بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن جعل سلطان المحبة مستوليًا على قلوب العشاق، فتركها أهدافًا لقسيّ الواجب ونبال الأحداث. وحكم فيهم سيوف الألحاظ ورماح القدود. فتركتهم صرعى في ميادين الغرام فلا تقبل لهم شهود، وخلع على الملاح من ملابس الجمال أفخر الحلل، فخضع لهم في دولة الحسن أرباب الممالك والدول. ونفَّذ أحكام العيون في القلوب نفوذ السهام، وجعل مورد الثغر عذبًا والمورد العذب كثير الزحام.
وصلاة وسلامًا على نبي جاءنا من خلاصة عدنان، صلاة دائمة ما سجعت الوُرْق على الأغصان.
(أما بعد) فلما كان فن الموسيقى من أجلِّ الفنون مذهبًا، وأعذبها موردًا ومشربًا، وأمزجها للطباع السليمة. وأروضها للنفوس الكريمة. كيف لا وهو مغناطيس القلوب. وشرح حال المحب للمحبوب. ومذهب الأتراح، وغذاء الأرواح.
ولذا عُني به أئمة السلف، وأساتذة الخلف، كابن سينا والفارابي والفازاني، وأبي الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني، وألفوا فيه كتبًا قيمة كثيرة. ومؤلفات شهيرة، يضيق مجال الفكر عن استقرائها. ويقصر طول العمر عن استقصائها. فأولئك هم القوم الفائزون بالقدح المعلى. والشرف الذي لا يبيد ولا يبلى. مضت على ذهابهم أحقاب، وذكرهم باق على الألسنة مخلد في كل كتاب.
وحيث إني ممن منَّ الله عليهم بالانتظام في ذلك العقد الفاخر، تمسكت بأذيال الماضين وإن جئت في الآخر. وقنعت من الزمان هذه المنحة، وأرحت نفسي من التطلع إلى غيرها فالعمر وإن طال كلمحة.
لأن من كانت عنايته بتدبير جسمه، لا بتدبير روحه التي هي مناط شرفه وكرمه. فقد تجاوز حد العرفان. فإن المرء بالروح لا بالجسم إنسان.
مارست هذا الفن علمًا وعملاً على أكبر أساتذته قديمًا. واتخذته نديمًا، وبلوت فيه الألحان والأوزان. وميزت منه ما شان وزان، فألفيت أن أكثر الكتب الحديثة لا تشفي غلة. ولا تبري علة؛ ولذا وجهت الهمة نحو التكلم فيه، بما عسى أن أكون من جملة واصفيه، مع ما رُميت به من اختلال أحوالي. وتعسر مطالبي وآمالي. واقتسام أمري بين مثبط للهمة وحاسد. ومنكر للفضل وجاحد. وعدو في قلبه مرض. أو معاند لا يستقيم له غرض. فيجرحونني بظهر الغيب، وأنا غير شاهد. ويحرفون وجه كلامي إلى جهة غرضهم الفاسد. سيما وقد استقبلت زماني وهذا الفن قد خبت ناره. وزوت أزهاره. ودجت مطالعه. وخوى طالعه. ولم يبق بيد أهله إلا صبابة. والخطأ فيه أكثر من الإصابة. ورغباتهم في معرفة قواعد الفن قليلة. والبراعة فيه لا تعد من الفضيلة. وقد نفد المجيدون والعلماء. وكثر المدَّعون والجهلاء، فاستعذت بالله من العجز والكسل، واستعنت به في بلوغ الأمل. ووضعت هذا الكتاب القريب المنال. العزيز المثال. ولم آلُ جهدًا فيما أودعته فيه من التوضيح والإفصاح عما يلزمه من علم النغم والتصوير والأوزان الصحاح. مع تبيين لذلك أتم بيان، حتى كأنه يشاهد بالعيان. وأضفت إليه المختار من تلاحيني — وتلاحين حضرة أستاذي الأول الذي سعدت بوجوده الأيام. وتزينت ببقائه الأعوام، العالم الجليل، والموسيقار النبيل. (الشيخ أحمد أبو خليل) وأكثرها من نغمات نادرة الوجود في هذه الأمصار. (كالنهاوني والبسته نكار. والعجم والبوسليك والحجاز كار.) فمن حفظها على أصلها. باهتزازاتها المرصعة بها. وتصور مسافات الأوزان. فلا شك أنه فائز على الأقران. وقلتها لا تزري بقيمتها فهي كالنقطة من العطر، ولو صغر حجمها ولكنها محصل كثير من الزهر. ولقد زينت صفحاته أيضًا بصور أشهر مشهوري هذا العصر مع المختار من محاسن صناعتهم. وبدائع بضاعتهم وسؤلي من المولى القدير. أن يترتب على هذا الكتاب الذي هو (كالنجم) صغير كبير. النفع المأمول. وأن يحظى لدى الموسيقيين خصوصًا والطلاب عمومًا بحسن القبول. وهو أكرم من أن يسأل في مثل هذه الطلبة ولا يجيب. وسائل الله لا يخيب.