الفصل الرابع والثلاثون

أندرونيكوس الثالث ويوحنا السادس

١٣٢٨–١٣٥٥

أندرونيكوس الثالث (١٣٢٨–١٣٤١)

وما إن تبوأ أندرونيكوس العرش حتى شَمَّرَ عن ساعد الجد فابتعد عن الطيش والتلذُّذ، وعُني عنايةً فائقةً بإقالة العثرة وإنهاض الدولة، فقرَّب يوحنا كنتاكوزينوس من نفسه واعتمد عليه وعمل بإرشاده، وكان يوحنا مِنْ أفذاذ رجال عصره قديرًا في الحرب والسياسة، فقضى على الفتن والتآمُر وأمَّن العباد وخفف الضرائب قدر المستطاع، وعُني بالعدل والقضاء فحصر السلطة القضائية العليا في قُضاة أربعة، وزاد رواتبهم ليكتفوا ويستغنوا، ثم فرض عليهم يمينًا مغلظةً يقسمونها على ألا يفرِّقوا بين غنيٍّ وفقيرٍ، وأشرك البطريرك في اختيارهم وتعيينهم ليضمن بذلك تعاون الكنيسة في توزيع العدل وإحقاق الحق،١ ووافق أندرونيكوس على هذا كله وعني بتنفيذه وتطبيقه، ولكنه اضطر بعد ثمانية أعوام إلى أن يعزل جميع هؤلاء؛ لسوء تصرفهم، ورغب الفسيلفس ووزيره الأول في التحرُّر من سيطرة الجنويين والبنادقة، فأدخلا إلى العاصمة جاليات تجارية فرنسية غير إيطالية وشَرَعَا في إنشاء أُسطولٍ وطنيٍّ ليستغنيا به عن خدمات الجنويين.٢

حروبه في البلقان

وكان أندرونيكوس الثالث جنديًّا مجرَّبًا يشاطر جنوده التعب والشقاء فيقودهم إلى الحرب بنفسه، وقضى شطرًا وافرًا من سني حكمه في ميادين القتال في البلقان، فحالف في السنة ١٣٣٠ البلغار للصمود في وجه الصرب الطامعين وقام إلى الجبهة محاربًا، ولكن ميخائيل الثالث حليفه البلغاري نازل أسطفان ديشنسكي الصربي قبل وُصُول الروم إليه فانكسر في الثامن والعشرين من حزيران في ميدان قسطندل Kostandil ولاقى حتفه فيه.

وطمع أندرونيكوس في بعض حصون بلغارية الجنوبية، فاغتنم فرصة وفاة ميخائيل وضمها إلى ملكه، وتُوُفي ديشنسكي وتولى الحكم بعده ابنه أسطفان دوشان (١٣٣١–١٣٥٥) قيصر الصرب العظيم، فصادق ملك بلغارية الجديد يوحنا ألكسندروس وتَعَاوَنَ معه، فأعلنا الحرب على أندرونيكوس، فاستعاد يوحنا في السنة ١٣٣٢ ما استولى عليه أندرونيكوس، وتقدم أسطفان دوشان في مقدونية فاحتل أوخريدة وكستورية وغيرهما، واضطر في السنة ١٣٣٤ إلى أَنْ يُصالح أندرونيكوس؛ ليدافع عن حدوده الشمالية ضد هجمات المجر.

وفي السنة ١٣٣٣ تُوُفي ديسبوتس ثيسالية أسطفان ميليسيني، فاستولى حاكم ثيسالونيكية على نصف ثيسالية باسم أندرونيكوس الثالث، وبعد ذلك بسنتين اضطر يوحنا أورسيني ديسبوتس إبيروس إلى أن يتخلى عن القسم الجنوبي من ثيسالية للفسيلفس، ثم استعان الفسيلفس بفرقة تركية وأخضع القبائل الألبانية الجبلية وأعادها إلى الطاعة، واتجه بعد ذلك شطر إبيروس فضمها سِلْمًا، ثم ثارت في وجهه في السنة ١٣٣٩ زوجة المطالب بعرش الإمبراطورية اللاتينية بدسيسة من كاترينة دي فالوي، فقام الفسيلفس إليها في السنة ١٣٤٠ وأخضعها.٣

حُرُوبه في آسية والأرخبيل

وتابع عثمان غزواته، وسقطتْ بروسة في يده عند وفاته، وذلك في السادس من نيسان سنة ١٣٢٦ فجعلها أورخان — وريث عثمان — عاصمةَ إمارته، وفي السنة ١٣٢٩ حاصر أورخان نيقية، فحاول الفسيلفس فَكَّ الحصار فقاتل أورخان في السنة ١٣٣٠ في بليكانون Palakanon ولكنه لم يفلح.
واستولى أورخان على نيقية في الثاني من آذار سنة ١٣٣١، وكان أورخان قد نزل في تراقية في السنة ١٣٣٠ وزحف على طوزلة، ولكن أندرونيكوس ألحق به خسارةً داميةً، وعاد أورخان في السنة التالية ١٣٣١، فعبر الدردنيل واستولى على رودوستو Rodosto ثم ارتد عنها خاسرًا، فاتجه أورخان شطر نيقوميذية فعبر أندرونيكوس البوسفور وصده عنها.
وفي السنة ١٣٣٢ قام عامر السلجوقي بخمسٍ وسبعين سفينةً حربيةً فنهب جزيرة سموثراقية، ثم نزل في تراقية، فأعاده أندرونيكوس إلى سُفُنه وفاوض البندقية في أمر التعاوُن ضد هذا العدو المشترك،٤ وعاد أورخان في السنة ١٣٣٧، فأنزل قواتٍ غير قليلة في ضواحي القسطنطينية، فألحق به أندرونيكوس خسارة فادحة وأعاده إلى آسية، فهاجم أورخان نيقوميذية واستولى عليها، ولم يبقَ في يد الروم في آسية سوى بعض مدن متفرقة كفيلادلفية وهرقلية.
وسجل أندرونيكوس الثالث انتصارين هامين في بحر الأرخبيل، فاحتل في السنة ١٣٢٩ جزيرة خيُّوس ورفع سلطة أسرة زكريا الجنوية عنها بعد أن أعلنت استقلالها، فزاد دخل الخزينة بعمله هذا مائة وعشرين ألف بزنت في السنة،٥ وفي السنة ١٣٣٦ طمع التاجر الجنوي دومينيكوس كاتان في الاستقلال بفوقة الجديدة فاستعان بفرسان رودوس الإسبتاليين واستولى على جزيرة متيلينة، فحالف أندرونيكوس أمير صروخان التركي وحاصر لسبوس وفوقة الجديدة في آنٍ واحدٍ واستولى عليهما.

موقفُهُ من الكنيسة

وأقلق تَقَدُّم الأتراك وتوسُّع سُلطانهم أندرونيكوس الثالث، وحَارَ في أمره، فعمد إلى مفاوضة رومة وإلى طلب المعونة من الغرب، ومَرَّ بالقسطنطينية في السنة ١٣٣٤ راهبان دومينيكيان عائدين من أراضي المغول بعد أَنْ حاولا التبشير فيها، فكَلَّفَهما أندرونيكوس الاتصال بالبابا يوحنا الثاني والعشرين (١٣١٦–١٣٣٤) لإطلاعه على تَحَرُّج الموقف في الشرق وحثه على المساعدة، فوافق البابا على طلب الفسيلفس، وأعاد هذين الدومينكيين إلى القسطنطينية حاملين شروطه في تقديم المساعدة، ولدى وصولهما لقيا مقاومةً شديدةً من الإكليروس الأرثوذكسي فلم يتمكنا من البحث في كيفية تعاون الكنيستين، وفي السنة ١٣٣٥ أرسل أندرونيكوس ينبئُ البابا بنديكتوس الثاني عشر (١٣٣٤–١٣٤٢) باستعداده للاشتراك في حملة صليبية جديدة بقيادة ملك فرنسة تكون مهمتها القضاء على مطامع الأتراك في الشرق المسيحي.

ولكن الاختلاف الذي نشأ في هذه الآونة بين فيليب السادس ملك فرنسة وإدوار الثالث ملك إنكلترة، والمشادة التي نشبت بين البنادقة والجنويين، حَالَا دون أي تعاونٍ دوليٍّ أوروبيٍّ في حملة صليبية مشتركة، وفي السنة ١٣٣٩ عاد أندرونيكوس فأَوْفَدَ إلى بنديكتوس الثاني عشر الأب برلام رئيس دير المخلص في القسطنطينية وأسطفان دندولو البندقي؛ ليرجواه عقد مجمع مسكوني ينظر في اتحاد الكنيستين، وفي تنظيم حملة صليبية تُحرر نصارى آسية الصغرى من ربقة الأتراك، فأجاب البابا بِأَنَّ مجمع ليون حلَّ المشاكل بين الكنيستين ووعد خيرًا ووقف عند هذا الحد.٦

الغيورون والمعتدلون٧

وكان قد قام في الكنيسة الأرثوذكسية منذ عهد ثيودوروس الأستوديتي في القرن التاسع من قاوم تدخل الفسيلفس والحكومة في شئون الكنيسة، بل من قال بوجوب تقيد الفسيلفس بالأنظمة الإكليريكية، وكانت غيرة هؤلاء على الكنيسة قد اشتدت إلى درجةٍ أدتْ بهم إلى اللجوء إلى العنف في سبيل الدفاع عن حرية الكنيسة واستقلالها، ولم يتطلب هؤلاء الغيورون من الإكليروس علمًا وافرًا أو ذكاءً مفرطًا، ولكنهم أوجبوا عليهم سيرةً طاهرة وتقشفًا صارمًا، فنالوا إعجاب الرهبان وتأييدهم — في غالب الأحيان — وكان من الطبيعي جدًّا أن يقول غيرُهُم من أبناء الكنيسة بالتعاون بين الدولة والكنيسة، وهؤلاء هم المعتدلون، وأصر هؤلاء على وجوب تضلع الإكليروس العالي من العُلُوم الدينية والزمنية ليحسنوا الدفاع عن الكنيسة جمعاء ويحفظوا حرمتها، واشتد الخلافُ حول هذه المبادئ واتسع حتى شمل جميع المؤمنين، فكنت ترى البيتَ الواحدَ مقسومًا على نفسه، بحيث يختلف فيه الأبُ مع ابنه والابنةُ مع أُمِّها والكنة مع حماتها.٨

ووقف الغيورون إلى جانب البطريرك أرسانيوس في نزاعه مع ميخائيل الثامن، فعرفوا بالأرسانيوسيين، وانضم إليهم مَنْ شَدَّ أزر الشاب الأعمى يوحنا الرابع، وكَثُرَ الجدل واشتد الحماس وعَلَتْ الحرارة، فلجأت الحكومة إلى الجلد والسجن والنفي، وغير ذلك، وقضتْ ظروفُ ميخائيل السياسية بمفاوضة البابا في أمر اتحاد الكنيستين، فضج الغيورون وأعلنوا مقاومتهم وسخطهم، ثم جاء أندرونيكوس الثاني فألغى الاتحاد، ولكن الغيورين ظلوا معاندين، ووسعوا نطاق عملهم فتدخلوا في السياسة.

واشتد نُفُوذ الغيورين والرهبان في النصف الأول من القرن الرابع عشر، فسيطروا على الإكليروس العلماني، وهيمنوا على البطريركية المسكونية ولا يزالون.٩

الصامتون

وما كاد النزاعُ بين الغيورين والمعتدلين ينتهي حتى حلَّ محله نزاعٌ آخرُ حول الزهد الصامت Hesychia، وتفصيلُ ذلك أنه كان قد شاع في بعض الأديار انعزالٌ عن عالم المادة بأسره وعن كل ما يَمُتُّ إليه بصلة، وانعكافٌ على التأمل فاتصالٌ بالخالق عن طريق الصلاة، فكان كلٌّ من هؤلاء «الصامتين» ينعزل انعزالًا تامًّا فلا يفكر إلا بالله وبالموت، لا يردد إلا صلاة داخلية واحدة هي: «يا يسوع ارحمني، يا ابن الله خلصني.» وأشهر من قال بالصمت التام والتأمل الكامل غوريغوريوس بالاماس Palamas رئيس أساقفة ثيسالونيكية، وكان قد اشتهر بِتَقَشُّفه عندما قبل النذر في آثوس، ثم اشتهر بِمَا كتبه في الصمت والتأمل، وكاد ينسحب من ثيسالونيكية ليبدأ ما قال به عندما فوجئ بالشغب الذي أحدثه برلام الراهب Barlaam في جبل آثوس.١٠
figure
وبرلام هذا راهبٌ يونانيٌّ إيطاليٌّ، أَمَّ ثيسالونيكية وأقام فيها، فاستمع لأقوال بالاماس رئيس أساقفتها، فجادله فيها وملأ المدينة ضجيجًا (١٣٣٣–١٣٣٩)، ثم قام إلى أفينيون؛ ليفاوض بنديكتوس الثاني عشر باسم أندرونيكوس الثالث في حملة صليبية ضد الأتراك، ولَدَى عودته منها اطلع على رسالة النور الإلهي التي كان قد أَعَدَّها بالاماس في أثناء غيابه، فكتب في دحضها،١١ وقام إلى القسطنطينية يشكو بالاماس إلى البطريرك المسكوني يوحنا كاليكاس Calecas وأثار فيها ضجة اضطر بسببها البطريرك إلى استدعاء بالاماس للمُثُول أمام المجمع، فالتأم المجمع برئاسة الفسيلفس أندرونيكوس الثالث في العاشر من حزيران سنة ١٣٤١، وما إن افتتحت الجلسة حتى أعلن الفسيلفس أَنَّ البَتَّ في العقيدة منوطٌ بالأساقفة وحدهم، وأنه ليس على برلام إلا أن يعتذر للرهبان عما صدر عنه،١٢ فعاد برلام إلى الغرب ولكنه أذكى نار الشقاق فاستمرت طويلًا.١٣

الحرب الأهلية (١٣٤١–١٣٤٧)

وتُوُفي أندرونيكوس الثالث في الخامسة والأربعين من عمره في الخامس عشر من حزيران سنة ١٣٤١، وخلَّف صبيًّا في التاسعة من عمره وفسيلسة وصية غربية لاتينية، وأوصى بأن يشاركها الوصاية صديقه ووزيره الأول يوحنا كنتاكوزينوس، وهَبَّ الوزيرُ الوصيُّ يعالج الأُمُور ليعيد للدولة نشاطها وحيويتها، فرغب في إعادة تنظيم الجيش وفي توفير المال ليخلص من طلبات الجنويين والبنادقة ويكمل الإصلاح الذي بدئ به في عهد أندرونيكوس الثالث،١٤ ووافقت حنَّة الوصية وشرع كنتاكوزينوس في الإصلاح المنشود، ولكنه لم يحسب حساب اثنين كان قد أحسن إليهما فجعل أحدهما، وهو يوحنا كاليكاس، بطريركًا مسكونيًّا على الرغم من مقاومة الأساقفة، ورفع الآخر، وهو أليكسيوس أبوكوكوس Alexios Apocaucos، إلى أعلى الرتب، فإنهما تمنيا منذ اللحظة الأولى زوال نعمته ودسَّا عليه عند حنة الوصية، وافتريا عليه أنه يعمل لتقويض حكم الأسرة المالكة،١٥ فأحسَّ الوزير الوصي بذلك، فقدم استقالته، فرفضت، ثم قام بمهمة إدارية خارج العاصمة، فعاد أليكسيوس وصديقه البطريرك إلى سابق فسادهما فَأَلَحَّا على الفسيلسة الوصية بوجوب تجريد كنتاكوزينوس من جميع صلاحياته دون محاكمة،١٦ فعلم الوزير الوصيُّ بذلك فنفد صبره وأعلن نفسه فسيلفسًا في السادس والعشرين من تشرين الأول سنة ١٣٤١ شريكًا في الحكم مع الفسيلفس الصغير يوحنا الخامس.١٧
وشد أزر يوحنا كنتاكوزينوس أصحاب الأملاك الكبيرة وسائر الأرستقراطيين والرهبان، فاستهوى خصمه أليكسيوس الطبقات المتوسطة والفلاحين، ودخل الروم في حرب أهلية طاحنة دامتْ ست سنوات متتالية تذرع الفريقان فيها بجميع الوسائل للوصول إلى الظفر غير مُبَالِين بما تَجُرُّهُ على الدولة من عواقبَ وخيمة، واستعانا بالأجانب الغرباء: بالصرب والبلغار والسلاجقة والعثمانيين، وذهب كنتاكوزينوس إلى أَبْعَدَ من هذا، فأزوج سلطان العثمانيين من ابنته وتمكن — بمعونته — من الانتصار على خصمه،١٨ ثم ذُبح أليكسيوس في القسطنطينية ففتحت العاصمة أبوابها ودخل كنتاكوزينوس إليها فسيلفسًا مساويًا ليوحنا الخامس، وكان بطريرك القدس قد توَّجه فسيلفسًا في أدرنة، فلما استوى على عرش القسطنطينية أعاد تتويجه فيها، وأزوج كنتاكوزينوس يوحنا الخامس من ابنته هيلانة.

يوحنا السادس (١٣٤٧–١٣٥٥)

وربح يوحنا السادس الحرب الأهلية وأصبح سيد القسطنطينية، ولكنه لم يَسُد على الدولة بأسرها، فظل هنالك من اعتبره مغتصبًا، فجاهر بالولاء ليوحنا الخامس، فاضطر كنتاكوزينوس إلى أن يُوَقِّعَ معاهدة مع الفسيلسة الوصية حدد بموجبها المدة التي يَبْقَى فيها هو مقدمًا على الفسيلفس الصغير،١٩ واضطر أيضًا إلى أن يُعلن عفوًا عامًّا شمل جميع الرعايا، وأن يطلب من الجميع يمينَ الولاء للفسيلفسين معًا، وذهب إلى أَبْعَدَ من هذا فأظهر شهاداتٍ رسمية تثبت انتسابه للأسرة الباليولوغوسية.
ثم جُوبِهَ هذا الرجل المقدام بأصعب من هذا: بإعادة الأمن والطمأنينة والراحة. وكانت الحرب الأهلية قد استنفدت أموال الخزينة ولم يبقَ فيها ما يقوم بنفقات حفلة التتويج، فحض الفسيلفس الجديد الأعيانَ على الإنفاق من أموالهم الخاصة لدعم مالية الدولة، فلم يَفْقَهُوا شيئًا مما كان يحلم به للنهوض بالدولة، وقاوموه في ذلك مقاومةً شديدةً، ورغب يوحنا السادس رغبةً أكيدةً إلى المعسكرين الأهليين أَنْ يضعا سلاحهما جانبًا ويَعُودا إلى حياة هادئةٍ عادية فلم يفلح، واتهمه أنصارُهُ بالأمس بالمحاباة في مُعاملة أخصامهم، وقام بكره متَّى يحاول إنشاء إقطاع كبير في تراقية، ولم يقف عند حده إلا بعد أن اعترضته في ذلك الفسيلسة الوصية.٢٠
ولم يستتب الأمن في الولايات، فالعصابات ظلت تجوب البلاد ناهبةً مخرِّبةً، واضطر الفسيلفسان لدى عودتهما من مناورة عند شاطئ البحر الأسود إلى أَنْ يُقاتلا عصابةً تركيةً اعترضت سبيلهما.٢١
واستغل فنيوزو Vignoso الجنوي فرصة هذه الحروب الأهلية فاحتل جزيرة خيُّوس واستولى على فوقة القديمة والجديدة، فأضاع بذلك الجهود التي كان أندرونيكوس الثالث قد بذلها في سبيل الاستيلاء على دخل هذه المرافق،٢٢ وظل الغيورون محتفظين بالسلطة في ثيسالونيكية غير معترفين بحق الفسيلفس الجديد، ورفضوا أن يسمحوا لغوريغوريوس بالاماس بأن يتولى شئون الأبرشية الروحية فيها، واضطر يوحنا السادس إلى أن يَستعين بقرصان من الأتراك؛ ليستولي على ثيسالونيكية ويمنع الغيورين من تسليمها إلى يد أسطفان دوشان ملك الصرب.٢٣

يوحنا السادس والصرب

وكان أسطفان دوشان ملك الصرب قد استغل فرصة الحروب الأهلية، فاحتل مقدونية الشرقية، واستولى على قَوَلة وسيريس، ووصل إلى بحر إيجه، واتجهت أنظارُهُ شطر القسطنطينية وحلم بالاستيلاء عليها وبتأسيس دولة صربيةٍ كبيرةٍ تشمل جميع البلدان البلقانية، وفي الثالث عشر من نيسان سنة ١٣٤٦ جمع أساقفة الصرب لانتخاب بطريرك عليهم ففعلوا، ثم توَّجوا أسطفان «فسيلفسًا» على الصرب والروم.٢٤

وعلم يوحنا السادس — حق العلم — أنه ليس بإمكانه أن يصد الصرب عن تحقيق آمالهم وحده دون مساعدة خارجية، فلَجَأَ إلى أورخان سلطان العثمانيين الأتراك، ثم أوفد إلى أسطفان دوشان وفدين للتفاوض معه حول مصير ثيسالية (آذار-نيسان ١٣٤٨) فلم يُصْغِ إليه، فاستقدم يوحنا عشرة آلاف تركي عثماني وأنفذهم إلى ثيسالية، فأخرجوا أسطفان منها ولكنهم نهبوها.

وبعد أن استولى يوحنا على ثيسالونيكية في خريف السنة ١٣٤٩ قام بهجومٍ واسع النطاق على ممتلكات دوشان، وكان هذا منهمكًا آنئذٍ في حربٍ ضد المجر لاستعادة بلغراد، فاستمال يوحنا عددًا من أمراء الإقطاع الصرب واستعاد قسمًا كبيرًا من مقدونية واحتل عاصمة الصرب، فعاد أسطفان مسرعًا من حدوده الشمالية إلى مقدونية للمفاوضة.

وفي مطلع السنة ١٣٥٠ اتفق يوحنا السادس ويوحنا الخامس من جهة وأسطفان دوشان من الجهة الثانية على أن تعاد أكرنانية وثيسالية ومقدونية الجنوبية الشرقية إلى الروم، ووقعوا معاهدة بهذا المعنى،٢٥ ولم يَعْنِ هذا أن أسطفان تحوَّل عن مطامعه في البلقان وفي القسطنطينية، ولكنه اضطر اضطرارًا إلى أن يؤجل تحقيق هذه المطامع ريثما يتمكن من محاسبة أمرائه الذين انحازوا إلى جانب الروم ومن إيجاد القوة البحرية اللازمة للاستيلاء على القسطنطينية، ومن هنا — في الأرجح — كان تحالفُهُ مع البنادقة.٢٦

متاعبٌ داخليةٌ أيضًا

وكان الوباءُ الأسودُ قد وصل إلى القسطنطينية وانتشر فيها في السنة ١٣٤٨، ويُستدل من وصفه الذي ورد في المراجع الأُولى أنه كان نوعًا من الطاعون الدملي الفتاك، فاجتاح القسطنطينية وغيرها من مدن السواحل والجزر من بلاد القباجقة في ساحل بحر آزوف، واشتدَّ فتك هذا الداء وكثرتْ ضحاياه فزاد الروم فقرًا على فقر، وانتقل من بحر الأرخبيل إلى إيطالية، ففرنسة وإنكلترة.٢٧
وظلت المشادة قائمةً حول موقف رئيس أساقفة ثيسالونيكية بالاماس من النور الإلهي، وكان البطريرك يوحنا كاليكاس قد دعا إلى مجمع جديد للنظر في قضية بالاماس فحكم عليه وقضى بحبسه، فلما استوى يوحنا السادس على عرش القسطنطينية أنزل البطريرك عن عرشه لتآمره مع أبوكوكوس وأحلَّ محله أسيدوروس مرشح الصامتين، فدعا البطريرك الجديد إلى مجمع ثالث في السابع والعشرين من أيار سنة ١٣٥١ وخرج بالاماس ظافرًا وانتصر الصامتون.٢٨

مشكلة جنوى

واشتد طمعُ الجنويين في أسواق العاصمة، ولا سيما في الاتجار مع سواحل البحر الأسود، وأحبوا أن يستأثروا بتجارة البحر الأسود وأن يمنعوا البنادقة والروم من الاشتغال بها، وأَحَبَّ كنتاكوزينوس أن يزيد النشاط التجاري في أسواق العاصمة بتخفيض الرسوم الجمركية وبإنشاء السفن الرومية الوطنية، فلم يرضَ الجنويون عن هذه السياسة الجديدة، وكانوا منذ أيام ميخائيل الثامن قد استقروا خارج العاصمة في غَلَطة فجعلوا منها حصنًا منيعًا عند أبواب القسطنطينية.

وفي منتصف آب السنة ١٣٤٨ انتهزوا فرصة تغيُّب يوحنا كنتاكوزينوس عن العاصمة، فأرسلوا إنذارًا إلى حُكُومة العاصمة، فلم ترضَ هذه عنه، فأغرقوا السفن الرومية وأَحرقوا بعض الضواحي وضربوا حصارًا بحريًّا بريًّا حول العاصمة،٢٩ ودام الحصارُ بضعة أشهر، وحاول يوحنا بناء السُّفُن لصد هذا الخطر الجنوي، ولكن توتر العلاقات بين الجنويين والبنادقة اضطر أولئك إلى تَقَبُّل جميع شروط يوحنا.٣٠

الحرب بين جنوى والبندقية

ولجأت جنوى إلى العُنف في سبيل منع البنادقة من الاتجار في مياه البحر الأسود، فسدت البوسفور في وجههم في أَضْيَقِ مضايقه، وحاول يوحنا السادس أن يحافظ على الحياد التام، ولكن الجنويين قصفوا أسوار العاصمة بالمجانيق فاضطر الفسيلفس أن يحالف البنادقة (آب ١٣٥١)، فانقض الجنويون على مراكبه وأغرقوها ولم يتمكن البنادقة من اقتحام مراكز الجنويين في البوسفور، فاضطر الفسيلفس أن يصالح الجنويين (٦ أيار ١٣٥٢) على شروط أهمها: توسيع رقعة غَلَطة وامتناع مراكب الروم عن الإبحار في مياه البحر الأسود.٣١

حربٌ أهليةٌ أيضًا

ولم يُبَالِ يوحنا الخامس بالخطر المحدق، ولم يكترثْ لِمَا قد يحل بالروم من جراء المنازعات الداخلية، فأعلن نفسه من ثيسالونيكية في السنة ١٣٥١ الفسيلفس الوحيد لدولة الروم، وفاوض أسطفان دوشان في ذلك فأَقَرَّه عليه، وزحف على أدرنة في أيلول السنة ١٣٥١ في الوقت الذي كان فيه الحصار قائمًا حول القسطنطينية، ففاوض يوحنا السادس الجنويين وصالحهم في ربيع السنة ١٣٥٢.

ثم قام إلى أدرنة فطرد يوحنا الخامس منها، فاستعان يوحنا الخامس بالصرب والبلغار والبنادقة، ولجأ يوحنا السادس إلى الأتراك العثمانيين، ونزع من كنائس القسطنطينية ذهبها وفضتها ليدفع بها جماكيات العساكر الأتراك الذين أَمَدَّهُ بهم صديقُهُ السلطان أورخان، ووعد يوحنا صديقه العثماني بحصنٍ في تراقية لقاء هذه المساعدة، ثم تَمَكَّنَ — بمؤازرة الأتراك — من فرض سُلطته على تراقية ومقدونية، وفَرَّ خصمه يوحنا الخامس إلى جزيرة تنيدوس، ثم قام بهجومٍ بحريٍّ على القسطنطينية فلم يفلح، فلجأ إلى ثيسالونيكية واعتصم بها، فاتهمه يوحنا السادس بالخيانة وأعلن ابنه متَّى وريثًا له بعد وفاته، ولما امتنع البطريرك كاليستوس عن تتويج متَّى فرَّ من القسطنطينية، فأقام يوحنا السادس فيلوثاوس بطريركًا مسكونيًّا.٣٢
واتسع أُفق يوحنا السادس وكاد يؤسس أسرة مالكة جديدة، ولكن حليفه العثماني ترك الوفاء بعهده، وفي الثاني من آذار سنة ١٣٥٤ في اليوم الأول من الصوم الكبير زلزلت الأرض في شبه جزيرة غاليبولي فتهدمت أسوار غاليبولي وغيرها من المدن المجاورة فدخلها الجنودُ الأتراك واستقروا فيها، فعظم هذا الأمر على يوحنا السادس وأفزعه وعدَّه محاولةً لإنشاء رقبة جسر للأتراك في أوروبة، ففاوض صديقه أورخان في ذلك وعرض عليه دفع مبلغ من المال لقاء خروج الأتراك من هذه المدن المحصنة، ولكن أورخان أجابه بأنه لا يمكنه أن يتخلى عن عطية منَّ الله بها عليه ورفض مقابلة الفسيلفس،٣٣ وفي حزيران السنة نفسها عبر الأتراك الدردنيل إلى أوروبة، ونهبوا تراقية، وأضاعوا على السكان حصادهم، وبعد ذلك بقليل اعترض قرصان من الأتراك سبيل بالاماس في طريقه بحرًا إلى القسطنطينية، فأسروه ونفوه،٣٤ ففترت همة يوحنا، وجعله الناس مسئولًا عما حَلَّ بالدولة من مصائبَ، فحاول في حزيران من السنة ١٣٥٥ التفاوضَ مع يوحنا الخامس، فصده هذا ولم يقبل، وفي خريف هذه السنة نفسها قام يوحنا الخامس إلى القسطنطينية بحرًا فنزل في أحد مرافئ بحر مرمرة، فثار الشعب مطالبًا بعودته إلى الحكم واقتحم مستودعات الأسلحة، فعاد يوحنا السادس عن الحكم الفردي وقبل بالحكم الثنائي، ثم ثار الشعب ثانيةً فخلع يوحنا السادس شارات السلطة ولبس ثوب الرهبنة واتخذ لنفسه اسم يواصف، وبقي مدةً في أحد أديار آثوس، ثم التحق بابنه مَتَّى، فأقام في مسترة (١٣٨٠) وتُوُفي فيها في الخامس عشر من حزيران سنة ١٣٨٣.٣٥
١  Petit, L., Réforme Judiciaire d’Andronic, Echos d’Orient, 1906, 134–138.
٢  Cantac., II, 28–38.
٣  Bréhier, L., Byzance, 429-430.
٤  Bratianu, J., Les Venitiens dans la Mer Noire, Acad. Romaine, Etudes, 1939.
٥  Cantac., II, 10–13.
٦  Gay. J., Le Pape Clément VI, 49-50, 115; Bréhier, L., Byzance, 431–433.
٧  “Zelotai”, “Politikoi”.
٨  Pachymeres, G., I, 314.
٩  Troizky, J. E., Arsenius and the Arsenites, 99–101, 178–522; Quot. by Vasiliev, A., Byz. Emp., 661–664.
١٠  Jugie, M., Palamas et Controverse Palamite, Dict. Théol. Cath., XI, 1735–1818.
١١  Krumbacher, K., Gesch. Byz. Litt., 103–105.
١٢  Tafrali, O., Thessalonique au XIVe Siècle, 188–191.
١٣  Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 665–670; Bréhier, L., Byzance, 433-434.
١٤  Cantacuzenus, J., Hist., II, 40.
١٥  Diehl, C., Figures Byz., II, 254–256.
١٦  Cantacuzenus, J., Op. Cit., III, 24-25.
١٧  Phrantzes, G., Chronicon Majus, I, 9; Diehl, C., Op. Cit., II, 260-261.
١٨  Bréhier, L., Byzance, 436–438.
١٩  Cantacuzenus, J., Op. Cit., III, 99-100.
٢٠  Cantacuzenus, J., Op. Cit., IV, 4-5, 7-8.
٢١  Gregoras, N., Hist., VI, 7.
٢٢  Miller, W., Essays on the Latin Orient, 298–300.
٢٣  Cantacuzenus, J., Op. Cit., IV, 16-17.
٢٤  Ostrogorsky, G., Seminarum Kondakovianum, 1936, 46.
٢٥  Jirecek, C., Gesch. der Serben, I, 401-402.
٢٦  Cantacuzenus, J., Op. Cit., IV, 22.
٢٧  Glotz, G., Moyen Age, VI, 527-528.
٢٨  Bréhier, L., Byzance, 442.
٢٩  Byzantion, 1938, 346-347; Gregoras, N., Hist., XVIII, 1–4.
٣٠  Cantacuzenus, J., Op. Cit., IV, 11.
٣١  Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 625–629.
٣٢  Cantacuzenus, J., Op. Cit., IV, 32–38.
٣٣  Cantacuzenus, J., Op. Cit., IV, 38.
٣٤  Accord. to one of his letters to the Thessalonikians, Neos Hellenomnemon, 1922, 7ff.
٣٥  Cantacuzenus, Op. Cit., IV, 39–42; Zakythinos, D. A., Despotat Grec de Morée, 114ff.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤