الفصل الخامس والعشرون

التوقُّف عن التوسُّع وانتهاء الأسرة المقدونية

١٠٢٥–١٠٥٧

ورقي عرش القسطنطينية، بعد وفاة باسيليوس الثاني، عددٌ من صغار الرجال وضعفاء النفوس والهمم، فأفلتت السلطةُ الحقيقية من يد الفسيلفس وعظم شأن الخصيان في البلاط ونشبت مشادة عنيفةٌ بين هؤلاء وبين قادة الجيش، فأدَّت هذه المشادة وهذا التنافس إلى تمرُّد الجند وضعف قوى الدفاع في وقت هدد فيه كيان الدولة عَدُوَّان جديدان هما النورمانديون في الغرب والأتراك السلاجقة في الشرق.

قسطنطين الثامن (١٠٢٥–١٠٢٨)

وتُوُفي باسيليوس بدون عقب وتولى الحكم بعده أخوه قسطنطين الثامن، وكان هذا خفيف العقل مستهترًا متصابيًا مولعًا بسباق الخيول منغمسًا في الملذات يكره الحرب والعمل الجدي، وكان قاسيًا عتيًّا، يلاقي جميع الذنوب بسمل العينين،١ فما إن تبوأ العرش حتى عزل كبار القادة أبطال الحروب السابقة واستبدلهم برجال من صنعه، ولم يكن له ولدٌ ذكرٌ، فاستدعى الشريف رومانوس أرغيروس إليه وأكرهه على تطليق امرأته وأزوجه من ابنته زوية وذلك في الثامن من تشرين الثاني سنة ١٠٢٨ وقبل وفاته بثلاثة أيام.٢

الأباطرة الأصهار (١٠٢٨–١٠٥٧)

ودخل الروم بعد هذا في حُكم أصهار الأسرة المقدونية، ولم يكن أصهار القرن الحادي عشر من بضاعة سلفائهم أصهار القرن العاشر، وكان رومانوس أرغيروس الثالث (١٠٢٨–١٠٣٤) ينتسب إلى بيت عسكري شهير مما يَسَّرَ له قيادة الجنود ولكنه لم يوفق إلى النصر — كما سنرى — وكان أول ما قام به من الأعمال أَنْ ألغى تشريع باسيليوس الثاني الذي يحمى به الفقراء وصغار الملاكين من جشع أصحاب الأملاك الكبيرة، فَطَغَى هؤلاء وتَجَبَّرُوا، وأَدَّى جشعُهُم إلى انفراط العقد وتشتيت الكلمة.

وكان عند رومانوس الثالث خصيٌّ اسمه يوحنا البفلاغوني، وكان لهذا إخوةٌ أربعةٌ فرَقَّاهم الخصي وأدخل أحدهم ميخائيل في خدمة البلاط، وكان ميخائيل لا يزال في عنفوان شبابه، جميل الوجه، ساحر العينين، فتعلقت به زوية فدفعها إلى قتل الفسيلفس، فدست له السم ثم خنقته في مغطس الحمام في الحادي عشر من نيسان سنة ١٠٣٤، وألبست ميخائيل البفلاغوني بدلة الملك وتوَّجته وأجلسته بجانبها وأمرت بتعظيمه، وما إن تم جلوس ميخائيل الرابع على العرش حتى قام أخوه يوحنا الخصي يستأثر بالسلطة، فحصر زوية بين نساء الحرم، وألم بأخيه ميخائيل الرابع داء النقطة فاستقل الخصي بالإدارة ورقى أقرباءَه إلى الوظائف الكبرى وعزل غيرهم من ذوي الأهلية، وانتقمت زوية من يوحنا الخصي فدست له السم، ولكنه استدرك الأمر ونجا من الموت، ولم يبطش بها محافظةً على مركز أخيه ومركزه.

وكان مرض ميخائيل الرابع يزداد من يوم إلى يوم، فشعر بقرب أجله، وأنبه ضميره على فظاظة ما عمله برومانوس الثالث، فشرع يوزع الحسنات ويبني الكنائس ويعمِّد الأطفال ليكفر عن خطيئته، وزار مقام القديس ديمتريوس في ثيسالونيكية ولكنه لم ينتفع، ثم أُصيب بالاستسقاء فطلب العزلة وسيم راهبًا، وبعد قليل تُوُفي في العاشر من كانون الأول سنة ١٠٤١.٣
وكان لميخائيل الرابع ابن أخت اسمه ميخائيل القلفاطي، وكانت زوية قد تَبَنَّتْه، فلما مات ميخائيل الرابع طردت زوية أخاه يوحنا الخصي وأخويه الآخرين وتوَّجت ابنها الوضعي ميخائيل الخامس القلفاطي فسيلفسًا، ولم يبر ميخائيل الخامس بأمه زوية فنفاها إلى جزيرة من جُزُر الأمراء، وأكره البطريرك ألكسيوس على أن يذهب إلى الدير، وأساء معاملة كثيرين من أهله، فاستاء سكان العاصمة من عمله — وكانوا لا يزالون يُكنون المحبة والولاء للأسرة المالكة المقدونية — فأحضروا ثيودورة أخت زوية من الدير وخلعوا عنها ثياب الرهبنة وألبسوها الحلة الملوكية وأرجعوا أختها زوية ونادوا بهما فسيلستين، فلما رأى ميخائيل الخامس القلفاطي هياج الشعب التجأ إلى دير الأستودي هو وعمه وتَقَبَّلَا النذر، ولكن ثيودورة أمرت بمعاقبتها فسحبا من هيكل كنيسة الدير وسملت أعينهما ونُفيا (١٠٤٢).٤

واجتهدت زوية بعد هذا في إبعاد أُختها ثيودورة فلم توفق إلى ذلك؛ نظرًا لموقف الشعب منها، وأَحَبَّتْ واليًا اسمه قسطنطين أرتوكليني ورغبت في الزواج منه ولكن زوجته علمت بذلك فدست له السُّمَّ فمات، وكان ميخائيل الخامس قد نفى قسطنطين مونوماخوس إلى مدلَّة لتعلق زوية به، فلما مات ميخائيل ومات أرتوكليني أحبت الفسيلسة أن تتخذ منه زوجًا لها، فلم يرضَ البطريرك عن زواج ثالث ولم يسمح به.

ولكن الفسيلسة أصرت فكللها كاهن القصر في الحادي عشر من حزيران سنة ١٠٤٢، وبعد أن تم لها ذلك أكرهت البطريرك على تتويج قسطنطين فسيلفسًا، ففعل، وأصبح قسطنطين مونوماخوس قسطنطين التاسع (١٠٤٢–١٠٥٥).٥

الحدود والعلاقات الخارجية (١٠٢٥–١٠٤٢)

وعلى الرغم من تصاغُر هؤلاء الملوك وتحاقرهم، فإن جهاز الدفاع كان لا يزال قويًّا بفضل الجهود التي بذلها باسيليوس الثاني في أثناء حكمه الطويل، وظلت حركةُ التوسُّع قائمة ولكن نتائحها كانت — بطبيعة الحال — أَخَفَّ بكثيرٍ من ذي قبل.

ففي السنة ١٠٢٧ قام عرب أفريقية بهجومٍ بحريٍّ على بعض جُزُر إيجه، فصمد قائد ساموس في وجههم وعاونه في ذلك قائد خيوس وأنزلا بالعرب خسائرَ فادحة في الرجال والعتاد، وعاد العرب إلى هجوم آخر في السنة ١٠٣٥ ليلقوا اندحارًا مماثلًا،٦ وفي السنة ١٠٢٧ أيضًا وافق الظاهر خليفة الحاكم (١٠٢١–١٠٣٥) على ترميم كنيسة القبر المقدس التي كان قد أمر بإحراقها الحاكم في السنة ١٠٠٩ ووقع معاهدة بهذا المعنى مع قسطنطين الثامن،٧ ثم أغارت عشائر حلب على أراضي الروم فهبَّ رومانوس الثالث في السنة ١٠٣٠ يدافع ويقتص، ولكنه أخفق وكاد يقع أسيرًا، ثم كرَّ القائد مانياكيس ودوق أنطاكية نيقيطاس فأكرها أمير حلب على توقيع معاهدة في أيلول من السنة ١٠٣١ دخل بها في طاعة الفسيلفس، وثار في هذه الآونة حاكم طرابلس ودخل في حماية الروم، ثم سجل منياكيس نصرًا في الرها فدخلها عنوةً واستولى على رسالة السيد المسيح إلى أبجر ملك الرها، وعندئذٍ عرض رومانوس الثالث صلحًا على زميله الفاطمي مشترطًا السماح بإعادة بناء جميع الكنائس المخرَّبة والاعتراف بحق الفسيلفس في ترميم كنيسة القبر المقدس على نفقته الخاصة، وفي السنة ١٠٣٦ وقعت معاهدة بهذا المعنى بين ميخائيل الرابع وأرملة الظاهر الوصية على ابنها القاصر المستنصر،٨ ويُستدل من كلام ناصر خسرو الذي زار بيت المقدس في السنة ١٠٤٦ أن كنيسة القبر كانت قد شيدت على نفقة الفسيلفس وزينت بالرخام الملون والنقوش والفسيفساء المذهبة، ومما جاء في كتاب ناصر خسرو أن فسيلفس الروم تخفَّى وزار القدس متنكرًا في عهد الحاكم بأمره، وأن الحاكم علم بذلك فأرسل إلى زميله يطمئنه ويعده بالخير.٩
وحاول قسطنطين الثامن في السنة ١٠٢٧ أن يستغل وفاة جورجي ملك الكرج وقصور ابنه وولي عهده ولكنه مُني بالإخفاق، وقلِ الأمر نفسه عن الحملة التي قام بها قسطنطين أخو ميخائيل الرابع في السنة ١٠٣٨، وتُوُفي يوحنا سمباد ملك الأرمن واندلعت حرب أهلية في أرمينية فأحب ميخائيل الرابع أن ينفذ الوصية التي أوصى بها سمباد في السنة ١٠٢١، فأنفذ حملة إلى أرمينية ولكن الجيش الذي هاجم عانة مُزق تمزيقًا، وأعلن كاكيغ الثاني نفسه ملك الملوك في السنة ١٠٤٢.١٠
وغضب قسطنطين الثامن على بويانس القائد المحنك، وأقاله مِن وظيفته في السنة ١٠٢٨ وأَحَلَّ محله مَنْ لم يكن أهلًا للقيادة والقتال، فنشط عرب صقلية للإغارة والغزو ما بين السنة ١٠٣٠ والسنة ١٠٣٢ وظهرتْ مراكبُهُم في مداخل الأدرياتيك، ولكنهم لم يتمكنوا من الصمود في وجه راغوزة ونابولي، ففاوض أميرهم في الصلح في السنة ١٠٣٥ ووقع معاهدة بذلك مع ميخائيل الرابع،١١ وفي السنة ١٠٣٧ حاول الروم الاستفادة من تقسم العرب في صقلية، فقام قسطنطين أوروبوس حاكم إيطالية إليها، وتغلب على العرب في مواقعَ متعددةٍ وحَرَّرَ أُلُوف الأسرى المسيحيين، ولكنه لم يتمكن من الاستقرار في الجزيرة، وقام في السنة التالية ١٠٣٨ يعد العدة لحملة كبيرة على صقلية، فأمَّر أخاه إسطفانوس على الأسطول وعهد بقيادة الجيش إلى جورج منياكيس، واشترك في هذه الحملة هارولد ملك النرويج وعدد من الفرسان النورمنديين.
ونزل الروم إلى الجزيرة واستولَوا على مسينة، ثم قام منياكيس إلى بالرمو فسرقوصة، فاستولى عليهما في صيف السنة ١٠٤٠، وقلت جماكية العساكر فانسحب الإفرنج إلى إيطالية، ووقع الشقاق بين قائد البر وقائد البحر، ووجه الأول كلامًا لاذعًا إلى قائد الأسطول؛ لأنه أفسح في المجال بإهماله لزعيم تروينة المسلم؛ ليفرَّ سالمًا، فاستدعي منياكيس إلى القسطنطينية وأودع السجن، وحل محله من لم يكن أهلًا لذلك، فلم يبقَ بيد الروم من صقلية في السنة ١٠٤١ إلا مسينة.١٢

قسطنطين التاسع مونوماخوس (١٠٤٢–١٠٥٥)

وأَحَبَّ قسطنطين التاسع خليلةً اسمها إسكليرينة، فأحضرها إلى البلاط، ومنحها لقب سبسطة، فجلستْ في المجالس، وظهرت في المواكب، واستمتعت بأموال الدولة، فحطت من كرامة هذا الفسيلفس في أَعْيُن الشعب، وعند وفاتها قرَّب آلانيةً شابةً وجعلها سبسطة أيضًا، ولكنه لم يجرؤ على أن يُسكنها القصر، وظل طائشًا خاملًا مستهترًا مسرفًا مبددًا إلى أن حلَّ به فالجٌ قويٌّ أقعده عن كل حركة، وكان قسطنطين في الوقت نفسه صافي القلب بشوشًا، بعيدًا عن الحقد والتكبر، يجذب القُلُوب بلُطفه وخفة روحه.١٣
وأفضلُ ما يُنسب إليه اهتمامُهُ بجامعة القسطنطينية، وسعيُهُ لجعلها مؤسسةً تغذي الدولة برجالٍ مثقفين مهذبين يخرجون الإدارة من أيدي الخصيان والعسكريين، وكان ميخائيل الخامس قَدْ قدَّم المشترع قسطنطين ليخوذس على غيره من رجال البلاط فأبقاه مونوماخوس في هذه الوظيفة، وعطف ليخوذس على رفاقه في العلم الذين تَحَدَّرُوا إما من بيوت وضيعة كيوحنا زفلينس Xiphilinis الطرابزوني أو من الطبقة المتوسطة كميخائيل بسلوس Psellus، وجاء قسطنطين التاسع يفاخر بالعلم ويسعى لتصديع جبهة العسكريين، فحمى الأدباء والعلماء وأسند إليهم بعض الوظائف الكبرى، وجعل في السنة ١٠٤٣ بسلوس، الذي كان لا يزال في الخامسة والعشرين من العمر، رئيسًا للديوان الملكي، ورقى يوحنا بيزنتيوس إلى رتبة مستشار، ووكل رئاسة كلية الحقوق إلى يوحنا زفلينس، وأصبح ميخائيل بسلوس — فيما بعد — «قنصل الفلاسفة» فتَوَلَّى إدارة الأبحاث الأدبية وتمتع برتبة عالية في تشريفات البلاط، ثم انتقد ليخوذس تبذير الفسيلفس بصراحة الفلاسفة ووقاحتهم، فغضب عليه قسطنطين التاسع في السنة ١٠٥٠ وأَبْعَدَهُ، ثم حلَّ سخط الفسيلفس على يوحنا موروبيوس فاستقال بسلوس وزفلينس.١٤
وكان رومانوس أسكليروس — أخو خليلة الفسيلفس — يكره القائد الكبير جورج منياكيس، فاستدعى قسطنطين هذا القائد من إيطالية وأَبْعَدَهُ، وثار القائد ونادى به جُنُودُه في خريف السنة ١٠٤٢ فسيلفسًا، وجرح جرحًا بليغًا في أول اصطدام وقع بينه وبين جُنُود الفسيلفس، فانفض جنودُهُ عنه وانتهى أمره.١٥
وفي منتصف السنة ١٠٤٣ تخاصم الروس والروم في ضواحي القسطنطينية، وقتل أحد كبار تجار الروس، وكان قد سبق لتجار الروس في عاصمة الروم أن شكوا مضايقة الروم وتعسفهم إلى أمير كيِّف، فرأى الأمير فلاديمير أن يتخذ من قتل التاجر الروسي عذرًا للمطالبة بشروط تجارية للروس في القسطنطينية أفضل من ذي قبل، واحتج على مقتل التاجر الروسي وطالب بالدية، فصُد عن ذلك، فجرد حملة برية بحرية ودخل البوسفور، فذعر الناس ونشط الفسيلفس وقام بنفسه إلى قتال الروس في البحر، فتمكن من إبعادهم بالنار الإغريقية في حزيران سنة ١٠٤٣، ووقعت معاهدةٌ في السنة ١٠٤٦ لا نعرف مِن شروطها سوى زواج أحد أمراء الرُّوس من أميرة بيزنطية.١٦
وفي السنة ١٠٤٧ تضافرت العناصر العسكرية الساخطة التي كانت قد أُبعدت عن السلطة واتخذت مِنْ أدرنة قاعدة لها، ونادت بطرونيكيوس الأرمني فسيلفسًا وزحفت على القسطنطينية، وحاولت اقتحام الأسوار ولكن دون جدوى، ثم وصلت قوى الشرق فأنزلت بطورنيكيوس وزملائه هزيمة كُبرى في أواخر السنة ١٠٤٧.١٧
وكانت قبائل البتشناغ التركية قد وصلتْ إلى الدانوب في عهد باسيليوس الثاني، وفي السنة ١٠٤٨ نشب خلافٌ ونزاعٌ بين اثنين من زعمائها، فالتجأ أحدهما إلى الروم، فعبر خصمه الدانوب وتَوَغَّلَ في بلغارية، فأنزل به الروم — بمعاونة خصمه — هزيمةً شنعاء، ودخل في خدمة الروم عددٌ كبيرٌ من البتشناغ، وقضت ظروفٌ داخليةٌ في بيثينية أَنْ يُساق هؤلاء إليها، فَأَبَوْا وتمردوا وأقاموا في سهول صوفية، وانضم إليهم مَنْ كان قد بقي من إخوانهم في بلغارية، وطاردتهم جيوش الروم مرارًا ولكن دون جدوى، وفي السنة ١٠٥٣ سَئِمَ هؤلاء البتشناغ الحرب، وفاوضوا في الصلح واستقروا في بلغارية.١٨
وجدد قسطنطين التاسع معاهدة الصداقة والمودة بينه وبين المستنصر الفاطمي في السنة ١٠٤٧-١٠٤٨ وأَمَدَّ الفاطميين بالقمح عند حُلُول القحط في سوريا في السنة ١٠٥٣ وتَمَكَّنَ من حماية النصارى فيها،١٩ ولكنه لم يحسن السياسة في معالجة السلاجقة، فإن هؤلاء الغزُّ كانوا في أثناء القرن العاشر قد انتظموا حوالي أحد زعمائهم سلجوق، فتركوا مراعيهم بالقرب من بحيرة أورال ودخلوا في خدمة الغزنويين، وعاونوهم في حرب الهند، ثم ثاروا على مسعود الغزنوي، واستقروا في خراسان (١٠٣٨–١٠٤٠) بزعامة طغرل بك،٢٠ وما إن شعرتْ قبائلُ التركمان الضاربة في أواسط آسية بشجاعة طغرل وعشائره حتى الْتَفَّتْ حواليه وائتمرتْ أوامرَه، فقام طغرل بك بجُمُوعه يهدد الخلافة وأرمينية والروم، وكان مِن سوء طالع قسطنطين التاسع أن استبدل الخدمة العسكرية عند حُدُود آسية الصغرى الشرقية بضريبة سنوية فَقَلَّ عددُ الرجال في جيش الحدود، واضطر الفسيلفس إلى أَنْ يلجأ في مُعالجة السلاجقة إلى التكتيك نفسه الذي لجأ إليه أسلافُهُ في دَرْءِ خطر الحمدانيين؛ أي أن يمتنع عن مقاومة الغُزاة فلا يطبق بهم إلا بعد أن يكونوا قد غنموا فتراجعوا خارجين، فاستعاض قسطنطين عن قِلَّة الرجال بحنكة القادة أمثال كتكالون، وبحُسن التدبير والتكتيك، فتَمَكَّنَ من الاحتفاظ بجميع ولاياته الشرقية.٢١

وازداد طمع النورمنديين في إيطالية وكَثُرَ عددُهُم، واتخذ غيمار أمير سلرنو لقب دوق أبولية وكلابرية وبدأ يُقْطع النورمنديين الأراضي يمينًا وشمالًا، وغزا النورمنديون أراضي أوترانتو ولم يتمكن الروم مِنْ صدهم عنها ولم يبقَ بيدهم منها سوى المدن الساحلية، واستدعى الفسيلفس القائد الحاكم في إيطالية أرجيروس ليعاونه في القضاء على ثورة طورنيكيوس، وبقي أرجيروس في القسطنطينية خمس سنوات (١٠٤٦–١٠٥١)، ولا نعلم ماذا دار بينه وبين الفسيلفس من حديثٍ أو تبادُل في الرأي، ولكننا نعلم عِلْم اليقين أَنَّ البطريرك المسكوني ميخائيل كيرولاريوس «الشمَّاع» لم يكن راضيًا عن سُلُوك القائد الحاكم في إيطالية، فمنعه مرارًا عن التناول؛ لأنه سكت عن استعمال الفطير في خدمة القُدَّاس في الولايات الإيطالية.

وتدخل هنريكوس الثالث في شئون إيطالية فحل في السنة ١٠٤٦ أزمة الباباوات الثلاثة، وأَجْلَسَ إقليمس الثاني على الكرسي الرسولي، ومسح إقليمس الثاني هنريكوس الثالث إمبراطورًا على إيطالية وسواها من أقاليم الغرب، وزار الإمبراطور جنوبي إيطالية في أوائل السنة ١٠٤٧ فقوَّى النورمنديين بأن اعترف بحقهم الشرعي في الأماكن التي كانوا قد سَطَوْا عليها، فنهج بذلك نهجًا مضرًّا بمصالح الروم، وعلى الرغم من تبادُل عبارات الصداقة والمودة بين الفسيلفس والإمبراطور في السنة ١٠٤٩؛ فإن الفسيلفس لم يرضَ عن سياسة الإمبراطور في إيطالية.٢٢

الانشقاق العظيم (١٥ تموز ١٠٥٤)

ولم تطُل مدة البابا إقليمس الثاني؛ فإنه تُوُفي في السنة ١٠٤٧، وعاد بندكتوس فاغتصب الكرسي الرسولي وأقام عليه ثمانية أشهر، فتدخل هنريكوس الإمبراطور وأجلس داماسوس الثاني (١٠٤٨) فمات مسمومًا بعد ثلاثة وعشرين يومًا، وعاد بندكتوس فاستولى على الكرسي مرة خامسة، فأرسل الرومانيون وفدًا إلى هنريكوس فتدخل فأرسل البابا لاوون التاسع (١٠٤٨–١٠٥٤).

وهال البابا الجديد انحطاطُ الكنيسة في الغرب وتَأَخُّر أحوالها، فهَبَّ لإصلاحها، وعقد المجامع المحلية، وقطع الأساقفة الذين استعانوا بالمال للوصول إلى مراكزهم، وألغى زواجَ الإكليروس، وأصغى إلى تذمرات الشعب بنفسه، وأنَّب النورمنديين؛ لقساوتهم وظلمهم، فأحبه الإيطاليون وتعلقوا به، واستجار سكان بنفنتوم بالبابا من النورمنديين وطلبوا حمايته ورَجَوْه أن يتولى أُمُورهم، فرأى أَنْ لا بد من اللجوء إلى القوة، فعاد إلى ألمانيا؛ ليأتيَ بالعساكر اللازمة، فأقرَّه هنريكوس الثالث على بنفنتوم، وعاد إلى إيطالية على رأس قوة عسكرية، فوصل إليها في أوائل السنة ١٠٥٣.

وكان قد حالف أَرجيروس الحاكم البيزنطي على شروط نجهلها، فلما وصل إلى ميدان القتال وجد أن أرجيروس كان قد قاتل منفردًا وأنه غُلب على أمره، فاضطر البابا لاوون أن يقاتل منفردًا أيضًا، فدارت الدائرةُ عليه عند سفح جبل غرغانو ووقع في الأسر في السابع عشر من حزيران سنة ١٠٥٣، وبقي مأسورًا في بنفنتوم نفسها حتى آذار السنة ١٠٥٤، ثم عاد إلى رومة وتُوُفي فيها في التاسع عشر من نيسان من هذه السنة نفسها.٢٣

وأدى اهتمام لاوون التاسع بالكنيسة واندفاعه في سبيل إصلاحها إلى تثبيت السلطة فيها وتدعيمها، وكان يعاونُهُ في هذا الإصلاح رهبان كلوني، وكثر عدد هؤلاء في إيطالية الجنوبية وتسربوا إلى المقاطعات البيزنطية وإلى الأبرشيات الخمس التي كانت تابعة لكرسي القسطنطينية.

وكان هنريكوس الثالث إمبراطور الغرب يعطف كثيرًا على هؤلاء الرهبان ويؤيد حركتهم، وكان هو الذي انتقى البابا لاوون التاسع وأجلسه على كرسي رومة،٢٤ وكان كرسي رومة هو الذي نفذ فكرة الإمبراطورية الغربية — كما سبق أن أشرنا — فكان من الطبيعي جدًّا أن تنظر القسطنطينية بفسيلفسها وبطريركها بعين الريب والحَذَر إلى برنامج كلوني ولاوون التاسع، فلا تفصلهما عن سياسة هنريكوس الإمبراطور ومطامعه في إيطالية.٢٥

فكتب البطريرك المسكوني ميخائيل في أيلول سنة ١٠٥٣ بالاشتراك مع لاوون متروبوليت أوخريدة إلى رئيس أساقفة تراني «أوترانتو» ينبهه على حفظ التعاليم الأرثوذكسية في الأبرشيات الخمس التابعة لسلطته فيتجنب استعمال الفطير وصوم السبت وأكل الدم والمخنوق، وأوضح له أَوْجُه الخطأ في هذا، ورغب إليه أن يطلع أساقفة الغرب على موضوع هذه الرسالة وفحواها، فلما وصلت الرسالة إلى يوحنا رئيس أساقفة تراني كان عنده الكردينال هومبرت! فلما وقف الكردينال على رسالة البطريرك المسكوني ترجمها حالًا إلى اللاتينية وحملها إلى البابا لاوون التاسع.

فأجاب لاوون التاسع عن هذه الرسالة برسالة طويلة؛ أوضح فيها رغبته في السلام والوِفاق الروحاني، ولكنه ضَمَّنَها بعض العبارات القاسية، وأردفها بنسخة عن منحة قسطنطين Donatio Constantini مبينًا حقه في السلطة على إيطالية وكنائسها وعلى الكنائس الشرقية، ولا يخفى أن منحة قسطنطين هذه وثيقةٌ مزورةٌ لا تَمُتُّ إلى قسطنطين الكبير بصلة وإنما دُبِّرت في رومة في منتصف القرن الثامن لتقوي مطالبة رومة بالسلطة المطلقة على جميع الكنائس، وتزوير هذه الوثيقة أمرٌ مسلمٌّ به اليوم في الأوساط الشرقية والغربية.٢٦

فامتعض البطريرك والفسيلفس وازداد تَثَبُّتًا من مطامع هنريكوس ولاوون في ممتلكات الروم في إيطالية ومطالبتهما بالسيادة الزمنية والروحية على هذا الجُزء من الإمبراطورية الشرقية، وعلى الرغم مِن هذا كله فإن الفسيلفس والبطريرك رَأَيَا أَنَّ المُحافظة على السلام أفضل من خرقه؛ لأن النورمنديين آنئذٍ كانوا يهددون جنوبي إيطالية واليونان، فجاوب كلٌّ منهما جوابًا رقيقًا وطلب الفسيلفس إلى البابا أن يرسل وفدًا إلى القسطنطينية للتفاوض في الوفاق، فأرسل البابا وفدًا مؤلفًا من الكردينال هومبرت ورئيس الأساقفة بطرس والكنكيلاريوس فريديركوس، وأرسل معهم رسالة إلى الفسيلفس ورسالة إلى البطريرك.

وفي الرسالة إلى الفسيلفس ذكر البابا الخراب العظيم الذي لحق بجنوبي إيطالية مِنْ جَرَّاء أعمال النورمنديين وعلق آماله على مساعدة الفسيلفس والإمبراطور، ثم طالب بأبرشيات بلغارية وإيليرية وإيطالية السُّفلى، وذكَّر بسلطة الكرسي الروماني، وفي رسالته إلى البطريرك اتهمه بأنه رقي الكرسي البطريركي دون أن يرقى كل الدرجات الكنائسية، وأنه يرغب في إخضاع كرسي أنطاكية والإسكندرية، ووبخه على كتابته ضد بعض ممارسات الكنيسة الرومانية.

ووصل الوفد الباباوي إلى القسطنطينية ومثل أمام الفسيلفس فسلَّم الكردينال رسالة البابا وأَرْفَقَها برسالةٍ منه رَدَّ فيها على انتقادات البطريرك ميخائيل وَادَّعَى على الكنيسة الأرثوذكسية بأنها تُعيد معمودية اللاتين ولا تعمد الأطفال قبل اليوم الثامن، وأنها تناول الشركة المقدسة بملعقة مِن ذهب، وأنها تدفن في الأرض ما يبقى منها أو تحرقه، وأنها لا تناول المؤمنين جسد الرب ودمه كلًّا على حدة.

ويستدل من المراجع اليونانية أَنَّ الكردينال هومبرت كان ينقصُهُ شيءٌ كثيرٌ من اللُّطف والوداعة والكياسة، وأنه دخل على البطريرك المسكوني دُخُولًا فظًّا غريبًا، فلم يحنِ رأسه له ولم يقدم القبلة السلامية، بل دفع إليه برسالة البابا دَفْعًا، وأن البطريرك بعد أن اطلع على الرسالة ظَنَّ أن لِأَرجيروس يَدًا فيها، وأنها ربما لم تكن صحيحة، وتدل المراجع اليونانية أيضًا على أن البطريرك لم يقطع الشركة مع أعضاء الوفد الباباوي حالًا، بل بعد ما رأى من إصرارهم، فرفض مواجهتهم ومنعهم من إقامة الخدمة في أبرشيته وأفادهم أَنَّ المسألة يجب أن تُعرض على الكنيسة الجامعة في مجمع مسكوني.

فطار رُشْدُ الكردينال فكتب بالاتفاق مع زميليه الآخرين حرمًا ضد البطريرك المسكوني وضد كل من يوافقه، وفي الخامس عشر من تموز سنة ١٠٥٤ دخل رجالُ الوفدِ الباباوي إلى كنيسة الحكمة الإلهية، واتجهوا نحو الهيكل، فدخلوا إليه والقداس قائمٌ ووضعوا الحرم على المذبح تحت الإنجيل وبحضور الإكليروس والبطريرك، ثم خرجوا وهم يقولون: الرب يحكم فيما بيننا وبينكم، ولم يحرك البطريرك ساكنًا وغض النظر عن التشويش الذي أَحْدَثَهُ الوفدُ في الكنيسة، وسمح لأعضاء الوفد بالخُرُوج، وبعد خُرُوجهم مكثوا يومين في القسطنطينية، ثم سافروا.

ومما جاء في هذا الحرم ما يلي: «فليُعلمْ أننا قد أدركنا هنا من أين لنا فرح كثير بالخير العظيم، ومن أين لنا حزنٌ شديدٌ بالشر الجسيم؛ لأن المدينة بالنسبة إلى أركان المملكة وأشرافها ورجالها؛ هي في غايةٍ من الإيمان المسيحيِّ ومستقيمة الرأي، ولكن بالنسبة إلى ميخائيل المسمى بطريركًا على سبيل المجاز وبالنسبة إلى مشاركيه في جنونه يُبذَر في وسطها كل يوم مقدارٌ كثيرٌ جدًّا من زؤان الهرطقات؛ لأنهم مثل السيمونيين يبيعون موهبة الله، ومثل الآريوسيين يعيدون تعميد المعمدين، ومثل الدوناتيين يتشبثون بأن كنيسة المسيح والذبيحة الحقيقية والمعمودية فيما عدا كنيسة اليونان قد فقدت في كل العالم، ومثل النيقولائيين يسمحون لخُدَّام المذبح المُقَدَّس بالزيجات اللحمية، ومثل المقدونيين قطعوا من الدستور انبثاقَ الروح القدس من الابن.

ونقول: إن ميخائيل المسمى بطريركًا الحديث في الإيمان المتقلد أسكيم الرهبنة عن خوفٍ بشريٍّ، الذي اشتهر عند كثيرين بجرائم فظيعة، ومعه لاوون المدعو أسقف أخريس ونيقيفوروس ساكيلاريوس ميخائيل نفسه، فليكونوا أناثيما ماران آثا (محرومين الرب جاء).»

وأما البطريرك المسكوني فإنه بَعْدَ أن اطلع على ترجمة هذا الحرم اتصل بالفسيلفس قسطنطين التاسع، فأرسل هذا واستدعى الوفد إلى القسطنطينية بعد أن رحل عنها بيومٍ واحدٍ، فعاد الوفدُ وأَصَرَّ على ما جاء في الحرم وأبى أن يواجه البطريرك أو أن يمثل أمام مجمع الكرسي القسطنطيني، فكتب الفسيلفس إلى البطريرك المسكوني يقول: «أيها السيد الجزيل القداسة، إن دولتي قد بحثت في الأمر الذي حصل، فوجدت أصل الشر ناشئًا من المترجم ومن أرجيروس، أما غرباء الجنس فبما أنهم غرباء ومرسلون من آخرين لا نستطيع أن نعمل معهم شيئًا، وأما المسببون فقد ضربوا ثم أرسلناهم إلى قداستك لكي يؤدب بهم آخرون غيرهم؛ حتى لا يرتكبوا مثل هذا الهذيان، أما الورقة فمن بعد حرمها هي والذين أشاروا بها والذين أصدروها والذي كتبوها والذين لهم أقل علم بعملهم إياها؛ فلتحرق أمام الجميع؛ لأن دولتي أمرت أن يحبس الفستارشيس صهر أرجيورس وابنه الفيستياريوس في سجن لكي يقيما في تحت الشدة.» وعندئذٍ حرم البطريرك المسكوني الصك المذكور والذين كتبوه والذين يوافقون عليه دون أن يمس البابا أو أحدًا غيرهم.

وكتب دومنينوس رئيس أساقفة البندقية إلى بطرس بطريرك أنطاكية (١٠٥٢–١٠٥٧) يطلب رأيه في ما جرى وأمضى «بطريك إكليئية» أو البندقية، فلما أخذ بطرس كتابه أجابه جوابًا لطيفًا ولفت نظره إلى الطريقة التي وَقَّعَ بها إمضاءَه فقال: «ما تعلمت ولا سمعت أن رئيس إكليئية يسمى بطريركًا؛ لأن النعمة الإلهية دبرت أن يكون في كل العالم خمسةُ بطاركة، وهم الروماني والقسطنطيني والإسكندري والأنطاكي والأوروشليمي، ومِن هؤلاء الخمسة البطريرك الأنطاكي وحده يسمى بطريركًا على وجه الحقيقة؛ لأن الروماني والإسكندري يُسَمَّيَان باباوات، والقسطنطيني والأوروشليمي رؤساء أساقفة، أو كيف نستطيع أَنْ نُقيم بطريركًا سادسًا على وَجْهٍ آخَرَ ما دام الجسد ليست فيه حاسة سادسة.»٢٧ ثم يقول بطرس البطريرك في رسالته هذه: «إن بطريرك القسطنطينية يعرف — حق المعرفة — أنكم أرثوذكسيون، وتؤمنون مثلنا بالثالوث الأَقْدَس وبِسِرِّ التَّجَسُّد، ولكنه متكدر من أنكم تخالفون في مسألة الفطير وحده فلا تقدمون الذبيحة مثل البطاركة الأربعة وكل الكنيسة.»
وكتب البطريرك الأنطاكي إلى بطريرك القسطنطينية موجبًا السلام والمحبة «لأن الغربيين هم أيضًا إخوتنا وإن كانوا يخطئون أحيانًا كثيرةً بسبب تَوَحُّشِهِم وجهالتهم؛ إذ لا يُمكن لأحد أن يطلب عند البربر الكمال الذي عندنا نحن الذين منذ نعومة الأظافر نُرَبَّى في مطالعة الكتب المقدسة، فيكفيهم أن يحفظوا التعليم القديمَ في الثالوث القدوس وسر التَّجَسُّد، أما الشرُّ العظيمُ المستحق الأناثيما فهو زيادة «والابن» في دستور الإيمان.»٢٨

نِهاية العهد

وتُوُفي قسطنطين التاسع مونوماخوس بعد هذا بقليل في الحادي عشر من كانون الثاني سنة ١٠٥٥، فنُودي بالعقب الوحيد الباقي من الأُسرة المقدونية ثيودورة ابنة قسطنطين الثامن الصغرى، وكانت قد قضت معظم حياتها في الدير فنشأت تقية فظة بقدر ما كانت أختها زوية متيمةً بالحب، ورأى البطريرك المسكوني أن تتزوج فتشرك معها في الحكم من كان أهلًا لذلك لا سيما وأنها كانت قد ناهزت السبعين، ولكن الخصيان حولها رَأَوْا غير ذلك؛ إبقاءً للسلطة في يدهم، وغُلب البطريرك على أمره وحكمت ثيودورة وحدها ومارست السلطة، فاستقبلت السفراء، وعنيت بالقوانين ووزعت العدل، وخصت الخصيان بمراتب الدولة العُليا فأقصتْ مستشاري قسطنطين التاسع واكتفت بآراء هؤلاء ونصائحهم، فقاومها العسكريون وأعوانُهُم وتفاقم الشرُّ.

وفي صيف السنة ١٠٥٧ أشرفت الفسيلسة على الموت، فهرع الخصيان يستدركون دوامَ النعمة بتعيين مَنْ يركنون إليه قبل وفاة ثيودورة، فصرحت هذه — وهي على فراش الموت — بأنها اتخذت ميخائيل إستراتيوتيكوس Stratioticus خليفةً لها، وتَبَنَّتْهُ قبل وفاتها، وماتت في الثلاثين من آب سنة ١٠٥٧ فاضطر البطريرك أن يتوِّجه فسيلفسًا.
ودام حُكْمُ ميخائيل السادس سنةً وعشرة أيام، واشتد في أثنائه النزاعُ بين العسكريِّين والخصيان، فكان شغل الزعماء العسكريين الشاغل تحقير الفسيلفس ومعاندته، أما هو فقد كان يرد مطالبهم بانتظام، وتَفَجَّرَ الخصامُ يوم عيد الفصح في الثلاثين من آذار سنة ١٠٥٨ عندما طالب الزعماء العسكريون بالحقوق المهضومة، فنفر الفسيلفس منهم واشتد في القول، وكانت مؤامرة وكان اصطدام عند نيقية في العشرين من آب سنة ١٠٥٨، وتدخل البطريرك المسكوني فأرسل وفدًا من المطارنة يشيرون على ميخائيل السادس بالتنازُل، فسأل الفسيلفس المطارنة: ماذا تُعطونني بدل المملكة، فقالوا: نعطيك ملكوت السموات، فرمى شعار الملك وترك البلاط والتجأ إلى الدير، وتُوُفي بعد ذلك بقليل.٢٩
ولم يحسن الخصيان السياسة الخارجية فدخلت الدولةُ في منازعات متعبة مزعجة، ومثال ذلك أن قسطنطين التاسع كان قد حافظ على أواصرِ الصداقةِ بينه وبين الخليفة الفاطمي المستنصر؛ ليتسنى له شيءٌ مِنْ حرية العمل في جميع جبهات الدولة، فجاءت ثيودورة تستبدل هذه الصداقة بحلف يربط الدولتين، فأبى المستنصر، فمنعت ثيودورة تصدير الحبوب إلى مصر وسوريا، فمنع المستنصر دخول الحجاج إلى المدينة المقدسة وأمر باضطهاد النصارى،٣٠ وكان طغرل بك قد أصبح زعيم بغداد بلا منازع فتطلَّب أن يذكر اسمه في خطبة المسجد في القسطنطينية بدلًا من اسم الخليفة الفاطمي.٣١
فأدى هذا كله إلى التعاون مع هنريكوس الثالث وعقد تحالف بين الإمبراطوريتين.٣٢
١  Schlumberger, G., Op. Cit., III, 6–14.
٢  Psellus, M., Chonographia, II, 10; Grummel, R. P., Regestes etc., 836.
٣  Schlumberger, G., Op. Cit., III, 150–183, 276–278; 319–372; Bréhier, L., Byzance, Op. Cit., 242-243.
٤  Psellus, M., Chronographia, I, 106; Diehl, C., Figures Byzantines, I, 268–271.
٥  Psellus, M., Chron. I, 122–127; Diehl, C., Op. Cit., I, 271–283; Schlumberger, G., Op. Cit., III, 392–401.
٦  Cedrenus, G., Synopsis, II, 259–266.
٧  Dolger, F., Regesten, 824.
٨  Dolger, F., Regesten, 834–843; Schlumberger, G., III, 88–91, 107–118, 194–199, 203-204.
٩  Nasir-i-Khusrau, A Diary of a Journey Thaough Syria and Palestine, Trans, Guu Le Strange, 59-60.
١٠  Schlumberger, G., Op. Cit., III, 23-24, 208–218.
١١  Dolger, F., Regesten, 841.
١٢  Chalandon, F., Hist. Domination Lombarde en Italie, I, 89–95; Psellus, M., Chronographia, II, 31–46.
١٣  Psellus, M., Op. Cit., I, 133-134; Diehl, C., Firgures Byz., I, 273–276.
١٤  Psellus, M., Op. Cit., I, 138–140, II, 38–60, 66–57; Bréhier, L., Byzance, 252-253.
١٥  Schlumberger, G., Op. Cit., III, 450–456.
١٦  Dolger, F., Regesten, 875; Revue des Questions Historique, Couret, Les Russes à Constantinople, 1876, 69ff.
١٧  Dolger, F., Regesten, 872–883; Schlumberger, G., Op. Cit., III, 507–528.
١٨  Grousset, R., Empire des Steppes, 238; Ostrogorsky, G., Gesch. de Byz. Staates, 234-235; Dolger, F., Regesten, 888–890, 909.
١٩  Dolger, Regesten, 881, 912; Vincent et Abel, Jérusalem, 248–259.
٢٠  Grousset, R., Emp. des Steppes, 203–205.
٢١  Cedreaus, G., Synopsis, II, 301–304; Schlumberger, G., Op. Cit., III, 543.
٢٢  Gay. J., Italie Méridionale, 475–477; Chalandon, F., Domination, Normande en Italie, 113–115; Bréhier, L., Byzance, 260-261.
٢٣  Fliche el Martin, Hist. De I’Eglise, VII 98ff. Gay j., Op. Cit., 477–487 Brehier, L., Byzance 261-262.
٢٤  Halphen, L., Essor de l’Europe, 24–26.
٢٥  Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 337–339.
٢٦  Leclercq, H., Constanin, Dict. d’Arch. Chrét., Et de Lilurg., III, 2676–2683.
٢٧  Patrologia Graeca, CXXX, 756–760.
٢٨  Patrologia Latina, CXLIII, 1004; Labedev, A. P., Separation of The Churches; Bréhier, L., Le Schisme Oriental du XI Siècle; Gay. J., Les Papes du XI Siècle; Jugie, M., Le Schisme de Michel Cerulaire, Echos d’Orient, 1937, 440–473.
جراسيموس، متروبوليت بيروت، الانشقاق، ج٢، ص٧٧–١٠٧.
٢٩  Cedrenus, G., Synopsis, II, 311–319, 341–352, 365–368; Schlumberger, G., Op. Cit., III, 742, 754–756, 763–778, 785-786, 798–814.
٣٠  Wustenfeld, Gesch. der Fatimiden Kalifen, 250.
٣١  Dolger, F., Op. Cit., 929; Diehl et Marçais, Monde Oriental, 573-574.
٣٢  Dolger, F., Op. Cit., 930.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤