مقدمة

تتفق حياة يوريبيديس وأشدُّ العصور جهادًا في تاريخ أثينا وأعظمها انتصارًا. ليس الجهاد والانتصار في القتال فحَسْب، بل وفي الفكر أيضًا كان عصرًا زاخرًا بالمشروعات الجريئة في كلٍّ من الغزو الماديِّ والتقدم في الفنون والشعر والتأملات الفلسفية. وُلد هذا الشاعر في سنة ٤٨٠ق.م. وهي السنة التي حدَثَت فيها موقعتا ثيرموبولاي Thermopylae وسالاميس Salamis. وكانت أثينا إذ ذاك في أوجِ مجدها وقوتها وزادت جمالًا عامًا بعد عام. وكانت عبقريةُ يوريبيديس عندئذٍ في بداية تكوينها. ظلَّ يوريبيديس يكتب أكثرَ من أربعين عامًا قبل عرض تراجيدية الحملة الصقلِّية، وبموته Felix apportunitate mortis، أعفي من العلم بنتيجة أرجينوساي Arginusae المخجلة، وكارثة أيجوسبوتامي Aegospotami الفظيعة، وهي آخر آلام أثينا المهلكة. مات يوريبيديس قبل نزول هذه المِحَن المفجِعة بسنةٍ واحدة.
أما أبوه فهو نيسار خيديس Mnesarchides وأمَّا أمُّه فهي كليتو Kleito. ولا بد أنْ كان والداه ثريَّين لأن ابنهما لم يمتلك عقاراتٍ واسعةً فحسب (دفع نفقات تجهيز سفينةٍ حربية مرة على الأقل، وكان سفيرًا تِجاريًّا أو قُنصلًا في ماغنيسيا Magnesia، وكلٌّ من هذين المنصبين رفيع)، بل ويمتلكُ مكتبةً أيضًا، وكانت المكتباتُ في ذلك الوقت عظيمةَ القيمة. ولا بد أن كانت أسرتُه عريقةَ الأَرُومة؛ إذ سجَّل التاريخ أنه اشترك وهو صبيٌّ في بعضِ أعياد أبولو، التي لا يحضرها أيُّ فردٍ وضيعِ الأصل.
ظهر يوريبيديس في المجتلد الدرامي وقتَ أن كان يؤمُّه المتنافسون، ووقتَ أن كان من العسير على أيِّ كاتبٍ جديد أن يجدَ فيه منصبًا. وكان أيسخولوس Aeschylus وقتَئذٍ قد مات منذ فترة وجيزة بعد أن ظهَر أمام الجمهور مدةَ خمسة وأربعين عامًا، وكان سوفوكليس Sophocles في المرتبة الأولى لمدة عشر سنوات، وكتب مدةَ خمسين سنةً بعد ذلك، بينما كان غيره من المنسيِّين الآن، مُجيدين بحيث يستطيعون انتزاعَ الفوز من هؤلاء، في نصف المباريات الدرامية السنوية، على الأقل. وفضلًا عن هذا، لم يَقْنَع هذا الشاعر الجديد بالامتياز في المجال الذي وضعه سابقوه، واتَّسم بطابَع الاستحسان العام. كان نبوغه طريفًا، فاندفع وراءه في غيرِ ما خوف؛ ولذا صار مجددًا في معالجة المسائل الدينية والأخلاقية التي قدَّمَتها الأساطير القديمة. فأضفى عليها طابَعًا أدبيًّا وفنيًّا لكي تُلائم العرضَ فوق منصَّة المسرح. ولما كانت الطَّرافة ذاتَ أثرٍ مُعارض على حكَّام الأدب الرسميِّين، ولما كانت مؤلفاتُه تسير في عكس اتجاه كثير من المعارضات، التي بعضها مُخلص في اعتراضه وبعضها غير مخلصٍ؛١ فمن المدهش حقًّا أن تنال مسرحياته الجائزة الأولى خمس مرات فحسب في خمسين سنة.

بيد أن عدد هذه الانتصارات الرسميةِ لا يُعتبر قائمة بشهرته الحقيقية وباستيلائه على القلوب، ليس قلوبَ مواطنيه فقط، بل وقلوب كلِّ من كان يتكلم لغةَ بلده وقد رُوي كيف خضع ألدُّ أعداء أثينا لسِحره في مناسبتَين، حتى إنهم، إكرامًا لخاطره، أبقَوا على مُواطنيه المهزومين وعلى أثينا التي استولَوا عليها، وجنَّبوهم ويلاتِ الحرب وآخر إذلالٍ للمغلوبين. ظل يوريبيديس بعد موته، طالما بقيت الإغريقيةُ لغةً حية، ظل أشهرُ عظماء أساتذةِ التراجيديا الثلاثة، كما ظل أكثرَهم نفوذًا. وقد تلا أفولَ نجمه في القرن التاسع عشر، ردُّ فعلٍ اعترف له فيه بأنه يُمثل إحدى الدراسات الممتعة في الأدب كلِّه.

غادر يوريبيديس أثينا وهو في الثالثة والسبعين من عمره، كما غادر أعداءه الصاخبين، فنزل ضيفًا مُكرَمًا في بلاط ملك مقدونيا. وإذ لم تُقلقه الدسائس الخبيثة ولا الاضطرابات السياسية، ولا الأخطاء الجِسام التي تعرَّضَت لها أثينا في ذلك الوقت، شرَع يكتب بحرِّية وبسرعةٍ وبجدٍّ وبتفكيرٍ عميقٍ وعظمةِ تعبير قلَّما أُتيحت له من قبل.

مات شاعرُنا هذا في عام ٤٠٦ق.م. فلبسَت أثينا ثيابَ الحِداد عليه وهي في ثورةٍ من الإعجاب والحب والندم. ومن بعضِ ثمار استجمامه في مقدونيا، أربعُ مسرحيات عُرِضت في أثينا بعد موته بفترة وجيزة، وتُوِّجَت بالجائزة الأولى، رغم محاولة أريستوفانيس Aristophanes، في كوميديته «الضفادع»، قبل ذلك ببضعة أشهر، أن يحطَّ من قدر عبقريته.

أما خصائص يوريبيديس بالمقارنة مع أخَوَيه في الدراما فيمكن تلخيصها فيما يلى:

تناول أيسخولوس المبادئَ العُظمى، ولا سيما ما يختصُّ منها بالعقاب الذي تُنزله الآلهة بالبشر، وبالتمادي في الخطيئة على أنهما وصمةٌ وبائية لا يمكن القضاء عليها. يؤمن أيسخولوس بذلك ويرتجف ذعرًا. أما سوفوكليس فيُصور الأخلاقَ العُظمى؛ يتجاهل متابعة القدَر للبشر في عنادٍ كما يتجاهل قوة الشر الدائمة، ويعتقد أن «الإنسان هو الإنسان وهو المسيطرُ على مصيره». وأما يوريبيديس فيستعرض المسائلَ الأخلاقية الكبرى؛ فيُحلل الطبيعة البشرية وغرائزَها وعواطفها وبواعثها، وينطق بصيحة الروح البشرية ضدَّ طغيان القُوى الخارقة للطبيعة وأنانية الإنسان وقسوته، والعبء الساحق للبيئة. فيتساءل، لأنه: «لا يُصدر حكمه بعمًى».

كتب يوريبيديس أكثرَ من تسعين مسرحية، لم يُحفظ منها سِوى أسماءِ إحدى وثمانين، وبقيَت منها تسعَ عشرة — عبارة عن ثماني عشرة تراجيدية، ودراما ساتورية واحدة هي «الكوكلوبس Cyclops»،٢ وقد عُرِضت أولى مسرحياته «بنات بيلياس Pelias»٣ (مفقودة) في سنة ٤٥٥ق.م. ويمكن ترتيب المسرحيات الباقية تبعًا لأحدث المصادرِ الموثوق بها، بالترتيب التالي حسَب تواريخ عرضها. والتواريخ الموضوعة بين الأقواس تخمينية:
(١) ريسوس Rhesus (وربما كانت أقدمَها). (٢) الكوكلوبس. (٣) ألكيستيس Alcestis سنة ٤٣٨. (٤) ميديا Medea سنة ٤٣١. (٥) أولاد هرقل (سنة ٤٢٩–٤٢٧). (٦) هيبولوثوس Hippolytus سنة ٤٢٨. (٧) أندروماخي Andromache سنة ٤٣٠–٤٢٤). (٨) هيكوبا Hecuba (سنة ٤٢٥). (٩) المتضرعات (سنة ٤٢١). (١٠) جنون هرقل (سنة ٤٢٣–٤٢٠). (١١) إيون Ion (٤١٩–٤١٦). (١٢) بنات طروادة سنة ٤١٥. (١٣) إلكترا Electra (سنة ٤١٣). (١٤) إيفيجينيا Iphigenia في تاوريكا Taurica (سنة ٤١٤–٤١٢). (١٥) هيلين Helen سنة ٤١٢. (١٦) العذارى الفينيقيات (سنة ٤١١–٤٠٩). (١٧) أوريستيس Orestes سنة ٤٠٨. (١٨) الباكخانال Bacchauals سنة ٤٠٥. (١٩) إيفيجينيا في أوليس Aulis سنة ٤٠٥.

وتُرتَّب هذه المسرحيات في ثلاثِ مجموعات أساسية تبعًا لعلاقتها:

(١) بقصة الحرب الطروادية، (٢) بأساطير طيبة Thebes، (٣) بأساطير أثينا. وقصة ألكيستيس قصة تسالية قديمة. ومع ذلك، يجب على القارئ أن يعلم أن سلسلة مسرحيات الحرب الطروادية لا تُمثل قصةً مرتبطة الحلقات، وبعض تفاصيلها غيرُ مناسب … أُخرجَت تلك المسرحيات في تواريخَ متباعدة جدًّا، وليس بترتيب حوادثِ القصة، وتُمثل أحيانًا (كما في هيكوبا، وبنات طروادة، وهياين) مواقفَ متضاربة؛ لأن الشاعر لم يتبع نفس الأسطورة طَوال مجموعة المسرحيات.
يمكن اعتبار النصِّ الإغريقي الذي نقلنا عنه هذه المسرحية تابعًا لمذاهب الفلاسفة عديمي المدارس، ومَبْنيًّا تبعًا لما يبدو، بعد البحث الدقيق، أنه أضبطُ ما وصل إليه الناشرون والنقاد السابقون. وقد ذكرَت بعضُ الحواشي في حالاتٍ قلائلَ ولأسباب خاصةٍ. واتَّبع ترتيب نوك Nauck للكوروسات مع قليلٍ من الاستثناءات.

•••

كان يوريبيديس كاتبًا واقعيًّا له خيالُ الشعراء. لقد جعل الناسَ يُفكرون وجعَلهم يُواجهون المشاكل التي يَسرُّهم التفكيرُ فيها. قصَّ عليهم الحكايات القديمة، وكتب عن قُدامى الآلهة، فصَحَا سامعوه، على الأقل، من نشوةِ إيمانهم بالآلهة.

كان يوريبيديس ثائرًا فكريًّا، مُحبًّا للتجديد في أكثرَ من ناحية؛ إذ تعبر فلسفته حقبةَ ألفَي عام وتربط بين عصره وعصرنا. ومع ذلك فبينما كان النقاش على أشُدِّه حول يوريبيديس، اضطُرَّ جمهوره إلى التأمل في إنتاج ذهنه الحادِّ والإصغاء إلى شعره المتدفق. وكان ذلك المجدد إبَّان عصره أشهرَ شاعر في بلاد الإغريق طُرًّا، وكان قبل موته على يقينٍ من أن شهرته لن تموت.

•••

قلنا إن يوريبيديس وُلد حوالي سنة ٤٨٠ق.م. في العام الذي استعَرَت فيه نارُ موقعة سالاميس البحريةِ العظيمة التي التقى فيها الأغارقةُ بالأسطول القوي لإكسيركسيس Xerxes ملك فارس، ومزَّقوه شرَّ مُمزَّق. ويقول التاريخ إن ذلك العامَ شهد أحداثًا جِسامًا لثلاثةٍ من أعظم كُتَّاب الأغارقة؛ فقد حارب أيسخولوس في سالاميس، ورقص سوفوكليس في كوروس الصِّبيان، ووُلد يوريبيديس، كلُّ ذلك في نفس السنة التي وقعَت فيها تلك المعركة. ويقول أيضًا إن والد يوريبيديس كان محتالًا ومُفلسًا، وإن والدته كانت بائعةَ خَضراوات تبيع الخضر الفاسدة. بيد أن هذه الروايةَ ليست سوى تشهيرٍ كاذبٍ اختلقه النقادُ المعاصرون، وافتراءٍ ابتدَعه الشعراء الهزليون، الذين اتخذوا من يوريبيديس موضوعًا لسخريتهم … ولكننا نعرف أن والده نيسارخيديس كان من أسرةٍ عريقة المَحتِد ميسورةِ الحال، وأنه كان يَشغَل منصبًا وراثيًّا في معبد أبولو بمدينة فلوا Phlya. أما والدته فكانت بعيدةً كلَّ البعد عن بيع الخضر إذ كانت من أصلٍ نبيل.

كذلك زوجته لم تَسْلَم من أمثال تلك القصص والمفترَيات؛ فقيل إن زوجته الأولى كانت تُدعى «الخنزيرة» وإنها كانت اسمًا على مسمًّى؛ ولذلك طلَّقها ليتزوَّج بأخرى تَفضُلُها. غير أن هذه الأخيرةَ لم تكن خيرًا من سابقتها، فطلَّقها أيضًا. ومع ذلك، فيُمكننا إهمال هذه القصص وغيرِها؛ لأن منشأها الوهمُ والحقد.

درَس يوريبيديس الرسم في حَداثة سنِّه، وكان ينوي الاستمرارَ في ذلك الفن. إلا أنه تركه قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين، وتعلَّق بالشعر وكتابةِ التراجيديات.

أنتج يوريبيديس أولى تمثيلياته، «بنات بيلياس» في سنة ٤٥٥ق.م. فأيقن الشعب الإغريقي منذ تلك اللحظة أنَّ نجمًا جديدًا قد احتلَّ مكانًا مرموقًا في سماء الأدب. أدرَكوا أن ذلك الشاعر الجديد قد جاء بأفكارٍ جديدة وأسلوب مباشر أخَّاذ، دون الاستعانة بالأساليب البلاغية أو الطرق المسرحية العنيفة. لقد هبَّ تيار قويٌّ من الواقعية على المسرح الأتيكي للتقاليد والقصص التقليدية.

كانت هناك متعاتٌ في هذا الشاعر؛ كان يستخدم حِيَلًا فنية جديدة لعرض رواياته المثيرة، وأبدى أقصى ما في مُكْنتِه في معالجة مواقفه الدرامية، كما استخدم أرقى وأروعَ الشعر والبراعة الفنية الفائقة في أجملِ رواياته التي سيطرَت على إعجابنا في كل منظرٍ ابتدَعه.

يمكن تكوين فكرةٍ ما عن مقدرته الفنية وبراعته، إذا تأمَّلنا في رواية تيليفوس Telephus٤ وكيفية تصميمه لها ومعالجتِه لأحداثها. فقد أثار رجَّةً عندما أنتجَها في عام ٤٣٨ق.م. وهذه الروايةُ الآن في عالم المفقودات، غير أنه بقي لنا منها بعضُ كسرات.
جرح أخيل Achilles تيليفوس ملك موزيا Mysia وهو يُقاتل من أجل الطرواديِّين ضد الأغارقة. وقد تنبَّأ له الوحيُ بأن لا شيء يشفيه غير رمح أخيل الذي أحدَثه. وعلى هذا خرَج يطلب ذلك العلاجَ الوحيد. فتنكَّر في زيِّ متسولٍ، أعرج (بسبب جرحه)، وطفق يَعْرج خلال أرض العدو. وأخيرًا وصل ذلك الشحَّاذ إلى مكانٍ كان يجتمعُ فيه قادةُ الإغريق. فتكلَّم في المجلس، وضُرِب نظيرَ وقاحته، ولكنه على أية حالٍ نال بُغْيته. بعد ذلك استقبَلتْه كلوتيمنسترا Clytemnestra زوجة أجاممنون Agamemnon، ورحَّبت به كلاجئ. فما كان منه إلا أن أمسكَ طفلها أوريستيس Orestes، وأخبرهم بحقيقة شخصيته، وهدَّدهم بقتلِ الطفل إن تقدَّمَ نحوه أحد. ثم احتفظ بالطفل وديعة، وأملى عليهم شروطَه، فعُولج بالرمح المطلوب.

اشتهرَت تمثيلية تيليفوس بغضِّ النظر عمَّا فيها من وقائعَ مثيرة؛ إذ كان بها بدعةٌ أدهشَت أساتذةَ المسرح الأتيكي؛ لأن الشحاذ ظهر على المسرح في أسمالٍ حقيقية. ومن الصعب في عصرنا هذا أن نُدرك الأثرَ الذي أحدَثَته هذه الواقعيةُ في مسرحٍ محافظ، كان تمثيلُ الروايات فيه جزءًا من المهرجان الديني.

كانت واقعية التمثيل وواقعية مُعالجة القصة من النقط التي اتخذَها أريستوفانيس أساسًا لمهاجمته يوريبيديس، وكان أريستوفانيس هذا أعظمَ الشعراء الهزليِّين الأتيكيين وكان أعنفَ نقاد يوريبيديس. كانت أسمالُ الشحاذ وأهدابُ فلسفة يوريبيديس غِبطةً وذخيرة لأريستوفانيس الذي وجَّهَ إليه أيضًا تهمةَ كراهية النساء. ففي كوميديته ثيسموفوريازوساي Thesmophoriazusae، يُصوِّر نساء الإغريق يُدبِّرن مؤامرةً للانتقام من يوريبيديس؛ لاتخاذه شخصياتِ مسرحياته من النساء الشريرات.
غير أن شخصيات يورييبديس النسائيةَ مهما تمادَتْ بهنَّ العواطفُ إلى سفك الدماء والانتقام، لم يكنَّ ثقيلاتِ الظل، بل كان فيهن جاذبيةٌ في ناحيةٍ من النواحي. إذ كان يدرس شخصياته النسائيةَ جيدًا ويَصوغُهن بعناية؛ فمن أمثلة بطَلاته: ألكيستيس التي بذَلَت روحَها من أجل زوجها، وإيفيجينيا، الضحية العذراء التي كانت قدوةً في سلوكها. ومع كلٍّ فقد كنَّ من لحم ودم. وحتى فايدرا Phaedra التي كانت سببًا في قتل هيبولوتوس، وميديا التي كانت مولَعةً بإراقة الدماء، صيغتا بحيث تنالان عطفَنا عليهما، وانحيازَنا إلى جانبهما.

كانت عاطفةُ يوريبيديس نحو السيدات جزءًا من شعوره وفَهمه للطبقة الدُّنيا. كان يعطف على العبيد والفلاحين والفقراء، أكثرَ من عطفه على رؤسائهم الذين كانت حروبُهم وإمعانهم في الانتقام مادةً للتراجيديا الراقية.

وفي الأساطير التي كانت مادةً عامة لتصميم التراجيديات، قامت معالجة يوريبيديس لأحداث مسرحياته بعجائبَ جديدة وأحدَثَت رِيبةً جديدةً في أذهان الناس. ألم تكن تلك الانتقاماتُ الدموية القديمة التي تغنَّى بها هوميروس وأيسخولوس في ملاحم البطولات، مجردَ قصص دنيئةٍ للمكر والخيانة؟ وأولئك الآلهة الخرافيُّون، الذين ارتفعت مَعابدهم فوق المدينة، أيمكن تبجيلُهم حقيقةً بالرغم من منازعاتهم وخِداعهم غير اللائقة بالآلهة؟ هكذا كانت المسائلُ التي يُثيرها يوريبيديس في تراجيدياته.

كذلك شمل تفكيرُه التاريخَ المضطرب لتلك العصور. كان يوريبيديس ديموقراطيًّا، وكان يمقتُ زعماءَ الحكوماتِ الطغاةَ ورؤساءَ المصالح الحكومية المستبدِّين، ومَن تحجَّرَت قلوبهم، والقادةَ الأنانيِّين الذين جلَبوا معهم الحربَ والويلات. وإنا لنرى آثارَ الظلَمة والفظائع التي نتجَت عن نشوب الحرب مع إسبرطة في روايتَيه «اللاجئون» و«النساء الطرواديات».

ليس بوُسعنا أن نقول إلا القليلَ غيرَ الكافي عن حياة يوريبيديس وهو يؤلِّف التراجيديات التي خلَّدَت اسمه. كان يعيش من ضيعته في سالاميس، وكان يكتب شعره في كهفٍ مُواجهٍ للبحر. كان رجلًا رزينًا صارمًا، لم يختلط بمُواطنيه إلا بأقلِّ ما يمكن.

وإنها لَصورة تنطبق على جَمال مؤلفاته العنيف: أن يَحبس الشاعر نفسَه وحيدًا في مغارة، بعيدًا عن ضجيج المدن وصَخبِها، لا يصل إلى سمعَيه غيرُ خَرير البحر يتمشَّى مع الموسيقى الدائرة في رأسه. بيد أن تلك العُزلة زادت في تُهمة عداوته للبشرية والآلهة، وشذوذِه الفظِّ في تحاشيه الاتصالَ بزملائه.

ولما كان يوريبيديس مُواطنًا أثينيًّا، فلم يستطع أن يفصل نفسَه عن الحياة العامة. فأدَّى الخدمةَ في الجيش، وذات مرةٍ قام بخدمةٍ للدولة على حسابه الخاص، كما شَغَل «قنصل» لمغنيسيا.

تمثَّلتْ حياته في رواياته التي أسَرَت العالم وروَّعَته. إذ كان تجديفُه على الآلهة يجلب عليه شتائمَ الشعب الأثيني باستمرار، بينما نال المعجبين في جميع أنحاء العالم المتمديِن؛ لجمال شِعره وقوته.

نال الأغارقة الذين أُسِروا في الحملة المشئومة على سورا كوزة Syracuse، حُريتَهم وتخلصوا من العبودية نظيرَ إلقائهم بعضَ فقرات من روايات يوريبيديس. وكاد أهلُ مدينة أبديرا Abdera أن يخرجوا عن طَورِهم عندما شاهدوا روايتَه «أندروميدا Andromeda»٥ فكانوا يسيرون في الطرقات يتغنَّون بأشعاره، ولا سيما الأغانيَ ذات النغمة الفردية في أندروميدا، ويُلقون فقراتٍ من خُطبة بيرسيوس Perseus، واحدًا وراء الآخر، حتى امتلأت المدينةُ بالشعراء المأسَويِّين (التراجيديين) في فترة أسبوع واحد، كلهم مُمتقعو الوجوهِ نَحيلو الأجسام، يصيحون بأعلى أصواتهم: «محبوبٌ أنت، أيها الملك، أكثر من جميع الآلهة والبشر»، وهكذا.

بيد أن حالة التوتر في أثينا طغَت على كل ذلك التقريظ. فقد كانت الحربُ الطويلة الأمَدِ تستنزف دمَ الحياة من المدينة، ويبدو أن يوريبيديس كان يُظهر شخصيته خلال كلِّ تلك الظلال الدَّكْناء، إنه مُنطوٍ على نفسه، وحيدٌ في مَغارته، يمقتُ تجَّار الحرب ورؤساءَ الحكومات؛ ولا يزال يكتب مسرحياته التي توخز سامعيه، وتجبرهم في نفس الوقت على الاستماع.

ولكن بلغ السيلُ الزُّبَى، وغدَا تهكُّمُ الكوميديين والرَّعاع عليه أكثرَ مما يُطيق، فاضطُرَّ أخيرًا إلى الرحيل عن مسقط رأسه إلى بلاط أحدِ ملوك البرابرة.

بعد أن أنتج ذلك الرجلُ العجوز روايته «أوريستيس» في عام ٤٠٨ق.م. غادر أثينا إلى ما شاء الله، كان في الثانية والسبعين من عمره، ولا بد أنه كان يُدرك عندما هجَرَها، أنه لن يرى بعد ذلك مدينتَه التي حارب من أجلها وأحبَّها.

رحَّب بمَقْدَمِه أرخيلاوس Archelaus٦ ملكُ مقدونيا وأحسنَ استقباله. ويبدو أن يوريبيديس كان يأمُل في حياة جديدة في ذلك البلد. فيقول الأستاذ جلبرت مري، الذي يجب أن يقرأ كلُّ فرد ترجمتَه الإنجليزية اللطيفةَ ليوريبيديس: «مات بعد وصوله إلى مقدونيا بحوالي ثمانيةَ عشَر شهرًا، غير أن الطمأنينة والراحة اللتَين لقِيَهما في بيئته الجديدة، تركَت أثرَهما في مؤلَّفاته. فهناك تجديدٌ فذٌّ وجمالٌ فريد في الروايتَين «باكخاي Bacchae» و«إيفيجينيا في أوليس» اللتين تركهما عند وفاته غيرَ تامَّتَين».
كان ليوريبيديس أصدقاءُ في البلاط الملكي؛ منهم أجاثون Agathon الكاتب الروائي، وتيموثيوس Timotheus الموسيقي. ويبدو أن حياته عادت لذيذةً من جديد، ولكن نهايته كانت على الأبواب.
تقول الروايات القديمة إن كلاب الملك مزَّقَت جسد يوريبيديس إربًا، وقد أطلقَها عليه حاسِدوه من رجال البلاط، وربما تكون تلك الروايةُ قد خلَطَت بينه وبين بانثيوس Pantheus أحدِ شخصيات تمثيليَّته «الباكخاي»، إذ يبدو من المؤكد أن وفاةَ ذلك الشاعر لم تكن إثْرَ كارثة، كما أنها لم تكن مفجعةً.

ترك يوريبيديس ثلاثةَ أبناء، نسج أحدُهم على مِنوال أبيه، وأخرج المسرحياتِ التي كانت باقيةً بعد وفاته.

ورغم اتِّساع شُهرته لم تحظَ تمثيلياته بأكاليلِ الغار على المسرح في بدء إنتاجها؛ لأنه لم يَفُز بغير أربعِ جوائز أُولى في مسابقات التراجيديا طَوال حياته، وجائزة واحدة بعد وفاته.

ومع ذلك فمن اللحظة التي بدأ يكتب فيها وشُهرته راسخةٌ لا تتزعزع، وإنها لعظيمة اليوم بقدرِ عظَمتها في أيِّ وقت خلال الأربعة والعشرين قرنًا المنصرمةِ بعد وفاته.

وتصلح ملاحظة فيليمون Philemon الرائعة لأن تُكتَب على ضريحه: «لو كنتُ واثقًا من أن الموتى يَعُون بعد مماتهم لشنَقتُ نفسي كي أرى يوريبيديس».
١  يقول الأستاذ موري Murray: «ظلت جماعةٌ من كُتَّاب الكوميديا دائبةً على إغرائه بغير هوادة. ولا شكَّ في أنه كان يتعرَّض أيضًا لإغراء فئةٍ كبيرةٍ من ذَوي العقيدة الصحيحة (الأرثوذكس) ومن عامة الكُتَّاب.»
٢  هم أبناء أورانوس، كانوا ثلاثةَ عمالقةٍ لكلِّ واحدٍ عينٌ واحدةٌ، وهم أقوياء للغاية أُوتوا مهارةً إلهية عظيمة.
٣  ابن بوسايدون، إله البحر. تزوج أنا كسيبيا فأنجبَت له أكاستوس وألكيستيس، وبينما هو يحتلُّ العرشَ أخبره الوحيُ أن يَحْذر رجلًا بنعلٍ واحد. فلما جاءه جاسون بعد عشرين عامًا لابسًا جِلدَ نمرٍ ونعلًا واحدًا، تذكر بيلياس النبوءةَ وأعدَّ العُدة للخلاص منه.
٤  ابن هرقل. تقول بعض الروايات إنه تزوج ابنةَ برياموس، وتقول رواياتٌ أخرى إنه تزوَّج هييرا التي لا يعرف شيئًا عن والدَيها وأنجب منها ولدًا. كان على تيليفوس أن يهزم الإغريق في إحدى غزَواتهم فأفلح في هذا رغم الجرح الشديد الذي أصابه من أخيل.
٥  ابنة ملك إيثوبيا وكاسيوبيا. ادَّعت كاسيوبيا أنها أجملُ النيرايديس فعاقبَها بوسايدون بأنْ أرسل وحشًا بحريًّا أخذ يُخرب بلادهم، وبناءً على وحي أمون لم يهدأ الوحش إلَّا بعد أن قَدِمَت أندروميدا ليبتلعها الوحش.
٦  ابن تيمينوس، طرده إخوتُه من أرجوس وهرَب إلى الملك كسيوس في مقدونيا الذي وعدَه بأن يعتليَ العرش من بعدِه، وبأن يُزوِّجه ابنتَه إنْ هو انتصر على الأعداء الذين كانوا يُهددونه في ذلك الوقت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤