السنة ٩٦٩ في كنيسة الحكمة الإلهية.٩
وكان يوحنا جيمسكي أرمني الأصل يمت بصلة النسب عن طريق والده إلى غرغون القائد، وعن طريق أُمِّهِ إلى العائلة فوقاس، وكان يُدعى بالأرمنية شمشقيق، ومن هنا اسمه في المراجع العربية المعاصرة. وكان قصير القامة، جميل الصورة، شجاعًا، باسلًا، لطيفًا، كريمًا، متزنًا، صبورًا، وكان قد اشترك في معظم حروب نيقيفوروس، فعرفه الجنود وأَحَبُّوهُ وتعلقوا به،١٠ ورأى الفسيلفس الجديد أنه لا بد مِنْ أَنْ يتسلم قيادة جيشه بنفسه، فأعاد إلى إدارة دفة الحكم البراكيمومان باسيليوس ليكابينوس الذي كان قد خرج من البلاط في عهد نيقيفوروس الفسيلفس.١١

عنايته بالكنيسة

وأَحَبَّ يوحنا جيمسكي الكنيسة، وجالس رجالها — ولا سيما الرهبان — وأصلح ما بين رُهبان جبل آثوس وبين النُّسَّاك فيه، وأصدر في السنة ٩٧٠ «البراءة الذهبية»، فأسس بها اتحادَ جماعاتِ جبل آثوس،١٢ وكان بطريرك أنطاكية قد قُتل في أثناء الحصار، وقبل دُخُول الروم إليها، وكان الموقفُ السياسيُّ في سورية لا يزال حرجًا، فطلب الفسيلفس في السنة ٩٧٠ نفسها إلى البطريرك المسكوني ومجمعه المحلي أن ينتخبوا بطريركًا على أنطاكية وسائر المشرق، واقترح انتخابَ الراهب ثيودوروس، فَتَمَّ انتخابُهُ وتكريسُهُ في الثامن والعشرين من كانون الثاني، ثم تُوُفي بوليفكتوس البطريرك المسكوني، فرشَّح الفسيلفس راهبًا من رُهبان جبل أوليمبوس باسيليوس لهذا المنصب السامي، وقَدَّمَه بنفسه إلى المجمع، وكان لا يزال لابسًا القلنسوة الجلدية، فَتَمَّ انتخابُهُ وسِيمَ بطريركًا في التاسع والعشرين من كانون الثاني من السنة ٩٧٠.١٣

وفي السنة ٩٧٤ وشي إلى الفسيلفس بأن باسيليوس البطريرك وعد شخصية كبيرة بالتاج، فاستدعاه الفسيلفس ليمثل أمام مجلس القضاء الأعلى، فرفض البطريرك وطلب محاكمته أمام مجمع مسكوني، فخلعه الفسيلفس ونفاه ورشح راهبًا آخر، هو أنطونيوس الأستوديتي، فانتخبه المجمع خلفًا لباسيليوس.

ويرى بعض رجال الاختصاص أن الدافع لخلع باسيليوس كان رفضه مجاراة الفسيلفس في سياسته في إيطالية التي قَضَتْ بقطع العلاقات مع كنيسة رومة.١٤

الروس والبلغار

وكان أمير الروس سواتوسلاف لا يزال طامعًا طامحًا، فجاء في ربيع السنة ٩٧٠ إلى البلقان ناهبًا مدمرًا، وبعد أن استولى على فيليبوبوليس عبر الحدود البيزنطية، وحَلَّ ضيفًا ثقيلًا على تراقية، فدَبَّ الرعبُ في قلوب سكان العاصمة، وهَبَّ برداس أسكليروس Bardas Skleros صهر الفسيلفس إلى مُحاربة الروس ودفع الأذى، فدحرهم عند أركاذيوبوليس Loule Bourgas في السنة ٩٧٠، وأكرههم على التَّرَاجُع إلى بلغارية،١٥ واضطر الفسيلفس أن يتبع الملاينة في إيطالية والغرب، فأَزوج أوثون الثاني من ثيوفانية ابنة ثيوفانو، وقضى على ثورة دبَّرها برداس فوقاس في بر الأناضول.١٦
وفي آذار سنة ٩٧٢ قام هو بنفسه على رأس جيشه إلى بلغارية وأنفذ أُسطوله إلى الدانوب، واستولى على بريسلافة عاصمة البلغار، ورد سواتوسلاف الروسي على عقبيه، فامتنع هذا في حصن سليسترية، وبعد حِصارٍ دام ثلاثة أشهر سلم الأمير الروسي الحصن وقفل راجعًا إلى بلاده، وما إن وصل إلى شلالات الدنيبر حتى أطبق به البتشناغ وقضوا عليه،١٧ وأكره الفسيلفس بوغوريس ملك البلغار على التنازُل عن العرش وضم بلغارية الشرقية إلى دولة الروم، وألغى بطريركية البلغار.١٨

تَوَسُّعٌ جديد في سورية ولبنان

وما إن أنهى الفسيلفس الجديد مشكلة الروس والبلغار حتى عزم على إزالة خلافة بغداد وتحرير فلسطين والاستيلاء على القُدس، ولكن كان عليه قَبْلَ هذا وذَاكَ أن يُجابه دولةً فتيةً جديدةً كانت قد قامت في مصر؛ فإن المعز لدين الله الخليفة الفاطمي الرابع كان قد سيَّر جوهرًا الرومي إلى مصر في السنة ٩٦٨، فافتتحها وأزال الشعار الأسود العباسي وألبس الخطباء الأبيض وفتح دمشق وخطب للمعز على منابرها، وكان جوهر قد أَنْفَذَ جيشًا إلى أنطاكية فحاصرها خمسةَ أشهُر خلال السنة ٩٧٠-٩٧١،١٩ وكان الفسيلفس قد اكتفى بِأَنْ عَيَّنَ ميخائيل بورجس دوقًا على أنطاكية وأمره بترميم حُصُونها وجعلها صالحة للدفاع، وفي السنة ٩٧٣ أنفذ الدومستيقوس «الدمستق» الأرمني مليه Mleh إلى الجزيرة غازيًّا، فاستولى هذا القائد على ملاطية، ولكنه ارتدَّ أمام آمد، فاعتقل وأرسل إلى بغداد فتُوُفي فيها.٢٠
وفي السنة ٩٧٤ بعد الانتهاء من مشكلة الروس والبلغار قام الفسيلفس بنفسه على رأس قواته قاصدًا بغداد، فسلك الطريق نفسها التي كان قد سلكها هرقل من قبله، فسار في وادي الفُرات الأعلى ودخل أرمينية وحالف ملكها أشوت،٢١ ثم اتجه جنوبًا، فاستولى على آمد، وأحرق ميَّافارقين، ودخل نصيبين، وأدخل أمير الموصل الحمداني في طاعته،٢٢ وتَعَسَّرَ عليه تموينُ جيشه، فعاد إلى القسطنطينية منتصرًا غانمًا.٢٣
وفي ربيع السنة ٩٧٥ عاد الفسيلفس يوحنا جيمسكي إلى القتال، فانطلق من أنطاكية قاصدًا المدينة المقدسة، وما إن أطل على دمشق حتى فاوضه حاكمها في السِّلْم، فوقَّع بيانًا اعترف فيه بسيادة الفسيلفس وتقبل حامية مسيحية في مدينته، وقام الفسيلفس الفاتح إلى طبرية، فدخلها، ثم قام إلى الناصرة فعَفَّ عنها احترامًا وإجلالًا، وتسلق جبل الطابور تَيَمُّنًا وتضرعًا، وتقبل هنالك دخول القدس والرملة وعكة في الطاعة وأرسل إليها قادةً عسكريين يُقيمون فيها، ولَمَّا كانت قواتُ الفاطميين قد التجأت إلى مُدُن الساحل؛ فإنه رأى أَنَّ الحكمة العسكرية تقضي بالاتجاه نحو الساحل قبل التوغُّل في الجنوب، فاحتل صيدا وبيروت وجبيل وعاد إلى أنطاكية متأثرًا من مرضٍ ألمَّ به، ومنها قام إلى القسطنطينية.٢٤
ومما نَقَلَه المعاصرون أنه في أثناء عودته إلى العاصمة شاهد أراضيَ فسيحةً جميلةً خصبة، فسأل عن مالكها فقيل له إنها تخص رئيس الخصيان باسيليوس المقدم بين الوزراء، فاستعظم يوحنا هذا الأمر؛ نظرًا لاحتياج الدولة وشقاء رؤسائها في سبيل الفُتُوحات، وبلغ هذا باسيليوس نفسه فخاف فدسَّ سمًّا خفيفًا للفسيلفس فقتله في مدة لا تبلغ السنة، فمات في الثامن عشر من كانون الأول سنة ٩٧٦.٢٥

باسيليوس الثاني (٩٧٦–١٠٢٥)

وكان باسيليوس وأخوه قسطنطين شريكَا يوحنا جيمسكى قد بلغا سن الرشد أو ما يقرب منها، وكانا يهابان الخصي باسيليوس؛ لأنه كان قد تولى تربيتهما، وحدثته نفسه بالملك، فأرجع أم الفسيلفسين ثيوفانو، ثم عزل القائد الأعلى برداس أسكليروس وعَيَّنَه في وظيفةٍ ثانويةٍ في قيادة جيش الجزيرة، فذهب برداس وجمع جيشًا واتحد مع أعداء باسيليوس الخصي، فكانت بينه وبين جيوش العاصمة مواقعُ هائلةٌ وحروبٌ شديدةٌ، دامت أربع سنوات، ولجأ برداس إلى بغداد، وطلب معونة الخليفة العباسي الطائع (٩٧٤–٩٩١).

وكان باسيليوس الفسيلفس الشاب يحضر جلسات المجالس كلها ويتتبع الحوادث ويدرسها، فلمس الخراب الذي حَلَّ بالدولة من سُوء إدارة الخصي بصرف الأموال، وقتل القواد والضباط والعساكر، وانتفاع المسلمين من هذه الحوادث، ونهوض البلغار لاستغلال الموقف، وكان هو عَبُوسًا شُجَاعًا لا يعتمد إلا على نفسه، قَنُوعًا في معيشته وملابسه، بعيدًا عن الملاهي والطرب، وكان أخوه قسطنطين كسولًا محبًّا للهو والملذات، يُكثر من حُضُور الروايات والصيد.٢٦

وفي السنة ٩٨١ رأى أن يذهب بنفسه لمحاربة البلغار، فعارضه الخصي في ذلك، ولكنه أَصَرَّ وذهب، فلم ينجح، وكان أوثون الثاني قد شرع في الاستيلاء على أملاك الروم في إيطالية؛ مدعيًّا أنها تخص زوجتَه ثيوفانية، فنهاه الفسيلفس فلم يرتدعْ، فحاربه الفسيلفس في السنة ٩٨٢ وظفر بجنوده واسترجع معظم ما ملكه الرومُ في إيطالية.

ولم يرضَ باسيليوس الخصي عن تَدَخُّل الفسيلفس الشاب في الحُكم وخشي أَنْ تُفلت السلطة من يده فَأَثَارَها حربًا باردةً في القصر بينه وبين سميِّه الفسيلفس، وانتهى هذا النزاعُ الصامتُ بكف يد الخصي في السنة ٩٨٥ وإبعاده إلى دير يعيش فيه زاهدًا، وما إن فعل حتى رفع رجالُ الإقطاع رُءُوسهم مرة أخرى منادين في السنة ٩٨٧ ببرداس فوقاس فسيلفسًا، وانضم إليهم برداس أسكليروس، فتفاقم الشر وعظم الخطب، فاستمال الفسيلفس الكنيسة وخطب وُدَّها، ثم حالف أمير كيِّف فلاديمير الكبير واستعان بستة آلاف مقاتل روسي، فلما زحف رجالُ الإقطاع على العاصمة أنزل الفسيلفس بهم هزيمةً شنعاء في خريسوبوليس (٩٨٨) ولقي برداس فوقاس حَتْفَه في أَبيدوس (٩٨٩)، ولم يَبْقَ في الميدان سوى القائد برداس أسكليروس، فوعده الفسيلفس بالعفو إن هو سَلَّم، ففعل.٢٧

ويُستدل من رسم هذا الفسيلفس الذي لا يزال محفوظًا في نسخة قديمة من المزامير؛ أنه قصيرُ القامة، مفتولُ العضل، أزرقُ العينين، مشرقُ الوجه، ذو لحية ملتفَّة كثيفة.

ومما يستدل عليه من هذا الرسم أيضًا أن باسيليوس انفرد عن سائر زملائه في أنه آثر الظهور باللباس العسكري والسلاح بالزرد والسيف والرمح،٢٨ وهو في مراجعِنا الأولية بعيدٌ عن البَذَخ إِنْ في المأكل أو المشرب أو المَلْبَس، وهو قليلُ الاهتمام بالحفلات والتشريفات، ولم يتذوق العلم والفسلفة، واعتبر الجدل في هذه ضربًا من الثرثرة، ولكنه كان جنديًّا ممتازًا وفارسًا مغوارًا وقائدًا عظيمًا، يُشاطر جنوده التعب، ويقودهم إلى النصر بوفرةِ ذكائه وسعة اطِّلَاعِهِ، وحُسْنِ تدبيره وتنظيمه، ومما جاء في هذه المراجع أنه لم يكن لديه وزير أول، ولم يخص أحدًا بعطف أكثر من غيره، ولم يحكم بالقوانين المدونة، بل بما أوحاه إليه ضميرة ووجدانه.٢٩

الكنيسة في عهد باسيليوس

وليس لدينا من مخلفات السلف في هذا الموضوع ما يكفي لإيضاح جميع الحوادث،٣٠ وأهم ما يلفت النظر أن البطريرك المسكوني أنطونيوس الثالث استقال في السنة ٩٨٠ في أثناء ثورة برداس أسكليروس، وبعد استعفائه بقي المنصب أربع سنوات شاغرًا، وفي السنة ٩٨٤ سيم نيقولاووس الثاني «خريسوبيرجيوس» بطريركًا مسكونيًّا فأقام على الكرسي حتى وفاته في السنة ٩٩٥، ثم خلفه سيسينيوس الثاني المايستروس الطبيب، وكان التنافُرُ لا يزال قائمًا في بعض الأوساط الإكليريكية بسبب زيجة لاوون الرابعة، فَوَفَّقَ البطريرك بينهم، وسَنَّ قانونًا بألا يأخذ أخوان زوجتين إحداهما ابنة عم أو خال أو عمة أو خالة الأخرى على الوجه السادس، ولا أن يأخذ العم أو الخال وابنُ أخيه أو أخته أختين على الوجه الخامس، وبعد سيسينيوس نَصَّبَ البطريرك سرجيوس الثاني (١٠٠١–١٠١٩) أحد أقرباء فوطيوس البطريرك السابق.
ويرى مؤرخو الكنيسة الأرثوذكسية أن سرجيوس الرابع بابا روما (١٠٠٩–١٠١٢) قال بالانبثاق من الآب والابن، وأنه لما بلغ هذا الأمر مسامع سرجيوس الثاني البطريرك المسكوني كتب إلى زميله البابا سرجيوس الرابع يُرشده في هذا الموضوع فلم يقبل، فعقد البطريرك المسكوني مجمعًا أَيَّدَ فيه أعمال البطريرك فوطيوس كلها ومحا من ذيبتيخة الكنيسة اسم البابا سرجيوس الرابع،٣١ ويرى بعضُ رجال الاختصاص من علماء الغرب أن السبب في هذا التباعُد بين فَرْعَيِ الكنيسة الرئيسين هو أن فسيلفس الشرق وإمبراطور الغرب كانا في تنافُس مستمر حول النفوذ في إيطالية، وأن البابا بنديكتوس الثامن (١٠١٢–١٠٢٤) كان مدينًا بتبوُّئه العرش الكنائسي لهنريكوس الثاني إمبراطور الغرب، وأنه اعترافًا بهذا الفضل أهدى إلى هنريكوس كرة ذهبية يعلوها صليبٌ رمزُ السلطة العالمية، وأن فسيلفس الشرق باسيليوس اعتبر إقدام البابا على صُنع هذه الكرة وتقديمها إلى هنريكوس عملًا عدائيًّا، وأن البطريرك المسكوني شاركه في هذا الشعور.٣٢

ومما لا ينبغي إغفالُهُ في هذا كله هو أن مراجعنا الأولية — كما سبق أن أشرنا قليلة — وأن مراجع الانشقاق العظيم الذي حَلَّ في السنة ١٠٥٤ لا تشير البتة إلى هذا الاختلاف بين سرجيوس الشرق وسرجيوس الغرب.

تَنَصُّرُ الروس

وأعظم من هذا كله وأشد أثرًا في التاريخ تنصُّر الروس، وكانت أولغة — زوجة إيغور أول أمراء الروس — قد اعتنقت الديانة المسيحية في القسطنطينية في السنة ٩٠٥ فسميت هيلانة، ثم عادت إلى بلادها وأخذت تسعى في تنصير شعبها وخصوصًا ابنها إيفاتوسلاف، وأثمر سعيُها مع بعض الأهالي، ولكنها توفيت ولم تستطعْ إقناع ابنها، ولا يزال الروس يعيِّدون لها في الحادي عشر من نيسان في كل سنة.

ثم مات إيفاتوسلاف وخَلَفَه ابنُهُ فلاديمير سنة ٩٨٠، ثم كان ما كان من أمر برداس فوقاس، فطلب الفسيلفس باسيليوس الثاني معونة فلاديمير، فجاءت المعونة في حينها، وطلب فلاديمير حنة شقيقة باسيليوس زوجةً، فقبل الفسيلفس شرط أن يتقبل فلاديمير النصرانية، فتقبلها، فشرطن البطريرك المسكوني نيقولاووس الثاني ميخائيل السوري الأصل متروبوليتًا على كيِّف، وأرسله وخمسة أساقفة مع الأميرة حنة لينشروا الديانة المسيحية في روسية، ووصلوا إلى خرسون في بلاد القرم وعمَّدوا فلاديمير سنة ٩٨٨ وكللوه على حنة، وعاد فلاديمير إلى كيِّف، وأمر بأن يجتمع جميعُ أهلها كبارًا وصغارًا على شاطئ النهر، فركع فلاديمير وصلى ووقف الكهنة على ألواحٍ من الخشب يعمِّدون الشعب تغطيسًا، واعتبرت الكنيسة الروسية فيما بعد فلاديمير وزوجته قديسين ومنحت فلاديمير لقبَ معادل الرسل، ولا تزال تحتفل بِعِيدِه في السادس عشر من تموز في كل سنة،٣٣ ويرى بعض من يعنى بتاريخ الروم في الغرب أن فلاديمير تقبل النعمة في كيِّف قبل زواجه من حنة وذلك في السنة ٩٨٧.٣٤

حروب باسيليوس وفُتُوحاته

وكان باسيليوس أعظم قوة وأطول باعًا في الحرب من أسلافه؛ فإنه تَمَكَّنَ — بجده وسعيه ومقدرته في الإدارة والحرب — من تجييش عدد من الرجال أكبر بكثير من أي عدد جَنَّدَه أسلافُهُ، وحارب في وقت واحد في جبهات أربع: في الجنوب والشمال وفي إيطالية والقوقاس.

وكانت مشكلة بلغارية لا تزال عقدة العقد؛ فإن انتصار يوحنا جيمسكي لم يكن كاملًا، ولم يتمكن هذا الفسيلفس من تدويخ جميع البلغاريين، ولم يَضُمَّ إلى مُلْكِهِ سوى بلغارية الشرقية، وبقي عددٌ مِنْ كبار رجال الإقطاع البلغاريين خارجين عن سلطته، وما إن زال البيت المالك القديم حتى شَقَّ صموئيل أحد هؤلاء طريقه إلى الملك ونظم بلغاريةً غربية جديدة، وحكمها مِنْ قلعته في أوخريدة في تلال مقدونية.

ولم يحاول صموئيل — بادئ ذي بدءٍ — أن يكتسح بلغارية الشرقية، ولكنه اتجه جنوبًا فانقضَّ على بلاد اليونان، واحتل لاريسة سنة ٩٨٦، ووصل إلى برزخ كورينثوس، فأعد باسيليوس الثاني حملةً وأغار على أَمْلَاك صموئيل، فارتدَّ هذا عن اليونان وأنزل بخصمه الفسيلفس هزيمةً شنعاء أمام صوفية في السابع عشر من آب من هذه السنة، واضطرَّ باسيليوس أَنْ يواجهَ ثورة البرداسين — كما سبق أن أشرنا.

وكان سعدُ الدولةِ الحمداني قد دخل حلب واستولى عليها، فحاول — مرارًا — أن يَتَمَلَّصَ من الإتاوة التي كان بقجور قد قَبِلَ بدفعها إلى الروم، فَأَدَّى هذا إلى إنفاذ حملاتٍ ثلاث على حلب بقيادة برداس فوقاس في السنوات ٩٨١ و٩٨٣ و٩٨٦، واضطرَّ سعد الدولة أن يستنجد العزيزَ الفاطميَّ، فنشب خصام بين الروم والفاطميين.

ولما كان باسيليوس منهمكًا في القضاء على ثورة البرداسين اضطرَّ — بدوره — في أواخر السنة ٩٨٧ إلى أن يُصالح العزيز بمعاهدة كان من شروطها أن يذكر اسم العزيز في خطبة الجامع في القسطنطينية، وكان قد قام في القسطنطينية مسجدٌ منذ القرن الثامن.٣٥
ولم يكن باسيليوس الثاني في هذه الفترة نفسها أسعد حظًّا في إيطالية؛ فإن أوثون الثاني إمبراطور الغرب طمع في جنوبي إيطالية؛ ففي كانون الثاني من السنة ٩٨٢ غزا أبولية البيزنطية، وهاجم مُدُنها، ولكنه عندما دخل كلابرية اصطدم بجيشٍ عربيٍّ كان قد أُنفذ إليها من صقلية، فواقعه عند ستيلو في الثالث عشر من تموز سنة ٩٨٢، فانهزم وكاد أَنْ يقع في يد العرب أسيرًا لولا نُزُولُه إلى البحر على ظهر جواده والتجاؤُهُ إلى سفينة بيزنطية قريبة، وعاد إلى روسانو وأعاد تنظيم جيشه وتراجع شمالًا وتُوُفِّي في رومة في كانون الأول من السنة ٩٨٣، وعاد العرب إلى صقلية فتمكن الروم من إعادة سلطتهم في أبولية.٣٦
وفي السنة ٩٨٨ أخمد باسيليوس ثورة البرداسين واستتب الأمر له، وكان في سِلْم مع الروس والفاطميين، فعاد إلى حدود البلغار، وكان صموئيل قد استثمر انشغالَ خصمه باسيليوس فاستولى على قسمٍ من دلماسية وعلى ساحل ألبانية، فأصبح سيد ثلثي البلقان، وكان قد هاجم ثيسالونيكية واحتل بروة Berrhoe عند مداخلها الغربية، فقام باسيليوس إلى ثيسالونيكية بنفسه في ربيع السنة ٩٩٠ فرَمَّمَ حُصُونها، ثم دخل في حربٍ بلغارية دامتْ أربع سنوات متتالية.٣٧
وتُوُفي سعد الدولة الحمداني في السنة ٩٩١ فطمع العزيز الفاطمي بحلب، فحاصرها في السنة ٩٩٢ فاستجار لؤلؤ الكبير الوصي على ابن سعد الدولة القاصر باسيليوس الثاني، فأمر باسيليوس دوق أنطاكية ميخائيل بورجس أن يقدم المعونة اللازمة، فظفر الفاطميون بجيشه في موقعة العاصي في الخامس عشر من أيلول سنة ٩٩٤،٣٨ فرأى الفسيلفس الكبير أن الواجب يقضي بأن يُشرف بنفسه على الأعمال في سورية الشمالية، ففوض نيقيفوروس أورانوس متابعة الحرب البلغارية، وجمع جيشًا خاصًّا وجعل لكل مقاتل بغلين، وهَبَّ بسرعةٍ فائقةٍ، فقطع آسية الصُّغرى في ستة عشر يومًا وفاجأ الفاطميين عند حلب فَتَرَاجعوا عنها، وفَرُّوا أمامه حتى أبواب دمشق، وعاد الفسيلفس إلى القسطنطينية في خريف السنة ٩٩٥.٣٩

ونشط صموئيل في غياب باسيليوس فزحف على ثيسالونيكية وأوقع الهزيمة بحاكمها الأرمني أَشوت، ولكنه لم يقتحمها بل آثر التوغل في اليونان فوصل ثانية إلى برزخ كورينثوس، وتَأَثَّرَه نيقيفوروس أورانوس وأنزل به هزيمةً شنعاء عند مضيق ثرموبيلي الشهير، ففر صموئيل متسلقًا الجبال حتى وصل إلى سواحل أبيروس في صيف السنة ٩٩٦، ووصل الفسيلفس من سورية ولم يتمكن من استثمار هذا النصر استثمارًا كاملًا، واكتفى بأن أنزل نيقيفوروس إلى بلغارية الغربية ليدمر وينهب ويحرق.

وتُوُفي العزيز الفاطمي وتولى الحكم بعده الحاكم بأمره (٦٩٦–١٠٢١) فأنزل بدوق أنطاكية داميانوس دلاسانوس في تموز السنة ٩٩٨ هزيمة كبيرة، وخرَّ داميانوس مقاتلًا، فاضطر باسيليوس أن يعود إلى سورية الشمالية لينقذ الموقف، فدخل أنطاكية في العشرين من أيلول سنة ٩٩٩ واستولى على حمص في تشرين الأول من السنة نفسها، ثم قام إلى طرابلس فارتد أمامها (٦–١٧ كانون الأول)، وعاد إلى طرسوس لتمضية الشتاء.٤٠
وبينما هو يعد العدة في طرسوس لمتابعة الحرب ضد الفاطميين علم بوفاة داود ملك الكرج، وكان داود هذا قد عاون برداس فوقاس في ثورته على الفسيلفس وأوصى عند انتهائها بملكه إلى الفسيلفس، فقام الفسيلفس بجيشه إلى ملاطية، ثم عبر الفُرات ودجلة ووصل إلى هافاتشيش، فقدم أمراء الكرج خُضُوعهم، وضم الفسيلفس دولة داود إلى الإمبراطورية وعاد إلى القسطنطينية عن طريق أرضروم.٤١
وترك هذا كله أثرًا في نفس الحاكم بأمره، فأسرع يفاوض باسيليوس في السلم، ولما عاد الفسيلفس إلى القسطنطينية وجد فيها أورسطيوس بطريرك القدس منتظرًا لإبرام صُلح باسم الخليفة الفاطمي، فكان صلح بين الدولتين لعشر سنوات.٤٢

وانطلق الفسيلفس بعد هذا يذلل الصعاب في بلغارية، فدخل في حرب دامت سبع عشرة سنة (١٠٠١–١٠١٨) تمكن في أثنائها من مضايقة خصمه صموئيل بتفوُّق عساكره، ومهارة قواده، وحذقه هو في تدبير الخطط وتنفيذها، وفي سرعته ومفاجآته.

وأشهر مواقع هذه الحرب معركة كيمبالونغوس Kimbalongos، وهو ممرٌّ طبيعيٌّ في وادي ألسترومة كان لا بد لباسيليوس من أن يعبره في طريقه إلى معاقل صموئيل الأخيرة في مقدونية الغربية. وفي التاسع والعشرين من تموز سنة ١٠١٤ كمن صموئيل لباسيليوس في هذا الممر، وما إن وصل الروم إليه حتى أمطرهم البلغاريون وابلًا من السهام من وراء أسيجة مدبرة، فأنفذ باسيليوس القائد نيقيفوروس زيفياس يهددهم من الوراء، فكان نصرٌ مبين، ووقع في يد باسيليوس عدد كبير من الأسرى، فسمل عيون خمسة عشر ألفًا منهم وأطلقهم بقيادة مائة وخمسين أعور يقابلون صموئيل ملكهم، وما إن شاهدهم هذا حتى أُغمِيَ عليه وتُوُفي للحال في السادس من تشرين الأول سنة ١٠١٤.
ونال باسيليوس لقب ذابح البلغاريين Bulgaroctonus، ونادى البلغار بابن صموئيل جبرائيل ملكًا، فدامت الحرب أربع سنوات أخرى، وتابع باسيليوس الحرب فاحتل أوخريدة العاصمة في خريف السنة ١٠١٧ ثم حاصر كستورية، واستجار البلغار البتشناغ، ولكن دون جدوى، وسقط آخِرُ مُلُوك البلغار مقاتلًا في أوائل السنة ١٠١٨، فضَمَّ باسيليوس جميع بلغارية الغربية إلى مُلكه، وأصبحت شبه جزيرة البلقان بكاملها أرضًا بيزنطيةً للمرة الأُولى بعد يوستنيانوس الكبير، وبلغت دولة الروم — بفضل هذه الفتوحات في الشرق والغرب — حدودها الطبيعية.٤٣
وتميزت السنواتُ الخمسُ الأخيرةُ مِن حكم باسيليوس الثاني (١٠٢٠–١٠٢٥) بالسيطرة على إيطالية، والاستعداد لإخراج العرب من صقلية، وبمحاولة جدية لتأمين الحدود عند القوقاس، والصمود في وجه الأتراك السلاجقة الذين كانوا قد بدءوا يتجهون غربًا؛ ففي ربيع السنة ١٠٢١ قام باسيليوس إلى أرضروم، ومنها إلى سهل بسيان؛ حيث أنزل بالملك جورجي هزيمة سَهَّلَتْ وُصُول الفسيلفس المنتصر إلى تفليس، ثم عاد إلى طرابزون يمضي فصل الشتاء فتَقَبَّلَ فيها خُضُوع يوحنا سمباد ملك أرمينية الكبرى، كما تسلم من الملك فاسبوراكان سلطته على الأراضي الواقعة جنوبي بحيرة وان؛ لأنه لم يتمكن من حمايتها من غزوات الأتراك السلاجقة، وقبل انتهاء فصل الشتاء جاء الملك جورجي نفسه يقدم خُضُوعه بلا قيدٍ أو شرط، وعاد الفسيلفس إلى القسطنطينية في مطلع السنة ١٠٢٣.٤٤
وأدَّت مقاومةُ البلغار الطويلة وتعديات القرصان الصقالبة والعرب في مياه الأدرياتيك إلى تفاهمٍ وثيقٍ وتعاونٍ جديٍّ بين الفسيلفس وحكومة البندقية التي كانت تعترف بسيادة الروم، ففي السنة ٩٩٢ منح باسيليوس تجار البندقية امتيازاتٍ تجارية أهمها إنقاص المكوس وردع الموظفين عن البلص، فوعد البنادقة بوضع سفنهم تحت تصرف الفسيلفس لنقل جيوشه وعتاده إلى إيطالية،٤٥ وتودد الفسيلفس إلى مدن بحرية إيطالية أخرى أهمها بيزا.
وفي السنة ١٠٠٩ ثار الجمهور في باري على عامل الروم فيها من جراء ضغطه وصلفه، وامتدت هذه الثورة إلى جميع أنحاء مقاطعة أبولية، ودامت عشرة أشهر، وحاصر الروم باري واستولَوا عليها، وفَرَّ زعيم الثورة فيها إلى ألمانية فرحب بقدومه هنريكوس الثاني الإمبراطور ومنحه لقب دوق أبولية،٤٦ واستعان هذا الزعيم الإيطالي بالفرسان النورمنديين الذين كانوا على استعداد دائم لتقديم خدماتهم في مثل هذه الظروف، فلبوا الطلب وجاء بهم وبغيرهم إلى أبولية في ربيع السنة ١٠١٧ وأنزل بالروم خسائر عديدة، فأنفذ باسيليوس أحد رجاله الأشداء باسيليوس بويانس فقضى على هذه المحاولة، وفر زعيم الثورة ثانيةً إلى ألمانيا، إلى حضن هنريكوس الثاني وتُوُفي فيها (١٠٢١)، وأعاد بويانس هيبةَ حُكم الروم في إيطالية الجنوبية، وحَصَّنَ الحدود الشمالية ولا سيما منطقة غارغانو-بنفنتوم، فهال هذا الأمر هنريكوس الثاني، وقام للحال بحملة عسكرية يزعزع بها نفوذ زميله الفسيلفس، ولكنه أخفق كل الإخفاق! وحاول باسيليوس الفسيلفس أن يستثمر هذا النصر فيحتل صقلية ويخرج العرب منها، وأنفذ إلى إيطالية في شهر نيسان من السنة ١٠٢٥ جيشًا، واحتل بويانس مسينة، وتأهب الفسيلفس للحاق ببويانس، ولكنه صعق بمرضٍ أودى به في الخامس عشر من كانون الأول سنة ١٠٢٥.٤٧
١  Lingenthal, Z., Jus Graeco-Romanum, Novelle Canstantine VII, III, 261.
٢  Vari, Incerti Secriptoris de Re Militari, Leipzig, 1901.
٣  Bréhier, L., Inst. De l’Emp. Byz., 366–382.
٤  Schlumberger, G., Op. Cit., 252–309.
٥  يحيى ابن سعيد الأنطاكي، تاريخه، ص١٠٥-١٠٦، أبو فراس، ديوانه، ص٣٢٣.
٦  كمال الدين ابن العميد، الزبدة، مجموعة كنار، ص٤١٩–٣٢٤.
Schlumberger, G., Nicéphore, Op. Cit., 730–733; Canard, M., Dyn. Hamd., 831–838.
٧  Liudprand, Legatio, 350ff; Diehl et Marçais, Monde Oriental, 469-470.
٨  Schlumberger, G., Nicéphore, Op. Cit., 735ff.
٩  Schlumberger, G., Jean Tzimisces, (Epopée Byz.) Vol. I.
١٠  Schlumberger, G., Op. Cit., I. 4.
١١  Dolger, F., Regesten, 725.
١٢  Dolger, F., Regesten, 745; Meyer, Ph., Die Haupturkunden der Athos-Kloster, 141–151.
١٣  Schlumberger, G., Epopée Byz. I, 32–36.
١٤  Gfroerer, Byzantinische Gesch. II, 255; Fliche et Martin, Hist. de l’Eglise, VII, 761.
١٥  Schlumberger, G., Epopée Byz., I, 39.
١٦  Diehl, C., Byzance, 126-127.
١٧  Schlumberger, G., Op. Cit., I, 92ff; Léon le Diacre, 156-157.
١٨  Dolger, F., Regesten, 739.
١٩  Schlumberger, G., Op. Cit., I, 222-223.
٢٠  Anastasievic, Die Zahl der Araberzuge des Tzimiskes Byzantinische Zeitschrift, Vol. 30–401ff.
٢١  Honigmann, Die Ostgrenze des Byzantinischen Reiches, 98.
٢٢  Adontz, Notes Armeno—Byzantines, Byzantion, 1934, 371–377.
٢٣  Schlumberger, G., Op. Cit., I, 262.
٢٤  Du Laurier, E., Chronique de Matthieu d’Edesse, Bibliothèque, Hist. Arménienne, 16–24; Georges Hamartolus, Continuator, 865.
٢٥  Schlumberger, G., Op. Cit., 308–315.
٢٦  Zonaras, J., Hist., III, 555; Psellus, M., Chronog, 4.
٢٧  Psellus, M., Op. Cit., 9ff; Schlumberger, G., Op. Cit., I, 672–677.
٢٨  Diehl, C., Peinture Byzantine, pl. 83.
٢٩  Psellus, M., Op. Cit., 18–24.
٣٠  Bréhier, L., Byz., Vie et Mort, 218-219.
٣١  جراسيموس، متروبوليت بيروت، الانشقاق، ج٢، ص٦٣.
٣٢  Jugie, M., Le Schisme Byzantin, (1941), 166-167.
٣٣  Schlumberger, G., Epopée Byzantine, I, 701–723, 758–777, II, 1–12.
٣٤  Baumgarten, Conversion de la Russie, Orientalia Christiana, 1932, 1–36.
٣٥  Schlumberger, G., Epopée Byzantine, I, 544–572, 730–713; Dolger, F., Regesten, elc., 770.
٣٦  Schlumberger, G., Op. Cit., I, 499–507; Gay. J., Italie Méridionale, 331–335.
٣٧  Schlumberger, G., Op. Cit., 751–755, II, 44-45; Cedrenus, G., Synopsis Historion, II, 58, 180.
٣٨  Schlumberger, G., Op. Cit., II, 68–84.
٣٩  Yahya d’Antioche, Chronique Universelle, 176-177.
٤٠  Yahya d’Antioche, Op. Cit., 183-184.
٤١  Schlumberger, G., Op. Cit., II, 172–198.
٤٢  Dolger, F., Regesten, 788; Schlumberger, G., Op. Cit., II, 201–208.
٤٣  Bréhier, L., Byzance, Introduction, 5-6.
٤٤  Dolger, F., Regesten, 809, 810, 811, 816; Schlumberger, G., Op. Cit., II, 468ff, 480–511, 525–536.
٤٥  Dolger, F., Regesten, 789.
٤٦  Chalandon, F., Hist. de la Domination Normande en Italie, I, 47.
٤٧  Gay. J., Italie Méridionale, 420–429; Schlumberger, G., Op. Cit., II, 598-599; 619-620; Mercati, G., Bessarione, 1921, 138.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤