الفصل الرابع

قسطنطين الكبير والقسطنطينية

قسطنطين الأول الكبير

هو قسطنطين بن قسطنديوس كلوروس Constantius Chlorus من زوجته هيلانة، ولد في نيش من أعمال يوغوسلافية حوالي السنة ٢٨٠ بعد الميلاد، وقد اختُلف في أصل والدته، فهي إما أناضولية بلقانية في بعض المصادر، أو سورية رهوية في البعض الآخر.

نشأ قسطنطين في نيقوميذية في حاشية الإمبراطور ديوقليتيانوس، والتحق بالجيش في الخامسة عشرة من عمره، وأظهر شجاعةً وبأسًا وحنكةً ودرايةً، فرقي إلى رتبة قائدٍ في الثامنة عشرة، وكان أن استقال ديوقليتيانوس وتولى غلاريوس مكانه، ففصل قسطنطين عن الجيش وأبقاه في مَعِيَّتِهِ لتعلُّق الجند به واستبسالهم في سبيله، ولتخوفه مما قد ينتج عن هذه السيطرة على الجُند. ويروى أن غلاريوس حاول إهلاك قسطنطين، فأمره بمصارعة أسد مرة، وجبار من السرامتة مرة أخرى، ولكن قسطنطين نجا من المحنتين، ثم استدعاه والده قسطنديوس قيصر فالتحق به، وكان قد تولى الحكم في غالية وإسبانية وبريطانية.

وكان قسطنطين طويل القامة ضخم الجثة، ممتلئ البدن سمين الأطراف، كبير العينين عابسًا مقطبًا، ثابت العقد ماضي العزيمة، ولكنه كان في الوقت نفسه سهل الانقياد كثير التخلي، وكان واسع الخلق رحب الصدر حليم الطبع، ولكنه يجمع إلى ذلك سرعة البادرة وشدة الغضب، وجاء أيضًا أنه كان متواضعَ النفس وشديد الكبرياء في آنٍ معًا.

أخباره الأولى

وأراد ديوقليتيانوس الإمبراطور أن يجعل جُلُوس الإمبراطور أمرًا مدنيًّا لا علاقة له بالجيش، فجعل للدولة الرومانية إمبراطورين وجعل لكلٍّ منهما قيصرًا يعاونُهُ في الحكم ويحل محله عند الوفاة أو اعتزال الوظيفة، وطَبَّقَ هذا النظام الجديد، فجعل مكسيميانوس إمبراطورًا يشاطره الحكم، وحكم هو الشرق متخذًا نيقوميذية قاعدة له، وحكم مكسيميانوس الغرب وجعل قاعدته ميلان، ثم نصب غلاريوس قيصرًا يحكم إيليرية واليونان ومقدونية، وأقام قسطنديوس كلوروس أبا قسطنطين قيصرًا حاكمًا على غالية وإسبانية وبريطانية، فلما استقال الإمبراطوران ديوقليتيانوس ومكسيميانوس في السنة ٣٠٥، تولى الحكم بعدهما — بموجب النظام الجديد — كُلٌّ من: غلاريوس في الشرق وقسطنديوس في الغرب، وعين الإمبراطوران الجديدان قيصرين جديدين: سويروس على إيطالية وأفريقية، ومكسيميانوس على سورية ومصر.

ثم تُوُفي قسطنديوس الإمبراطور الغربي في السنة ٣٠٦ في يورك من أعمال بريطانية، فعبث ابنُهُ قسطنطين بالنظام الجديد، وأعلن نفسه قيصرًا على غالية وإسبانية وبريطانية، ولم يَرْضَ الحرس في رومة عن غلاريوس فنادَوا بمكسنتيوس بن مكسيميانوس إمبراطورًا، وعادتْ شهوة الحُكم إلى قلب مكسيميانوس الوالد المستقيل، فأعلن نفسه إمبراطورًا أيضًا، وأَصْبَحَ للدولة الرومانية أباطرةٌ ثلاثةٌ وقياصرةٌ ثلاثة، وثار جُنُود سويروس عليه فقتلوه، فعين غلاريوس قيصرًا جديدًا محله يدعى ليكينيوس، وقُبض على مكسيميانوس في مرسيلية في السنة ٣١٠ فقُتل بأمر قسطنطين في السنة ٣١١، وتُوُفي غلاريوس في هذه السنة نفسها مِنْ مَرَضٍ أَلَمَّ به، ثم زحف قسطنطين على إيطالية وقهر مكسنتيوس في تورينو في السنة ٣١٢، فارتد هذا إلى رومة، فلحق به قسطنطين ودَحَرَه مرة ثانية في ساكسة روبرة عند الصخور الحمراء،١ وغرق مكسنتيوس في نهر التيبر، فلم يبق في الميدان سوى قسطنطين وليكينيوس، فحكم الأول الغرب وحكم الثاني الشرق، ثم شجر الخلاف بينهما في السنة ٣١٤ فاضطر ليكينيوس أن يتنازل عن إيليرية ومقدونية وآخية لقسطنطين، واستأنف الإمبراطوران القتال في السنة ٣٢٣ فانكسر ليكينيوس في أدريانوبل وخلقيدونية واستسلم في نيقوميذية، فأمر قسطنطين بقتله، فقتل في السنة ٣٢٤، وهكذا أصبح قسطنطين حاكم الإمبراطورية الفرد.

موقفه من النصرانية

والشائع الذي دوَّنه المعاصرون٢ هو أن قسطنطين في شفق ليلة من ليالي حربه ضد مكسنتيوس في خريف السنة ٣١٢، شاهد فوق قُرص الشمس الجانحة إلى المغيب صليبًا من نور مكتوبًا عليه: «بهذا تغلب»،٣ وأن السيد ظهر له في أثناء تلك الليلة حاملًا هذه الشارة نفسها موصيًا إياه باتخاذها راية يهجم بها على العدو، وتنص هذه المصادر أيضًا على أن قسطنطين استدعى أركانه عند فجر اليوم التالي، وقَصَّ عليهم ما رأى وأمر باتخاذ الصليب شعارًا، وراية قسطنطين هذه٤ التي أصبحت فيما بعد راية دولة الروم، كانت تتألف من صليب تنسدل من عارضته الأُفُقية قطعةٌ من الحرير المزركش بالذهب المرصع بالحجارة الكريمة تحمل صورة قسطنطين وولديه، ويعلو الصورة إكليلٌ من ذهب في وسطه مونوغرام السيد المسيح.
ومما جاء في المصادر المتأخرة أن قسطنطين تقبل سرَّ المعمودية بعد انتصاره على مكسنتيوس في السنة ٣١٢ نفسها، ويرى العالم الإفرنسي جول موريس الاختصاصي في المسكوكات البيزنطية القديمة، أن لا بد لقسطنطين أن يكون قد تعمد آنئذٍ لظهور مونوغرام السيد المسيح على مسكوكاته ولاهتمامه وعنايته بالنصارى بعد ذلك، ولأسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا فلتراجع في مظانها،٥ ويرى غير هذا العالم من رجال الاختصاص أيضًا أن دليله ضعيفٌ، وأن المراجع الأولية قليلةٌ غامضة، وأن قسطنطين بقي وثنيًّا طوال حياته وأنه لم يتقبل النصرانية إلا على فراش الموت.٦

براءة ميلان

وسواء تقبل قسطنطين المعمودية فور انتصاره على خصمه في رومة في السنة ٣١٢ أم على فراش موته؛ فإنه ما كاد يرتب أُمُور رومة حتى انتقل إلى ميلان في مطلع السنة ٣١٣؛ ليجتمع بزميله ليكينيوس، وكان هذا قادمًا إلى ميلان ليتزوج من قسطندية Constantia أخت قسطنطين، وبقي الإمبراطوران شهرين كاملين يَشتركان في ميلان في أفراح العُرس ويتشاوران في أُمُور الدولة.
وكان غلاريوس الإمبراطور قد أصدر قُبيل وفاته في السنة ٣١١ براءة صفح فيها عما سلف للمسيحيين من مخالفات لأوامر الدولة، وأَقَرَّ حقهم الشرعي في ممارسة دينهم: «وللمسيحيين أن يستمروا في الوجود، وأن ينظموا اجتماعاتهم، شرط ألا يُخلُّوا بالنظام، وعليهم — بناءً على تسامحنا وتعطفنا — أن يصلوا إلى إلههم ليسعد ظروفنا وظروف الدولة وظروفهم.»٧ ورأى الإمبراطوران المجتمعان أن يُشَدِّدَا في تنفيذ هذه البراءة، فكتب كلٌّ منهما إلى عمَّاله بوجوب السهر على التنفيذ، ولدى عودة ليكينيوس إلى نيقوميذية، كتب إلى حاكمها في الثالث عشر من حزيران سنة ٣١٢ أن يبيح للمسيحيين — ولغيرهم أيضًا — العبادة كما يشاءون؛ وذلك ليصبح كل إنسان حرًّا في أمر عبادته،٨ ورد للمسيحيين الأبنية والكنائس التي كانت قد صُودرت مِن قبل، وفي خريف السنة ٣١٥ أحيا قسطنطين أوامرَ أسلافه الأباطرة، فحرَّم التبشير باليهودية والدعاية لها،٩ ثم بعد سنة وجد نفسه في ميلان مرة أُخرى؛ لينظر — هذه المرة — في أمر الدوناتيين فيحكم عليهم، وفي أول آذار من السنة ٣١٧ نلقاه في سرميوم في إيليرية يُعلن ابنيه كريسبوس وقسطنطين الأصغر قيصرين، وذلك في الوقت نفسه الذي أعلن فيه زميله ليكينيوس ابنه ليكينيانوس قيصرًا أيضًا، ونراه يتقبل — بهذه المناسبة — الحرفين اليونانيين «خي» و«أيوته» فيأمر بنقشهما على خوذته في النقود الصادرة عنه، وهذان الحرفان هما مونوغرام السيد المسيح باليونانية، وفي السنة ٣٢٦ بعد تغلُّبه على زميله ليكينيوس، نراه يتخذ لنفسه علم اللبَّاروم الشهير المشار إليه آنفا، فيظهر على رأس هذا العلم المونوغرام المسيحي المذكور.

مجمع نيقية

وعلى الرغم من هذا كله استمرت سياسة الدولة الرومانية الدينية، هي نفسها التي أَقَرَّتْ في ميلان سنة ٣١٢ سياسةَ تسامُح وتساوٍ بين جميع الأديان، واستمر الإمبراطور قسطنطين حبر الدولة الأعظم يرعى جميعَ الأديان بالتساوي والتسامُح، وهكذا نراه يُعلن لجميع الرعايا بعد انتصاره على خصمه ليكينيوس أنه وإن يكن قد انتصر بمعونة إله المسيحيين، فإنه لا يُكره أحدًا أن يذهب مذهبه، وأن لكلٍّ من رعاياه أن يتبع الرأي الذي يراه.١٠

واختلف الأحبار المسيحيون في هذه الآونة واختصموا، واتصل خلافُهُم بالقساوسة والرهبان والأفراد، فاضطر قسطنطين الكبير أَنْ يتدخل في الأمر؛ لأنه كان حبر الدولة الأعظم ورأسها فمِن واجبه أن يُحافظ على الأمن وحرية العبادة. ثم إنه كان يعطف على النصرانية ويَعترف بفضل إله النصارى — كما أشرنا — وكان قد سبق له مثلُ هذا عند ظهور الدوناتية في أفريقية، ولكن الانشقاق الذي أَدَّى إلى تدخُّله الشخصي هذه المرة كان أشد خطرًا بما لا يُقاس مما حدث في ولاية أفريقية، فإنه حادثٌ هدد السلم في الولايات الشرقية.

وتفصيل الأمر أن آريوس Arius أحد قساوسة مصر وراعي كنيسة بوكاليس فيها، قال بخلق الابن وخلق الروح القدس، فأنكر بذلك أُلُوهية المسيح، وأثار عاصفة هوجاء من الانتقاد والاحتجاج شملت العالم المسيحي بكامله. ولسنا نعلم الشيءَ الكثير عن آريوس هذا. نجهل محل ولادته وتاريخها، كما نجهل تفاصيل فلسفته الدينية، وقد ضاعت رسائلُهُ ولم يبق منها إلا مقتطفات يسيرةٌ جاءتْ في بعض الردود عليه، ولا سيما ما كتبه القديس أثناسيوس الكبير، ولولا تعلُّق المؤرخ يوسيبيوس به لَمَا حفظت رسائل قسطنطين عنه. وقد يكونُ لِمَا أورده القديس أمبروسيوس أهمية خاصة لأنه اطلع — فيما يظهر — على تقارير الأسقف هوسيوس الذي انتُدب للتحقيق في قضية آريوس قُبيل انعقاد المجمع المسكوني الأول.

وهال قسطنطين أمرُ هذا الانشقاق، وكان يجلُّ أسقفًا إسبانيا يُدعى هوسيوس، وهو الذي سبق ذِكْرُهُ، وكان هذا شيخًا جليلًا محترمًا، فاستدعاه قسطنطين إليه وأنفذه إلى الإسكندرية ليتصل بحبرها ألكسندروس ويُصلح الحال. وكتب إلى كلٍّ من ألكسندروس وآريوس فيها بوجوب التآلف ونبذ الخصام، وألمع إلى وجوب طاعة الرئيس، كما أشار إلى «أن الاختلاف العقائدي أمرٌ فلسفيٌّ دقيقٌ لا يستوجب ذلك الاهتمام.» ولكن هوسيوس أخفق في الإسكندرية وعاد إلى نيقوميذية، وقصد إليها كلٌّ من ألكسندروس وآريوس، واقترح هوسيوس عَقْدَ مجمعٍ مسكونيٍّ يضم جميع أساقفة النصرانية للبَتِّ في قضية آريوس، فقبل الإمبراطور اقتراحه، ووجه الدعوة إلى جميع الأساقفة في الإمبراطورية الرومانية، جاعلًا تحت تصرفهم وسائل النقل الرسمية، وعيَّن نيقية مركز الاجتماع بدلًا من نيقوميذية عاصمة الدولة الموقتة؛ لانحياز أسقف نيقوميذية إلى آريوس ولعطف قسطندية عليه.

ولبَّى الدعوة عددٌ غيرُ قليل من الأساقفة، مائتان وخمسون في رواية بوسيبيوس، ومائتان وسبعون في رواية افسيتاثيوس، وثلاثمائة في رواية أثناسيوس القديس، وثلاثمائة وثمانية عشر في رواية القديس هيلاريوس، وكان معظم هؤلاء من الولايات الشرقية. ودامت جلسات المجمع سبعة وتسعين يومًا بين العشرين من أيار سنة ٣٢٥ والخامس والعشرين من آب من السنة نفسها.

وجلس افسيتاثيوس بطريرك أنطاكية إلى يمين الإمبراطور، وكان قد اشتهر بعلمه ورسائله وتقواه، فافتتح المجمع بكلمة شكرٍ رفعها إلى الإمبراطور وبيَّن فيها فضلَه على النصارى، وقام قسطنطين فألقى كلمة باللاتينية تُرجمت إلى اليونانية أشار فيها إلى جَمَال الدين المسيحيِّ، مستشهدًا ببعض أخبار السيد مؤكدًا تَعَلُّقه بمشيئة رب السموات. ثم طلب إلى المجتمعين أَنْ يعودوا إلى الكتب ليوحدوا الصفوفَ، وخرج من المجمع تاركًا الأساقفة في خلوة للعمل، فتشاوروا برئاسة أحدهم، ولعله الأسقف هوسيوس صديق الإمبراطور، وظل قسطنطين يُتابع أعمالهم عن كثب، وفي الخامس والعشرين من تموز دعاهم إلى حفلة في قصره في نيقوميذية لمناسبة انقضاء عشرين سنة على تسلُّمه الحكم، فاستقبلهم فيها حرس الإمبراطور مقدمين السلاح.

واستمع الأعضاء إلى شكوى ألكسندروس الإسكندري، ثم إلى موقف آريوس من الثالوث — كما ظهر هذا الموقف في رسائله — فأيد آريوس عشرون أسقفًا وخالفه الباقون، وأقر الأعضاء دستور إيمان عُدِّل في المجمع الثاني، فأصبح دستور إيمان المسيحيين أجمعين ولا يزال كذلك. وهو يسند إلى ألكسندروس وأثناسيوس الإسكندريين وهوسيوس الإسباني، ونظر المجمع في مسائلَ أُخرى كمسألة عيد الفصح والمعمودية، وسنَّ عشرين قانونًا، أهمها ما تعلق بنظام الكنيسة: فنَصَّ القانونُ الرابعُ على أن الأسقف الواحد يجب أن يشترك في اختياره جميعُ أساقفة الأبرشية، فإن كان هذا مستصعبًا لضرورة قاهرة أو لبُعد المسافة فلا بُدَّ من اجتماعِ ثلاثةٍ معًا بعد اشتراك الغائبين في التصويت وموافقتهم كتابةً، وحينئذٍ يعملون الشرطونية، أَمَّا تثبيت الإجراءات في كل أبرشية فمنوطٌ بالمتروبوليت.

وجاء في القانون الخامس: «لقد رأينا حسنًا أن تعقد مجامع في كل أبرشية مرتين في السنة؛ لكي تُبحث أمثال هذه المسائل باجتماعٍ عموميٍّ من جميع أساقفة الأبرشية.» وقضى القانون السادس: «بأن تكون السلطة في مصر وليبية والمدن الخمس لأسقف الإسكندرية؛ لأن هذه العادة مرعيةٌ للأسقف الذي في رومة أيضًا، وعلى غِرار ذلك فليُحفظ التقدم للكنائس في أنطاكية وفي الأبرشيات الأخرى.» وجاء في القانون السابع: «أنه جرتِ العادةُ والتسليم أن يكون الأسقفُ الذي في إليَّة؛ (أي أوروشليم) ذا كرامة، فلتكنْ له المتبوعيةُ في الكرامة.»

وأيد قسطنطين هذه القرارات، وأَمَرَ بوُجُوبِ تنفيذها والخضوع لها، ونفى من الأساقفة كُلَّ من امتنع عن الموافقة عليها، ونفي الأب آريوس أيضًا، ومنح الإكليروس المسيحي والعذارى والأرامل مبالغَ محدودة كانت تؤخذ من دخل المدن لا من موازنة الدولة، ووهب الكهنةَ الضماناتِ نفسها التي كان يتمتع بها الكهنة الوثنيون، واهتم قسطنطين في هذه الآونة نفسها — ولا سيما السنتين ٣٢٥ و٣٢٦ — للضعفاء، فمنع تفريق عائلات الأرقاء عند اقتسام الأراضي، وحرَّم مطالبة الكولوني بأكثر من طاقتهم، كما حرَّم مشاهد المصارعة المؤلمة، وأمر بهدم بعض المعابد الوثنية التي اشتهرتْ بفسقها، ومنها هيكل عشتروت في أفقا لبنان، فقد جاء في ترجمة حياة قسطنطين ليوسيبيوس المؤرخ ما تعريبه: «لما استوى قسطنطين على منصة الملك رقب من سمو عرشه ما نصبه إبليس من الأشراك في فينيقية لصيد النفوس، فوجد من ذلك على هضاب لبنان — في موضع قفر لا تطرقه السابلة — معبدًا تحدق به غيضة، وكان المعبد قد أُقيم لبعض الأصنام الدنسة يدعى الزهرة يتوارد إليه البغايا وأهل الفجور، فأضحى بذلك أشبه بماخور منه بمعبدٍ دينيٍّ، ولم يتجاسرْ أحدٌ مِن أهل الفضل أَنْ يدخل إليه ليتحقق صحةَ ما تناقلتْه الألسنُ، بَيْدَ أن قسطنطين وقف على حقيقة الأمر فَرَأَى من أخص واجباته أن يقوِّضَ أركان ذلك الزون النجس، فأمر عُمَّاله بأن يهدموا ذلك المقام ويكسروا أصنامه ويُتلفوا ما حمل إليه من الهدايا النفيسة، فأرسلت إلى أفقا فئةٌ من الجُند نفذوا أوامر الملك ولم يُبقوا ولم يذروا، وكان ذلك في السنة ٣٢٥. أما سكان أفقا فأمروا بأن يبارحوا مساكنهم فاستوطنوا بعلبك.»١١

القديسة هيلانة

وفي مطلع السنة ٣٢٦ قام قسطنطين إلى رومة؛ ليحتفل فيها كما احتفل في نيقوميذية بعيده العشرين، وأصدر في الثالث من شباط قانون الزنى، وأردفه في أول نيسان بقانون الخطف والاغتصاب وبقانون زواج اليتيم، ولعله حرَّم السراري على المتزوجين في هذه الآونة أيضًا، ورأت زوجته فاوسطة أن تستغل محافظة زوجها على الآداب والأخلاق فاتهمت كريسبوس ابنه من ضرَّتها — وكان قد بلغ العشرين من العمر ولمع في ميادين القتال — بمحاولة الاعتداء على عفتها، فأماته والده مسمومًا، ثم اتُهمت هي بدورها بالخيانة وكانت لا تزال وثنية تشابه في صورتها الجانبية والدها مكسيميانوس، وكان قسطنطين يكرهه، فأمر قسطنطين بإماتتها هي أيضًا خنقًا بحمامٍ ساخنٍ.

وكانت والدته القديسة هيلانة قد استقرت في رومة وتمتعت بلقب أوغوسطة وأثرت ثراءً كبيرًا، فعزمتْ في السنة ٣٢٦ على القيام برحلة إلى فلسطين؛ للتبرك بزيارة الأماكن المقدسة، وغادرت رومة في أواخر الصيف، واتجهت شطر فلسطين بحرًا. وكان قسطنطين قد فاوض مكاريوس أسقف أوروشليم في إقامة كنيسة لائقة بالسيد في جلجثة في أوروشليم تكون أفضل الكنائس، فاستحثت القديسة الأسقف على إتمام هذا العمل، فتم البناء في السنة ٣٣٥، وكان قد سبق للنصارى أن أقاموا في القرن الثالث بناءً مثمَّن الأضلاع والزوايا فوق الكهف الذي وُلد فيه السيد في بيت لحم، فأضافتْ إلى هذا المثمن بازيليقة فخمة، وفعلت مثل هذا عند كهف الصعود. وعند انتهاء هذا القرن الرابع بدأ النصارى يتناقلون خبرًا مؤداه: أن القديسة هيلانة، بعد تفتيشٍ دقيقٍ وعناءٍ شديدٍ، وجدت ثلاثة صلبان في جلجثة، وأنها أحبت أن تتعرف إلى صليب السيد منها فلمست بها جسد مريضٍ شابٍّ وانتقتْ منها ذاك الذي شفى المريض، ولَدَى عودتِها أذابت بعض مسامير الصليب في معدن خوذة قسطنطين الأول والآخر في لجام حصانه، كما أنها وزعت عود الصليب على كنائس عدة.

آريوس ثانيةً

ولم يتمكن المجمع المسكوني من استئصال بذور الشقاق، فالآريوسيون كانوا كثرًا تؤيدهم قسطندية أخت الإمبراطور، ويقول المؤرخ صوزومينوس إن قسطندية أوصتْ أخاها وهي على فراش الموت بكاهن آريوسي كان قدْ أصبح معلم ذمتها، وأن هذا الكاهن قدم يوسيبيوس الآريوسي أسقف قيصرية إلى قسطنطين الإمبراطور، فتمكن الأسقف من إقناع الإمبراطور أنه لا فرق بين إيمان آريوس وإيمان المجمع، وأن الإمبراطور أعاد آريوس من منفاه وأرسله في السنة ٣٣٠ إلى الإسكندرية.١٢
وعاد الآريوسيون إلى العمل، فعقدوا مجمعًا في أنطاكية في السنة ٣٣٠ وقطعوا افسيتاثيوس بطريرك أنطاكية وغيره ونفوهم بأمر قسطنطين. وقام آريوس إلى الإسكندرية فمنعه بطريركها أثناسيوس الكبير من الدخول إليها، فاتهمه الآريوسيون بالتعاون مع مُطالبٍ بالحكم على مصر وبدفع الضرائب إليه، فاضطر أثناسيوس أن يقصد القسطنطينية للدفاع عن نفسه، فأصغى قسطنطين إليه وعفى عنه وسمح له بالعودة إلى الإسكندرية، وفي السنة ٣٣٣ عقد الآريوسيون مجمعًا في قيصرية فلسطين ودعوا أثناسيوس إليه فلم يحضر، ثم أعادوا الكرة في السنة ٣٣٥ فعقدوا مجمعًا في صور فدعوا أثناسيوس فحضر فقطعوه، فاستأنف حبر الإسكندرية قرارهم، فأمر قسطنطين بانعقاد مجمع في القسطنطينية في السنة ٣٣٦، وفاز الآريوسيون بأغلبية المقاعد فحكم هذا المجمع على أثناسيوس فنُفي إلى فرنسة،١٣ وأصر آريوس على العودة إلى الإسكندرية ولكن الإسكندريين لم يقبلوا به، فأمره الإمبراطور أن يخدم الأسرار في القسطنطينية، فاعترض أسقفها ألكسندروس فأُكره على ذلك إكراهًا، ومات آريوس في السنة ٣٣٦ وظلت قضيتُهُ قائمةً حتى السنة ٣٩٥ — كما سيجيء بنا.

القسطنطينية

وقضت ظروف قسطنطين السياسية والعسكرية ببقائه في الشرق أكثر من الغرب؛ فالقبائل البربرية التي كانت تهدد حدود الدولة في أوروبة كانت تتأثر كثيرًا بحركات القبائل الضاربة في مراعي روسية الجنوبية، والأسرة الساسانية التي كانت قد أعادت إلى فارس نشاطها وطموحها كانت قد بدأت تطمع في ولايات رومة الشرقية، وكانت هذه الولايات الشرقية قد احتفظت بنشاطها الاقتصادي فكانت تؤدي إلى الخزينة مبالغَ عظيمة من المال تَفُوقُ بكثيرٍ ما كانت تؤديه الولايات الغربية، وكانت ولاياتُ البلقان تقدم أفضل الرجال للجيش. ولمس قسطنطين هذا كله فرأى أنْ لا بد من إنشاءِ عاصمةٍ جديدةٍ في الشرق تُسَهِّلُ الدفاعَ عن الدانوب والفرات وتضمن الطمأنينة اللازمة لأبناء الولايات الشرقية، فأراد في البدء أن يجعل مسقط رأسه نيش عاصمةً لملكه، ثم اتجهت أنظارُهُ نحو صوفية Sardica وثيسالونيكية، ورأى بعد ذلك أن طروادة أحق بالشرف من هذه جميعها؛ لأنها كانت موطن الجبابرة ومسقط رأس الرومانيين الأولين الذي أسسوا رومة. وقام إليها بنفسه وخطط العاصمة الجديدة فيها وفي ضواحيها وأنشأ الأبواب الرئيسية، ولكنه تراءى له في الحلم أن إلهه يأمره بالتفتيش عن محلٍّ آخرَ، فوقع اختياره على بيزنطة.١٤
وكانت بيزنطة مستعمرة يونانية قديمة أسسها أبناء ميغارة Megara في السنة ٦٥٢ قبل الميلاد؛ للاتجار بحبوب روسية الجنوبية ومعادن حوض البحر الأسود ومصايد البوسفور، وقامت بيزنطة هذه على رأسٍ ناتئٍ في البحر عند أَوَّل فجوة داخلة في ساحل البوسفور الأوروبي. وكانت هذه الفجوةُ على شكل هلالٍ مائيٍّ داخل في الأرض عشرة كيلومترات؛ ولذا اسمه المتأخر «القرن الذهبي»، واتخذت بيزنطة شكل الرأس الذي عليه فأصبحت مثلثًا تحمي المياه جانبين من جوانبه الثلاثة، ويحمي جانبه الثالث سورٌ قويٌّ لا تتحكم فيه أَيَّةُ مرتفعات مجاورة.
وجاء في التقليد أَنَّ الإمبراطور المؤسس عندما بدأ بتخطيط العاصمة الجديدة أمسك رمحًا بيده وطاف حول بيزنطة وأطال الطواف، فقال له رجال الحاشية: متى تقف يا سيد؟ فأجاب: عندما يقف هذا الذي يسير أمامي، وشاع بين القوم أن قوة سماوية كانت ترشده سواء السبيل،١٥ والواقع أن قسطنطين لم يقف إلا بعد أن أدخل في تخطيطه كل التلال السبع التي ضمها الرأس بين بحر مرمرة والقرن الذهبي، واختار قسطنطين الجزء الجنوبي الشرقي من بيزنطة فأنشأ فيه قصرَه الإمبراطوري، وجعل من الساحة المستطيلة التي وقعت إلى الشمال الغربي من هذا القصر ساحةً عموميةً رئيسيةً دعاها الأوغوسطايوم Augustaeum؛ أي ساحة أوغوسطوس، فغطى أرضها بالمرمر، وأحاطها مِن جميع جوانبها بالمنشآت العامة، وأقام إلى غربي ساحل أوغوسطوس الملعب الكبير Hippodromus الذي أصبح فيما بعد مسرحًا للسياسة ولجميع ظواهر الحياة العامة في العاصمة، فكان يَشمل فيما شمل الكاثيسمة Kathisma؛ أي لوج الإمبراطور، وكان العرش العظيم الذي أُقيم في وسط هذا اللوج هو المكان الذي يطل منه الإمبراطور على شعبه في غالب الأحيان. وازدان هذا الملعب بمسلة فرعونية أُحضرت من مصر، وبالثعبان النحاسي ذي الرءوس الثلاثة الذي صنعه بوسانياس لهيكل دلفي بمناسبة الانتصار على الفُرس في بلاتية (٤٧٩ق.م)، وبالعمود البرونزي المربع.
وأنشأ قسطنطين بالقرب من هذا الملعب وإلى شرقيه بناءً صغيرًا جَعَلَه نقطة الانطلاق لبُعد المسافات في جميع أنحاء العالم الشرقي ودعاه المليون Milion، وكان هذا المليون يُشبهُ الهياكل، ويقوم سقفُهُ على سبعة أعمدة، وبداخله تمثالٌ للإمبراطور وتمثال آخرُ لوالدته هيلانة، وخص قسطنطين المسيحيين بكنيسةٍ كبيرة أسماها كنيسة الحكمة الإلهية Hagia Sophia، ولم تكن هذه كنيسة الحكمة الإلهية الحالية، بل كانت بازيليقة احترقت مرتين فاندثرت، وأقام قسطنطين في هذه المنطقة نفسها مجلسًا للشيوخ وقصرًا للبطريرك.

ولا نعلم بالضبط متى خطط قسطنطين عاصمته الجديدة، وربما كان ذلك بين السنة ٣٢٨ والسنة ٣٢٩، ولكننا نعلم أن تدشينها جرى في الحادي عشر من أيار سنة ٣٣٠ وأن الأساقفة النصارى باركوا القصر وأقاموا صلاة خصوصية في كنيسة الحكمة.

ودعا قسطنطين عددًا من شيوخ رومة القديمة وعددًا كبيرًا من كبار الأغنياء في بلاد اليونان وآسية للإقامة في العاصمة الجديدة، وأغرى آلافًا من رجال الفن والصناعة والتجارة للغرض نفسه، ووزع القمح والزيت مجانًا على السكان، وخصص القمح الذي كان «يُجبى» من مصر للعاصمة الجديدة، وجعل قمح قرطاجة لمئونة العاصمة القديمة، وأصدر أمرًا منح بموجبه المدينة الجديدة لقب «رومة الجديدة» ولكن الشعب أطلق عليها اسم القسطنطينية.١٦
ولا يختلف اثنان في أَنَّ نقل العاصمة إلى هذا المقر الجديد كان — في حد ذاته — عملًا تاريخيًّا عظيمًا؛ لأنه أعطى الدولة الرومانية حصنًا منيعًا تصمد فيه فتصد هجمات البرابرة وتحفظ تراثًا مدنيًّا كبيرًا، ولأنه أمدَّ النصرانية بعاصمةٍ تنطلق منها إلى جميع الجهات، لا سيما وأن رومة كانتْ لا تزال حصن الديانة القديمة وأنها بقيت وثنية إلى وقت طويل.١٧

الإدارة

ونهج قسطنطين في إصلاح الإدارة الطريقَ نفسه الذي سلكه ديوقليتيانوس، ففصل السلطة العسكرية عن السلطة المدنية، وقوَّى الحكومةَ المركزية وحَصَرَ سُلطتها العليا في شخص الإمبراطور، ولم يكن هذا الاتجاه في الإصلاح ابن ساعته، فسويتونيوس المؤرخ الروماني يقول: إن كاليكيولا الإمبراطور (٣٧–٤١ب.م)، كان على استعدادٍ تامٍّ لتقبُّل التاج، وإن الإمبراطور هيليوس جبلوس الحمصي لبس التاج في ظروف خاصة، وإن أورليانوس (٢٧٠–٢٧٥ب.م) زين رأسه بالتاج في المواقف الرسمية واتخذ لنفسه لقب الإله في نُقُوشه الرسمية وعلى نقوده،١٨ ويرى رجالُ الاختصاص أن الأباطرة نقلوا رأيهم هذا في الحُكم عن البطالسة والسلوقيين ثم عن الساسانيين في أيام ديوقليتيانوس وقسطنطين.
وليس لدينا من النصوص الأولية ما يخولنا التبسُّط في وصف الإدارة كما أنشأها ديوقليتيانوس وأقرها قسطنطين، والمرجع الأولي الأساسي في هذا الموضوع هو لائحة رسمية١٩ بوظائف البلاط والإدارة والجيش وبأسماء الولايات ظَنَّهَا المؤرخون السابقون من مخلفات القرن الرابع فاعتمدوها في أبحاثهم، ولكن النقد الحديث يجعلُها من بقايا القرن الخامس لا الرابع.
وعلى الرغم من هذا، يجوز القول إن حكومة الدولة الرومانية في عهد قسطنطين الكبير كانت قد أصبحتْ حكومةً مطلقةَ الصلاحيةِ تستمد سلطتها من قوة الجيش المرابط، ومن محافظتها على الأنظمة الموروثة، ومن احترامها للقانون. وكان على رأس هذه الحكومة إمبراطور متجلبب بعظمة شرقية، يعلو رأسه التاج ويردِّي جسمه الأرجوان، وقد اعتزل قومه وعظم قدره وغشيتْ جلالته الأبصار، فخشعتْ أمامها العيون وتصاغرت عندها الهمم لا يقوم بين يديه إلا كل متهيب ناكس مطرق، وجمع الإمبراطور في شخصه شقي السلطة المدنية والعسكرية، وأصبح مصدر التشريع كما أصبحت أوامره التفسيرات الوحيدة لِمَا يصدر عنه من تشريعٍ. ولما كانت جميع أُمُور الدولة في عُرف الرومان تخضع لسيطرة الحكام، كان الإمبراطورُ — بطبيعة الحال — رئيسَ رجال الدين أيضًا وحبرًا من أحبارهم.٢٠
وجاء على رأس الإدارة المدنية مجلسٌ استشاريٌّ أعلى٢١ مؤلف من رؤساء دوائر الدولة من رئيس الخصيان أقرب المقربين إلى الإمبراطور،٢٢ ومن قومس الإحسان والإنعام،٢٣ وقومس الأملاك الخاصة،٢٤ ومن قسطور القصر المقدس٢٥ أمين القوانين، ومن رئيس ديوان الرسائل،٢٦ وكان هذا يشرف على الكتبة والبريد والحرس ودور الصناعة والشرطة، وكان بين هؤلاء رجال الأمن العام.٢٧
وكان الإمبراطور ديوقليتيانوس قد أقصى الشيوخَ عن إدارة الولايات وجعلها جميعها تابعة له وضاعف عددها؛ ليقلل مواردَ حُكَّامها وأهميتهم، فجعلها مائة وعشرين بدلًا من خمسين، وجعل على رأس كُلٍّ منها رئيسًا٢٨ يشرف على إدارتها وينظر في دعاويها القضائية، ثم جمع بينها فجعلها اثنتي عشرة ذيقوسية: بريطانية وغالية وإسبانية وأفريقية وإيليرية في الغرب، وداقية ومقدونية وتراقية وآسية والبونط والشرق ومصر في الشرق.
وجعل على رأس كل ذيقوسية نائبًا٢٩ يشرف على أعمال رؤساء الولايات وينظر في ما يُستأنف إليه من الدعاوى، وجرَّد قسطنطين المدبر الروماني القديم البرايفيكتوس٣٠ من صلاحياته العسكرية وجعل منه حاكمًا مدنيًّا أعلى، فقسم الإمبراطورية إلى أربع برايفكتورات: غالية وإيطالية وإيليرية والشرق، فشملت برايفكتورة الشرق ذيقوسيات الشرق ومصر وآسية والبونط وتراقية، وشملت ذيقوسية الشرق ولايات فلسطين الأولى وفينيقية وسورية الأولى وقيليقية وقبرص وفلسطين الثانية وفلسطين الثالثة وفينيقية اللبنانية، والفرات وسوريا الثانية والرها، وما بين النهرين وقيليقية الثانية وإسورية والعربية. ولا تزال أسماء هذه الولايات محفوظةً في ألقاب أحبار الكنيسة الأرثوذكسية حتى يومنا هذا.
فمتروبوليت بيروت «مقام من الله على بيروت وتوابعها، متقدم في الكرامة، متصدرٌ في الرئاسةِ على كل فينيقية الساحلية، ومثله متروبوليت طرابلس، ومتروبوليت صور وصيدا. أما متروبوليت حمص فإنه متصدر في الرئاسة على كل فينيقية اللبنانية، ومثله متروبوليت بعلبك ومتروبوليت دمشق، ومتروبوليت حماه متصدر في الرئاسة على كل سورية الثانية، ومتروبوليت حلب على سورية الأولى، ومتروبوليت حوران على كل بلاد العرب الصخرية.»٣١
وراقب رجال الأمن العام الموظفين ورفعوا تقاريرهم إلى رئيس ديوان الرسائل ولكن دون جدوى؛ لأن معظمهم كان بحاجة هو نفسه للمراقبة، وقضت قوانين الدولة بأن يقام في كل مدينة أو قرية كبيرة مَن يفتقد الفقراء في بؤسهم وينظر في أمرهم،٣٢ وكان الأسقف المسيحي أفضل من هذا وذاك، لا سيما وأن الإمبراطور منحه حق النظر في بعض الأُمُور برضاء الطرفين.

الجيش

وأعلى ضباطه سيد الخيالة،٣٣ وسيد المشاة،٣٤ وكان هؤلاء الأسياد أربعة في آخر أيام قسطنطين، وأصبحوا ثمانية فيما بعد، وكان عليهم أَنْ يقودوا الجيوش ويُنَظِّمُوا الحرب، وجاء بعد هؤلاء خمسة وثلاثون دوقًا يقودون قواد الحدود، وكان الجيش مؤلفًا مِن قوات ثلاث: قوة مرابطة على الحدود لا تحيد عنها، وقوتين متحركتين، وكانت القوة المرابطة على الحدود٣٥ بربرية الأصل تحرث ما أُقطعت من أرضٍ وتستغلها، وكان الابن فيها ملزمًا أن يأخذ مكان أبيه. أما القوتان المتحركتان فإنهما كانتا تحت تصرف الإمبراطور، الواحدة تدعى جماعة الرفقاء،٣٦ والثانية جماعة البلاط،٣٧ وكان هنالك نوعان من الفُرسان: نوعٌ خفيف ونوعٌ ثقيل، وكان الأول قديمًا يعود الفضل في إنشائه إلى الإمبراطور غاليانوس الذي ألحق بالفرقة المجندة من المواطنين الرومان جماعة من الفرسان جُنِّدَ أفرادُها من حلفاء رومة؛ ولذا الاسم فرسان الحلفاء.٣٨
وكان النوع الثاني أحدث عهدًا من الأول وأثقل سلاحًا، وقد أُنشئ على طراز الفرسان الفرس ودعي المدرَّع،٣٩ وكان معظم أفراده من البرابرة من وراء الحدود.

طبقات المجتمع

ومنح الإمبراطور كركلا حقوق الرومان المدنية لجميع سكان المدن في جميع أنحاء الإمبراطورية، فأصبح كلهم مواطنين رومانيين منذ السنة ٢١٢ بعد الميلاد، ولكن هذا لم يعنِ التساوي بين جميع المواطنين، فبقي هنالك شرفاء ووضعاء:٤٠ شيوخ وفرسان وجنود لا تنالهم شدة القانون في العقوبات، وأكثرية ساحقة خاضعة لكل ما جاء في القانون من قساوة وشدة، وانتظم الشرفاء طبقات طبقات: فجاء على رأسهم القناصل ثم البطارقة ثم المدبرون فأبناء الجنود والموظفين وقد عرف هؤلاء باللقب كلاريسيمي،٤١ ثم الموظفون المستجدون في الوظيفة الذين استحقوا لقب «صاحب الأفضلية»٤٢ أو لقب «صاحب الكمال أو البراعة.»٤٣
وانتظم سائر أفراد الشعب طبقات وانحصروا فيها وأورثوها أبناءهم من بعدهم، وجاء في طليعة هذه الطبقات طبقة الكوريالس٤٤ أصحاب الأملاك المقيمين في المدن وأمهات القرى الذين تربعوا في دست الحكم فيها جيلًا بعد جيل، واتسق التجار وأصحاب المهن والحرف نقابات مقفلة موروثة، ولا يستبعد أن يكون أصحاب الفاقة ممن تناول خبزه يوميًّا من مخابز الدولة٤٥ قد أصبحوا في عهد قسطنطين طبقة موروثة أيضًا ومثله الكولوني الذين سبقت الإشارة إليهم في فصل سابق.

الثقافة العامة

وكان قد طال عهد الإمبراطورية ودام ثلاثة قرون متتالية وظل الناس في أطرافها يتكلمون لغاتهم الخاصة غير عابئين باللاتينية أو اليونانية، فالقديس إيريناوس الذي كان يجيد اللاتينية واليونانية اضطر أن يتعلم الغاليَّة للتفاهم مع سكان المنطقة التي كان يعمل فيها. وتكلم سكان الجزر البريطانية اللغة الكلتية، كما تكلم المور في أفريقية لهجاتهم البربرية الخاصة، ولم يتكلم الفينيقية فيها سوى الطبقة العُليا من السكان وسكان مالطة، وعلى الرغم من انتشار اللاتينية في إيليرية فإن سكان هذه المنطقة احتفظوا بلهجتِهِم الخاصة التي تطورتْ فيما بعد فأصبحتْ اللغةَ الألبانية، وظل الأقباط والآراميون والعرب والأرمن محتفظين بلغاتهم الأصلية على الرغم من انتشار اليونانية واللاتينية في أوساطهم.

ومعظم الذين تكلموا اليونانية واللاتينية كانوا لا يزالون في عصر قسطنطين أميين لا تهزهم الفصحى، ولم يتعلم الفصحى من هاتين اللغتين إلا عدد قليل من الناس، وعني هؤلاء عناية خاصة بقواعد اللغة وبعلم المعاني والبيان وبذلوا قصارى جهدهم في حقل الخطابة. وكانت جامعة أثينة لا تزال تعنى بالفلسفة، وكانت الفلسفة الرائجة الأفلاطونية الجديدة القائلة بوحدة الوجود، أي: أن الله والكون واحدٌ وأن الكون المادي منبثقٌ من الله.

وأول مَن قال بهذا النوع من التوحيد ووفق بينه وبين فلسفة أفلاطون نومانيوس٤٦ الفيلسوف، وهو فيلسوفٌ سوريٌّ أبصر النور في أبامية في القرن الثاني بعد الميلاد، وتلقى علومه الفلسفية في الإسكندرية ثم أقام في أثينة مدة وعاد إلى أبامية يعلم ويرشد، ويرى رجال الاختصاص اليوم أن أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠ب.م) إنما ادعى لنفسه بما كان لغيره،٤٧ وأشهر من علم بهذه الفلسفة بعد نومانيوس وأفلوطين مالك البثني (٢٣٣–٣٠١) الذي درَّس العلم والفلسفة في صور ثم انتقل منها إلى أثينة فأخذ عن فيلسوفها لونجينوس السوري، وترجم اسمه مالك إلى اليونانية فعرف بالفيلسوف بورفيريوس؛ أي المتوشح بالأرجوان الملكي،٤٨ واشتهر بعد بورفيريوس في حقل الأفلاطونية الجديدة يمبليخوس٤٩ العيطوري، ولد في خلقيس «مجدل عنجر» في سهل البقاع في لبنان وعلم فيها وتُوُفي في السنة ٣٣٠ بعد الميلاد، واشتهر يمبليخوس بعدائه للنصرانية ودفاعه عن الوثنية وتطرُّفه في ذلك.
وآثر أبناء العائلات الرومانية الكبيرة درس القانون على غيره من العلوم، وأقبلوا عليه؛ إما للحصول على وظيفة حكومية، أو للمُحاماة أمام المحاكم، أو لمجرد الاطلاع والتثقف، وأدى اهتمامهم بالقانون إلى الاعتناء بعلوم اللغة — ولا سيما الخطابة والفصاحة — وإلى الاطلاع على مبادئ الفلسفة. وعندما حَلَّ القرن الثالث بعد الميلاد كان عصرُ البحث والتنقيب والاجتهاد في القانون قد أشرف على النهاية، وحَلَّ محله عصر الجمع والتنسيق، وكانت بيروت قد أصبحت مستودعًا هامًّا للقوانين الرومانية ومركزًا خطيرًا لدرس هذه القوانين وتدريسها، وكان قد لمع بين أساتذتها أميليوس بابنيانوس الحمصي، مستشار الإمبراطور سبتيميوس سويروس، ودوميتيوس أولبيانوس الصوري٥٠ في القرن الثالث، فقام غريغوريوس البيروتي بجمع القوانين في السنة ٢٩٥،٥١ وجاء بعده هيرموغنيانوس يعمل العمل نفسه فيُكمل مجموعة سلفه في السنة ٣٢٤.٥٢
وكان هنالك طبقةٌ من العلماء آثروا الإحاطةَ على التدقيق والتحقيق، فصَنَّفُوا في المواضيع الجامعة العامة، ولعل أبرزهم في عهد قسطنطين كان يوسيبيوس أسقف قيصرية فلسطين الذي تُوُفي في السنة ٣٤٠ بعد الميلاد، وقد ألف في الدفاع عن النصرانية ضد تَهَجُّمَات اليهود والوثنيين، وكتب في تاريخ الكلدانيين والآشوريين والعبرانيين والمصريين واليونان والرومان، واشتهر بمؤلفه تاريخ الكنيسة٥٣ «منذ ظهور السيد حتى استظهار قسطنطين على ليكينيوس» الذي أصبح فيما بعدُ مِنْ أَهَمِّ المراجع لتاريخ النصرانية في القرون الثلاثة الأُولى، وقد يكون تاريخ قسطنطين الكبير٥٤ له، وقد لا يكون.

تَنَصُّرُهُ ووفاتُه

وفي السنة ٣٣٧ بعد الميلاد أعد قسطنطين العُدَّة لمحاربة الفرس، ولكن هؤلاء فاوضوه في الصلح قبيل عيد الفصح فأوقف استعداده للحرب، واحتفل قسطنطين بعيد الفصح في الثالث من نيسان، ونالتْه الحمى، فذهب إلى مياه معدنية قريبة يستحم فيها، ثم انتقل إلى هيلانوبوليس فأنقيرة بالقُرب من نيقوميذية، وكان يُلازمُهُ في أثناء هذا كله معلم ذمة أخته قسطندية، وكان هو يود أن يعتمد في مياه الأردن كما فعل السيد نفسه، ولكن الوقت عاجله فتقبل سر المعمودية عن يد يوسيبيوس أسقف نيقوميذية، وخلع الأرجوان وألقاه جانبًا وتردى بالبياض.

وتُوُفي يوم العنصرة في الثاني والعشرين من أيار من السنة نفسها. ولم يكن أحدٌ مِنْ أولاده بالقرب منه، وحُنِّط جسمه ووُضِعَ في تابوت من ذهب ونُقل إلى القصر في القسطنطينية ليتقبل احترام الوجهاء، وجاء ابنُهُ قسطنس قيصر من أنطاكية، فعرض جثمانه مكللًا بالتاج ملفوفًا بالأرجوان في أبهى قاعات القصر وأجملها، ثم أمر بنقله بموكب فخم إلى كنيسة الرسل؛ حيث صلى الإكليروس عليه طوال الليل ودفن فيها في ناووس من الرخام السمَّاقي، وأَلَّه الشيوخ قسطنطين حسب العادة الرومانية وعظَّمه الشعبُ الوثنيُّ وعبده أمام تمثاله الذي نصب فوق عمود من الرخام السماقي في الفوروم.٥٥
١  Saxa Rubra وهي Primaporta الحالية.
٢  Lactantius, De Mortibus Persecutorum; Eusebius, Constantini, I, 38–40.
٣  هكذا في الأصل اليوناني وفي المراجع اللاتينية: IN HOC SIGNO VINCES.
٤  Labarum.
٥  Manrice, Jules, Constantin le Grand, 30–36.
٦  Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 48.
٧  Lactantius, De Mortibus Persecutorum, 34: 4-5.
Eusebius, Historia Ecclesiastica, vii, 9-10.
٨  Lactantius, Op. Cit., 48, 4–8, Eusebius, Op. Cit., X, 5, 6–9.
٩  Cod. Theod., XVI, 18, 1.
١٠  Eusebius, Vita Constantini, II, 48–60.
١١  Eusebius, Vita Con. III, 55.
١٢  Sozomenis, Hist. Eccl. II, 16-17, III, 13.
Gwatkin, Studies on Arianism, 57, 96.
١٣  Theodoretus, Hist. Ecc..
Socrates Scholasticus, Hist. Ecc..
١٤  Sozomenis, Hist. Ecc. II, 3.
Piganiol, A., Emp. Chretien, 49.
١٥  Philostorgii, Hist. Ecc., ii, 9.
١٦  Maurice, J., Origines de Constantinople, Paris, 1904.
Brehier, L., Constantin et la Fondation de Const., Rev. Hist., 1915, 238.
Emereau, C., Notes sur les Origines de Const., Rev. Arch. 1925, 1–25.
أومان: الإمبراطورية البيزنطية، تعريب الدكتور مصطفى طه بدر، الفصل الأول ص٣–١٣.
١٧  Uspensky, Th. Hist. of Byz. Emp. I, 60–62.
١٨  Deus et Dominus Aurelianus Augustus; Homo, L., Règne de l’Empereur Aurelien, 191–193.
١٩  Notitia Dignitatum.
٢٠  Pontifex Maximus.
٢١  Consistorium Principis.
٢٢  Praepositus Sacri Cabiculi.
٢٣  Sacrae Largitiones.
٢٤  Res Privata.
٢٥  Quaestor Sacri Polatii.
٢٦  Magister Officiorum.
٢٧  Agentes in Rebus.
٢٨  Praeses.
٢٩  Vicarius.
٣٠  Praefectus.
٣١  خدمة القداس الإلهي، ليوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس الذيالوغوس، ترجمة جراسيموس متروبوليت بيروت، ص٢٤٧–٢٥٠.
٣٢  Defensores.
٣٣  Magister Militum Equitum.
٣٤  Magister Militum Peditum.
٣٥  Limitanei.
٣٦  Comitatenses.
٣٧  Palatini.
٣٨  Auxilia.
٣٩  Cataphracti وهو لفظٌ يونانيٌّ معناه الدرع.
٤٠  Honestiores, Humiliores.
٤١  Clarissimi.
٤٢  Eminentissimus.
٤٣  Perfectissimus.
٤٤  Curiales.
٤٥  Proletarii.
٤٦  Numenius.
٤٧  Guthrie, K., Numenius of Apamea, 96.
٤٨  Porphyrios.
٤٩  Jamblichus.
٥٠  Aemilius Papiaianus, Domitius Ulpianus.
٥١  Codex Gregorianus.
٥٢  Codex Hermogenianus.
٥٣  Historia Ecclesiastica.
٥٤  Vita Constantini.
٥٥  Eutropius, Breviarium Historiae Romanae, X, 8.
Grégoire, Conversion de Const., Rev. Univ., Bruxelles, 1930–1391, 270.
Eusebius, De Laudibus Constantini, XVI, 3–5.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤