الفصل التاسع

الحوار

(١) الاختلاف الطبيعي والخلاف المصطنع

يفرق القرآن الكريم بين الاختلاف الطبيعي بين السماء والأرض والليل والنهار والرياح والحياة والموت والفلك والدواب والأنعام والزرع والثمرات والماء والشراب وأخيرًا الألسنة والألوان، والخلاف المصطنع المذموم نتيحة للشقاق والشك والتعصب والحزبية والجهل وضيق الأفق. الأول سُنة الله في الكون، والثاني نتيجة لفعل الإنسان وأهوائه وانفعالاته. وهناك آية جامعة لمعظم أنواع الاختلاف الطبيعي، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. ثم يفصل هذا الاختلاف الطبيعي في آيات أخرى تجمع بين الاختلاف الكوني، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. فالكون بمجراته وكواكبه ونجومه مختلف، والليل والنهار بتوزيع الضوء بينهما وأساليب الحياة مختلفان. والماء يربط بين السماء والأرض ليحيي الأرض بعد موتها. وكذلك الرياح لتدفع الفلك ليجري في البحر، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. فالكون في حركة دائبة. والأرض تنبت الزرع مختلف الألوان، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ. وذلك كله بفضل الماء الذي يحيل الأرض الهامدة إلى حياة، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا، الأخضر والأصفر، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا. ويتشابك الزرع ويتعانق النخيل فيصبح كالجنة، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ. والجبال مختلف ألوانها بين الأبيض والأحمر، ما عليها من ثلج وما فيها من حديد، وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا. والناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها كذلك، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ. يخرج من بطونها ألبان فيها شفاء للناس، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وأهم من ذلك كله اختلاف البشر في ألوانهم وألسنتهم، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ. هذا هو الاختلاف الطبيعي الممدوح والذي يستحيل معه صب الخلق في قالب واحد، والناس في شكل واحد.

أما الاختلاف المصطنع غير الطبيعي فهو الشقاق والتعصب والتحزب الناتج عن الانفعالات والأهواء البشرية، وهو اختلاف مذموم طارئ. ينشأ من تضارب المصالح، وهو ضد الوحدة ويؤدي إلى التفرق والتشتت والتبعثر والتشرذم والضياع. وهي سمات المواقف البشرية، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا. البشر دائمًا في شقاق، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. والحقيقة الواضحة لا خلاف فيها مثل يوم الميعاد، عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. ولا يزال الاختلاف بين الناس إلا من رحمهم الله، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ. والعجيب أن يختلف الناس بعد ما يجيئهم من الحق على تأويله، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وهو نموذج أهل الكتاب الذين اختلفوا على الحق بعد ما جاءهم، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. ويصل حد الاختلاف إلى الشقاق بل وإلى الحرب، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. لقد اختلف النصارى على ما جاءهم من الحق وعلى طبيعة السيد المسيح. واختلف اليهود على كتاب موسى، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ. اختلفوا على شريعته، إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وتفرقوا شيعًا وأحزابًا وفرقًا وطوائف، فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. ويقع الاختلاف بعد ما يأتيهم من العلم، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وبعد ما يأتيهم من البينات، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وهو درس لكل أمة أتت بعدهم، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ. الأصل في البشر الاتفاق والوحدة ثم يختلفون على المصالح والأهواء، وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا. ولا سبيل إلى الاتفاق إلا العودة إلى الكتاب، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ. ولا سبيل إلى معرفة الحق من جديد إلا بالاحتكام إلى الكتاب، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. ويقص القرآن على الأمم السابقة، اليهود والنصارى، ما كانوا يختلفون فيه، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

فعلى الفلسطينيين أن يختاروا أي اختلاف يريدون. الاختلاف الطبيعي الممدوح أم الاختلاف المصطنع المرذول؟ الأول اختلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية، وهو طبيعي بين البشر والتقارب فيه ممكن. فالنظر إلى الشيء ممكن من وجهات متعددة. ومجموعها يكوِّن نظرة كلية بين فتح وحماس، بين السلطة والمقاومة، بين منظمة التحرير والفصائل التي لم تنضم إليها. والثاني خلاف على الحق وكيفية التعامل مع العدو المحتل، الاستسلام أم المقاومة، المساومة على الحق أم التمسك به، وهو تعارض في الرأي لا سبيل إلى المصالحة بينهما. الأول اختلاف محمود يمكن أن ينتهي إلى اتفاق. أما الثاني فهو خلاف ممقوت يؤدي إلى ضياع الحق وسفك الدماء والحرب الأهلية والانقسام الوطني.

(٢) الحوار

لا يوجد كتاب سماوي أبرز قيمة الحوار ومارسه مثل القرآن الكريم. فقد حاور الخصوم، الكافر، والمشرك، والمنافق، وكل الخصوم دون رفضهم أو استبعادهم، بل باعتبارهم نماذج إنسانية لغياب الإيمان، باعتبارهم اختيارات يمكن تبديلها عن اقتناع. فالحقيقة متعددة الجوانب. يمكن الجمع بينها بالحوار، والوصول إلى اتفاق دون حسم مسبق أي الجوانب أحق من الجوانب الأخرى، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، ودون ممارسة للعنف بل بالحوار وبيان أي المواقف أصح وأنسب وأقرب إلى العقل والمصلحة.

وقد أصبحت كلمة الحوار شائعة في الغرب المعاصر مدعيًا أنه ثقافة الحوار بمد يده إلى غيره من الثقافات خاصة الثقافة الإسلامية تحت مسميات عديدة، حوار الأديان، الحوار الإسلامي المسيحي، حوار الحضارات، حوار الثقافات، حوار الشمال والجنوب، حوار الشرق والغرب. وعادة ما تكون اليد العليا للغرب، والطرف الآخر هو الأضعف والأكثر خجلًا لاتهامه بالعنف والتعصب والرفض والتكفير والتخوين والإرهاب. وذلك تخفيفًا للتوتر بين الإسلام والغرب، وتطهرًا من العداء التاريخي منذ الحروب الصليبية حتى الاستعمار الحديث والاستعمار الجديد، وزيادة هجرة العرب والمسلمين إلى أوروبا حتى أصبح الإسلام هو الدين الثاني فيها بعد المسيحية وقبل اليهودية، واستدعاء للحظات الوفاق التاريخي منذ عصر الترجمة الأول من اليونانية إلى العربية في القرن الثاني للهجرة والتي كان بفضلها نشأة الفلسفة الإسلامية حتى عصر الترجمة الثاني من الحضارة العربية إلى الحضارة الغربية، فنشأت العصور الحديثة في الغرب منذ العصور الوسطى المتأخرة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر حتى عصر العودة إلى الآداب القديمة في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في الخامس عشر، وعصر النهضة في السادس عشر قبل أن تبدأ العقلانية، «أنا أفكر فأنا إذن موجود» في السابع عشر، وتستمر في التنوير في الثامن عشر، وفي الفكر العلمي في التاسع عشر حتى يقع الغرب في أزمة القرن العشرين. وقد ظهر الوفاق ثانيًا في عصر الترجمة الثالث في القرن التاسع عشر الأوروبي منذ الطهطاوي وترجمة فلسفة التنوير التي على أساسها قامت النهضة العربية الحديثة.

وقد ورد لفظ «الحوار» في القرآن ثماني مرات، ثلاث بالمعنى الحقيقي أي النقاش الحر، وخمس بالمعنى المجازي الذي يطلق على حواريي السيد المسيح الذين آمنوا به بعد حواره لهم واقتناعهم به مثل الصحابة.

والمعاني الثلاثة للحوار بالمعنى الحقيقي هي موضوعات الحوار مرتين، وطرفا الحوار مرة. فموضوع الحوار الأول هو المادة، المال والبنون، الثروة والسلطة، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. فقد ظن أحد طرفي الحوار على الإطلاق دون تعيينه بل باعتباره نموذجًا للمتحاور أنه أكثر قوة من الطرف الآخر بالمال والعشيرة وهي أمور دنيوية خالصة. وقد يكون الفقير اليتيم أكثر فضلًا من صاحب المال الوفير والنفر الكثير. فالكم لا يعطي فضلًا على الكيف. وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والمعنى الثاني هو الفضل المعنوي، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ. فكيف يكفر الإنسان بالخالق الذي خلقه من تراب؟ من يفعل ذلك فقد أنكر البداهة والفطرة والحس السليم. المعنى الأول الفضل في الدنيا، والمعنى الثاني الفضل في الآخرة. الأول في المادة، والثاني في الروح. الأول في البدن والثاني في النفس. والمعنى الثالث هما طرفا الحوار مثل الزوجين، قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. فالطرف الأضعف يبحث عن طرف ثالث لينصره. والمرأة هي الطرف الأضعف أمام الرجل تشتكي إلى الله بعدما لم ينفع جدالها مع زوجها للدفاع عن حقوقها.

والمعنى المجازي هم الحواريون الذين حاوروا السيد المسيح في نبوته، وناقشوه في رسالته، واقتنعوا به، ونصروه وناصروه، قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ. ويكون ذلك اعترافًا منهم أو ردًّا على سؤال السيد المسيح، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ. وقد يكون ذلك اقتناعًا منهم أو إيحاءً من الله لهم، وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا. ولم يؤمن الحواريون إلا بعد برهان عيني ودليل حسي، إنزال مائدة من السماء، إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً منَ السَّمَاءِ. فلما أنزلها الله عليهم آمنوا به. والدليل الحسي ربما يكون أكثر اقناعًا لليهود لطبيعتهم الحسية في عبادة العجل من الدليل العقلي.

الحوار إذن ممكن على المستويين المادي والمعنوي وبحضور طرف ثالث عدل. فالحوار بين العرب والغرب ممكن ماديًّا إذا ما دعم الغرب خطط التنمية العربية، وناصرهم في القضية الفلسطينية، وحسَّن صورة الإسلام في أجهزة إعلامه وفي كتاباته. هنا تصبح الضفتان في البحر الأبيض المتوسط طرفين في الحوار، متفاهمين. كل طرف مقتنع بوجهة نظر الطرف الآخر ومصالحه. وربما تكون أمريكا الطرف الثالث العدل إذا أرادت دون أن تنحاز إلى الغرب أو روسيا بعد أن تنتقل من التعاطف المعنوي إلى التعاطف المادي حتى يكتمل الحوار.

(٣) الصلح خير

في هذا الوقت الذي ينعقد فيه مؤتمر المصالحة الوطنية الفلسطينية بالقاهرة من أجل تجاوز الخلاف بين فتح وحماس، بين السلطة الفلسطينية والمقاومة حفاظًا على وحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة حكومة يمينية قادمة أو حكومة وحدة وطنية يسيطر عليها اليمين أو اليمين الوسط، يبرز موضوع الصلح في القرآن الكريم كمصدر رئيسي للثقافة الوطنية السياسية القادرة على تدعيم المصالحة والوفاق الوطني.

فقد ورد مصدر «صلح» مائة وثمانين مرة، أي إن الصلح موضوع رئيسي وجوهري في القرآن وفي حياة الناس. ورد اثنتي عشرة مرة فقط بمعنى المصالحة بين الأطراف، وهو المقصود لنزع الخلاف بين الناس. والمرات الباقية بمعنى فعل الخير والإصلاح في الأرض والصلاح والصالحات. فالصلح بين الناس جزء من منظور أعم وهو الإصلاح في الأرض.

وقد ورد لفظ «صلح» بمعنى المصالحة بستة معانٍ:
  • الأول: أن الصلح في حد ذاته خير بصرف النظر عن الصلح بين مَن مِن الأطراف المتنازعة، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ. شح الأنفس وعدم الرغبة في الحلول الوسط والتصلب والمطالبة بالحد الأعلى حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بالطرف الآخر هو السبب في منع الصلح. يحتاج الصلح إلى كرم النفس، وطيبة الخاطر، وحسن الطوية، وسماحة القلب.
  • والمعنى الثاني: الصلح بين الزوجين. فالصلح في الحياة الخاصة سابق على الصلح في الحياة العامة، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا. فالقادر على الصلح في الداخل قادر على المصالحة في الخارج، وهو ما يقرره المحللون النفسيون كذلك، وهو أهون الضررين من الصراع والنزاع والخلاف والحرب الخفية أو المعلنة بين الطرفين؛ لذلك كان الطلاق أبغض الحلال عند الله. وكان رد الزوجة خير من طلاقها، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا. والله يوفق بين المتصالحين، إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا.
  • والمعنى الثالث: هو الصلح بين الوصي والموصى عليه، وهو أيضًا صلح داخل الأسرة ليس بين الزوجين هذه المرة بل بين الوصي والموصى عليه، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. فقد تتعارض المصالح بين الطرفين نظرًا لاحتمال سيادة الأهواء والميول والمصالح الشخصية على الوصي طمعًا في أموال وممتلكات الموصى عليه أو طمعًا فيه هو إذا كانت أنثى؛ لذلك حلل تعدد الزوجات حتى لا يحكر الوصي على الموصي عليها فلا يزوجها طمعًا في مالها، وهو سبب لم يعد له وجود اليوم. هناك المجلس الحسبي ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني للقيام بهذا الدور بدلًا من الوصي.
  • والمعنى الرابع: الصلح بين الإخوة أي بين أي جماعة بينهم رابطة الدم أو المكان أو المصلحة أو الفكر، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. فالاتفاق في النسب أو في الجيرة أو في الهدف أو في المصلحة يوجب الصلح. فلا قتال بين الإخوة ولا نزاع بينهم. والمؤمنون إخوة بينهم رابطة الإيمان الواحد.
  • والمعنى الخامس: الصلح بين الناس جميعًا. فبينهم رابطة الإنسانية أو البشرية. وماؤهم حرام فيما بينهم، أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ. فالسلام بين البشر هو الأساس، والصراع هو الاستثناء. وما يربط الناس بعضهم ببعض إما صدقة أي فعل الخير، أو النصح أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإصلاح بين الناس، إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. فالناس تجتمع على الخير والتناصح وليس على الشر والعدوان.
  • والمعنى السادس: وهو الأهم، الصلح بين المتقاتلين ساعة الفتنة، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا. وإن رجع فريق إلى الحق أو كلاهما فالصلح واجب، فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا. فإصلاح ذات البين أقرب إلى التقوى والمصلحة العامة، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ. دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم حرام عليهم. ولإن مد قابيل يده لقتل هابيل ما قدم هابيل يده لقتل أخيه حتى يبوء الأخ القاتل بالعدوان وبحرمة دم أخيه. فدم فتح وحماس حرام بعضهما على بعض، والشقاق بينهما لا يجوز لأن النزاع شر. وهما كالزوجين في الأسرة الفلسطينية الواحدة. وفي يوم من الأيام كانت فتح هي المنظمة الكبرى وحماس هي الصغرى. ثم تبدلت الأحوال وأصبحت حماس هي الكبرى لها الأغلبية في المجلس التشريعي وفي الشارع الفلسطيني. وهما إخوة. الصلح بينهما واجب. يتقاتلون، والقتال داخل الأسرة الواحدة لا يجوز.

الصلح بين الأطراف جزء من الإصلاح العام نتيجة للإيمان والتقوى والعفو. ومن هناك أتت الأعمال الصالحة، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ضد الفساد والإفساد في الأرض وبين الناس. لذلك سُمِّي أحد الأنبياء صالح والجنة مآل الصالحين. والإصلاح سنة الأنبياء. والله يعلم المفسد من المصلح؛ لذلك مهما اختلفت فتح وحماس ومهما تصارعتا على السلطة وتباعدتا في المنظور فلا يجوز النزاع ولا الخصام بينهما. والصلح خير بأمر القرآن. الخلاف في الوسيلة لا يمنع من الاتفاق في الغاية. والاختلاف في الطريقة لا يمنع من الاتفاق في الهدف. والعدو الصهيوني نموذج في الاختلاف والاتفاق، اختلاف نتائج الانتخابات بين الحزبين الكبيرين وإمكانية قيام حكومة ائتلافية دون اقتتال بينهما. فهل يكون الفلسطينيون أقل التزامًا بمبادئ الإسلام من العدو الصهيوني؟

(٤) هل يجوز الخصام؟

إذا كان الصلح خير فهل يجوز الخصام؟ لا يجوز الاختصام في الحق. فبالرغم من تعددية المنظور إلا أن ذلك لا ينفي موضوعية الحق. ولما كان الله حق فلا يجوز الاختصام فيه كما لا يجوز الاختصام في الوطن ولا في مصالح الناس، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. وكيف يختصم عند الله وقد أرسل الحق واضحًا من خلال رسله، قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. فهناك حقيقة موضوعية بين الخصيمين خارجة عنهما يمكن الاحتكام إليها. فالذات بلا موضوع هوائية انفعالية نسبية. يوم القيامة أيضًا حقيقة موضوعية بين المختصمين، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ. فبعد الموت تظهر الحقيقة الموضوعية التي لا خلاف عليها خارج وجهات النظر والأهواء والرغبات والميول. وأحيانًا تسمى الحقيقة الموضوعية «الملأ الأعلى»، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ. وقد تأخذ الناس الصيحة الواحدة يوم القيامة وهم ما زالوا يختصمون، مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فالواقع أبلغ من كل خصام. والعدوان على غزة أبلغ من كل خلاف بين فتح وحماس، بين السلطة الوطنية في الضفة، وحكومة القطاع في غزة.

والشاهد على ذلك تاريخ الأنبياء، إبراهيم ومريم وصالح وداود. فقد اختصم آل مريم أيهم يكفلها، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. وقد عرف الرسول الخبر من الوحي ولم يكن حاضرًا بينهم. كذلك اختصم قوم إبراهيم في الجنة، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ، تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. كما اختصم قوم صالح في دعوته لعبادة الله، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ. وقد تسور خصمان المحراب وسألوا داود أن يفصل بينهما إذ سأل أخ وله تسع وتسعون نعجة أخاه أن يعطيه نعجته الواحدة حتى يكون له كل شيء ولا يكون لأخيه أي شيء تعبيرًا عن الصراع بين من يملكون ومن لا يملكون، وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، وهو بغي أحدهما على الآخر بلا أدنى شك، خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ. وقد حكم داود بينهما بالحق، شيمة الأنبياء. ويظل أهل النار يتخاصمون حتى يفاجئُوا بها، إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، جاحدين بها، ناكرين لها، وهم محروقون بها.

والخصام نتيجة للجدل. والجدل إنكار للحق، مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. والجدل قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا. ولو عرف الإنسان كيف خُلق من نطفة لما اختصم في الحق ولما جادل فيه، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، بل إنه لا يرى أنه خُلق من أضعف شيء وهي النطفة ويجادل في أعظم شيء وهو الحق، أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.

وقد يكون الخصم عارفًا بالحق بقلبه ولكنه يجادل بلسانه طمعًا في سلطة أو منصب أو ريادة أو قيادة، وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ. وإن كان ما في القلب على اللسان لما نشأ الخصام. ينشأ الخصام من ازدواجية المواقف وتغييرها، ومعرفة الحق وعدم الاعتراف به. ومع ذلك يكون الخصم أحيانًا غير مبين. يكشف تلجلجه في الحق عن مخالفته لله. ويسيء التعبير عنه، أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ. فالبلاغة طبيعية في التعبير عن الحق، ومصطنعة في التعبير عن الباطل. ومع ذلك يؤخذ الخائن باللين، والمخالف للحق بالرفق لأنه يعود إلى الحق في يوم من الأيام، وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا.

ومِن ثَمَّ، فالخصام بين فتح وحماس إنكار للحق الموضوعي بينهما وهي حقوق شعب فلسطين، وجدال فيها. وكلاهما يعلمها ويعلم الطريق إلى نيلها. إنما هو خلاف بين الواقع والمثال، بين العاجل والآجل، بين الممكن والصعب وليس المستحيل، بين الدرع والرمح، بين القليل والكثير، بين الجزئي والكلي، بين مطالب النفس ومطالب الآخر. وكلاهما صحيح. الحوار خير من القطيعة، والمصالحة خير من الخصام، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. ولذلك وسائل عديدة. بقاء المقاومة من جانب الثورة والحكومة من جانب الدولة، بقاء منظمة التحرير الفلسطينية بعد إعادة بنائها المرجعية الأولى والأخيرة، والسلطة الوطنية أي الحكومة للمفاوضات والأخذ والعطاء وفقًا للظروف الداخلية والمحلية والدولية.

لا يجوز إذن الاختصام في الحق، ولا في الحقائق الموضوعية ولا في الموضوعات البديهية المرئية رؤية العين. لا يتخاصم إلا أهل النار الذين عميت عيونهم عن الحق، إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ. الخصام بغي أحد الطرفين على الآخر أو كلا الطرفين بعضهم على بعض في حاجة إلى طرف ثالث مثل مصر لتحقيق المصالحة والحكم بينهما بالحق. وإذا كان الإنسان بطبيعته خصيمًا فإنه بطبيعته أيضًا راغبًا في المصالحة. فالصلح خير، ويحتاج إلى تغليب الخير على الخصام، والوحدة على التفرق، واليقين على الجدل.

(٥) وجادلهم بالتي هي أحسن

من المفاهيم المعرفية في القرآن الكريم مع الدليل والبرهان والحوار والخصومة مفهوم الجدل، وهو أحد أقسام علم المنطق، منطق الظن مع الخطابة والمغالطة والشعر في مقابل منطق اليقين، المقولات والعبارة والقياس والبرهان.

وقد ذُكر «الجدل» في القرآن الكريم تسعًا وعشرين مرة، خمسة وعشرين فعلًا، أي إن الجدل فعل وممارسة وشكل من أشكال الحوار، وأربع مرات فقط اسمًا في صيغتين: جدل وجدال، أي إن الجدل ليس جوهرًا أو موضوعًا نظريًّا له قواعد منطقية كما هو الحال في الجدل في علم المنطق.

واستُعمل اللفظ في اتجاهين. الأول الجدل المذموم وهو الأغلب ست وعشرين مرة. والجدل الممدوح ثلاث مرات فقط. فالاتجاه الغالب على معاني الجدل في القرآن هو الرفض. ويتم تحليل هذه المعاني إما في وقت الجدل، الدنيا والآخرة أو المجادلين، الأنبياء مع أقوامهم، والكذابين، والكفار، واليهود، والإنسان في حد ذاته أو الشيطان أو موضوع الجدل الحق أم العلم أم الباطل أم في أسماء الله أو آياته أو في الله ذاته.

فإذا كان الجدال ممكنًا في الحياة الدنيا فإنه غير ممكن في الحياة الأخرى، هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا. وإذا كان التمويه في الدنيا ممكنًا فكيف يكون ممكنًا في الآخرة حيث تنكشف الحقائق؟ فلا يستطيع الإنسان أن يجادل عن نفسه في الآخرة، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. فالعمل هو المقياس وليس الجدال. والمسئولية فردية ولا يستطيع أحد أن يجادل عن أحد يوم القيامة، فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا. فلا أحد يكون وكيلًا عن أحد.

ويكون الجدل أساسًا بين الأنبياء وأقوامهم. فقد جادل نوح قومه وأكثر الجدل، قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا مما يدل على رغبة الأنبياء في إقناع أقوامهم. كما جادل إبراهيم الملائكة الذين بشروه بإسحاق ويعقوب في قوم لوط، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ. فوظيفة النبي الإقناع والاقتناع، كما جادل قوم محمد الرسول دون أن يرد عليهم فالله أعلم بما يعملون لأن الجدل عقيم لا يأتي بنتيجة، فالجدال إصرار على العناد، وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ.

ويكون الجدال مع الكذابين الذين يختانون أنفسهم، وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، ومع الكفار، حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ لأن الجدال يتطلب إمكانية الإقناع والتحول إلى الحق وهو ما لا يتوافر عند الكافر. وقد يكون الجدل من الشيطان، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ لأن الشيطان رمز لقلب الحق باطلًا والتمويه والخداع. والإنسان بطبيعته مجادل، وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا. ويدفع الجدل الذين كفروا باتهام الحق بأنه مجرد أساطير الأولين، حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.

والجدل لا يكون عن جهل بل عن علم. فالجدل عن جهل مجرد صراخ والجدل عن علم قادر على الوصول إلى الحقيقة، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ. وإن كان المجادل غير ذي علم فإن البديل هو الشيطان أي الأهواء والمصالح والرغبات والميول الشخصية، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ. ولا يكون جدلًا في الباطل بل في الحق. فالجدل في الباطل سفسطة ومغالطة وتمويه وخداع، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ. الجدال في الباطل لدحض الحق، وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. الجدال لا يكون في الحق لأنه يكون عنادًا، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ وليس بعد بيان الحق إلا التسليم.

أما موضوعات الجدل فهي الموضوعات التي لا جدل فيها مثل الله وأسماء الله وآيات الله. وهي موضوعات البداهة والتسليم. فالجدال لا يكون في الله وهو قادر على إرسال الصواعق على من يجادل فيه، وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ. ولا يكون في أسماء خاوية من أي مضمون مثل أسماء الآلهة المزيفة، أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ. ولا يمكن وصف الآلهة الحق بأنه موضوع للجدل في حين أن تعدد الآلهة خير، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلًا. ولا جدال في آيات الله لأنها بينة واضحة مشاهدة، حسية مرئية، مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا والجدال فيها يكون دون سلطان ومعرفة وقوة، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ. وهم لا عقل لهم ولا ذكاء، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ. ولا ينتهون بجدلهم إلى شيء، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ.

أما الجدل الحسن فهو الجدل مع أهل الكتاب، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. بل هناك أمر إلهي بجدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن بسماحة وقبول ومحبة، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. ولا جدال ولا رفث ولا فسوق في الحج، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ لأن الجدل يورث الضغائن في القلوب. وجدال المرأة مع زوجها لأخذ حقوقها وتحررها منه يسمعه الله وينتصر إليه، قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا. فمن حق المرأة المعاشرة وعدم مظاهرتها.

الجدل كما هو الحال في علم المنطق جزء من منطق الظن مع الخطابة والسفسطة والشعر في حين أن البرهان جزء من منطق اليقين مع المقولات والعبارة والقياس. الأول مرفوض، والثاني مقبول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤