الفصل السابع والعشرون

الآداب والفنون في عهد الأسرة المقدونية

مميزات آداب هذا العصر

وكان قد انسلخ عن الدولة عدد من العناصر غير اليونانية ومعظم من خرج على تعاليم المجامع المسكونية، فطغت اليونانية بعنصرها ولغتها وفكرها وبدت الدولة متجانسة أكثر بكثير من ذي قبل، ونزع القوم إلى لغة الأجداد وعلومها وآدابها، فتميز هذا العصر بالعودة إلى المخلفات الهلينية الكلاسيكية، فكانت يقظةً في عالم الفكر والفن أدت بنتائجها إلى عصر اليقظة والنهضة في إيطالية فسائر أنحاء أوروبة، وفاخر أدباء القسطنطينية بمجموعاتهم الأدبية واستنسخوا المراجع الكلاسيكية اليونانية الكبرى وتَبَاحَثُوا فيها، كما يستدل من مصنَّف البطريرك فوطيوس العظيم اﻟ Myriobiblion وقد سبقت الإشارةُ إليه فلتراجعْ في محلها، وعرف جميع المثقفين هوميروس وبنذار وأرستوفانس وأفلاطون وأرسطو وبلوتارخوس وليبانيوس وثيوقيذيذس وبوليبيوس وغيرهم. وأصبحت الآدابُ اليونانيةُ الكلاسيكية، نحوها وبيانها ونصوصها، أساس التهذيب البيزنطي، وأُعيدت جامعة القسطنطينية إلى سابق عهدها وزهتْ مدرسةُ الحُقُوق فيها، وقام عددٌ من كبار الأطباء يبحثون كسلفائهم من قبل.
ومن مميزات هذه النهضة الفكرية الأدبية أن رجالها آثروا الإحاطة في المقام الأول، فمالوا نحو التوسُّع والموسوعات، وهي خطوةٌ لازمةٌ لكل نهضة في بَدْءِ عهدها، ومِنْ هنا مجموعات القرن العاشر في القانون، ومن هنا أيضًا مجموعة الإكسربتة Excerpta التي أشار بتصنيفها قسطنطين السابع خدمةً للتاريخ والمؤرخين، فجاءتْ في ثلاثة وخمسين كتابًا، وأُعيد النظرُ في كل ما سبق تأليفُهُ في العصور الغابرة؛ لاستخلاص النافع منه في الحياة العملية، فظهرتْ رسالةُ السفراء، ورسالةُ الفضائل والرذائل، ورسالةُ التآمر، ورسالةُ الفتوحات، وصنفتْ رسالةٌ في الزراعة Geoponica، وفي الطب Iatrica،١ ومما تجب ملاحظتُهُ في هذا الباب أنه قام في هذا العهد، بالإضافة إلى هؤلاء المُنَقِّبِين عن الماضي الناقلين عن غيرهم، عددٌ من العلماء الباحثين المجددين، وفي طليعة هؤلاء البطريرك فوطيوس، والأستاذ المُرَبِّي ميخائيل بسلوس، فالأول أضاف إلى ما تحلى به من سعة اطلاع وتفوُّق في الإنشاء جرأةً لا بل جسارةً في التفكير الحر المستقل، يغبطه عليها كُلُّ مَن اطلع على رسائله، والثاني كان ألمع أهل زمانه وأشدهم رغبةً في الاطلاع وأكثرهم تَجَدُّدًا.٢
ومما تجب إعادته هنا هو عطف لاوون السادس «الحكيم» على معلمه البطريرك فوطيوس وحمايته لعلمه وتفكيره واستعداده لتشجيع جميع العلماء، وقد قيل إن القصر في عهده تَحَوَّلَ إلى معهد علمي،٣ وجاء قسطنطين السابع فَأَلَّفَ وشجع غيره على التأليف.

المؤلفون والمؤلفات

وأَهَمُّ مؤلفات قسطنطين السابع سيرة جده باسيليوس الأول وإرشاداته في إدارة الدولة وقد دَوَّنَها خصيصًا لابنه ووريثه، ورسالته في الثيمات، وكتابه في التشريفات، ووصفه لكيفية نقل المنديل المقدس من الرها إلى القسطنطينية.

وبين المؤلفين الذين كتبوا في ظل قسطنطين السابع: يوسف غناسيوس Genesius الذي دوَّن أخبار لاوون الخامس ولاوون السادس (٨١٣–٨٨٦)، وبين الموسوعات التي أُعدت في كنف هذا الفسيلفس: أخبار القديسين لسمعان متافراستس Metaphrastes، وقاموس سويداس Suidas، وهو مُؤَلَّفٌ نفيسٌ كثيرُ الفائدة يبين معاني المفردات وأسماء الأشخاص والأشياء.٤

وفي طليعة رجال العلم في القرن العاشر البطريرك نيقولاووس ميستيكوس؛ فقد خلف مائة وخمسين رسالة وَجَّهَها إلى أمير أقريطش العربي، وسمعان البلغاري، ورومانوس ليكابينوس، وعدد من الباباوات والأساقفة والرهبان. ومما جاء في رسالته إلى أمير أقريطش قوله: «الروم والعرب أعظمُ قوتين في العالم يَعْلُوَان ويَتَأَلَّقان كالشمس والقمر في السماء؛ ولذا يجبُ أَنْ نعيش إخوة على الرغم من اختلافنا في الطبائع والعادات والدين.»

وعاصر باسيليوس الثاني لاوون الشماس، وشاهد حوادثَ الحرب البلغارية، فكتب عشرة كتب في حوادث السنوات (٩٥٩–٩٧٥)، وذكر أشياء عن الحرب العربية. وآثاره مفيدة جدًّا لتاريخ نيقيفوروس فوقاس ويوحنا جيمسكي؛ لأنه المرجع اليوناني المعاصر الوحيد، ومن أَشْهَر مُؤَرِّخِي القرن العاشر مؤلفان مجهولان، أحدهما أَكْمَلَ تاريخ ثيوفانس والآخر ذيَّل تاريخ هامارتولوس،٥ وبين هؤلاء أيضًا لاوون النحوي وسمعان الماييستر واللوغوثيت.٦
وقارب القرنُ العاشرُ النهايةَ، وتعددت الحروبُ ورافقها نصرٌ مبين، فتغنى الناسُ بالحرب وتضاءلتْ عنايتُهُم بالعلم، ومن هنا قول حنة كومنينة في القرن الثاني عشر: إن معظم الناس أعرضوا عن العلم في الفترة بين عهد باسيليوس الثاني وعهد قسطنطين مونوماخوس، وإنه لم يبقَ من يعنى به سوى أفراد قلائلُ، سهروا الليالي في طلب المعرفة على ضوء القناديل.٧
وفي منتصف القرن الحادي عشر عاد بعضُ كبار العلماء وفي طليعتهم ميخائيل بسلوس إلى المطالبة بتشجيع العلم والعطف عليه، فكان لكلامهم وقعٌ في نفس الفسيلفس قسطنطين مونوماخوس فوعد خيرًا، فانقسموا فئتين، فئة تطالب بإنشاء مدرسة للفلسفة بزعامة بسلوس نفسه، وفئة تطالب بمدرسة للحقوق، واشتد الجدل في هذا الموضوع ووصل إلى الشارع، فحقق الفسيلفس طَلبتَهم في السنة ١٠٤٥ بإنشاء مدرسة للحقوق ومدرسة للفلسفة.٨
واشتهر ميخائيل بسلوس برسائله وبمؤلفاته في اللاهوت والفلسفة ولا سيما فلسفة أفلاطون، وفي العلوم الطبيعية، وفقه اللغة، والتاريخ، ويعتبر تاريخه أفضل المراجع لتاريخ القرن الحادي عشر.٩
ويَرى رجالُ الاختصاص أَنَّ القصائد الحماسية والأهازيج الشعبية تطورت تطورًا سريعًا في العصر المقدوني، فتألقتْ بانتصاراتِ الأسرة المقدونية واعتزَّتْ بِعِزِّها، وهم يرون أيضًا أن القتال المتواصل في الجبهات الشرقية الجنوبية فسح في المجال للمغامرات الحربية وللبسالة الفردية، فهزَّ الشعراء ورجال الزجل هزًّا ودفع بهم إلى النظم والمفاخرة، وأشهر ما يُنسب إلى هذه الفترة ملحمة باسيليوس ديجينس أكريتس، وديجينس digenes لفظٌ يونانيٌّ معناه المولود من شعبين، فوالد باسيليوس كان عربيًّا مسلمًا وأُمُّهُ روميةٌ مسيحية، وأَكريتس akrites لفظٌ يونانيٌّ أيضًا معناه الذي ينتسب إلى حُدُود الدولة، وباسيليوس هذا قضى معظمَ حياته في مناطق الحدود محاربًا العرب مُغَامِرًا منتصرًا، وقد حفظت لنا ملحمتُهُ دوافعَ القتال والاستماتة (فهي في نظره الدفاع عن الأرثوذكسية وعن الروم)، كما خلدت صورًا رائعة لقلاع أسياد البر وقصورهم في آسية الصغرى،١٠ ولا يزال أبناء قبرص يتغنون بأمجاد باسيليوس حتى يومنا هذا، كما لا يزال أبناء طرابزون يُشيرون إلى مثواه ويؤكدون أن زيارة قبره تحمي الصغار من الأرواح الشريرة، ولا يزال بعض رجال الاختصاص يُتابعون البحث في تاريخ هذه الملحمة، وهم يَمِيلُون إلى الاعتقاد بأنها نشأتْ أولًا حول مغامرات ديجينس في الحروب العربية في أواخرِ القرنِ الثامنِ، ثم تطورت فازدهرتْ بأمجاد الأسرة المقدونية، ويرون علاقةً متينةً بينها وبين قصة بطَّال غازي التركية وبعض نواحي ألف ليلة وليلة العربية،١١ ويلمس المؤرخ الروسي كرمزين صلةً وثيقةً بين هذه الملحمة وبعض أساطير الروس القديمة.١٢
بقي علينا أن نشير إلى مؤلَّفين مفيدين خلفهما ميخائيل أَتالياتس Attaliates: أولهما يتضمنُ حوادث السنوات ١٠٣٤ حتى ١٠٧٩، وفيه وصفٌ دقيقٌ لِمَا جَرَى في أواخر عهد المقدونيين، وهو مبنيٌّ — إلى حدٍّ كبيرٍ — على الخبرة الشخصية، والثاني موجزٌ في الحقوق وَضَعَهُ أَتالياتس للمحامين وغيرهم ممن يرغب في الاطلاع.١٣

الفن وآثاره

ويرى رجال الفن أن العصر المقدوني هو العصر الذهبي الثاني في تاريخ الفن عند الروم، والعصر الذهبي الأول — في عرفهم — هو عصر يوستنيانوس الكبير، ويقولون: إنه بعد أن حرر مُحاربو الأيقونات الفن البيزنطي من قيود رجال الإكليروس والرهبان؛ تطور تطورًا سريعًا في انتقاء مواضيعه من خارج الكنائس والأديار، فعاد إلى الطبيعة وإلى مخلفات العصر الهليني وإلى فَنِّ الزخرف العربي، وجاء العصر المقدوني بتعلقه بالمخلفات الكلاسيكية والهلينية؛ فازداد رجال الفن فيه إكبارًا للماضي البعيد واستحياءً منه،١٤ ولم يكتفوا بهذا الوحي ولم ينقلوا نقلًا، بل أضافوا إلى جمال المظهر الهليني ولُطفه شيئًا كثيرًا من قوة العصر الكلاسيكي السابق وجدِّه، وأسبغوا عليه شيئًا من الهيبة والتركيز والتوازُن والنقاء والصفاء، فأصبح بيزنطيًّا بكل معنى الكلمة.١٥
وذهب الفنان المؤرخ النمساوي أسترجيكوفسكي مذهبًا خاصًّا لا يقره عليه معظم زملائه؛ فهو يرى أن وصول الأسرة المقدونية الأرمنية الأصل إلى الحكم جَرَّ وراءَه إقبالًا على الفن الأرمني وتأثرًا به، ويرى — بعبارة أخرى — أن العلاقة الظاهرة بين الفن البيزنطي والفن الأرمني، التي عزاها المؤرخون إلى أثر بيزنطة في أرمينية؛ هي — في الحقيقة — أثرُ أرمينية في بيزنطة.١٦

وقام في القسطنطينية في عهد هذه الأسرة المقدونية من برَز في تصوير الأيقونات وتزيين جُدران الكنائس، فأخرج عددًا كبيرًا جدًّا من الأيقونات وصدَّرها إلى سائر أنحاء الإمبراطورية، وعُني رجال الفن أيضًا بتزيين المخطوطات بالصور الملونة المذهبة.

١  Rambaud, A., Empire Grec au Dixième Siècle, 50ff.
٢  Rambaud, A., Etudes, 109–171; Diehl, C., Figures Byzantines, I, 291–316.
٣  Popon, N., Leo VI, 232.
٤  Krumbacher, K., Gesch. Der Byz. Litt., 568.
٥  Shestakov, S. P., Continuation of Theophanes, (Congrès International des Etudes Byzantines, 1929).
٦  Leo the Grammarian, Symeon Magister, (Corpas Script. Hist. Byz.).
٧  Anna Comnena, Alexias, V, 8; Buckler, G., Anna Comnena, 262.
٨  Fuchs, F., Hohern Schulen von Konstantinopel, 24-25.
٩  Psellus, Michael, Chronographia, Bibliotheca Graeca Medii Aevi, IV; French Translation by E. Renaud, in 2 Vols., Paris, 1926-1927.
١٠  Bury, J. B., Romances Chivalry on Greek Soil, 18-19.
١١  Grégoire, H., Autour Digenes Akritas, Byzantion, 1931, 481–508, 1932, 287–320.
١٢  Pascal, P., Le Digenis Slave, Byzantion, 1935, 301–334.
١٣  Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 371.
١٤  Diehl, C., Monde Oriental, 516-517.
١٥  Dalton, O. M., East Christian Art, 17-18.
١٦  Strzygowski, J., Die Baukunst der Armenier und Europa; Diehl, C., Art Byzantin, I., 476–478.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤