الفصل الثامن

أركاديوس الأول وثيودوسيوس الثاني

٣٩٥–٤٥٠

أسرة ثيودوسيوس الكبير

وكان ثيودوسيوس الكبير قد تزوج من آلية فلاتشيلة الإسبانية قبل أن تبوأ عرش الأباطرة، فولدت له أركاديوس وهنوريوس، ثم توفاها الله في السنة ٣٨٦ فاقترن ثيودوسيوس الإمبراطور بغلَّة بنت ولنتنيانوس الأول ورُزق منها بنتًا سَمَّاها غلَّة بلاسيدية، وتزوج أركاديوس من إِفذوكسيَّة، فولدت له ثيودوسيوس الثاني وبلشيرية، أما هنوريوس فإنه تزوج من مريم بنت عمِّه هنوريوس ومن ثرمنتية، ولكنه ظَلَّ عاقرًا بلا وارث.

figure

أركاديوس (٣٩٥–٤٠٨)

وكان أركاديوس غُلامًا يافعًا عندما تَبَوَّأَ العرش، بطيء الحس ضعيف الإرادة، فانقاد أولًا لمدبر أُمُوره روفينوس ثم لندمائه وجلسائه، وأشهر هؤلاء الخصي أفتروبيوس الذي نال الحظوة بأن قدَّم لأركاديوس إفذوكسيَّة الفتانة بنت ضابط من ضباط الجيش، وكانت إفذوكسية هذه شديدة الإعجاب بجمالها وبنفسها متغطرسة منتفخة، فزادت الطين بلة، ولم يكن هنوريوس أَوْفَرَ حظًّا؛ فإنه تَبَوَّأَ العرش في الحادية عشرة وخضع لمآرب مدبِّرٍ آخرَ هو استيليكون الوَنْدالي، وعلى الرغم من مظاهر الإخاء والمحبة والتعاوُن بين الدولتين فإن كلًّا من استيليكون في الغرب وروفينوس وغيره في الشرق عمل على الشقاق والتنافُر والضرر. وكان استيليكون يطمع في ضَمِّ جميع إيليرية وتوابعها إلى إمبراطورية الغرب ويعمل من أجل ذلك بكل دهاء، فهَبَّ زملاؤُهُ في الشرق يثيرون الشغب على حكومة سيده في أفريقية، واشتد الاحتكاكُ بين الحكومتين حتى أدى إلى تضاؤل التبادُل التجاري بين الشرق والغرب بل إلى انقطاعه حتى السنة ٤٠٨.

ويقول إفنابيوس المؤرخ المعاصر: «إن كلًّا من الإمبراطوريين خضع لمن حوله من الرجال، وإن هؤلاء أشعلوها حربًا دائمةً مكتومةً مستترةً، وإنهم لم يترفعوا عن اللجوء إلى جميع أنواع المداهنة والمخادعة.»١

ألاريكوس ملك القوط

ولدى وفاة ثيودوسيوس الكبير اعتبر القُوط الغربيون أنفسهم في حِلٍّ من روابط المعاهدة التي كانوا قد وقَّعوها معه في السنة ٣٨٢، وظهر بينهم رجلٌ نشيطٌ طموحٌ، هو ألاريكوس بلطة،٢ فبايعوه ملكًا عليهم، وادعى ألاريكوس أنه لم يَنَلْ مِنْ حُكُومة رومة الجديدة ما استحقه من رُتْبة وتقدير، فنهض بمجموعه إلى مقدونية وتراقية وهدد العاصمة نفسها، ثم اتجه شطر اليونان، فعبر مضيق ثرموبولي ودخل بلاد اليونان الوُسطى ثم جزيرة المورة، ونهب وأحرق وسَبَى.

وكان معظم جيش أركاديوس لا يزال في إيطالية، فكتب أركاديوس إلى استيليكون مدبر أُمُور أخيه أن يبعث إليه الجيش وأن يعاون في تأديب القوط وإعادتهم إلى مناطقهم على ضفة الدانوب، وقام استيليكون على رأس قوة إلى الشرق ووصل إلى ثسالية وأرسل جيش أركاديوس بقيادة غايناس القوطي إلى القسطنطينية، ولم يبادرْ إلى طَرْدِ ألاريكوس من بلاد اليونان قبل التخلُّص من روفينوس مدبِّر أركاديوس وخصمه اللدود، ونفذت المؤامرة بينه وبين غايناس وقتل روفينوس في تشرين الثاني من السنة ٣٩٦.

وجاء استيليكون ثانية إلى اليونان في ربيع السنة ٣٩٧، وكان بإمكانه أن يُطْبِقَ بقواته على ألاريكوس ولكنه لم يفعل، فاغتاظ أركاديوس وتَقَبَّلَ رأيَ وزيره إفترومبيوس الخصي، فصالح القوط؛ ليتمكن من معاقَبة استيليكون والانتقام منه، فرفع ألاريكوس إلى رُتبة قائدٍ في الجيش، وأَقْطَعَ القوط الغربيين أراضيَ جديدة، واختار لهم الجُزْءَ الشمالي من إيليرية؛ ليتجهوا بغزواتهم شطر إيطالية بلاد استيليكون.

قوط القسطنطينية

واتجه القوطُ رجالُ ألاريكوس شطر إيطالية، ولم يعودوا إلى إزعاج أركاديوس، ولكن مشكلةً قوطيةً أُخرى بقيتْ تنتظر الحل، فإن ثيودوسيوس الكبير كان قد أدخل إلى صفوف الجيش عددًا كبيرًا من هؤلاء القوط ولا سيما في سلاح الخيالة، وكان بعضُهُم قد خدم الجيش بإخلاصٍ وأَبْلَى البلاءَ الحسن في ميادين القتال، فرقي من رتبة إلى رتبة. وكان بين هؤلاء — في هذه الفترة التي نحن بصددها — غايناس القوطي أحد كبار القادة في جيش الإمبراطور، وكان غايناس هذا يهتم بشئون القوط أبناء جنسه ويُصغي إلى شكاويهم، فَالْتَفَّ حوله عددٌ لا يُستهان به من الجُند والمدنيين، فإذا هو في أوائل عهد أركاديوس أحد زعماء السياسة في العاصمة، ولم يكن عددُ القُوط المدنيين في العاصمة قليلًا، فسيناسيوس المؤرخ المعاصر يقول: إنه لم يكن بيتٌ مِن بُيُوت العاصمة يخلو من خادم قوطي، وإن البنَّائين والسقَّائين والعَتَّالين؛ كانوا قد أصبحوا جميعًا من القوط.٣

وكان يتلو غايناس في القوة والنفوذ والأهمية الخصي إفتروبيوس، فإنه جمع حواليه كل مُغامر ومُداهن مِن أصحابِ المصالحِ الكُبرى، الذين اتجروا بكل شيء وتَمَلَّقُوا كُلَّ صاحبِ نفوذٍ؛ إشباعًا لمطامعهم، وأصبحت سياسة العاصمة في أيام أركاديوس الأولى تطاحنًا مستمرًّا بين غايناس القوطي وأفتروبيوس الخصي؛ للحصول على النفوذ، أو الوصول إلى السلطة، أو الاحتفاظ بها.

ويُستدل من بعض المصادر أن كثيرًا من الشيوخ والوزراء ورجال الإكليروس لم يَرْضَوْا عن هذا ولا عن ذاك، فتضامنوا في سبيل المُحافظة على رومانيَّة الدولة والحيلولة دون وُصُول الألمان البرابرة إلى الحكم، ولم يروا في افتروبيوس ذاك الوطنيَّ المخلصَ، فالتفوا حول المدبِّر أوريليانوس،٤ وأجمل ما بقي مِنْ آثار هذه اليقظة الوطنية الرومانية رسالةٌ وضعها الأسقفُ سيناسيوس القيروني ووَجَّهَها إلى الإمبراطور، وأسماها «قوة الإمبراطور»، وكان سيناسيوس قد زار القسطنطينية في السنة ٣٩٩، ولبث فيها ثلاث سنوات، فجاءتْ رسالتُهُ خيرَ معين على فهم أوريليانوس وموقفه هو وجماعته من سياسة ذلك العصر، وتلخص هذه الرسالة بوجوب مراقبة الألمان البرابرة والاستعداد لمجابهتهم؛ لأنهم سيستغلون أتفه الأعذار لتقلد الأحكام، ولذا يجب على الإمبراطور أن يزيح الأجانب عن المناصب الهامة وأن ينزع عنهم عضويةَ مجلس الشيوخ، وعليه أيضًا أن يطهر الجيش وأن يزيد عدد الوطنيين فيه ثم يفرض أمره على هؤلاء البرابرة.٥

ثورة القوط في فريجية

وكان الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير قد أسكن جماعات من القوط الشرقيين مقاطعات معينة في فريجية في آسية الصغرى، فلما اشتد الاحتكاك بين غايناس وبين أفتروبيوس، أَوْعَزَ القائدُ القوطي إلى هؤلاء بالتعرُّض للسكان الآمنين وإحداث الشغب، ففعلوا، فأنفذ الإمبراطور غايناس نفسه لإخماد هذه الحركة، وما إِنْ وصل غايناس إلى مناطقِ الاضطرابِ حتى تَفَاهَمَ مع قائد القوط الشرقيين ووجَّه — بالتضامن معه — خطابًا إلى الإمبراطور يطلب فيه إخراج افتروبيوس من وظيفته وتسليمه إليه، فاضطرب أركاديوس وخشي سُوءَ العاقبة فأبعد افتروبيوس عن العاصمة (٣٩٩)، ولكن الزعيمَين القوطيين لم يَكتفيا بهذا بل أصرَّا على إعادة افتروبيوس إلى العاصمة ومحاكمته وإعدامه، وبعد أن تمَّ لهما هذا طَلَبَا إلى الإمبراطور أن يكرِّس إحدى كنائس العاصمة للصلاة بحسب المذهب الآريوسي، فاحتج يوحنا الذهبي الفم أسقف العاصمة احتجاجًا قويًّا، فتراجع غايناس عن هذا الطلب؛ لعلمه أن الجماهير في العاصمة وخارجها تؤيد الذهبي الفم.

سقوط غايناس وانتهاء مشكلة القوط

وخشي الوطنيون الرومانيون مطامعَ غايناس وراعهم الأمرُ فتأهبوا وتَهَيَّئُوا، وعاهدوا قوطيًّا آخرَ اسمه فرافيتة وعقدوا معه عقدًا؛ لِمَا لمسوا فيه من الإخلاص والمحبة للإمبراطور والولاء للإمبراطورية. ولدى خروج غايناس من العاصمة في أوائل السنة ٤٠٠ هجم الوطنيون على مَن تَبَقَّى من عساكره في داخل المدينة وقتلوهم، فثارت ثائرة غايناس وجمع جموعه ونهب تراقية وهَمَّ بالعبور منها إلى آسية الصغرى، ولكن فرافيتة انتصر عليه وصده عن اجتياز المضايق، ففر غايناس عبر الدانوب، فوقع أسيرًا بيد ملك من ملوك الهون أمر بقتله، فقُتل في كانون الأول من السنة ٤٠٠.

وكافأ أركاديوس فرافيتة فجعله قنصلًا، وانتهتْ مشاكلُ القوط بسقوط غايناس، واعتبر أركاديوس انتصاره على غايناس عملًا عظيمًا فنقشه على العامود التذكاري الذي أقامه في فورم القسطنطينية، وتَغَنَّى الشعراءُ بهذا النصر واعتبروه عظيمًا، وخَلَّدَ سيناسيوس عمل أوريليانوس وجماعته بروايةٍ رمزيةٍ دارتْ حوادثُها على صراع بين أوسيريس «أوريليانوس» وتيفون المحرِّض على الشر.٦

يوحنا الذهبي الفم (٣٤٥–٤٠٨)

وأنجبت الكنيسة في هذه الفترة من تاريخها يوحنا الذهبي الفم، وُلد في أنطاكية من أبوين شريفين في السنة ٣٤٥ أو ٣٤٧، وتلقى علومه على ليبانيوس الفيلسوف، وأبدى مواهبَ فريدةً، فرأى فيه الفيلسوف المعلم خير خلف له، وعطف عليه، وعُني به عناية فائقة، ولكن والدته أنثوزة سطت عليه «فسرقته»، على حد تعبير ليبانيوس، وعمَّدته مسيحيًّا، كما فعلت والدات غريغوريوس الثاولوغوس أوغوسطينوس وثيودوريطس.

وتسلَّم النعمة على يد ملاتيوس البطريرك الأنطاكي رئيس المجمع المسكوني الثاني في السنة ٣٧٠، فآثر الانفراد واستأنس بالوحشة وانتبذ مكانًا قصيًّا في برية أنطاكية ليحسن التأمل في الخالق وخلقه ويجيد التفكير في القيم الروحية والبشرية، وما فتئ معتزلًا منزويًا حتى انتابه مرضٌ أكرهه على العودة إلى أنطاكية، فعاد إليها في السنة ٣٨٠. وفي السنة ٣٨١ سامه البطريرك الأنطاكي ملاتيوس شمَّاسًا، ثم رقي إلى رُتبة كاهن في السنة ٣٨٦.

واشتهر الكاهن يوحنا بالتقوى، والتضحية، والخدمة، وبالخطابة والفصاحة، فلما تُوُفي نكتاريوس بطريرك القسطنطينية، وقع عليه اختيارُ حاجب القصر، افتروبيوس الخصي، فطلبه إليه وأَخْرَجَه خلسةً من أنطاكية؛ خوف أن يتدخل الجمهور الأنطاكي ويعترض، وعلى الرغم مِن تَدَخُّل ثيوفيلوس البطريرك الإسكندري وسعيه بالفساد؛ فإن يوحنا الذهبي الفم سِيمَ أسقفًا على العاصمة، ورقي الكرسي البطريركي في السنة ٣٩٨.

وبدأ يوحنا الذهبي الفم عمله البطريركي باهتمام بالغ بشئون الفقراء والمساكين، فأنفق على المعوزين والجياع والمرضى ما كان بعض أسلافه يبذخون به بذخًا، فأحبه البؤساءُ وتَعَلَّقُوا به، وآثروا الإصغاءَ إلى عِظَاتِهِ البليغة على الذهاب إلى دور التسلية، وميادين الألعاب، لِمَا كان عليه مِن طلاقة اللسان، وسُرعة الخاطر، وحضور الذهن، إذا تكلم تحدَّر كالسيل، وكُلَّمَا أفاض مَلَكَ أعنة القلوب. وهذه عظاتُهُ لا تزال محفوظةً حتى يومنا هذا، وفيها من الرقة، والطلاوة، والتفنُّن في التشبيه، والاستعارة، ما يسبغ على مواضيعها العادية سحرًا وجاذبيةً لا حَدَّ لهما.

وكان البطريرك الجديد مثاليًّا، يأخذ نفسه وغيرَه بتطبيق هذه المثالية أخذًا صارمًا، فحمل الرهبان على العمل المثمر، وحقق في بعض التُّهَم التي وُجِّهَتْ إلى بعض الأساقفة، فعزل ثلاثة عشر منهم، وكان متحرجًا يستنكر البذخ واللهو، فندَّد برجال البلاط ونسائهم، ولم تَنْجُ حتى الإمبراطورة إفذوكسيَّة من هذا التنديد.

وكان ثيوفيلوس بطريرك الإسكندرية قد بدأ يضطهد مَنْ قال برأيِ أوريجانيوس، ففر من وجهه الإخوة الأربعة الطوال ولجئوا إلى الذهبي الفم (٤٠١)، فقبلهم متلطفًا، ولكنه اعتبرهم محكومًا عليهم، وإذا ببعض الرهبان — وغايتهم إثارة الشغب على الذهبي الفم — يستشفعون الإمبراطورة لَدَى زوجها أن يأمر ثيوفيلوس بالحضور إلى القسطنطينية، فقدمها ثيوفيلوس على رأس عددٍ مِن أَسَاقِفَة مصر. وهكذا تَجَمَّعَ في القسطنطينية رهطٌ من حسَّاد الذهبي الفم، وممن نقموا عليه لتشديده عليهم في المحاسبة، فعقد ثيوفيلوس مجمعًا ضد يوحنا بالقُرب من خلقدونية (٤٠٣) عرض بمجمع البلوطة، واتهم يوحنا الذهبي الفم بأقوال أوريجانيوس وبخيانة المملكة، وطلب هذا المجمع يوحنا الذهبي الفم أربع مرات للحضور فلم يحضر فقطعه، وحكم ثيودوسيوس عليه بالنفي.

ولكن الشعب لم يسلِّم بنفيه، فتَدَخَّلَ الجيش، فهدَّأ يوحنا الشعب ونصح لهم بالخضوع وخرج منفيًّا، وكان أَنْ حدثتْ في اليوم التالي زلزلةٌ عظيمةٌ، فاضطرب ضميرُ إفذوكسية ودَاخَلَها الشكُّ فطالبت زوجها بِأَنْ يُعاد القديس حالًا إلى كرسيه، فدخل القسطنطينية في موكبٍ شعبيٍّ عظيمٍ، فخجل ثيوفيلوس وعاد إلى الإسكندرية، وما كاد البطريرك القسطنطيني يستقرُّ في كرسيه حتى أثاره التبجيلُ الذي أُحيط به شخصُ الإمبراطورة لمناسبة إقامة تمثال لها في جوار كنيسة الحكمة، فندَّد بها مرة أُخرى تنديدًا شديدًا، وقيل لها إنه استهلَّ عظتَه بالقول: «لقد عادت هيروديَّة إلى حنقها، إلى رقصها، وها هي تطلب رأس يوحنا.» فاغتاظت إفذوكسية واستدعت ثيوفيلوس، ولفَّق هذا ما لفق فقطع المجمع يوحنا مرة ثانية، فنفي إلى نيقية (٤٠٤) ثم إلى كوكيسوس في ثنايا جبال طوروس؛ لعله يقع طعمةً في أيدي الإسُّوريين الثائرين، ولكنه بلغها سالمًا وأقام فيها ثلاث سنوات يكتب ويؤلف، وبقي فيها على اتصال برعيته فكان يعزيهم بقوله: «إن الذي لا يظلم نفسه لا يستطيع أحدٌ أن يَضُرَّ به.»

وناصره بابا رومة اينوشنسيوس، ولكن البلاط قرر إبعادَه إلى صحراء بتيُّوس في حدود البحر الأسود، فرحل إليها، ولَدَى وُصُوله إلى قومانة في بلاد البونط تُوُفي فيها في السنة ٤٠٨ ونُقل جثمانُهُ إلى القسطنطينية في السنة ٤٣٨.٧

وأشهر ما كتبه يوحنا الذهبي الفم، في أثناء تَنَسُّكه، في السنوات العشر الأُولى من حياته الفكرية: رسالته في الكهنوت، وأَحْلَى ما جاء من آثار يراعه، في عهد رئاسته، ميامره القسطنطينية، وتعليقه على رسائل بولس الرسول إلى أهل كورونثوس، وإلى الرومانيين، وكَتَبَ في مَنْفَاهُ رسائلَ عديدةً أشرنا إليها سابقًا، ولا نزال نتمتع بصلواته في خدمة القداس الإلهي في معظم أيام السنة.

«لا ينوحنَّ أحدٌ عن فقر؛ لأن المملكة العامة قد ظهرت، لا يندبنَّ أحدٌ على آثام؛ لأن الصفح قد بدا من القبر، لا يخافنَّ أحدٌ من الموت؛ لأن موت المخلِّص قد حرَّرنا، أين شوكتك يا موت؟ أين ظفرك يا جحيم؟ قام المسيح، وأنت غُلبت، قام المسيح، والملائكة يفرحون، قام المسيحُ، واستقرت الحياة، قام المسيح، وليس ميت في القبر؛ لأن المسيح بقيامته من الأموات قد صار مقدمة الراقدين.»٨

ثيودوسيوس الثاني (٤٠٨–٤٥٠)

وكان من حُسن حظ الإمبراطورية الشرقية أَنْ تُوُفيت إفذوكسية الإمبراطورة في السنة ٤٠٤، على إثر إجهاضٍ شديد، وأَنْ تولى النفوذ في الدولة المدبِّر أنثيميوس الحكيم، وزاد في حسن الحظ أَنْ تُوُفي استيليكون في الغرب في السنة ٤٠٨، وتبعه أركاديوس في السنة نفسها، فانفسح في المجال لأنثيميوس أَنْ يعمل بحكمته وأَنْ يبقى مسيطرًا على شئون الدولة أربعةَ عشر عامًا.

وكان ثيودوسيوس عند وفاة أبيه لا يزالُ في السابعة من عمره، فتَهَذَّبَ بعلومِ عصره، ونشأ محبًّا للعلم، ديِّنًا، تقيًّا، وكان يُجيد الخط والصيد، ومِنْ ثم كان له هذا اللقبُ الذي نقرأ أحيانًا: ثيودوسيوس الخطاط،٩ وأحبت شقيقته بلشيرية أن يكون لها امرأة أخٍ مطيعة، سهلة الانقياد، فانتقتْ له آثينة ابنة أستاذٍ آثينيٍّ وثنيٍّ، كانت قد أَمَّتِ القسطنطينية؛ للمطالبة بحقها في إرث والدها، فقدمتها بلشيرية لأخيها فأعجبتْه، فنُصِّرت باسم إفذوكية، وتم عقدُ قرانها، فأصبحت الإمبراطورة في السنة ٤٣١.

صداقة فارس

وكان ثيودوسيوس الكبير قد رأى — بثاقب نظره — أن مشكلة القوط وغيرها من مشاكل جبهته الشمالية الغربية تتطلبُ سلمًا دائمًا في الشرق، فاعتدل في مطالبه في أرمينية، وبين الفرات والدجلة، وانبثقتْ صداقةٌ بين الدولتين دامتْ عهدًا طويلًا، ومِمَّا «يُروى»، من هذا القبيل، أَنَّ أركاديوس لَمَّا حضرته الوفاةُ قَلِقَ على ولده الطفل ثيودوسيوس الثاني من دسائس البلاط، فأوصى بِأَنْ تكون الوصايةُ على ابنه ليزدجرد الأول ملك الفرس، ويروى أيضًا أن يزدجرد الأول أنفذ إلى القسطنطينية، بعد وفاة أركاديوس، أَحَدَ أخصَّائه لحماية الملك الطفل،١٠ والواقعُ أن يزدجرد الأول (٣٩٩–٤٢٠) أخلص في صداقته وتَرَفَّعَ عن مضايقة النصارى في بلاده، وسمح لهم في السنة ٤٠٩ أن يرمموا كنائسهم وأن يتعبدوا أحرارًا، وسمح في السنة ٤١٠ بأن ينعقد، في عاصمته طيسفون، مجمعٌ مسيحيٌّ انتخب إسحاق أسقف طيسفون «سلوقية» رئيسًا على الكنسية الفارسية، ومنحه لقب كاثوليكوس، وصلى المجتمعون من أجل سعادة يزدجرد ونصره وتأييده،١١ ولكن حكومة فارس عادت — بضغطٍ من كهنة زرادشت وطبقة النبلاء — إلى اضطهاد المسيحيين في السنة ٤٢١، فانقطعت العلاقاتُ السياسية بين الدولتين، ولجأ الرومانُ إلى العنف، فدحر أردبوروس جيوش ملك الملوك، فسارع بهرام الخامس في السنة ٤٢٢ إلى عقد صلح «يدوم مائة سنة»، وتعهد بهرام برفع الأذى عن المسيحيين، وبأن يطلق لهم حُرية المعتقد والعبادة، فقابله ثيودوسيوس بمثل هذا فيما يتعلق بالزرادشتية في أرضه،١٢ وتَعَاهَدَ الطرفان أيضًا ألا يحضَّ أحدٌ منهما العرب في أرضه على غزو العرب في أرضِ جاره، والإشارة هنا إلى المَناذرة والغساسنة، «وكان المنذر بن النعمان قد غزا الشام مرارًا، وأَكْثَرَ المصائبَ في أهلها، وسبى وغنم، وكان قد جعل معه ملك فارس كتيبتين يُقال لإحداهما دوس وهي لتنوخ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس، فكان يغزو بهما الشام، ومن لم يطعه من العرب.»١٣

وكانت فارس قد دخلت في دورٍ كثرتْ فيه مطامعُ النبلاء والكهنة، وتشعبتْ واشتدت فيه هجماتُ الهون البيض على حدودها الشرقية الشمالية، وكانت بيزنطة قد اعتدلتْ في مطالبها — كما سبق أن أشرنا — فدام السلمُ بين الدولتين ردحًا طويلًا من الزمن.

تحوُّطٌ واحتياطٌ في الداخل

وكان من نتائج هذه اليقظة الوطنية الرومانية — التي سبقت الإشارة إليها — أَنْ انصرف أنثيميوس المدبِّر الوصي إلى العناية باستحكامات المُدُن وقِلاعِها، فرمم عددًا وافرًا منها في شمالي البلقان الغربي، وعلى ضفة الدانوب. وكانت القسطنطينية قد اتسعتْ إلى خارج الأسوار التي أنشأها قسطنطين الكبير، فأقام أنثيميوس سورًا جديدًا في السنة ٤١٣ يدفع عن الأحياء الجديدة شر البرابرة وغيرهم، ثم تصدع هذا السور الجديد بزلزالٍ قويٍّ، فرَمَّمَه قسطنطين المدبِّر، وأنشأ حوله سورًا ثالثًا عزَّزه بخندقٍ واسعٍ عميقٍ، وجاء عهدُ قورس المدبِّر فأنشأ تحصيناتٍ جديدةً مِنْ جهة البحر، وأصبحت القسطنطينية في عهد ثيودوسيوس الثاني تنعم بثلاثة أسوار منيعة، ثبتت في وجه كل عدو حتى سقوط المدينة في السنة ١٤٥٣، فصانت مدنية زاهرة في عُصُور اضطراب وفوضى.١٤

وألغت الحكومة المركزية — في هذا العهد نفسه — ما كان قد تَأَخَّرَ من الأموال الأميرية، فانتعش الفلَّاحُ، والصانع، والتاجر الصغير، وقويتْ معنوياتُهُ، وزاد رضاه، وأُعِيدَ النظرُ في كيفية استيراد الحبوب من مصر إلى العاصمة وتموينها التموين الكافي.

وفي السنة ٤٢٥ أصدر ثيودوسيوس الثاني براءةً بتأسيس معهدٍ علميٍّ مسيحيٍّ عالٍ يُضاهي بأساتذته وطُلَّابه معهدَ آثينة الوثني الذي كان لا يزال يدرس الفلسفة الوثنية، وأنشأ الإمبراطورُ في هذا المعهد الجديد واحدًا وثلاثين كرسيًّا للتعليم، عشرة منها للغة اللاتينية، وعشرة للغراماطيق اليوناني، وخمسة للفصاحة والخطابة اليونانية، وثلاثةٌ للخطابة والفصاحة اللاتينية، وكرسيًّا واحدًا للفلسفة، واثنين للحقوق، وتَقَاطَرَ الطلابُ إلى هذا المعهد من كل صوب، ولا سيما أرمينية، وخصص الإمبراطور صرح الكابيتول لهذه الغاية، وأنفق على الأستاذة مِنْ أموال الخزينة، وحرَّم عليهم إعطاءَ دروسٍ خصوصية،١٥ ويُلاحَظ لهذه المناسبة أن اليونانية نالتْ حظًّا أَوْفَرَ من اللاتينية.
وفي السنة ٤٢٩ التفت المدبِّر أنطيوخوس إلى القانون والقضاء، فرأى أَنَّ ما صدر من القوانين، منذ عهد قسطنطين الكبير، أصبح متفرقًا مبعثرًا، يصعبُ الوصولُ إليه والاطلاعُ عليه، للفصل في الدعاوى، فاقترح تعيينَ لجنةٍ مِنْ كِبَار القُضاة والأساتذة والمحاميين؛ لجمع هذه القوانين وتبويبها، ووافق الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني فأمر بتعيين هذه اللجنة وتابعت اللجنةُ أعمالها ثماني سنوات متتالية، فأنتجت مجموعة ثيودوسيوس الشهيرة،١٦ وظهرتْ هذه المجموعةُ في الشرق في السنة ٤٣٨، وفي الغرب في السنة التالية، وقسمت إلى ستة عشر كتابًا، بعضها في الإدارة المدنية، وبعضها في الشئون العسكرية، وبعضها في الدين، وبعضها في الحقوق. وقسم كل كتاب إلى عدد من الأبواب (العناوين)،١٧ وما صدر من الأبواب، بعد ظهور هذه المجموعة، أُشير إليه بالعبارة: «القوانين المستجدة»،١٨ ومجموعة ثيودوسيوس تُعتبر من أَهَمِّ المراجع الأولية لتاريخ القرنين: الرابع والخامس.١٩

الهون

وكان قد عظم شأن الهون واتسع سلطانهم، فدوَّخوا جنوبي روسية ورومانيا والمجر وغاليسية، وكانوا منذ السنة ٣٩٥ قد بدءوا يتحرشون بالإمبراطورية الشرقية، ففي هذه السنة عبروا القوقاس، وتدفقوا إلى سهول الجزيرة وسورية، فاسترضاهم ثيودوسيوس بأَنْ بذل لهم، في السنة ٤٣٠، عطاءً سنويًّا بلغ قدرُهُ ثلاثمائة وخمسين دينارًا ذهبيًّا، ثم تُوُفي روي مليكهم في السنة ٤٣٤، فخلفه في الحكم ابنا أخيه بليدة وأتيلا، وكان أتيلا كثيرَ المراغب، واسع الأطماع، فطلب إلى حكومة ثيودوسيوس مضاعفة المال السنوي، ومنحه رتبة قائد،٢٠ وغير ذلك من المطالب، فما إن ترددت حكومة ثيودوسيوس في القبول، حتى عبر أتيلا الدانوب بمجموعه في السنة ٤٤١ واحتل قسمًا كبيرًا من شمالي البلقان، فاضطر ثيودوسيوس أن يُجيب سؤل أتيلا، وأن يعقد معه صلحًا في السنة ٤٤٣، فيدفع أربعة آلاف دينار متأخر، وألفين ومائة دينار مالًا سنويًّا. وبقيت تحرِّك أتيلا مطامعُهُ، فقتل أخاه بليدة واستأثر بالسلطة، ثم لم يَطُلِ الوقت، حتى غشيت جموعه البلقان، ووصلت طلائعُهُم إلى ثرموبولي، وهددوا القسطنطينية، وعادت حكومةُ ثيودوسيوس إلى المفاوضة، فأرسلت لهذه الغاية وفدًا مِنْ كِبَار الرجال، بينهم المؤرخ بريسكوس، ونجح الوفدُ فانسحب أتيلا عَبْرَ الدانوب في السنة ٤٤٩، وقد تَمَّ الاتفاقُ بينه وبين حكومة القسطنطينية على مالٍ يُؤَدَّى له كل سنة، واتجهت أنظارُ أتيلا شطر الغرب.٢١

انشقاقٌ في الكنيسة

ولَمَّا أصبحت النصرانيةُ دين الدولة عَظُمَ شأنُ الأساقفة والبطاركة، واشتد التزاحمُ على الكراسي في الكنيسة، فكان يظفر بها — في بعض الأحيان — مَن لم تكتمل فيه جميعُ المؤهلات الروحية، واشتدت المناظرةُ بين البطاركة ورؤساء الأساقفة والأساقفة، فأدت — في بعض الأحيان — إلى التنافُر والتخاصُم، وظهرت الرهبانية وازداد عددُ الرهبان وتدخلوا في هذه المناظرات والمشادات، فأدخلوا فيها حماسة عمياء وكيدًا عظيمًا، وتَقَلَّصَ ظِلُّ الوثنيةِ وانتشر ظِلُّ النصرانية، فاشتركت الغوغاءُ في هذه المخاصمات، وتدخل فيها جمهورُ السِّفلةِ بهياجهم وضجيجهم وخرافاتهم وخزعبلاتهم.

بطريرك القسطنطينية وبطريرك الإسكندرية

وكان ثيوفيلوس بطريرك الإسكندرية (٣٨٥–٤١٢) رجلًا مثقفًا وعالمًا رياضيًّا سخَّر مقدرتَه في الرياضيات لوضع جداولَ مضبوطة تنبئُ بالأزمنة التي يقع فيها عيدُ الفصح، فاكتسب بذلك شهرةً واحترامًا في زمنٍ اشتد فيه الورعُ والتقوى، وكان ثيوفيلوس أديبًا كبيرًا بلغ مِن شغفه بالأدب ورهافة ذوقه فيه مبلغًا كان يستطيع معه أن يستمرئَ حلاوة قطعةٍ أدبيةٍ يكونُ هو نفسه قد حرَّم مطالعتها، وكان أيضًا سياسيًّا محنكًا بالغَ القدرة في تسويةِ أَعْوَصِ المشاكل وأَعْقَدِهَا، ولكنه كان طمَّاعًا مفتونًا بالمال والمجد يدبُّ إليهما بكل ما أُوتي من دهاء وحنكة ومكر.

وشعر ثيوفيلوس بالطاقة الكامنة في رهبانيات مصر وكان قد ازداد عددُ أفرادها حتى بلغ الأُلُوف، فتقرَّب إليهم وتَوَخَّى السيطرةَ عليهم بِأَنْ عمد إلى التظاهر بما ليس فيه، فقال قول أكثريتهم بالتشبيه؛ أي إن لله شكلًا بشريًّا، وراح يقاوم قول أوريجانيوس بشدة وحماسة، وكان هذا من المُنزِّهة علَّم بأن الله لا جسم له فهو لا يُرى ولا يُمكن إدراكه. وبلغ من أمر ثيوفيلوس أَنْ لجأ إلى العُنف فهاجم بالقوة المسلحة ديرًا كان رهبانُهُ ما برحوا متمسكين بتعاليم أوريجانيوس، ففرَّ أربعةٌ من زعماء هؤلاء، عُرفوا فيما بعد بالإخوة الطوال، إلى القسطنطينية والتجئوا إلى بطريركها يوحنا الذهبي الفم.

وكان ثيوفيلوس لا يقر المجمع المسكوني الثاني (٣٨١) على تقديم بطريرك القسطنطينية في الكرامة على سائر البطاركة بعد بطريرك رومة، فأَضْمَرَ السوء ليوحنا الذهبي الفم، ودعا إلى مجمعٍ في خلقيدونية — كما سلف لنا القولُ — واستغل جرأةَ الذهبيِّ الفم ومواقفَه العنيفة مِن بعض رجالِ البلاطِ ونسائهم — ولا سيما إفذوكسيَّة الإمبراطورة — فتوصل بذلك إلى إنزال بطريرك القسطنطينية عن عرشه ودَفْعِه إلى المنفى.

المجمع المسكوني الثالث في إفسس (٤٣١)

ورقي كرسيَّ القسطنطينية في السنة ٤٢٨ البطريرك نسطوريوس، وكانت الكنيسةُ قد علَّمت — منذ البدء — أن المسيح إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كاملٌ، فلما أنكر آريوس عليها الاعتقادَ بأن للكلمة المتأنس طبيعةٌ لاهوتيةٌ أيضًا عقدت المجمع المسكوني الأول، وأقرت كمال لاهوت المخلِّص، وحكمتْ بضلال آريوس وبُطلان تعاليمه. ثم ظهر أبوليناريوس أسقف اللاذقية الذي اشتهر بدفاعه عن النصرانية في أيام يوليانوس الجاحد، وبتمسُّكه بتعاليمِ المجمعِ المسكونيِّ الأول، فعلَّم أن اللاهوت في المسيح قام مقام العقل في الإنسان، وبالتالي أن المسيح كان الكلمة في جسم الإنسان، وأنه لم يكن بإمكانه أن يختبر الضعف البشري ولا أَنْ يكون معرضًا للتجربة، فقررت الكنيسة في مجمعها المسكوني الثاني كمال «ناسوت» المخلِّص. وكان من الطبيعي جدًّا أن تهتم أنطاكية للأمر؛ خصوصًا لأن أبوليناريوس كان أَحَدَ أساقفتها، فأصر رؤساؤُها على كمال طبيعة المسيح البشرية، واشتهر بين هؤلاء ديودوروس الطرسوسي وثيودوروس الموبسوستي.

وكان نسطوريوس سوري الموطن أَنْطَاكِيَّ المذهب، فأَصَرَّ مع أساتذته على كمال طبيعةِ المسيح البشرية، فما إن تَبَوَّأَ الكرسي البطريركي في القسطنطينية حتى بدأ يعلم ضد اتحاد الطبيعتين اتحادًا طبيعيًّا وجوهريًّا، ونهى عن تسمية العذراء بوالدة الإله «ثيوتوكوس» ويستبدلها بالتسمية «والدة المسيح» مدعيًا أنها لم تلد إلهًا بل إنسانًا آلة للاهوت، وأنها «قابلة» الإله لا والدة الإله، وما إِنْ ذهب هذا المذهب حتى هاج الشعبُ في القسطنطينية وتَظَاهَرَ ضده في الشوارع وفي الكنائس، فقابل نسطوريوس هذا التظاهُر بالشدة، وعَقَدَ مجمعًا محليًّا في السنة ٤٢٩، وحرم كل من اعتقد غير تعاليمه.٢٢

وذاعت آراء نسطوريوس وبلغتْ إلى الإسكندرية، فحاربها حبرها البطريرك كيرلُّس (٣٧٦–٤٤٤) في بيانه الفصحي الذي أذاعه سنة ٤٢٩ وأيد فيه الاعتقاد بالطبيعتين، ثم كتب إلى زميله القسطنطيني موضحًا له أن تسمية البتول بوالدة الإله لا يعني أن مبدأ اللاهوت هو منها، بل إِنَّ المولود منها هو إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كامل، وكان نسطوريوس معجبًا بنفسه فقابل كيرلُّس بالانتفاخ والتحقير، فكتب كيرلُّس بهذا الصدد إلى حبر رومة وبطريرك أنطاكية، وإلى عدد مِنْ رؤساءِ الكهنة في الشرق، فعقد حبر رومة مجمعًا محليًّا في السنة ٤٣٠، واعتبر تعليم نسطوريوس غيرَ قويم، وكتب إليه وهدده بقطع العلاقات، وكتب يوحنا بطريرك أنطاكية إلى نسطوريوس أن يبرأ مما اعتراه من وهم بشأن تسمية العذراء بوالدة الإله. وذِكْره أن هذه التسمية وردت لكثيرين من مشاهير المعلمين والآباء، وكتب أكاكيوس رئيس أساقفة حلب، وكان شيخًا أناف على المائة سنة، إلى كيرلُّس يرجو منه أَنْ «يجتهد في إطفاء نار الخصومة ضنًّا براحة الكنيسة.»

وجاهر بعضُ رُهبان القسطنطينية بمعارضة بطريركهم، فطردهم البطريرك واضطهدهم، فكتبوا إلى ثيودوسيوس الثاني يطلبون عقد مجمع مسكوني، وطلب نسطوريوس نفسه عقد مجمع مسكوني، فقبل الإمبراطور ودعا إلى مجمع مسكوني في إفسس في السنة ٤٣١ بعد العنصرة، ولَبَّى الدعوة مائتا أسقف بينهم كيرلُّس بطريرك الإسكندرية ونسطوريوس بطريرك القسطنطينية ويوبيناليوس أسقف أوروشليم، وتخلف يوحنا بطريرك أنطاكية وممثلو بابا رومة، والتأم المجمعُ برئاسة كيرلُّس بطريرك الإسكندرية. ولكن نسطوريوس أَضْرَبَ عن الاشتراك فحكم المجمع عليه بالقطع.

ثم تُليت الرسائل التي كان قد وجهها إلى نسطوريوس كلٌّ من كيرلُّس بطريرك الإسكندرية وكليستينوس بابا رومة، كما تلي قرار مجمع رومة فصدَّقها المجمع، وبعد خمسة أيام وصل بطريرك أنطاكية ومعه اثنان وثلاثون أسقفًا، فَأَنْبَأَهُ المجمع بقطع نسطوريوس، فتكدَّر واعتبر عمل المجمع تَسَرُّعًا ونسب إلى كيرلُّس الاستبداد، ثم عقد مجمعًا مؤلفًا من نحو أربعين أسقفًا وحكم فيه بالقطع على كيرلُّس وعلى سائر الأساقفة الذين قبلوا قرار المجمع بلا فحص ولا روية.

ثم حضر نُوَّاب بابا رومة الأسقفان أركاذيوس وبروياكتوس والقس فيلبس، فاجتمع مجمع كيرلُّس مرة ثانية وتُليت فيه رسائلُ البابا وأمضى فيها نُوَّابُهُ الأعمالَ السابقة، ودُعي بطريرك أنطاكية إلى الاجتماع، فلم يحضر، فحكم المجمع بالقطع عليه وعلى ثلاثة وثلاثين أسقفًا معه، فتَحَرَّكَ الإمبراطورُ لما رأى من هذه البلبلة فطلب وفدًا عن كل فئة، فلما حضر الوفدان وسمع دعوى كُلٍّ منهما؛ أمر بإعادة كُلٍّ من كيرلُّس وأسقف إفسس إلى منصبه، ونصَّب على كرسي القسطنطينية أحدَ أعضاء وفد كيرلُّس واسمه مكسيميانوس، وأمر برجوع الأساقفة إلى أوطانهم.

وثبَّت المجمع الثالث دستور الإيمان الذي كان تثبيتُهُ قد سبق في المجمعين الأول والثاني، وحرَّر أسقفية قبرص من الخضوع لبطريرك أنطاكية، فأصبحتْ كنيسةً مستقلةً منذ ذلك الحين.

ثم دعا البطريرك مكسيميانوس كُلًّا من بطريرك الإسكندرية وبطريرك أنطاكية إلى نيقوميذية وحدهما، فحضرا وتَسَالَمَا بعد مدة، ونُفي نسطوريوس إلى مصر فاغتاله أحدُ رُهبانها في السنة ٤٥١.

المجمعُ المسكوني الرابع في خلقيدونية (٤٥١)

وكما تطرَّف نسطوريوس معارضًا تعاليمَ أبوليناريوس فقال بكمال طبيعة الناسوت؛ أي بكمال طبيعة المسيح البشرية، فإن أوطيخة Eutyches أحد الآباء في القسطنطينية قال بكمال طبيعة اللاهوت معارضًا مذهب آريوس، فعلَّم أن المسيح المخلص طبيعةٌ واحدةٌ، وأن جسده بمحض كونه جسد إلهٍ ليس مساويًا لجسدنا في الجوهر؛ لأن الطبيعةَ البشرية اندثرتْ باتحادها مع الطبيعة الإلهية، فانبرى ثيودوروس أسقف قورش يحمل على أوطيخة، وانبرى ديوسقوروس بطريرك الإسكندرية يحمل على ثيودوروس ويهيِّج رُهبان القسطنطينية، وكتب إلى ثيودوسيوس الثاني أن الكنيسة في الشرق قد أصبحتْ كُلُّهَا نسطورية، فجمع فلابيانوس بطريرك القسطنطينية مجمعًا محليًّا ودعا إليه أوطيخة فلم يمتثل، وكان يحركه الخصي خريسافيوس الذي كان قد حقد على البطريرك فلابيانوس؛ لأن خريسافيوس طلب منه مالًا فأرسل البطريرك إليه آنية الكنيسة.

وعقد المجمعُ جلسةً سابعةً ودعا أوطيخة، فحضر هذه المرة ومعه خريسافيوس الخصي وبعض الرهبان وزمرة من الحرس الإمبراطوري، فسئل أوطيخة: هل تعترف بأن المسيح مساوٍ للآب في جوهر اللاهوت ومساوٍ لأمه في جوهر الناسوت؟ فأجاب: إن المسيح من طبيعتين قبل الاتحاد وإنه طبيعةٌ واحدةٌ بعد الاتحاد، فحكم المجمع المحلي عليه، وقطعه من كل رتبة كهنوتية ومن الشركة ومن رئاسة ديره، وكتب أوطيخة للبابا في رومة يتظلم، فكتب البابا لاوون الكبير إلى بطريرك القسطنطينية يستوضحُهُ عما جرى، فأرسل فلابيانوس بطريرك القسطنطينية نص أعمال المجمع الذي حكم على أوطيخة، فعقد البابا مجمعًا في رومة وفحص الأوراق التي أرسلها إليه فلابيانوس البطريرك فوافق عليها وأعلن ذلك للإمبراطور.

ثم كتب خريسافيوس الخصي إلى ديوسقوروس بطريرك الإسكندرية يستنهضه لمساعدة أوطيخة، فعقد ديوسقوروس مجمعًا محليًّا وحلَّ أوطيخة من القطع، وطلب إلى الإمبراطور عقد مجمع مسكوني، ففعل الإمبراطور والْتَأَمَ مجمع مسكوني في إفسس في السنة ٤٤٩ برئاسة ديوسقوروس بطريرك الإسكندرية، فتليت رسالة الإمبراطور، ثم طلب وفد رومة أن تتلى رسالة البابا إلى البطريرك فلابيانوس، فرفض ديوسقوروس، واشتد الجدل، ففر بعض الأساقفة — ومنهم نواب البابا — واستولى الرعبُ على الباقين فأمضوا على بياض؛ ولذا سُمي هذا المجمع — فيما بعد: المجمع اللصوصي.

ووقع الخلاف بين ثيودوسيوس الثاني وزوجته إفذوكيَّة فعادت شقيقتُهُ بلشيرية إلى القصر، وطُرد خريسافيوس الخصي من القصر ثم أُعدم، وكان البطريرك فلابيانوس قد نُفي وتُوُفي في منفاه، فحصل عنه الرضى، ونقلت جثته إلى القسطنطينية — بكل إكرام — وسقط ثيودوسيوس عن جواده وتُوُفي في السنة ٤٥٠ وخلفه مرقيانوس، وكتب بابا رومة وبطريركها لاوون الكبير إلى مرقيانوس بوجوب عقد مجمع مسكوني جديد، فوافق مرقيانوس وأمر بذلك فاجتمع الأساقفة في مدينة نيقية في السنة ٤٥١، ومرض بعضهم واضطر للمعالجة، ولم يستطعْ مرقيانوس نفسه أن يُبارح العاصمة، فأمر بنقل المجمع إلى خلقيدونية في جوارٍ من القسطنطينية.

وعقد المجمع جلسته الأولى في الثامن من تشرين الأول سنة ٤٥١ في كنيسة القديسة إِفيمية في خلقيدونية، وقد اشترك في أعماله ٦٣٠ أسقفًا بينهم نواب رومة أسقفان وقسان والبطريرك القسطنطيني أناطوليوس والبطريرك الإسكندري ديوسقوروس والبطريرك الأنطاكي مكسيموس وأسقف أوروشليم يوبيناليوس، ووضع الإنجيل في منتصف حلقة المجمع، وتصدَّر وجهاء الدولة وأعيانها، وفي هذه الجلسة الأُولى أَقَرَّ المجمعُ أن كل ما قد جرى في إفسس إنما كان جَبْرًا وظلمًا وأن ديوسقوروس ومَنْ ذهب مذهبه مستحق القطع، وفي الجلسة الثانية تُليت رسالةُ كيرلُّس البطريرك الإسكندري إلى نسطوريوس ورسالة البابا إلى فلابيانوس بطريرك القسطنطينية.

وفي الجلسة الثالثة قرأ رئيسُ وفد رومة الأسف باسكاسينوس Paschasinus نَصَّ الحرم الذي كان قد أصدره البابا ضد ديوسقوروس، فوافق عليه المجمع، وفي الجلستين الرابعة والخامسة دار البحث حول العقيدة، وبعد جدال طويل وافق المجمعُ على النص التالي: «إننا نعلِّم جميعنا تعليمًا واحدًا تابعين الآباء القديسين، ونعترف بابنٍ واحدٍ، هو نفسه ربنا يسوع المسيح، وهو نفسه كاملٌ بحسب الناسوت، إلهٌ حقيقيٌّ وإنسانٌ حقيقيٌّ، وهو نفسه من نفسٍ واحدةٍ وجسدٍ مساوٍ للآب في جوهر اللاهوت، وهو نفسه مساوٍ لنا في جوهر الناسوت، مماثلٌ لنا في كُلِّ شيء ما عدا الخطيئة، مولودٌ من الآب قبل الدهور بحسب اللاهوت، وهو نفسُهُ في آخِرِ الأيام مولودٌ من مريم العذراء والدة الإله بحسب الناسوت لأجلنا ولأجل خلاصنا، ومعروفٌ هو نفسه مسيحًا وابنًا وربًّا ووحيدًا واحدًا بطبيعتين بلا اختلاط ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال، مِن غير أن يُنفى فرق الطبائع بسبب الاتحاد بل إن خاصة كل واحدة من الطبيعتين ما زالتْ محفوظةً، تُؤَلِّفان كلتاهما شخصًا واحدًا وأقنومًا واحدًا لا مقسومًا ولا مجزءًا إلى شخصين، بل هو ابنٌ ووحيدٌ واحدٌ، هو نفسه الله الكلمة الرب يسوع المسيح كما تنبأ عنه الأنبياءُ منذ البدء، وكما علمنا الرب يسوع المسيح نفسه وكما سلمنا دستور الآباء.»

وفي هذا المجمع نفسه رفع أسقف صور المتروبوليت فوتيوس شكوى على أسقف بيروت المتروبوليت افسطاثيوس الذي كان من أنصار ديوسقوروس، مفاد هذه الشكوى أنه بعدما أَقْدَمَ ثيودوسيوس على ترقية افسطاثيوس من أسقف خاضع لمتروبوليت صور إلى رتبة متروبوليت مستقل، قد وهب بطريرك القسطنطينية أناطوليوس لافسطاثيوس هذا أسقفيات بيبلوس «جبيل» وبوتريس «البترون» وطرابلس وأورثوسياس وعكار واندارادوس وجميعها أسقفيات خاضعة لمتروبوليت صور، فلام المجمع البطريرك القسطنطيني على هذا التَّعَدِّي، وحكم بإعادة تلك الأسقفيات إلى متروبوليت صور.

وفي الجلسة السادسة حضر مرقيانوس، وخطب محرضًا على السلام واستقامة الرأي، ثم تُلِيَ التحديد فأمضاه الآباء وصدَّقه الإمبراطور، وفي الجلسة السابعة سلخت فلسطين الأولى والثانية والثالثة عن أنطاكية وضُمت إلى أوروشليم، وتصالح البطريركان الأنطاكي والأوروشليمي وأعيدت فينيقية وبلاد العرب إلى البطريركية الأنطاكية، وعرف أسقف أوروشليم بطريركًا لأول مرة، وفي الجلسة الخامسة عشرة سَنَّ المجمع ثلاثين قانونًا وقررت رتب الأسقفيات الرئيسة ومن يقدم ويؤخر من البطاركة، وأثبت في قوانين المجمع أَنْ تكون لأسقف القسطنطينية «رومة الجديدة» المنزلة نفسها التي لأسقف رومة القديمة، ولكن نواب البابا اعترضوا على هذا القرار وأظهروا عدم الرضا.

١  Eunap., Fragm., 62, 63.
٢  Alaric Balta.
٣  Synesius, Patrologia Graeca, LXVI, Col. 1092–1097.
٤  Bury, Later Rom. Emp. I, 127–129.
٥  Fitzgerald, A., Essays and Hymns of Synesius of Cyrene, (1930) I, 134–139; notes, 206–209.
٦  راجعْ ترجمة رسائله وأشعاره إلى الإنكليزية، وقد أُشير إليها آنفًا، والإشارة هنا هي إلى Osiris وإلى Typhon.
٧  وأفضل ما صُنِّفَ في يوحنا الذهبي الفم كتاب الأب خريسوستموس بوَّر البنديكتيني الذي ظهر في مونشن في السنة ١٩٢٩-١٩٣٠: Baur, Chrysostomus, Der Heilige Johannes Chrysostomus und seine Zeit.
راجع أيضًا ترجمته وترجمة مؤلفاته إلى الإفرنسية في كتاب: Jeannin, M., Oeuvres Complètes de Saint Jean Chrysostome.
٨  من عظة له يوم عيد الفصح.
٩  Brehier, L., Les Empereurs Byzantins dans leur Vie Privée, Rev. Hist. (1940), 203-204.
١٠  Bury, Later Rom. Emp. II, 2. وفي فازيلايف، ص٩٦ «ترجمة إنكليزية»: أن بعض الثقاة يشكون في أصالة المرجع الأولي الذي يروي هذا الخبر (Vita Porphyrii)، ولكنه هو يرى أن ليس في هذه الرواية ما لا يقبلهُ العقلُ، وبالتالي لا يجوز رفضها، وهو قولٌ ضعيفٌ، من حيث قواعد المصطلح؛ إذ الأصل في التأريخ الاتهام لا براءة الذمة.
١١  Chabot, J. B., Notice Mss. Bibl. Nationale, 1902, 258.
١٢  Christensen, A., l’Iran sous les Sassanides, 280-281.
١٣  الكامل لابن الأثير، الطبعة المنيرية، ج١، ص٢٣٣.
١٤  Chronicon Paschale, I, 588; Meyer-Plath, B., und Schneider, A. M. Die Landmauer von Konstantinopel, Berlin, 1943.
١٥  Codex Theodosianus, XIV, 9, 3; Fuchs, F., Die Hoheren Schulen von Konstantinopel im Mittelalter, Berlin, 1926.
١٦  Codex Theodosianus.
١٧  tituli.
١٨  leges novellae.
١٩  Seeck, O., Die Quellen des Codex Theodosianus, Stuttgart, 1919.
٢٠  magister militum.
٢١  Diehl et Marçais, Monde Oriental, 14–18.
وفيه مقتطفاتٌ طويلةٌ من كلام المؤرخ المعاصر بريسكوس Priscos.
٢٢  Socrates, Hist. Eccl. 7: 29, 32.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤