حكاية الليلة الثانية بعد الألف

١

في ربيع عام ألف وثمانمائةٍ و… بدأ الشاهنشاه، العاهلُ المقدَّس الجليل المعظَّم، الحاكمُ المطلَق وكسرى بلاد فارس قاطبةً، يشعر بعدم ارتياح لم يعرف له مثيلًا من قبل.

لم يستطع أشهَرُ أطباء إمبراطوريته تشخيص مرضه. كان الشاهنشاه قد بلغَ به القلق ذروته. وذات ليلة ساهدة، استدعى رئيسَ الخصيان «باتومينوس» الذي كان حكيمًا وخبرَ العالم رغم أنه لم يُغادر البلاط مطلقًا. وإليه تحدَّث قائلًا:

«أنا مريض يا صديقي باتومينوس. أخشى أنني مريض جدًّا. يقول الطبيب إنني بصحة جيدة، لكني لا أُصدقه. هل تُصدقه يا باتومينوس؟»

قال باتومينوس: «لا، أنا أيضًا لا أُصدِّقه!»

سأله الشاه: «فهل تعتقد أيضًا أن مرضي عُضال؟»

أجاب باتومينوس: «مرضٌ عضال … لا، لا أعتقدُ هذا!» ثم استدرك قائلًا: «لكنك مريضٌ، مريض على أيِّ حال يا مولاي! هناك يا مولاي أمراض كثيرة. الأطباء لا يرونها؛ لأنهم مدرَّبون على أن ينتبهوا فقط للأمراض العضوية. لكن ماذا يفيد الإنسانَ جسدٌ سليم بأعضاء سليمة إذا كانت روحه في لوعة وشوق؟»

«من أين تعرف أن بي شوقًا؟»

«أسمحُ لنفسي بالتخمين.»

«وإلامَ أشتاق؟»

أجاب باتومينوس: «هذا أمرٌ يستوجب أن أُفكِّر فيه لبرهة.»

تظاهر الخصيُّ باتومينوس بأنه يُفكِّر، ثم قال:

«مولاي، إن شوقك يتجه إلى بلاد غريبة، إلى بلاد أوروبا على سبيل المثال.»

«رحلة طويلة؟»

«رحلة قصيرة يا مولاي! الرحلات القصيرة تجلب السرور أكثر من الطويلة. فالرحلات الطويلة تُسبِّب المرض.»

«وإلى أين؟»

قال الخصيُّ: «مولاي، هناك بلدان عديدة في أوروبا. الأمر كله يتعلَّق بما يبحث عنه المرءُ في هذه البلدان.»

«وبرأيك ما الذي عليَّ أن أبحث عنه يا باتومينوس؟»

قال الخصيُّ: «مولاي، إن شخصًا بائسًا مثلي لا يعرف ما يمكن أن يبحث عنه حاكمٌ عظيم.»

قال الشاه: «باتومينوس، أنت تعلم أنني منذ أسابيع لم ألمَسِ امرأة.»

أجاب باتومينوس: «أعلم يا مولاي.»

«وتعتقد يا باتومينوس أن هذا صحِّيٌّ؟»

قال الخصيُّ، وهو يرفع قامته قليلًا من وضعِ الانحناء: «مولاي، لا بدَّ لي أن أقول إن الأشخاص الذين لهم مثل حالتي الخاصَّة لا يفهمون كثيرًا في هذه الأمور.»

«إنه لأمرٌ تُحسَدون عليه.»

أجاب الخصيُّ وقد رفع قامته تمامًا: «نعم، أما غيري من الرجال فإني آسَف عليهم من كل قلبي.»

سأل الحاكم: «لماذا تأسَف علينا يا باتومينوس؟»

أجاب الخصيُّ: «لأسباب كثيرة، ولكن أذكر منها على وجهِ الخصوص أن الرجال يخضعون لقانون التنوع. إنه قانون خادع؛ إذ ليس لهذا التنوع أيُّ وجود.»

«أقصدتَ بهذا أن تقول إن عليَّ أن أسافر إلى مكان ما من أجل هذا التنوع تحديدًا؟»

قال باتومينوس: «نعم يا مولاي، لتقتنع بأنه غير موجود.»

«وهذا وحده هو ما سيجعلُني على ما يرام؟»

قال الخصيُّ: «ليس الاقتناع يا مولاي، ولكن التجارب التي يحتاجها المرءُ ليصل إلى هذا الاقتناع.»

«كيف توصلتَ إلى هذه المعارف يا باتومينوس؟»

أجاب الخصيُّ وانحنى من جديد: «لكوني مخصيًّا يا مولاي!»

نصحَ الشاهنشاه برحلة بعيدة. اقترحَ فيينا. تذكَّر الحاكم: «المسلمون كانوا هناك قبل سنواتٍ عديدة.»

«مولاي، للأسف لم يتمكَّنوا من دخول المدينة آنذاك. وإلا فما كان الصليب ليظل منصوبًا حتى اليوم على كاتدرائية القدِّيس شتيفان، ولكان هلالنا على قمتها.»

«أزمان غابرة، وقصص بائدة. إننا الآن نعيش في سلام مع إمبراطور النمسا.»

«صحيحٌ يا مولاي!»

أمرَ الشاه: «سنُسافر. أبلِغ الوزراء!»

وقد كان ما أمرَ به.

أولًا في عربة قطار من الدرجة الأولى، ولاحقًا في مؤخِّرة السفينة، كان رئيس الخصيان «كالو باتومينوس» يجلس مشرفًا على الحريم. نظر إلى الشمس الغاربة في حُمرة متوهِّجة. ثم بسطَ السجادة وارتمى على الأرض وبدأ يُتمتِم بصلاة المغرب. وصلوا إلى القسطنطينية بسلام.

كان البحر وديعًا كما الطفل. أما السفينة فكانت هي نفسها طفلًا يتهدهَد برفق ولُطف في الليل الأزرق.

٢

ظلَّت سفينة الشاه المزدانة كعروس تطوفُ بالبحر الأزرق على مدى يومين. لم يجرؤ أحدٌ أن يقول للسيد العظيم إن عليهم أن ينتظروا ردًّا من السفير الفارسي في فيينا. وبعد يوم ونصف اليوم، كان صبر الشاه قد نفدَ. رغم أنه لم يكن يهتمُّ بخط سير السفينة، لم يسعْه إلا أن يُلاحِظ أن الجزء نفسه من الساحل الذي خلَّفه وراءه قبل قليل يعاود الظهور مرةً بعد مرة. وتدريجيًّا بدأ يستغرب أيضًا أن تحتاج هذه السفينة القوية إلى كل هذا الوقت لعبور بحر صغير كهذا. استدعى الوزير الأعظم وألمح إليه بأنه غير راضٍ عن بطءِ العبور. ألمح بذلك فقط لكنه لم يقله صراحةً. ذلك أنه إذا كان لا يثق في أحد من خدمه وهو مستقرٌّ على أرض صلبة، فإن ثقته تكون أقل وهو يتأرجَح على الماء. صحيحٌ أن المرء وهو في البحر يكون في يد الله، لكنه أيضًا — ولو بدرجة قليلة — يكون في يد القبطان. وعمومًا، كلما فكَّر الشاه في القبطان، ازداد قلقًا. لم يكن يعجبه القبطان على الإطلاق، خصوصًا أنه لا يستطيع أن يتذكَّر ما إذا كان قد رآه من قبل. كان شكَّاكًا للغاية. حتى الرجالُ المألوفون لديه والمحيطون به، كان يشكُّ فيهم بسهولة ويُسر، فكيف يكون الحال مع الذين لا يعرفهم أو الذين لا يذكُرهم؟ نعم، كان شكاكًا لدرجة أنه لم يكن يجرؤ على إظهار شكوكه، غالبًا ما تتشكَّل قناعة لدى هذا النوع من السادة الأقوياء الصبيانيِّين بأنهم أكثر دهاءً من خدمهم. لهذا ألمحَ الآن إلى الوزير الأعظم بأن هذا التطواف الطويل لا يبدو مطَمئنًا أبدًا. لكن الوزير الأعظم، الذي أدرك أن الشاه لا يريد الإفصاح عن شكوكه، لم يُظهِر مطلقًا أنه يشعر بعدم الثقة.

قال الوزير الأعظم: «مولاي، أنا أيضًا لا أرى مبرِّرًا لاستغراق كل هذا الوقت في عبور البحر.»

قال الشاه مؤكِّدًا، كما لو كان قد انتبه فقط إلى هذا السير الوئيد جدًّا بهذه الملاحظة التي أبداها الوزير الأعظم: «نعم نعم، معك حق: لماذا نسير بهذا البطء؟»

قال الوزير الأعظم: «لنسألِ القبطان يا مولاي».

جاء القبطان، وسأله الشاه «متى نصلُ أخيرًا إلى الساحل؟»

أجاب القبطان: «مولاي المعظَّم، إن حياة جلالتكم مقدَّسة عندنا جميعًا، أقدس عندنا من أبنائنا، أقدس من أمهاتنا، أقدس من حدقات عيوننا. إن آلاتنا تُنبئ بعاصفة، وإن بدا البحر في الوقت الحالي بهذا الهدوء. عندما تكون جلالتُكم على متن السفينة، يتعيَّن علينا أن نكون حَذِرين ألفَ مرة. فماذا قد يكون أهم لحياتنا ولبلدنا وللعالم من حياة جلالتكم المقدَّسة؟! وآلاتنا مع الأسف تُنبئ بعاصفة يا صاحب الجلالة!»

نظر الشاه إلى السماء. كانت زرقاء، مقوَّسة بإحكام، ومشرِقة. اعتقد الشاه أن القبطان يكذِب عليه. لكنه لم يُصرِّح بهذا. بل قال: «يبدو لي أيها القبطان أن آلاتك غير نافعة أبدًا!»

أجاب القبطان: «بالتأكيد، جلالتكم. حتى الآلات لا يمكن الوثوق بها دائمًا!»

قال الشاه: «مثلك أيها القبطان».

فجأة لاحظَ سحابة بيضاء صغيرة جدًّا على حافة الأفق. وللحقيقة: لا تكاد تكون سحابة صغيرة، كانت كبُرقع صغير، لم تكن في الحقيقة إلا أنفاس سحابة صغيرة. كان القبطان هو الآخَر قد اكتشفها في اللحظة نفسها، وراح يأمُل في أن تكون معجزةً قد جاءت لمساعدته، ويصير هو وكذبه وآلاته الكاذبة والمضلِّلة شيئًا مبرَّرًا في نظر شاهنشاه. لكن العكس هو ما كان. فبقدرِ ما كانت السحابة ضئيلة ورقيقة، ازدادَ غضبُ الشاه. لكنه كان مسرورًا؛ لأنه قد ضبط الوزير الأعظم والقبطان متلبِّسَين بهذه الكذبة الدنيئة — والآن جاءت الطبيعة نفسها، وُلدت سحابة صغيرة (وما أسهل أن تتحوَّل إلى سحب حقيقية!) — لتتَّفق في النهاية مع الآلات المضلِّلة أيضًا. بانتباهٍ حانق، راحَ الشاه يُراقب التغيُّر المستمر لشكل السحابة الصغيرة. سرعان ما تراخت. هشهشتها الرِّيح قليلًا. لكنها بعد ذلك تماسكت من جديد وصارت أكثر التحامًا من ذي قبل. ها قد بدت كبرقع تكوَّر مثل كرَّة الخيط. ثم تنبسِط لأقصى امتداد لها. ثم أصبحت في النهاية أكثر دَكانة وكثافة. كان القبطان طوال الوقت يقف خلف ظهر الشاه. يُراقب هو الآخر الأشكال المتغيِّرة للسحابة الصغيرة، ولكن بلا أيِّ حنق، بل بقلبٍ مطمئن. أوه، ولكن: كم خدَعه عقله! استدار الشاه على نحو مفاجئ وغاضب، وبدا وجهُه للقبطان كسحابةِ بَرَد بنفسجية مخيفة. بدأ السيد القويُّ بصوتٍ خافِت تمامًا، يخرج — بلا نبرة تقريبًا — من أعماق مجهولة في الروح: «إنكم جميعًا مخطئون. إنكم جميعًا مخطئون إذ تعتقدون أنني لا أفطن إلى مناوراتكم. أنت لا تقول لي الحقيقة! ما هذا الذي تُحدِّثني به عن الآلات؟ وأيُّ عاصفة تُنبئ بها؟ ما تزال عيني صائبةً أكثر من آلاتك. السماء من كل جهة حولنا صافية وزرقاء، نادرًا ما رأيتُ السماء صافية وزرقاء هكذا. افتح عينَيك أيها القبطان! أخبرني بنفسك، هل ترى في الأفق سحابة واحدة ولو ضئيلة للغاية؟»

كان فزعُ القبطان كبيرًا، لكن أعظم منه كانت دهشتُه. بل وأعظم من فزعه ودهشته كانت قلة حيلته. هل كان غضَبُ مولاه حقيقيًّا أم مصطنعًا؟ هل يمتحنه مولاه؟ من يدري؟ لم يسبق له أن عاشَ بالقرب من الشاه، لم يعرف عاداته. أكثر من مرة سمع القبطانُ من هذا وذاك أن الشاه يلعب أحيانًا دور الغاضب ليعرف مدى الصدق الذي عليه خدمه. لسوء الحظ لم يُفكِّر القبطان المسكين حينئذٍ إلا في هذه السِّمة غير المعهودة لمولاه على الإطلاق، وقد عزم على أن يكون صادقًا. «مولاي، إن عينَي جلالتكم قد رأت للتوِّ تلك السحابة هناك في الأفق.» وتمادى القبطان المنحوس في جرأته، حتى إنه مَدَّ إصبعه وأشار إلى السحابة الصغيرة التي كانت في تلك الأثناء قد صارت سحابة حقيقية زرقاء داكنة تقترب من السفينة بسرعة رهيبة. ضجَّ الشاه: «قبطان! أتُريد أن تُعلِّمني كيف أنظر إلى السماء؟ أتُسمِّي تلك الضبابة الخفيفة هناك سحابة؟ ألا تحسُّ بأشعة الشمس؟»

لكن في هذه اللحظة حدث شيءٌ طارئ لم يكن في الحسبان. السحابة التي أصبحت في ثوانٍ قليلة مزنة ركامية زرقاء مسودَّة ومنخفِضة وصلت حالًا إلى الشمس وأظلمت الدنيا.

مَدَّ القبطان ذراعَيه ولم تخرج من شفتَيه المرتعشتَين كلمة أخرى. بدا كأنه يريد أن يقول: مولاي، يُؤسفني أنني مضطرٌّ لأن أدع السماء تتحدَّث. لقد بدأت تردُّ على جلالتكم بدلًا مني. صحيحٌ أن الشاه أيضًا قد رأى بالطبع كيف أظلمت الشمس، لكنه لم يكن متأكدًا بعدُ إذا ما كان عليه أن يفرح بصدق خدمه الذين قدَّموا إليه بالفعل تقريرًا صادقًا ودقيقًا عن العاصفة المرتقبة، أم يغضب لأنه وقعَ فريسة لشُكوكِه. شعرَ أنه سيكون في خطر إذ يُبدي حيرته. وهذا ما يجب ألا يحدث بأي حال، ولهذا أمَر: «أرني آلاتك أيها القبطان!»

وبينما كانا يسيران على سطح السفينة، الشاه أولًا والقبطان من خلفه، أظلمت السماءُ أكثر على مَدِّ البصر، باستثناء شريط أزرق ضيق جهة الشمال الشرقي. في الغرب كانت السحب مكفهرَّةً تمامًا وبنفسجية، وفي قُبَّة السماء صارت أخف وأفتح، وفي الشرق قلَّت كثافتها لتصير إلى شحوب تُحسُّ معه حقًّا بشيء من السكينة. أما القبطان، وكان خلف الشاه بثلاث خطوات، فقد سقَط في خشية حقيقية صادقة. هذه المرة لم يكن الخوف كما في السابق من الحاكم ومن كذبه هو، بل الخوف من الله رب العالمين، ومن العاصفة التي تنبَّأ بها بمُنتهى التهور. لأول مرة يحظى القبطان بشرف استضافة الشاهنشاه على متن سفينتِه. ماذا يعرف هذا القبطان الساذج، من أصول الدبلوماسية؟ منذ عشرين سنة يجوب البحار دائمًا على متن هذه الباخرة الإمبراطورية «أحمد أكبر». عواصف كثيرة شهدها، وفي شبابه كان لا يزال يُبحر بسفن شراعية، وعلى متن السفن الشراعية عرفَ الملاحة البحرية للمرة الأولى. ولا مرة شعرَ هذا الشاه منذ وصوله إلى الحكم بالحاجة إلى ركوب البحر. كان من نصيبه هو، القبطان المسكين، هذا التكريم الخطير بأن يُحمَل السيد العظيم على الماء لأول مرة. كان الوزير الأعظم قد قال له: «يجب ألا نصلَ إلى أوروبا في الوقت المحدَّد. إن صاحب الجلالة غير صبور تمامًا، ويحبُّ إذا تمنَّى أن تتحقَّق أمنيته فورًا. ولكن هناك، كما تفهم أيها القبطان، عقباتٌ دبلوماسية. علينا أن ننتظر ردَّ سعادة سفيرنا. علينا أن نُثابر على الإبحار بالقرب من الساحل لأطول فترة ممكنة. وإذا ما خطر ببال صاحب الجلالة أن يسألك، فقُل إنك تخشى هبوب عاصفة».

هذا ما كان الوزير الأعظم قد قاله. وها هي العاصفة تقترب حقًّا. إن الآلات لم تُنبئ بها مطلقًا. بصراحة، الكذب هو الذي أنبأ بها، بكل صراحة، الكذب. فالقبطان رجلٌ مؤمن يتقي الله.

وصلوا إلى مقصورة القيادة. كان بها القليل من الآلات، ولا شيء بها مما يمكن أن يشير إلى العاصفة الوشيكة. لم يكن هناك سوى بوصلة كبيرة، صناعة إنجليزية، مثبتة بمسامير على سطح طاولة. انحنى الشاه عليها وسأل: «ما هذه أيها القبطان؟» أجابه القبطان: «بوصلة يا صاحب الجلالة». قال الشاه: «أهكذا. أليس لديك آلات أخرى؟» أجابه القبطان: «ليس هنا يا صاحب الجلالة، بجوارنا، في غرفة الصيانة!» سأل الشاه: «إذن، إنها العاصفة؟». لم تعُد لديه رغبة في رؤية آلاتٍ أخرى، والأكثر من ذلك أنه كان يتمنَّى بصدق أن تكون عاصفة. سأل بلطفٍ: «في النهاية، متى ستهب هذه العاصفة؟». فأجابه القبطان: «في تقديري، بعد غروب الشمس.»

ذهب الشاه، وخلفه القبطان. لمَّا صعدا إلى متن السفينة كان النهار قد أظلم تمامًا مثل ليلٍ حقيقي. هرعَ إليهما الضابطُ المناوب، كان يجري، بل يركض. أبلغ القبطان بأمرٍ ما، بعباراتٍ لم يسمع بها الشاه من قبل. واصلَ سيره أيضًا دون أن يكترث بالاثنين. وصل إلى الحاجز وراحَ ينظر بغبطة حقيقية إلى الزبد الهائج للأمواج المندفعة والمتراجعة ثم المندفعة مرةً بعد مرة. بدأت السفينة تتأرجح. العالم بدأ يتأرجح. صارت الموجاتُ ألسنةً من الأخضر والأسود والأزرق والرمادي، بحوافَّ بيضاء كالثلج. وفجأةً ألمَّ بالشاه اضطرابٌ هائل. وحشٌ مجهول راحَ ينبِش ويتلوَّى في أحشائه. تذكَّر أنه ذات مرة، وبينما كان ما يزال صبيًّا ومريضًا، مريضًا جدًّا، أحسَّ بغثيانٍ مشابه.

أما القبطان فقد استحوذ عليه اضطرابٌ مزدوج؛ أولًا: كان مولاه على غير ما يرام، وثانيًا: كانت العاصفة تقترب، تلك التي كان قد كذبَ بشأنها بكل تهور. لم يعد القبطان يدري ما الذي عليه أن يهتم به أكثر؛ بالعاصفة أم بوعكة مولاه. قرَّر أن يوجِّه عنايته إلى الشاه. كان هذا هو الأنسب؛ إذ أمَرهم على أيِّ حال بالعودة فورًا إلى أقرب نقطة ممكنة من الساحل. كان الشاه راقدًا على ظهر السفينة، ممدَّدًا وملفوفًا بكثير من الأغطية. كان الطبيبُ الخاص الذي كان «الشاه» يكرهه كثيرًا، ويرى أنه الشخص الوحيد الذي لم يكن في وسعه أن يُفلِت منه في هذه الحياة، كان يقف منحنيًا عند رأس مولاه المريض. فعل ما هو بديهي؛ سقاه عُشبة الناردين. سقطت أولى قطرات المطر الثقيلة على المخمل الناعم للخيمة التي نُصِبت حول الشاه. هزَّت الريحُ الحلقات المعدنية التي تربط جوانبَ الخيمة بالقوائم المعدنية الثلاث فراحت تُصلصِل. شعر الشاه بتحسُّن. كان يعرف أنها تبرق في الخارج، وكان يسمع صوت الرعد بارتياحٍ لذيذ. زالَ غثيانه، ولا عجبَ! فالسفينة وقفت على بُعد نحو ميلَين بحريَّين من الساحل. كلُّ ما هنالك أن البحر راحَ يصفع جانبَي السفينة بحِدَّة وبوتيرة منتظمة.

كانت هذه العاصفة بالنسبة إلى الوزير الأعظم رحمةً خاصةً مرسَلة إليه من السماء. وصلت مجموعةٌ من الأمناء في قوارب سريعة إلى القسطنطينية في منتصف الليل. وفي القوارب السريعة نفسها، عادوا في نحو التاسعة من صباح اليوم التالي. كان الشاه ما يزال نائمًا. أحضروا برقيةَ سفيرهم في فيينا: إنهم في فيينا ينتظرون صاحب الجلالة. كلُّ شيء جاهز للاستقبال … حتى العاصفة زالت. أشرقت شمسٌ جديدة صافية، أشرَقت بفُتوَّة وبهجة، كما كانت من قبل، قديمًا، في يومها الأول، يوم خَلقِها. كان القبطان مشرقًا هو الآخر. وكذلك الوزير الأعظم كان مشرقًا أيضًا. أبحرت السفينة بكامل طاقتها باتجاه أوروبا.

٣

استقبلَ «صاحب السمو البابوي الإمبراطوري والملكي» خبرَ زيارة الشاه في حوالي الساعة الثامنة صباحًا. مرَّت بالكاد مائتا عام على زحف الأتراك إلى فيينا. أنقَذت النمسا آنذاك معجزةٌ حقيقية. وفي العصر الحالي هدَّد البروسيون النمسا بما هو أفظع بكثير مما فعَله الأتراك قديمًا، وعلى الرغم من كونهم يفوقون تقريبًا الأتراك في تعصُّبهم؛ إذ كانوا بروتستانت، لم يُظهر الرب ضدَّهم أيَّ معجزة. لم يعد الناس يخشون من الأتراك مثل خشيتِهم من البروتستانت.

بدأ الآن عصرٌ آخر أفظَع بكثير، وهو عصر البروسيِّين، عصر الإنكشاريين أتباع لوتر وبسمارك. لا يُرى على راياتهم ذات اللونَين الأبيض والأسود — لونَي الحِداد القاسي — أيُّ هلال، بل صليب، لكنه كان في حقيقة الأمر صليبًا حديديًّا؛ فحتى رموزهم المسيحية كانت أيضًا أسلحة فتَّاكة.

كلُّ هذا فكَّر فيه إمبراطورُ النمسا عندما أبلغوه بزيارة الشاه الوشيكة. وفي مثل هذا فكَّر أيضًا وزراء الإمبراطور. جابَ الهمسُ أرجاء فيينا، وتردَّد الكلامُ في المكاتب الحكومية، أمام الأبواب وخلفَها، وفي المقصورات، وفي الممرات، وفي مكاتب التحرير، وفي المقاهي، وفي الغرف المغلقة. كان الجميعُ في كل مكانٍ يستعدُّون لزيارة الشاه.

في اليوم الذي وصل فيه قطارُ الشاهنشاه إلى محطة «فرانتس يوزف» في فيينا، كان أربعة من سرايا الشرف ومائتا حارس يُطوِّقون الشوارع مشاةً وعلى صهوات الخيل. وطبقًا لآداب الضيافة التي يحرص عليها صاحبُ السمو البابوي الإمبراطوري والملَكي، روعيَ أن تكون جميعُ عربات القطار الذي يُقلُّ الحاكم الفارسي إلى فيينا مَطليةً باللون الأبيض، كبياض ملابس الزفاف، تمامًا مثل السفينة التي كان الشاه قد ركبَها من القسطنطينية. على رصيف المحطة، كانت تقف سَرية من فرقة المشاة. أصدر قائدُ الفرقة الموسيقية يوزف نيشفال إشارة البدء بعزف النشيد الوطني الفارسي. أحدثت الصنوج النحاسية والطبول، وما يُسمَّى بالدفوف، ضجةً أكثر مما يتطلَّبه حتمًا النشيد الوطني الفارسي. لكن الطبول المحمولة على ظهر البرذون الصبور والمحب للموسيقى في غير هذه الظروف، لم تُرِد أن تتخلَّف هي الأخرى؛ والبرذون كان ينتفض من حينٍ لآخر، يتمرَّد نوعًا ما، ولكن لم يلاحظ هذا لا ضاربُ الطبل ولا قائدُ الفرقة الموسيقية يوزف نيشفال. كان كلُّ تفكيره في النياشين العسكرية المعلَّقة في واجهة العرض لدى آل تيللر.

كان الإمبراطور يشعر بعدم الارتياح في الزيِّ الذي لا يألفه. وفوق هذا كان الجو حارًّا؛ إذ كان واحدًا من أيام مايو سابقًا لأوانه، يبدو أنه يستبِق ذروة الصيف. كان السقف الزجاجي فوق رصيف المحطة متوهجًا. ولم يُعجب النشيد الإمبراطور على الإطلاق، لكنه استمع إليه بإجلالٍ واضح — باحترام جليٍّ …

عندما نزلَ الشاه، عانَقَه الإمبراطور معانقةً عابرة. خطا الشاه بمحاذاة سريَّة الشرف. أصدر قائدُ الفرقة الموسيقية إشارة البدء في عزف نشيد «حفظ الله الإمبراطور.» وقفَ الفُرس لا يُحرِّكون ساكنًا.

ركبوا العربات، وانطلقوا. ومن خلف حاجز أزرق من الجنود هتفَ الناس: «عاش، عاش، عاش!» حرنت أحصنة الشرطيِّين، وخلافًا لإرادة الفرسان راحت ترفس وتركل، وجُرِحَ اثنان وعشرون من الحشود الحاضرة. وتحدَّث تقرير الشرطة في صحيفة «فريمدِن بلات» عن «ثلاث حالات إغماء».

٤

لم تُفسِد حالاتُ الإغماء الثلاث هذه فرحة سكان فيينا بشاه الفُرس العظيم. كلُّ الذين شهدوا وصوله ولم يُصِبهم مكروه، وحتى أولئك الذين أُصيبوا بالإغماء، كلُّهم رجعوا إلى بيوتهم سعداء، سعداء تمامًا كما لو أنهم قد منِحوا سببًا شخصيًّا للمسرة. حتى عُمَّال السكك الحديدية والحمَّالون كانوا سُعداء أيضًا، بينما يتصبَّبون عرقًا. ذلك أن شاه الفُرس العظيم كان قد وصل ومعه العديد من الحقائب الثقيلة. ملأت الحقائب ما لا يقلُّ عن أربع عربات شحن عادية، لكنهم نسوا في ترييستي أن يربطوها بالقطار الملَكي الأبيض كملابس العُرس الذي يُقلُّ جلالته. كان مساعد رئيس المراسم الإمبراطورية كيريليدا بايِدجاني يذرع الرصيف جيئةً وذهابًا. وخلفه يجري ناظر المحطة جوستل بورجر. في مكتب ناظر المحطة كان جهاز مورِس (التلغراف) يُتكتِك بلا كلل. لم يفهم بورجر — ناظر المحطة المسكين — حرفًا من الفرنسية التي كان يرطن بها مساعدُ رئيس المَراسم في البلاط الفارسي. الشخص الوحيد الذي كان من الممكن أن يُساعد في هذا الموقف الميئوس منه، كان واقفًا أمام البار في مطعم الدرجة الأولى يشعر بمللٍ يُحسَد عليه. كان هذا هو البارون تايتنجر، نقيب السرب التاسع للخيَّالة، نُقِل من كتيبته لأجل غير مسمًّى وأُلحِقَ بديوان الحكومة والبلاط فيما يُسمَّى «الخدمة الخاصة». كان البارون مستندًا إلى البار وظهره إلى النافذة، لكنه كان يلتفِت من آنٍ لآخر ويراقب بارتياحٍ عابس ناظرَ المحطة المضحك وصاحبه الفارسي كيريليدا بايِدجاني الذي كان تايتنجر في قرارة نفسه قد سمَّاه «الإنكشاري». كانت الساعة فوق البار تُشير إلى الثالثة عصرًا. وكان تايتنجر على موعد في الرابعة والنصف مع السيدة كرونباخ عند آل هورنبيشل. زوجها صاحب مصنع للصابون ومستشار تجاري، وتسكن في حي دوبلِنج. كانت السيدة كرونباخ هي غرامه، أو هكذا كان يُصوِّر الأمرَ لنفسه. قال لنفسه ذات مرة إنها غرامه، سماها غرامه، وبرهَن على ذلك لنفسِه بأن ظلَّ مخلصًا لها. وللحقيقة، لم تكن غرامه الأول، بل الثاني.

ها هو إذن، النقيب تايتنجر، يقف مستندًا إلى البار. ومن حين لآخر ينظر عبر النافذة، ثم يُعاود النظر إلى الساعة من فوق الآنسة الشقراء التي كانت تتولَّى خدمته، والتي كان يعتبرها واحدة من الآلات التي لا غِنى عنها لتشغيل خدمة السكك الحديدية بكفاءة. كان مسرورًا إذ يرى في الخارج «الإنكشاري» وناظر المحطة، وهما يُهرولان هنا وهناك بهياج شديد. مع الأسف، كان عليه أن ينتظر حتى تصل حقائب شاه بلاد فارس، وكان على السيدة كرونباخ أن تنتظر أيضًا؛ كان هذا سيئًا، لكن ما باليد حيلة.

أخيرًا، بعد أن بلغت الساعة الثالثة والنصف، وكان النقيب قد بدأ يرشف من الكأس الرابعة من كونياك هينيسي، وصل قطارٌ إضافي يهدر كما لو كان إكسبريس حقيقيًّا، بينما لم يكن يجرُّ إلا أربع عربات تحوي أمتعة شاه بلاد فارس.

عند هذه اللَّحظة فقط اندفعَ تايتنجر إلى الرصيف. جذبَ ناظرَ المحطة وقال: «عليك أن تُنجِز الأمر بسرعة! إنها فضيحة أن ينتظر السادة كلَّ هذا الوقت! لقد وصل جلالته قبل ساعة ونصف! جلالته ينتظر في قلق. عارٌ! يا له من عارٍ أيها الناظر!»

ودون أن ينتظر إجابة التفت البارون إلى صاحبه الفارسي كيريليدا بايِدجاني، وقال بلغة فرنسية طليقة كفرنسية الإمبراطورية الملَكية، وتبدو كأنها تتألَّف فقط من حروف متحركة: «يا لانضباطها! يا لانضباطها! إن قطاراتنا هي الأكثر انضباطًا في العالم كله!» — عُمَّال السكة الحديدية والحمالون جاءوا مسرِعين. تولى ناظر المحطة بنفسه قيادهم، بينما كان النقيب يُعطي صاحبه الفارسي فكرةً عن العجائب الشرقية الأصيلة المدهشة في ملاهي فيينا الليلية.

استمعَ الفارسيُّ مبتسمًا، بتلك الابتسامة الطيبة التي دائمًا ما يرسمُها الرجال المحنَّكون اللامبالون على وجوههم عندما يتعيَّن عليهم مداراة تفهُّمِهم. من هذه الابتسامة أدركَ البارون فجأة مع من سيتعامل. لم يكن هذا «الإنكشاري» أحدًا غيره. إنه ينشر ذلك العبق القديم المحبَّب إلى قلبه في حنكة الرجال المُجرَّبين ومداراتهم لتفهم الأمور. وعلى الفور شعر البارون حياله بأُلفة. وهنا رجعَ البارون في قرارة نفسه ليُعيد تصنيف الفارسي وتسميتَه كشخصٍ «ظريف»، وهذا أعلى مديح يمكن أن يمنحه لشخص. كان الناسُ عنده ثلاثةَ أصنافٍ فقط؛ على رأسهم «الظرفاء»؛ ثم يأتي «العاديون»؛ أما الصنف الثالث والأخير فهم «المملون». وكان كيريليدا بايِدجاني — بكل تأكيد — ينتمي إلى «الظرفاء». وفجأةً تمكَّن البارون من نطق الاسم الصعب بمُنتهى السلاسة، كما لو كان يلعب منذ طفولته مع رفاقٍ من الفُرس. قال النقيب: «سيد كيريليدا بايِدجاني، يؤسفني أنكم انتظرتم لفترة طويلة هكذا. هذه القطارات! أوه، هذه القطارات! ولكن صدِّقني! سنجد الشخص المسئول عن هذا!»

ولكي يُظهر للفارسي أنه لا يُطلِق كلامًا أجوف، توجَّه إلى ناظر المحطة ورفع صوته قائلًا: «اعذرني سيدي ناظر المحطة على هذه الكلمة الثقيلة، ولكن هذا فشل ذريع!» أجاب الناظر: «سيدي النقيب، إنه حقًّا فشل، لكنه من تريستي، ليس من جانبنا.» قال النقيب بنَبرة صوتٍ أعلى قليلًا من ذي قبل: «تريستي أو غير تريستي، لا يُهم. المهم أن صاحب الجلالة وصل قبل ساعتَين، وما زالت الحقائب لم تلحق به حتى الآن!»

بدأ الخوفُ يتسلَّل تدريجيًّا إلى ناظر المحطة بورجر الذي خشي من احتمالية أن يُنقَل من وظيفته، فحمَل نفسه على أن يكون لطيفًا ليِّنًا. سرعان ما خطرت له الكلمة الوحيدة المناسبة فقال: «وصلت الحقائب السامية هنا أخيرًا سيدي البارون!» قال النقيب ساخرًا: «هنا، هنا. لكنها لم تصل بعد إلى حيث يجب أن تكون!»

استغرقَ الأمرُ نصفَ ساعة أخرى حتى جرى تحميل الاثنتَين والعشرين حقيبة الضخمة لصاحب الجلالة الفارسي. وعندئذٍ فقط، استطاع البارون أن يُغادر المحطة. لحسن الحظ، كانت العربة التي وُضِعت تحت تصرُّف مساعد الوزير الأعظم ما تزال تنتظر. بخجلٍ مصطنع ببراعة، تحدث تايتنجر إلى كيريليدا بايِدجاني قائلًا: «إذا سمحتم لي، سأنضمُّ إليكم حتى نقطة محدَّدة، لديَّ عمل …»

لم يتركه الفارسي يُكمل كذبته، فقال على الفور: «أنا الذي كنتُ سأطلب منك أن تمنحني شرف مرافقتك حتى المكان الذي يقتضي عملك أن تكون فيه!»

صعدا إلى العربة. وانطلقت الحقائب في المقدمة، على ثلاث عربات شحن تجرُّها أحصنة بيضاء كبيرة. في الطريق هبَّ النقيبُ من مكانه ونقَر بأصابعه على كتف الحوذي الذي يرتدي زيًّا رسميًّا وقال: «توقَّف أولًا عند آل هورنبيشل!»

رفع الحوذيُّ السوط علامةً على الموافَقة. أومأ به في الهواء كأنه يهزُّ رأسه موافقًا، وأصدرَ فوق ذلك فرقعة صغيرة. رجع تايتنجر منشرحًا ليغوص في الوساد بجانب رفيقه الفارسي «الظريف».

توقَّفت العربة عند بيت هورنبيشل. مشى البارون إلى يمين الحديقة، خلف السياج إلى «ركن الحب» كما اعتاد أن يُسمِّي هذه المنضدة منذ عشر سنوات. كانت زوجة المستشار التجاري كرونباخ تنتظر منذ ربع ساعة. للمرة الأولى ترى حبيبها في بدلة التشريفة، كانت علاقتهما قد بدأت قبل أربعة أشهر فقط. بهَرتها الخوذةُ بعُرفها الذهبي، فنسيت كل اللَّوم الذي كانت قد أعدَّته له بعناية طوال الخمس عشرة دقيقة. وهمست: «أخيرًا، أخيرًا!»

٥

في الأيام التالية لم يُفارق النقيبُ تايتنجر كيريليدا الظريفَ أبدًا. في هذه الساعات، تبيَّن أن كيريليدا الظريفَ يعرف كل شيء، أكثر من الوزير الأعظم نفسه. يمكن للمرءِ أن يُناقش معه أي شيء. على سبيل المثال، عرَفنا أن الوزير الأعظم لم يكن في حقيقة الأمر يعاف الخمر كما كنا نعتقد. على العكس: كان الوزير الأعظم يميل باستمرار إلى مخالفة أحكام القرآن.

خلال فترتَي ظهيرة فقط، كان النقيبُ تايتنجر قد عرفَ أشياء أكثر وأهمَّ مما استطاع البروفيسور فريدلِندر أن يُحصِّله في حياته الطويلة، وهو المستشرق المعروف، الذي كان قد عُيِّن مستشارًا للجنة الاستقبال. لم يكن البروفيسور فريدلندر يُعاقر الخمر. وهذا هو شأن من لا يُعاقرون الخمر، هكذا فكَّر البارون تايتنجر.

أوه، البروفيسور فريدلندر نفسه بالكاد يدري ماذا قد يفعل بعِلمه الغزير. ثمة أشياءُ غابت عنه. ولعلَّه قد بدأ يشكُّ في صحة كتاباته التي اعتمدت على أبحاث علمية دقيقة لا يرقى إليها الشك. الآن فقط، بعد عشرين عامًا من الدراسات الشرقية، يعلم البروفيسور من البارون تايتنجر أن بعض الأتراك يحتسون الخمر، حتى الوزير الأعظم نفسه. ومساعده، السيد كيريليدا، الذي التقى به فريدلندر مرة في صُحبة تايتنجر، لم تكن لديه أيُّ فكرة عن الأدب الفارسي. حتى رئيس الخصيان، روى البارون تايتنجر أنه يرسل خدمَ القصر ليُحضِروا له أقداح البيرة العادية في وضح النهار من محل فيزنتال، ويشربُها بلا أي فرق في ذلك بينه وبين أي خياط مسيحي عادي مثلًا. ولكن الأكثر إرباكًا من حكايات تايتنجر، كانت المقالات التي كتبها صحفيون غير معتمَدين، والتي تضمَّنت أكاذيبَ يشيب لها الولدان عن الحياة في بلاد فارس وعن التاريخ الفارسي. عبثًا حاول البروفيسور فريدلندر إبلاغ كل رؤساء التحرير بالحقيقة بأن أرسل إليهم تكذيباتٍ مكتوبة. كانت النتيجة الوحيدة لمداخلاته أن الصحفيين ذهبوا إليه في المعهد وفي منزله أيضًا، ليأخذوا منه أحاديث صحفية عن بلاد فارس. بل إن الصحفيِّين راحوا يدخلون إلى محاضراته.

للأسف، أفسدت الأمطار الغزيرة العرض العسكري في كاجران. وفي تلك الأجواء، لم يحتمِل الشاه أكثر من رُبع ساعة تحت خيمة مفجَّجة تصطفق بعصبيةٍ حوائطها الثلاثة الحمراء القرمزية، وتنتفخ وتدع قطرات المطر تتسرَّب منها. لم يكن من المتحمِّسين للمَشاهد العسكرية. وبينما كان يُتابع بنظرات شاردةٍ المشهدَ العظيم لركض فرسان «الأولَنْ» (أي، حمَلة الحِراب) وهم يندفعون — كعاصفة مروضة — فوق مروج خضراء رطبة، أحسَّ بقطرات الماء القاسية تتساقط بوتيرة منتظمة مهيِّجة للأعصاب على قلنسوته الفرو البُنية الطويلة، وعلى الياقة القرمزية لمعطفِه الفضفاض الأسود المربوط حول كتفَيه. علاوة على ذلك كان يخاف على صحته. وكانت ثقته في الأطباء الأوروبيِّين أقل من ثقته في طبيبه اليهودي إبراهيم. كان محاصرًا ومطوقًا بجنرالاتٍ أجانب لا يخشون المطر، معتادين على الرياح وسوء الطقس. لوحَ الفرسان بسيوفهم. ودوت الموسيقى العسكرية من الأبواق المبلَّلة، وانفجرت كالرعد من طبول تشرَّبت جلودُها الماء. من المنتظَر الآن أن تأتي المشاة، وبعدها المدفعية. لا. كان قد اكتفى. نهض، ونهض معه في اللحظة نفسها الوزير الأعظم ومساعده والحاشية بأكملها. غادرَ الشاه الخيمة، كان المطر ينهمر، هو وحده الذي انحنى تحت الزخات الرطبة، أما الباقون، الذين كان يلعنُهم في سِرِّه، فكانوا يتبعونه منتصبي القامة كما لو كانوا يمشون تحت أشعة الشمس الصافية. توجه إلى الناحية التي توقع أن يجد فيها عربة النجاة. وبغريزة شخصٍ في خطر، سرعان ما وجدَ المكان الذي كانت العربات تنتظر فيه. ركبَ دون أن ينظر حوله. وكذلك فعل كلُّ السادة الباقين. بقي على المنصة اثنان من الجنرالات منغمِسين في المشاهد العسكرية ومفضِّلين الجنود على الشاه. كان عرضًا في أجواء ممطرة. ومع ذلك، فقد حصلَ جنودُ حامية فيينا على لحم الخنزير المحمَّر والبطاطس المسلوقة والبسلَّة وبيرة بِلسنر التشيكية، وحصل كلُّ جنديٍّ منهم على علبة سجائر مجَرية صغيرة.

استمرَّت الأمطار في اليوم التالي أيضًا، ولكنه لم يكن بالأمر المهم. فقد أُقيمَ العرضُ هذا اليوم في المدرسة الإسبانية للفروسية. ولأنهم اعتقدوا أن صاحبَ السيادة الغريب قد أظهرَ عدم احتماله للهواء البارد، فقد بطَّنوا المقصورة في مدرسة الفروسية بسجاد فارسي سميك، سجاد حقيقي، ومنسوجات من شيراز، وأقمشة عتيقة جلبوها من غرف القصر، ووسائد منتفخة من المخمل الأحمر، وحتى الفواصل الضيقة بين مصراعَي الباب سمَّروا فيها شرائط جلدية رقيقة لكيلا يتسرب منها أيُّ تيار هواء. شملت المكان — على اتساعه — رطوبة خانقة لا تكاد تُحتمَل. خلعَ الشاه معطفه الفضفاض. وثقلت القبعة الفرو على رأسه على نحو مرهِق. فراح من حين لآخر يمسحُ العرقَ عن جبينه بمنديله الحريري ذي اللون الوردي. وفعل السادة المرافقون له من الحاشية الشيء نفسه، تارة ليُظهروا أنهم أيضًا يشعرون بالحَرِّ، وتارة لأنهم بالفعل كانوا يشعرون بالحَرِّ. لكن هذه المرة لم يُغادر الشاه مقصورته. كان إسطبله الخاص في طهران يضمُّ من الخيل ألفَين وثمانمائة. منتقاة بعناية وأغلى بكثير من نساء حريمه. هناك، في إسطبلات الشاه، فحولٌ عربية تبرق ظهورها كالذهب الخالص، وأحصنة رمادية من السلالة المشهورة «يفتاح» ذات الشعر الناعم والرقيق كالزغب، وجياد مصرية أُهديت إليه من إسطبلات الإمام المقتدِر، وخيول السهوب القوقازية أُهديت إليه من اﻟ «تسار» الروسي، وأحصنة بُنية ضخمة من بوميرانيا اشتُريت بمبالغ طائلة من ملك بروسيا البخيل، وأحصنة شبه برية، أُرسلت حديثًا من بوستا المجَرية، لا تسمح لأي يدٍ بشرية بالاقتراب منها، ولا تستجيب لأي صوتٍ بشري، وتتخلَّص بمُنتهى العناد من أفضل الفرسان الفارسيين.

ولكن ما كلُّ هذه الحيوانات بالمقارنة بسلالة ليبيزان التي تختص بها المدرسة الإسبانية للفروسية في فيينا. عزَفت فرقة الموسيقى العسكرية التي كانت واقفةً على منصة مواجِهة لمقصورة الإمبراطور، نشيدَ «حفظ الله الإمبراطور» بعد السلام الوطني الفارسي. كان أول من دخل إلى الحلبة فارسٌ يرتدي زيًّا فارسيًّا لم يرَهُ الشاه إلا في صور أجداده فقط، فلم يرَهُ في بلاد فارس ولو مرة، على رأسه قبَّعة طويلة من صوف الحِملان، تتدلى منها خيوطٌ ذهبية سميكة مضفَّرة، ورداء قصير أزرق مطرَّز بالذهب مطروح على أحد الكتفَين، ويلبس حذاءً برقبة من جلدٍ خام أحمر، بمهمازَين ذهبيَّين، وفي جانبه سيفٌ تركيٌّ معقوف. كانت كسوة الحصان الأبيض الذي يمتطيه حمراء كالدم، يتقدَّمه أحدُ رجال المراسم في زيٍّ حريري أبيض وخُفَّين أبيضَين في صندل أحمر.

بدأ الحصان الأبيض على الفور يُؤدي حركاتٍ شديدة البراعة على لحنٍ فارسي لكنه بدا للشاه غير مألوف تمامًا، كان من وضع المايسترو نيشفال. كانت الرشاقة تسكن في كل جزءٍ منه: في ساقَيه وفي الحوافر وفي الرأس وفي العَجُز. ولا كلمة، ولا صوت! لا أوامر من أيِّ نوع. هل يقود الفارسُ الحصانَ، أم الحصانُ هو الذي يقود الفارسَ؟ عمَّ الصمتُ. الجميعُ يحبسون أنفاسهم. ورغم أنهم يجلسون بالقرب من الحلبة لدرجة أنهم يكادون يُمسكون بالحصان والفارس لو أنهم مدُّوا أيديَهم، كانوا مع ذلك يُتابعون العرض بالنظارات اليدوية ومناظير الأوبرا. أيُّ درجة من القُرب لم تكن كافية. الحصان يرفع أذنَيه مدبَّبتَين: كأنما يتلذَّذ بالصمت. عيناه الداكنتان الرطبتان الذكيتان تستطلعان من وقتٍ لآخر السادة والسيدات في الحلبة، بحميمية وفخر وفضول، دون أي انتظار لتصفيق كحصان في السيرك. مرةً واحدة فقط رفع بصره إلى مقصورة صاحب الجلالة، سيد بلاد فارس، كأنما أرادَ أن يتحقَّق، لمن جاءوا به إلى هنا. باعتزازٍ نبيل رفع رِجله الأمامية اليمنى، بمقدار يسير فقط، كأنما يُحيِّي نِدًّا له. ثم دار حول نفسه فجأة؛ لأن الموسيقى بدت وكأنها تتطلب ذلك. ثم نزلَ بحوافره برفق على السجادة الحمراء، وبدأ يقفز فجأة عند سماعه رنين الصنوج النحاسية قفزة مذهلة لكنها في الوقت نفسه راقية ومعتدلة في مجونها الظاهر، وتوقَّف فجأة، ينتظر لثانيةٍ بطولها صوتَ الناي العذب، ليتبعه بعد ذلك؛ إذ يأتي أخيرًا، وفي خبَبٍ لطيف مخملي تقريبًا، أشبه بزجزاج خفيف، يستسلِم نوعًا ما لروح الشرق. سكتت الموسيقى لبرهة. وفي فترة الصمت هذه لم يُسمع أيُّ شيءٍ سوى وَقعِ الحوافر الخفيف اللطيف على السجادة. في حريمه الكبير — حسبما يتذكَّر الشاه الفارسي — لم تُظهِر أيُّ واحدة من نسائه الكثيرَ من الأناقة والجلال والرشاقة والجمال مثل هذا الحصان الليبيزاني من مزرعة صاحب السمو البابوي الإمبراطوري والملَكي.

خلال بقية فقرات البرنامج، كان الشاه ينتظر بصبر فارغ: الأناقة الهادئة للحيوانات الأخرى التي عرَضوها عليه، ذكاؤها النبيل، أجسادها الرشيقة البديعة التي تُغري بالحب والأخوة والتَّفاني، وداعتُهم القوية وقوَّتهم العذبة: لم يكن الشاه يُفكِّر إلا في الحصان الأبيض. قال للوزير الأعظم: «اشترِ الحصانَ الأبيض!»

أسرعَ الوزيرُ الأعظم إلى الإسطبلات. لكن رئيس الإسطبلات تورلينج قال بكرامة وزير في الإمبراطورية الملَكية: «يا صاحب السعادة، نحن لا نبيع شيئًا. نحن نُهدي فقط، إذا أذِن بذلك صاحبُ السمو إمبراطورنا.»

لم يجرؤ أحدٌ أن يطلب الإذن من صاحب السمو.

٦

قاموا. وبعد ربع ساعة بدأ الحفلُ الراقص.

في قاعة الحفل وقفَ السيداتُ والسادة في صَفَّين، ينتظرون وصول العاهل. كان يُسمع من حين لآخر صوت سعال يصدر على استحياءٍ من صدر أحد السادة الكبار في السن. سعالٌ يخجل من نفسه أكثر مما يخجل أصحابه الذين يضعون مناديلَ حريرية أمام أفواههم. ومن هنا وهناك تهمس سيدةٌ لأخرى بشيءٍ ما. لم يكن همسًا بمعنى الكلمة، بل مجرَّد هواء يتدفَّق من أفواههن، ومع هذا كان يسري في هذا الصمت كأنه فحيح. في هذا الصمت، كان المرءُ يسمع الوقع الخفيف للكعب الأسود الثقيل على السجادة الحمراء كأنه دَقٌّ منتظم. الكل يرفع عينَيه لينظر. دخل صاحبا السمو عبر الباب المزدوَج الأبيض المؤطَّر بالذهب، الذي فُتحت دفَّتاه فجأة بأيدٍ غير مرئية. وفي الطرف المقابل من القاعة، بدأت فرقة البلاط بعزف السلام الفارسي. حيَّا الشاه الموجودين بالطريقة الشرقية، واضعًا يده أمام جبهته ثم على صدره. أدَّى السيدات تحيتهن المعهودة، بثني الركبتَين قليلًا واليدان تُمسكان بجانبَي الفستان مع إيماءةٍ خفيفة بالرأس، بينما انحنى الرجال بعمق. كأنما يخطوان في حقل وسط سنابل القمح المطأطئة، تقدم صاحبا السمو، الضيف والمضيف. كلاهما يبتسم، كما تقتضي التقاليد. كانا يوزِّعان ابتساماتهما يمينًا ويسارًا، رغم أن أحدًا لم يكن بوسعه أن يرى هذا اللُّطف منهما. كانت ابتساماتهما تقع على تسريحاتٍ نسائية شقراء وسوداء، أو على صلعاتِ رجال جرداء وشعور مَفروقة بإحكام.

كانت هناك ثلاثمائة واثنتان وأربعون شمعة في شمعدانات فضية تُضيء القاعة وتُدفئها. وتحمل الثريا الكريستالية الكبيرة المعلَّقة في المنتصف ما لا يقل عن ثمانٍ وأربعين. كانت ألسنة اللهب المنبعثة من الشموع تنعكس بألف صورة على الباركيه اللامع لدرجة أن الأرضية تبدو كما لو كانت تُضيء من أسفل. جلس الإمبراطور والشاه فوق منصة مكسوَّة باللون القرمزي، على مقعدَين عريضَين من أبنوس لامع يبدو وكأنه قُدَّ من ليلٍ حالك. بجانب إمبراطور النمسا، كان يقف رئيسُ مراسم البلاط. كانت ياقتهُ الثقيلة المطرَّزة بالذهب تمتص، تشرب، تلتهم بنهمٍ ضوء الشموع الذهبي، وتعكسه، فتتألق، وتتلألأ، تجمع الضوء بجشع ثم تنثره بسخاءٍ، فتراها تنافس الشمعدانات حقًّا، بل وتتفوَّق عليها. وبجانب الشاه، كان يقف الوزير الأعظم في زيٍّ أسود. يتدلَّى شاربه الأسود بجلال مهيب، ضخمًا وثقيلًا على فمه. كان يبتسم من حينٍ لآخر على فتراتٍ منتظمة، كما لو أن قوة خفية تتحكَّم في عضلاتِ وجهه. قُدِّمَ الحضور من السيدات والسادة بحسب الرُّتبة والمكانة إلى صاحب الجلالة الفارسي. كان يتفحَّص السيدات بعينَيه الطفوليتَين المتوهجتَين وقد اجتمعَ فيهما كلُّ ما يمكن لروحه البسيطة أن تسمح به وتغفره: الجشَع والفضول، الخيلاء والشهوانية، اللطف والقسوة، التفاهة والجلال رغم كلِّ شيءٍ أيضًا. كانت السيدات تُحسُّ بالنظرة الجشعة، والفضولية، والشهوانية، والمختالة، والقاسية، والجليلة من شاهِ فارس. كنَّ يرتجفن قليلًا. أحبَبن الشاه دون قصد. أحببن رداءه الأسود، وقلنسوته الحمراء المطرزة بالفضة، وسيفه المعقوف، ووزيره الأعظم، وحريمه، كلَّ نساء حريمه الثلاثمائة والخمس والستين، وحتى رئيس خصيانه، وكل بلاد فارس: كانوا يُحبون الشرق كله.

أما سيد بلاد فارس، فقد أحبَّ في هذه الساعة كل فيينا، بل كل النمسا، كل أوروبا، كل العالَم المسيحي. لم يسبق له في حياته المليئة بالحب والنساء أن شعر بمثل هذه الإثارة، حتى قبل سنواتٍ بعيدة حين عرَف النساء للمرة الأولى وهو ما يزال صبيًّا لم يكد يبلغ مَبلغ الرجال. لماذا كانت النساء في حريمه شيئًا فاترًا، بل وحتى مصدرَ تعب، ولماذا يبدو له هنا، في فيينا، أن النساء يُشكِّلن مجتمعًا رائعًا لا يزال مجهولًا تمامًا بالنسبة إليه، جنس غريب عليه أن يكتشفَه أولًا؟ اكتسى وجهُه الأسمر بحُمرة خفيفة، وصار نبضه أعنف، ونبتت لآلئ صغيرة من العَرق على جبينه البرونزي الفتيِّ البريء الأملس الخالي من التجاعيد. مرَّر منديله الحرير الأخضر بخفَّة على عينَيه. ثم دسَّه مرةً أخرى في جيب عميق مثبت في كُمِّه من الداخل، وبدأت أصابعه الرشيقة المَرِنة تُداعب بسرعة مطَّردة حبات اللؤلؤ الكبيرة الزرقاء في المسبحة الصغيرة التي يُحيط بها معصمه الأيسر. حتى هذه الأحجار اللطيفة الباردة التي طالما كانت تُلطِّف أصابعه وتهدئها، بدت له اليوم ساخنة وتنضح بالقلق.

لم يكن يعرف حتى الآن سوى نساءٍ عارياتٍ أو نساءٍ مستورات؛ أجساد وأثواب. للمرة الأولى يرى العري والستر معًا. فستان يبدو وكأنه يريد أن يسقط من تلقاء نفسه، لكنه مع ذلك يظلُّ ملتصقًا بالجسد: مثل باب غير مغلق، لكنه مع ذلك غير مفتوح. بينما تُؤدي النساء التحية بانحناءةٍ أرستقراطية، يقتنص الشاه في جزءٍ من الثانية منبت الصدر، ثم اللمَعان الخفيف للزغب على مؤخِّرة العنق البيضاء. اللحظة التي ترفع فيها المرأة حِجر فستانها بيديها وهي تنحني، قبل أن تفرد ركبتَها من جديد، كانت تحمل له شيئًا عفيفًا بدرجة لا توصَف، لكنه أيضًا فاحشٌ بدرجة تفوق الوصف، كان وعدًا لا يُفكِّر المرءُ في الوفاء به. أبوابٌ غير مقفلة تمامًا، ولا يستطيع المرء أن يفتحها، هكذا فكر سيدُ بلاد فارس، المالك المقدِّر للحريم. كلُّ امرأة هي — إن صحَّ التعبير — نصف مفتوحة لكنها في الوقت نفسه مغلقة، كل واحدة بمفردها كانت أكثر إغراءً من حريم بأكمله يكتظُّ بثلاثمائة وخمسة وستين جسدًا فاترًا مشاعًا بلا سِرٍّ أو لغز. ما أعمق أغوار فنِّ الحب في بلاد الغرب! يا له من مكر شديد الدهاء، ألا تُغطَّى وجوه النساء! أيُّ شيءٍ في العالم يمكن أن يكون أكثر غموضًا وفي الوقت نفسه أكثر انكشافًا من وجه امرأة! أجفانهنَّ المرخاة قليلًا، تبوح وتكتم، تعِدُ وتحرِم، تُلمِّح وتصد. أيُّ ألقٍ للتيجان التي يضعونها على شعورهن، في مقابل الألق الأسود والبُني والأشقر لشعورهن نفسها، وكم درجة لونية تحويها هذه الألوان! هذا الأسود حالك الزُّرقة كلَيلةٍ في منتصف الصيف، وذاك جامد ومطفأ كالأبنوس، هذا البُني ذهبيٌّ كالتحية الأخيرة للمساء عند الغروب، وذاك ضاربٌ إلى الحُمرة كأوراق القيقب النبيلة في أواخر الخريف، هذه شقراء مرحة ومنطلِقة كشجرة «لابُرنون» أو «مطر الذهب» في حديقة الربيع، وتلك مطفأة فضية كأول الصقيع في ساعة مبكِّرة من صباح الخريف. والتفكير في أن كلَّ واحدة من هؤلاء النساء تنتسِب أو ستنتسِب قريبًا إلى رجل واحد! كلُّ واحدة جوهرة مصونة!

لا! هذا ما لم يُرد الشاه في هذه اللحظة أن يُفكِّر فيه. أفكار مزعِجة مؤذية! لقد جاء إلى أوروبا لكي يستمتع بالواحد، وينسى المتعدِّد، لينتزع المَصون، ويخرق القانون السائد هنا، يُجرِّب شهوة الامتلاك غير المشروع، ويتذوَّق حتى النهاية طريقة الأوروبيِّين، المسيحيين، الغربيين، تلك الطريقة الداهية الخاصة جدًّا. لما بدأ الرقص — وكانت في البداية رقصة البولكا — ارتبكت حواسُّه تمامًا. أغمضَ عينَيه العسليتَين الواسعتَين الجميلتَين البريئتَين كعينَي ظبي، كان يخجل هو نفسه من الجشع والفضول اللذَين يعرف أن عينَيه تتوهَّجان بهما. أُعجِبَ بالجميع. لكن لم يكن الجنس هو ما يرغب فيه. كان لديه حنينٌ إلى الحب، الحنين الذُّكوري الأبدي إلى المعبودة، الإلهية، الإلهة، الوحيدة. كلُّ اللذات التي يمكن أن يمنحها إياه جنسُ النساء، سبقَ وأن استمتعَ بها. بَقِي شيءٌ واحد ما زال ينقصه: الألم، ذلك الذي لا تستطيع أن تخلقه إلا واحدةٌ مفرَدة.

إذن، فقد عزم على الاختيار. وراحَ شيئًا فشيئًا يستبعدُ المزيدَ من النساء الموجودات في القاعة. كان يعتقد أنه اكتشف عيوبًا خفية — قلَّت أو كثرت — في هذه أو تلك. في النهاية بقيت واحدة، الوحيدة: الكونتيسة «ﻓ». كلُّ الناس تعرفها.

إنها شابَّة شقراء، ناصعة، حُبيت بتلك العينَين اللتَين يمكن للمرء أن يقول إنهما نوعٌ عجيب من البنفسج، بنظرةٍ كأزهار الحمحم الذي يدعوك ألا تنساه، كانت منذ ثلاث سنوات، منذ أول حفل تحضره، قُرة أعين للمُجتمع، وللرجال محلَّ إجلال ورغبة أيضًا. إنها واحدة من أولئك الفتيات اللاتي كنَّ في أيام بعيدة خلت يحظين بالتبجيل ويفُزن بالعبادة، بلا أيِّ مزية فيهنَّ سوى الجمال والرشاقة. إذا ما رأى المرءُ بعضَ حركاتها، أحس أنه قد أُعطِي بسخاء، وصار مقتنعًا بأنه مَدينٌ لها بالشكر.

وُلدت لأبيها على كِبَر. يُعَدُّ أبوها بالفعل واحدًا من خُدام الإمبراطورية الطاعنين في السن. عاشَ وحيدًا مكرِّسًا حياته لما جمَعه من المعادن في ضيعته بارديتس في مورافيا. كان أحيانًا ينسى زوجته وابنته. في إحدى هذه المرات، وكان قد تلقَّى للتوِّ قطعة من المالاكيت نادرة جدًّا أرسلها إليه صديقٌ له من بولسانو فنسيَ أسرته تمامًا، تقدَّم إليه رئيسُ قسم في وزارة المالية لم يكن يعرفه. كان الكونت «ﻓ». لم يكن بأيِّ حال من الأحول محبًّا للمعادن، كما أملَ العجوز، بل كان محبًّا لابنته فقط. كان السيدُ العجوز فون بارديتس لا يترك أيَّ حجَرِ مروٍ (كوارتز) عادي إلا ويفحصه على الأقل باستخدام عدسة مكبِّرة يحملها في جيبه. أما الشاب الذي يرغب في ابنته، فلم ينظر إليه إلا نظرة خاطفة بنظارته اليدوية فوق أنفه. «تفضَّل!» لم يزد على أن قال «لتكن سعيدًا مع هيلينا.»

أحبَّت الزوجة الشابة زوجَها، على الرغم من أنها كانت قد احتفظت بذكرى، حلوة أحيانًا ومزعجة أحيانًا أخرى، للبارون تايتنجر «الظريف» الملحق ﺑ «الخدمة الخاصة». آنذاك، حين كانت ما تزال صبية، وبالرغم من أنها كانت ذات نظرة منصِفة تمامًا لكل مزاياه — بما في ذلك أنه إذا تكلَّم، بدا وكأنه يرقص — كان في تقديرها شخصًا خطرًا لدرجة أنها ذات يوم بدأت تُقابله بمزاج بارد. كان المسكين تايتنجر لديه من الخيال ما يكفي ليتصور أنه عاشق ولهان ويائس، ولكن لم يكن لديه الكثير من الجلَد —كما كانت الأمور تتطلب في تلك الأيام — لينتظر النتيجة المألوفة لمحاولات الحب العنيفة. كان ضابطًا في سلاح الفرسان، أُلحِق بالخدمة الخاصة، وكان مَزهوًّا بنفسه أيضًا، ومقتنعًا تمامًا بأن هناك فتياتٍ كثيراتٍ مثلها، وأن شرفه أيضًا جدير بشيءٍ على هذا القدر وربما أكثر، لا سيَّما بعد ساعة مع الفتاة قالت له فيها إن من الأفضل أن يذهب الآن وإنها ليست في حالة مزاجية تسمح لها بمواصلة الحديث معه. كانت إذن — كما قال لنفسه — «قطيعة» نهائية، وقد جعله هذا «سوداويًّا» لدرجة أنه قرَّر ذات يوم أن يتجوَّل في حي سيفرينج. ما الذي كان يعنيه في سيفرينج؟ لقد كانت أسوأ من أن توصَف بالملل، كانت «مبتذلة». لكنها بعد يوم واحد أصبحت «ظريفة»! كان هذا بفضل ميتسي شيناجل.

٧

للأسف، تعود الأيام التي تدور فيها أحداث قصَّتنا إلى زمنٍ بعيد، حتى إننا لا نستطيع أن نجزم إن كان البارون تايتنجر على صواب؛ إذ رأى أن ميتسي شيناجل تبدو كأختٍ توءم للكونتيسة «ﻓ».

كان قد اتخذ قرارًا سخيفًا — وهو يتسكَّع في سيفرينج حزينًا يائسًا — بشراء غليون من الفخار. فدخل دكانَ آلويس شيناجل. كان قد وطَّن نفسه على أنه سيلقى في الدكان رجلًا وقورًا كبير السن. كان بالباب جرسُ تنبيهٍ صاخب. هذا أيضًا لم يُفاجئ البارون تايتنجر. لكن ما فاجأه حقًّا، بل وأفزعه، أنه بدلًا من صاحب الدكان العجوز الذي كان يتوقعه، وجدَ خلف طاولة الدفع شخصًا يعتقد أنه يعرفه جيدًا: إن لم تكن الكونتيسة «ﻓ» شخصيًّا، فمُؤكدٌ أنها أختها. قرَّر أولًا أن يأخذ وقتًا أطول في فحص الغلايين رغم أنه لم يكن يفهم فيها شيئًا.

كانت غلايين تافهة وأسعارًا زهيدة. بينما كان يتظاهر باختبار الغلايين، فيضع كلَّ واحد منها في فمه وينفخ فيه — مثلما رأى ذات مرة حين رافقَ أباه الرجل الصالح مستشار البلاط العجوز تايتنجر إلى أولوموتس لشراء غلايين — كان يُراقب خلسة، ولكن بكل جوارحه أيضًا، الوجه الرقيق لشبيهة الكونتيسة. نعم، بلا شك. كانت تبدو وكأنها الكونتيسة «ﻓ»: نفس عيون البنفسج بنَظرة أزهار الحمحم التي تدعوك ألا تنساها، نفس خط الشعر على جبينها الضيق، ونفس كعكة الشعر الشقراء الرمادية على مؤخر العنق، كان يراها كلما استدارت الفتاة لتأتي بغلايين جديدة من الأرفف على الحائط، نفس لَحظ العينين، نفس الابتسامة الحلوة والساخرة في الوقت نفسه، نفس الأسنان الحادة التي تنكشِف عند كلِّ ابتسامة، نفس حركات اليدين ونفس الثنيات الجميلة في الذراعين، على جانبَي كلا المرفقَين. كانت الأزرار الذهبية في بزَّة ضابط الخيَّالة تنشر ألقًا في الدكان يتزايد كلما أوغلَ المساء. كان ما يزال بوسع المرء أن يرى الغلايين بوضوحٍ تام، لكن الفتاة — شبيهة الكونتيسة «ﻓ» — شعرت بعدم الارتياح لكونها بمُفردها مع الضابط الغريب، وأوقدت مصباح الكيروسين على نضد إلى يمين طاولة الدَّفع. ارتعش اللهبُ وأطلق دخانًا في البداية. اشترى تاتيتنجر خمسة عشر غليونًا فخاريًّا عديم الفائدة. وفوق ذلك سأل: «منِ السيدُ والدك بالضبط يا آنستي العزيزة؟»

قالت الفتاة: «باني المدافئ والأفران والمداخن آلويس شيناجل! يصنع الغلايين أيضًا، لكن كشيءٍ جانبي. أغلب الزبائن هم في الواقع أناس يحتاجون إلى مواقد. نادرًا ما يدخل أحدٌ دكاننا، فكلُّ الناس لديهم غلايين بالفعل.»

قال البارون تايتنجر: «سآتي غدًا مرةً أخرى. أحتاج إلى غلايين كثيرة.»

جاء في اليوم التالي مع خادمه، واشترى ما لا يقلُّ عن ستين غليونًا.

بعد ثلاثة أيام جاء إلى سيفرينج من جديد، وجدَ أنها «ظريفة». كان اليوم يوم سبت، في الثالثة بعد الظهر، ورحَّبت به ميتسي كأحد المعارف القدامى، رغم أن تايتنجر هذه المرة كان بملابس مدنية. كان الجو مشمسًا ودافئًا بالخارج. أغلقت ميتسي الدكان وصعدت إلى العربة وتوجَّهوا إلى كرونباور. ذهبوا إلى كرونباور وبعد ثلاث ساعاتٍ حكت للسيد الغريب أنها كانت شبه مخطوبة. نعم، مخطوبة إلى ألكساندر بارينر، حلاق وصانع شعور مستعارة. كانت تخرج معه كل أحدٍ.

كانت حكاياتٌ لم يُعِرها تايتنجر أي اهتمام، كما أنه فهمها بالكاد. في الواقع كان يعتقد أن هذه الفتاة الطيبة تُريد أن تزكي له حلاقًا جيدًا. قال لها: «أرسليه إليَّ فقط! أرسليه فقط! هيرِن جاسِّه رقم ٢، الطابق الأول.»

٨

ما أسرع أنْ شعرَ تايتنجر بالملل من ميتسي. أخبرته ذات يوم بأنها حامل، فكان هذا الحال أسوأ من ممل: كان ماسخًا.

عندما علم تايتنجر بهذا الخبر، ذهب إلى كاتب العدل. لم يعُد تايتنجر يحب الكونتيسة «ﻓ»، ولا شيناجل التي تُشبهها. إنه، كالعادة، لا يحب إلا نفسه.

وكما يقضي العُرف في تلك الأيام أوصى كاتب العدل بمتجر خردوات. كلُّ السادة الذين صرَّف لهم أمورهم أنشئوا مثل هذه المتاجر. وربما وجدت كلُّ السيدات في هذا الأمر خيرًا حتى اليوم. وعليه، فقد أخذ البارون إجازة لمدة شهرَين وسافر إلى باتشكا، إلى أحد أعمام أمه، حيث لا يمكن أن يصل إليه أيُّ بريد.

لم يصل إليه كذلك أيٌّ من رسائل الحب الملتهبة التي واظبت ميتسي شيناجل على كتابتها. كانت تُرسل هذه الرسائل إلى عنوان تايتنجر الوحيد الذي تعرفه؛ إلى هيرِن جاسِّه رقم ٢. مزَّق الدكتور ماوْرَر، سكرتير تايتنجر الذي يعرف كيف يُميِّز بين الخطوط، الرسائل دون قراءتها.

لما عادَ البارون تايتنجر من باتشكا، كان متجر ميتسي شيناجل للخردوات قد أُنشئ منذ مدة والعمل فيه على قدمٍ وساق. كانت ميتسي شيناجل في شهرها التاسع.

وضعت ولدًا، وأسمته آلويس فرانتس ألكساندر. آلويس فرانتس هو اسم الأب الحقيقي. أما ألكساندر فهو اسم العريس، الحلاق.

سارت أحوالُ المتجر على ما يرام، وكان الحلاق ما يزال على استعداده للزواج من ميتسي. وكذلك هي أيضًا كانت تتوق إلى حياة هادئة كريمة. غير أنها، بينما كانت تُفكِّر في مثل هذه الخطط المتَّزنة، كان الحب يسري في قلبها وعقلها، حبها لتايتنجر. بدا طفلها يتطوَّر على نحو رائع. لم تُرِد أن تتخلَّى لحظة عن الأمل في أن البارون تايتنجر سيأتي ليرى ثمرة صُلبه. لكن تايتنجر لم يأتِ.

لما صار ألكساندر في الثالثة من عمره، تعرَّفت ميتسي شيناجل — بمحض المصادفة إذا صح التعبير — على امرأة ثرثارة وأنيقة على أحد المقاعد بحديقة شونبورن بارك، قالت لها إن هناك بيتًا في حي فِيدِن، هناك سيكون المرء في أمان — هناك حيث يكون بين النبلاء — ثم ماذا يعني متجر خردوات — وأي حياة هذه، مع طفل وبغير زواج ومع متجر خردوات. أي حياة هذه؟ كثيرًا ما فكرت ميتسي شيناجل نفسها في هذا، حرفيًّا.

سألت ميتسي شيناجل: «أيُّ نبلاء هؤلاء الذين يتردَّدون هناك؟».

أجابت المرأة الغريبة: «أرقى النبلاء. يمكنني أن أخبرك بالأسماء أيضًا. عليَّ فقط أن أحضر القائمة.» ثم أسرعت وأحضرت القائمة.

لم تكن ميتسي تعرف لماذا ذهبت في اليوم التالي إلى السيدة ماتسنر. ما الذي يعنيها بشأن السيدة ماتسنر؟ ما الذي قد تكون سمعته من السيدة ماتسنر؟ كان هذا في الصيف، وتحديدًا في أواخر الصيف. كان الجو شديد الحرارة أيضًا. كانت طيور الشحرور المتأخِّرة والطائشة دومًا تُصفِّر على العشب الذي ما يزال أخضر بين أحجار الأرضية المبلطة بالحجارة. دقت الساعةُ السادسة بينما كانت تقف أمام منزل يوزفينا ماتسنر. في الأسفل عند الباب، كانت هذه الكلمات مطبوعة: «يوزفينا ماتسنر، مدلِّكة، الطابق الثاني، ثلاث دقات.» دقَّت ثلاث دقاتٍ.

دهمَ ميتسي مزيجٌ نفاذٌ حقًّا من أريج الزنبق والليلك والبنفسج والخزامى. وقبل أن تعي ما يحدث لها، كانت تقف فيما يُسمى الصالون الوردي: على الباب والنوافذ ستائر من الحرير الوردي، وعلى الجدران ورق الحائط المكوَّن من زهور وردية اللون، حتى مقبض الباب مثبَّت وسط برعم وردي من البورسلين.

ذات يوم، أو بالأحرى ذات مساءٍ، سيأتي تايتنجر الحبيب. سنواتٌ عديدة وهو من روَّاد بيت يوزفينا ماتسنر.

لما وقعت عينه على ميتسي شيناجل في هذا البيت، لم يندهش على الإطلاق، كما هو محتمَل من أغلب الرجال الآخرين في مثل هذا الموقف، بل اجتهدَ كي يجد سؤالًا مناسبًا لهذا الظرف. لم يعُد يذكر الكيفية التي عوَّض بها كاتبُ العدل ميتسي شيناجل، بمغسلة للملابس أم محل خياطة أم محل خردوات. في المقابل، كان يعتقد أن بوسعه أن يتذكَّر جيدًا أن الآنسة شيناجل كانت قد أنجبت منه طفلة، ورأى من الأنسب أن يسأل سؤالًا مهذبًا عن حال هذه الطفلة. ومن ثم، قال: «حياكِ الله! كيف حال صغيرتنا؟»

قالت ميتسي: «لدينا ولد!» واحمرَّ وجهُها للمرة الأولى بعد سنواتٍ طويلة، وكأنها لم تقُل الحقيقة الخالصة، بل كذبة.

قال البارون: «أوه، حقًّا، إنه ولد! عُذرًا!»

بعد برهة طلب شامبانيا ليشربها مع ميتسي في صحة هذا الولد، ولده. لم يسمع كل ما حكته ميتسي عن الولد. لم يسمع أنه في أيدٍ أمينة لدى السيدة شيشكا، وهي سيدة تنحدر من بييلسكو بيالا، إلا أنها موضع ثقة تامة. وأنها أيضًا تُدير محل الخردوات الذي يسير بحالٍ جيدة تمامًا. كانت ميتسي راضية في هذا الخصوص. كانت ترتدي فستانًا قصيرًا من الحرير الأبيض، ومن حين لآخر تعبث بأصابعها في مشد جوربها الأيمن لتتأكد من أن نقودها، الورقة من فئة عشرة جولدن، التي كسبتها اليوم لا تزال موجودة. ورغم أنها كانت تعلم أن البارون قد جاء إلى يوزفينا ماتسنر بحكم العادة فقط، فقد بدأت بعد كأسَين من الشمبانيا تُقنع نفسها بأنه قد جاء فقط لأجلها. وسرعان ما بدا للنقيب أيضًا أنه قد اتخذَ طريقه إلى هنا اليوم بسبب ميتسي. كان البارون ذا قلبٍ خفيف، سرعان ما يتأثَّر وسرعان ما ينسى. كان ما يزال يريد ميتسي بشدة، وتساءلَ لأي سبب بالضبط ترَكها. بل إنه كان يتمناها، لكن ثمة عقبة هائلة: بدا له من غير اللائق أن يشتريَ امرأةً كان قد نالها بلا مقابل، مجانًا إن صح التعبير، بصرف النظر عن متجر الخردوات. ومن غير اللائق أيضًا، إن لم يكن أسوأ، أن يأخذ إحدى الفتيات الأخريات أمام عينَي ميتسي. على أمل أن يستطيع النجاة من كل هذه الاعتبارات المحرِجة، أعطى لميتسي أولًا قطعة ذهبية، قطعة ذهبية من فئة خمسة جولدن.

تناولتها في يدِها بلا اهتمام، وقالت: «هيا لنَصعد، عندي، لديَّ غرفة لطيفة!»

دخل البارون الغرفة وبقي فيها حتى منتصف الليل غارقًا في ذكرياته. وعدَ بأن يعود كثيرًا، وأوفى بوعده أيضًا. لم يكن يدري إن كان ينساق وراء نقمة أم نعمة؛ إن كان يحبُّ الكونتيسة أم ميتسي؛ إن كان يحب أصلًا؛ إن كان ما يزال هو تايتنجر القديم. لم يكن ينقصه إلا القليل، ليكون بوسعه تصنيف نفسه ضمن الفئة الثالثة والأخيرة من البشر: فئة «المملين».

٩

سيد بلاد فارس القوي، سيد الثلاثمائة والخمس والستين امرأة، والخمسة آلاف والثلاثمائة وعشر ورداتٍ من شيراز، لم يكن معتادًا أن يكبت رغبة، ناهيكَ عن شهوة. ما كادت عينه تنتقي الكونتيسة «ﻓ» حتى أومأ إلى الوزير الأعظم. مالَ الوزير الأعظم على مسند الكرسي. همس الشاه: «سأقول لك شيئًا». ثم تابعَ قائلًا «أريدُ الشابة الصغيرة اليوم، ذات الشَّعر الأشقر الفضي، أتَعرِف أيَّ واحدة أقصد.»

تجرأ الوزير الأعظم ليرد: «مولاي، أعرف أيَّ واحدة تقصدون يا صاحب الجلالة. ولكنه …» كان يريد أن يقول «غير ممكن» لكنه كان يعلم جيدًا أن مثل هذه الكلمة قد تُكلِّفه حياته. فقال إذن: «… إن وتيرة الأمور في هذه البلاد بطيئة جدًّا!»

قال الشاه الذي يرى أن لا شيء مما يأمُر به غير قابل للتنفيذ: «اليوم!».

أمَّنَ الوزير: «اليوم!».

توقَّف الرقصُ لبعض الوقت. عادَ السيدُ وخادمه إلى مجلسيهما بوقار ولياقة. ابتسم إليهما الإمبراطورُ بود. بدأت الموسيقى مرةً أخرى. وبدأ الرقص من جديد.

قبل منتصف الليل قام صاحبا السمو. اختفيا، ابتلعَهما البابُ المزدوج ذو الدفتَين الموجود خلف كرسي العرش. كان الشاه ينتظر في غرفة مجاورة. وقبالته مباشرةً كان يقف تمثال من الفضة لديانا (إلهة الصيد) على لوح أسود مستدير، لدرجة أنه يستطيع أن يتأمَّله بدقة. تبدو له تجسيدًا حقيقيًّا للمرأة المرغوبة. كلُّ شيءٍ في هذه الغرفة يُذكِّر بالمرأة المرغوبة: الأريكة الزرقاء الداكنة في حجرة الاستقبال، وورق الحائط الحريري الأزرق الباهت، والليلك في المزهرية المايوليكا ذات العنق النحيل، وحتى الثريا الكريستالية، والحيوية الرائعة للشمعدان الرباعي الأرجل بأربعة أذرع صغيرة رشيقة، والزخرفة الفضية على السجادة المخملية الزرقاء الغامقة تحت قدمَي سيد بلاد فارس. فلننتظر! ننتظر! والشاه ليس معتادًا أن ينتظر.

مع الأسف عليه أن ينتظر. على بُعد عشرين مترًا منه ينعقد اجتماع، المشاركون فيه هم: الوزير الأعظم، ورئيس المراسم، وياور الإمبراطور. تقرَّر استدعاء رئيس الشرطة أيضًا. ومع ذلك، لم يجدوا مخرجًا: يريد الوزير الأعظم أن ينتحي جانبًا بصديقه الياور كيريليدا بايِدجاني، سيطلب منه أن يبحث، سيجعله يبحث. لكنه غير موجود، بايِدجاني الشاب الجميل المحب للحياة.

ما هو موضوع النقاش؟ كان يدور حول ما إذا كان يحقُّ للمرء أن يتعدى أصول الحشمة، أو يتعدَّى أصول الضيافة.

رفض رئيس المراسم بحزم وقور؛ وكذلك فعل ياور الإمبراطور. كان هذا بديهيًّا. لم يكن في اعتبار السيدين إبلاغُ صاحب السمو بهذه الرغبة الخاصة للضيف السامي. لكن لم يكن في الاعتبار أيضًا عدم تلبية رغبة الضيف السامي.

قال رئيس الشرطة أخيرًا إنه لا بد من العثور على رجل مناسب، من اللجنة الخاصة المنظِّمة للحفل. ولم يكد يلفظ كلمة «اللجنة الخاصة» حتى صاحَ رئيسُ المراسم باسم تايتنجر.

قرَّروا رفع الجلسة لبعض الوقت. ذهب اثنان من السادة إلى الشاه المنتظر في الغرفة الزرقاء. كان جالسًا في مقعده بوقار، يلعب بسواره اللؤلؤي، ولم يزد على أن سأل: «متى؟» كذب الوزير الأعظم: «بمُجرد أن نعثر على السيدة فقط. اختفت في زحام الحفل. نحن نبحث عنها بكل قوتنا.»

ما كانوا يبحثون «بكل قوتهم» عن السيدة التي يتوق إليها الشاه، بل عن تايتنجر.

لوَّحَ الشاه بيده وقال فحسب: «إني أنتظر!» كان في صوت جلالته صبر وتحمُّل، لكنْ يشوبه أيضًا شيءٌ من التهديد.

أبلغَ أحدُ المخبرين المتأنِّقين الذين كانت وظيفتهم مراقبة الذهاب والمجيء والتزام العادات والتقاليد والخروج عليها وصداقات السادة وعلاقاتهم، أبلغَ رئيسَ الشرطة أن البارون تايتنجر موجود منذ ساعة في الردهة، في حجرة الخدم، مشغول بابنة فيسيلي كبير المسئولين عن حفظ الملابس. توجَّه رئيسُ الشرطة على الفور إلى الموقع المذكور. عندما طرق البابَ نهض النقيبُ المنتدَب للخدمة الخاصة، وتوجَّه إلى الباب. لم يكن بأيِّ حال خائفًا من العار، أن يُضبط بواحدة من تلك الأفعال المشينة التي لم تكن فقط بديهية، بل بدت ضرورية أيضًا. كان ما يعنيه هو أن يخفي عن العالم أنه يخالط ابنة فيسيلي مسئول غرف الملابس. لم يكن يدري، هذا المسكين تايتنجر، أن المخبر السرِّي فوندارك يُراقبه بالفعل منذ مدة طويلة.

أصلحَ تايتنجر قميصَه وتوجَّه إلى الباب. كان يعرف رئيس الشرطة، فاستنتج أنهم يعرفون بالفعل أمر ابنة فيسيلي؛ ومن ثَم لم يُكلِّف نفسَه عناء أن يشدَّ البابَ خلفه عندما خرج إلى الممر.

قال رئيس الشرطة: «أيها البارون، أرجوك، حالًا!».

هتفَ تايتنجر بابنة فيسيلي في الداخل عبر الباب المفتوح «وداعًا!».

لم يسأل عن سبب استدعائه وهو يصعد الدرجات القليلة بجانب رئيس الشرطة. خمَّنَ أنه بخصوص مسألة صعبة للغاية، مسألة مرتبطة بالخدمة الخاصة.

نعم، لم يُنتدَب لشيءٍ غير ذلك آنذاك. في المواقف العادية قد يفشل؛ أما في المواقف غير العادية فإن خياله يعمل بكفاءة. هناك في الغرفة الصغيرة، حيث الرجال الثلاثة محملِقين حيارى، منهَكين من التفكير، شاحبين من الخوف، كأنهم مرضى من العجز، ظهر النقيبُ تايتنجر نشيطًا كريح فتية. وبعدما أخبره الآخرون بمشاغلهم، بلغة فرنسية هامسة قلقة، صاحَ كعادته، كأنما هو جالسٌ يلعب التاروت، بألمانيته الرسمية التي بدت وكأنها تُذكِّر بكل أراضي الإمبراطورية الملكية في آنٍ واحد:

«ولكن يا سادة! الأمر بسيط للغاية!»

أرهفَ الثلاثة السمع.

كرَّر تايتنجر: «الأمر بسيط جدًّا!». كلَمحِ البصر، في الثانية نفسها التي سمع فيها أن الأمر يتعلق بالكونتيسة «ﻓ»، استيقظ فيه حقدٌ كان حتى هذه اللحظة ما يزال غريبًا عنه، نوع مبتكَر من النزعة الانتقامية، انتقامية مبتكَرة للغاية، خيالية، بل شاعرية. تحدَّثت من داخله: «أيها السادة! هناك الكثير، عدد لا يُحصى، هناك عدد لا يُحصى من النساء في فيينا! صاحب الجلالة، الشاه، لا أريد أن أقول إن ذوقه سيئ، بل على العكس، على العكس تمامًا! لكن جلالته — كما هو مفهوم — لم تُتَح له من قبل فرصة واحدة ليعرف ما يوجد من … من … دعنا نقول: تقارب.»

كان يُفكِّر في نفسه، وبالطبع في ميتسي شيناجل. بدا له فجأة، وللمرة الأولى في حياته السهلة الخالية من الهموم ومن المسئولية، أنه قد فقد القلب والسعادة إلى الأبد. استولت عليه كراهيةٌ غامضة لا يعرف سببها تجاه الكونتيسة «ﻓ»، وامتلأت نفسه بأُمنية لم يُدرك حقيقتها، أن الشاه يسعى إلى امتلاكها فعلًا. اضطرمت في نفسه حيرةٌ لم يعرف مثلها من قبل: بينما كان لا يزال يتمنَّى تسليمها إلى الشاه الفارسي بطريقة مخزية، تلك المرأة التي أحبَّها من قبل، والتي يعتقد الآن في هذه اللحظة أنه يحبُّها من جديد، كان يرغب أيضًا وفي اللحظة نفسها أن يتجنَّب هذه العمَلية المهينة بأي ثمن. أدركَ فجأة أنه تعِسٌ في حبه؛ أنه يسعى إلى الانتقام بدافع من حبه التعس، وأنه يتعيَّن عليه في الوقت نفسه أن يحمي موضوع انتقامه وحبِّه كما لو كان مِلكًا له وحده؛ وأنه لن يُسمَح له حتى بتسليم شبيهة محبوبتِه، التي هي شيناجل؛ وأنه مع ذلك ما يزال مضطرًّا، ولو على نحو غير مباشر، لأن يخون ويبيع ويسبَّ ويفضح.

قال: «من السهل يا سادة»، وبينما كان يقول ذلك، كان يشعر بالخجل وبالفرح في الوقت نفسه. «من السهل يا سادة العُثور على أشباه في الحياة. كلٌّ منا تقريبًا له شبيه، أليس كذلك يا سادة؟ السيدات أيضًا لهنَّ شبيهات، لِمَ لا؟ السيدات لهن شبيهات، إذن فلنقُل: حتى بين السيدات المقصورات. سيعرف السيدُ رئيس الشرطة ما أعنيه! بهذا سنوفر على أنفسنا الكثير من الغضب. أعني أننا نوفر على أنفسنا متاعب محرجة للغاية، إن لم نقل حساسة، من جانب صاحب الجلالة، نوفِّر كل هذه الحيرة وكل معاملة فظَّة. كان يعتبر كلمة «حساسة» أشدَّ من «محرجة».»

فهِم السادةُ في التوِّ ما يرمي إليه. نظروا فقط بشيءٍ من القلق إلى الوزير الأعظم الذي لم يتخلَّ عن ابتسامته الثابتة المهذبة. أدركوا أنه لا يريد أن يعترف بأنه قد فهم أيضًا. وهو أيضًا قد أُعجِبَ بخيال النقيب العبقري. سأل بالفرنسية كأنما ليؤكِّد أنه غير قادر على فهم ألمانية تايتنجر: «السادة متَّفقون؟». «هل بلغ مولاي خبر؟»

قال تايتنجر وهو ينحني: «سنَعثُر على السيدة سريعًا يا صاحب السعادة!».

بعد خمس دقائق رأى الفضوليون المثابرون الذين ينتظرون في الشارع رغم الساعة المتأخِّرة يحدوهم أملٌ غامض وزهيد لرؤية كونت أو أمير، بل وحتى أرشيدوق يصعد إلى إحدى العربات، رأوا ما لا يقلُّ عن ثمانية عشر سيدًا يرتدون الفراك ويعتمرون القبعة العالية السوداء، يخرجون. أوه، لم يكونوا أمراء. بل هم المخبرون السريون من «الخدمة الخاصة» كما يُطلقون عليهم، المراقبون والبصاصون والعارفون بالعالم العُلوي والعالم السُّفلي والعالم البين بين. كان الحارسان الواقفان أمام المدخل يعرفانهم بالطبع. أطلق الحارسان الصافرات. فجاءت العربات ذات العجلات المطاطية، وركبها السادة.

يعرف كلُّ هؤلاء الرجال جميع السادة والسيدات من كل العوالم الثلاثة، كما قلت: العالم العلوي والعالم السُّفلي والبين بين. كان قائدهم رجلًا معروفًا من آل زدلاتشيك. وقبل انطلاقهم أكد لرئيس الشرطة: «لا تقلق يا سيادة الرئيس! في خلال نصف ساعة، في خلال ساعة على الأكثر، ستكون المرأة الكونتيسة هنا، أقصد: أختها التوءم.» يمكن الاعتماد على زدلاتشيك. لم يكن بحاجة إلى صور. كلُّ الوجوه محفوظة في رأسه. إنه يعرف الكونتيسة «ﻓ». ويعرف البارون تايتنجر. ويعرف حُب النقيب اليائس للكونتيسة. ويعرف أيضًا الطريقة التي كان تايتنجر يُعزي بها نفسه. يعرف ميتسي شيناجل، ويعرف محلَّ إقامتها الحالي، ليس هذا فحسب: أصلَها، والدكانَ في سيفرينج ووالدَها. ومع ذلك، وعلى النقيض تمامًا من البارون تايتنجر، كان لديه إحساسٌ واضح بأن الشبه بين ميتسي شيناجل والكونتيسة التي يتوق إليها صاحب الجلالة الفارسي ضعيفٌ جدًّا، خصوصًا وأنها ربما تكون قد تغيَّرت بدرجة كبيرة في بيت السيدة ماتسنر. على كل حال: ما يزال من الممكن استخدامها في حال لم يستطع رجاله أن يعثُروا على نموذج أقرب في الشبه.

بدا كلُّ شيءٍ على ما يرام، ولو مؤقتًا على الأقل، ولكن في غضون ساعة أو نصف ساعة كحَدٍّ أدنى، كان السادة المتورِّطون في هذه المسألة، أو بالأحرى المطلعون عليها، يأملون لو أن بوسعهم أن يلتقطوا أنفاسهم. لكن ما حدث بعد ذلك لم تكن له سابقة في سجلات تاريخ البلاط الإمبراطوري الملَكي: ظهر ضيفُ إمبراطور النمسا مرةً أخرى في القاعة. أُبلغَ على الفور قائدُ الفرقة الموسيقية، وعلى الفور أيضًا بدأت الفرقة عزفَ السلام الوطني الفارسي. كان وقعُه كالرصاص على جميع الأعضاء.

لم يرَ شيئًا، ولم يسمع شيئًا، ولم يُلقِ تحية. وبعد بضع دقائق راحَ يُخالط الضيوف ببساطة. راحَ يتجول في القاعة. لم يلاحظ أبدًا أن الناسَ كانوا يتنحَّون من أمامه، وأنهم كانوا يفسحون أمامه طرقًا واسعة جدًّا، وأن العالم يبدو كما لو كان منقسمًا أمامه إلى شطرَين. كانت الموسيقى تعزف باستمرار فالسات شتراوس، لكن نوعًا من «عدم الجرأة» كان يشلُّ كل الحاضرين.

تتبعه على الفور البارون تايتنجر. وعرفَ على الفور عمَّنْ يبحث الشاه. الوقت يمضي، وسرعان ما سيأتي رجال «الخدمة الخاصة». بأيِّ حال لا بد من الحيلولة دون دخول الشاه في محادثة مع الكونتيسة خلال نصف الساعة القادمة. ولا يمكن في كل الأحوال إخراج هذا الشاه من قاعة الرقص. لا بد إذن من إرسال الكونتيسة إلى منزلها.

ولتجنُّب الأسوأ، قرَّر البارون أن يتحدث إلى الكونت «ﻓ».

اقتربَ من الطاولة الصغيرة التي كان يجلس إليها الكونت بمُفرده. لم يكن يحب الرقص. لا يحبُّ اللعب. ولا حتى يحبُّ الشرب. كانت الغيرة شغفَه الوحيد. يسعد بها، ويعيش عليها. كان من عظيم سروره أن يجلس هكذا ويُشاهد امرأته الشابة وهي ترقُص. يكره الرجال. يبدو له أنهم جميعًا يتربَّصون بها. من بين كل الرجال الذين عرفهم كان النقيب تايتنجر وما يزال هو الوحيد الأعز لديه. كان قد انتهى منه منذ زمن، قضى عليه، لم يعُد يأخذه بعين الاعتبار. دخل تايتنجر في صلب الموضوع مباشرةً. «أيها الكونت، لا بد أن أتكلَّم معك بجدية. ضيفنا الفارسي مغرم بزوجتك!»

قال الكونت ذو الدم البارد: «وبعدُ! لا عجبَ في ذلك، كثيرون يُحبونها يا عزيزي البارون!»

«نعم، ولكن يا عزيزي الكونت، كما تعلم، أنت تعرف الشرق جيدًا!» ثم صمتَ لمدة طويلة. كان ينظر بجشع وقسوة وفي الوقت نفسه بتوسُّل أيضًا، إلى وجه الكونت الأشقر البليد البارد، الذي يُشبه نوعًا ما سمكة شبوط شقراء …

بدأ من جديد وقد أدركه اليأس: «أنت تعرف الشرق جيدًا!».

قال الرجل البليد وعيناه الزرقاوان الباهتتان تبحثان عن المرأة الجميلة: «الشرق لا يُهمني في شيء».

رباه! فكَّر تايتنجر. ألا يعرف حقًّا ماذا يريد الشاه؟ من أين له هذه اللامبالاة؟ إنه في العادة غيور جدًّا.

قال الكونت: «أتعلم، الشاه لا يعنيني في شيء! لستُ أغار من الشرقيين.»

صاحَ النقيب: «بالتأكيد، بالتأكيد! لا، لا!». لم يسبق له في حياته أن وجدَ نفسه في مثل هذا الموقف الحساس. وبالمناسبة، ها هو قد بدأ يشعر بوخز اللوم الصامت على أنه هو الذي وضع نفسه في هذا الموقف الحسَّاس! أحسَّ فجأة بحرارة الشموع تتدفَّق بإلحاح، عاصفة صحراوية متوهِّجة، وفوق ذلك حماقته الخاصة التي تُسبِّب له حرارة داخلية. بدأ يتعرَّق بالفعل، من الخوف بالأساس. لا بد أن تخرج، لم يعد يستطيع أن يكتمها أكثر من ذلك. وفي نوبة من العدوانية أطلقَ الجملة: «أعني، يجب أن نُخرج الكونتيسة من القاعة لفترة!»

احمرَّ وجه الكونت الذي كان جالسًا حتى هذه اللحظة متبلِّدًا وفاترًا. غضبٌ شرير أظلم عينَيه الصغيرتَين الشاحبتَين. هتفَ به: «علامَ تجرؤ؟». بقي تايتنجر جالسًا. قال: «رجاءً، اسمعني بهدوء.» ثم استجمع ما بقي لدَيه من طاقة وتابعَ قائلًا: «الأمرُ يتعلَّق بحماية شرف زوجتك، شرفك، شرف كل هؤلاء السيدات هنا في القاعة. يجب ألا يُقابل السيدُ القادم من طهران الكونتيسة اليوم تحت أيِّ ظرف. انظر كيف يجول في القاعة بنَهَم. إنه ضيفُ صاحبِ السمو. وهو زعيم متوَّج. وهو أيضًا ضيفٌ سياسي. لا يمكننا أن نتفادى وقاحاته إلا بالحيلة. في غضون نصف ساعة، ربع ساعة». نظرَ النقيبُ في ساعته، ثم قال: «سوف نُسوِّي كل شيءٍ. أستحلفك يا كونت أن تبقى هادئًا، واسمح لي أن أتحدَّث مع الكونتيسة لخمس دقائق.»

جلس الكونت، باردًا وشاحبًا من جديد، كما هي طبيعته. قال النقيب: «سأُحضرها!».

نهض على الفور، مرتاحًا ومع ذلك قلبه وَجِلٌ.

١٠

ما زال الأصعب لم يمرَّ. لم يكن من السهل أن تُنقَل لامرأة بكلماتٍ مناسبة حقيقةُ أن الشاه يرغب فيها كهدية ضيافة إذا صحَّ التعبير. لم يكن من الممكن إخبار المرأة بالقصة كاملةً. التفتَ رئيسُ الشرطة الذي كان يتحدَّث إلى وزير الداخلية إلى النقيب بطريقة ودِّية وكأنه لم يره منذ أيام. اعتذرَ الوزيرُ وابتعدَ في الحال. سأل النقيبُ: «هل عاد زدلاتشيك؟» ارتسمت على وجه رئيس الشرطة دهشةٌ بالغة.

أدركَ تايتنجر ما يدور بعد ثانية واحدة. لا يُبدي رئيسُ الشرطة أيَّ اهتمام، وحتى آخِر عمره لن يبدي أي اهتمام. لم يزد النقيب على أن قال: «سأعودُ حالًا!» وابتعدَ بأسرع ما تسمَح به الظروف. لقد أدركَ أن رئيس الشرطة سيُنكر تمامًا، لكنه لا يستطيع أن يُخمِّن بعدُ أي عواقب قد تترتَّب على هذه الخطة بأكملها. ذهب مباشرةً إلى الكونتيسة وقال: «زوجكِ أرسلني.»

كلُّ شيءٍ يسير الآن على ما يرام، ولو بصفة مؤقَّتة على الأقل. جاءت العربة أمام الباب. ركبت الكونتيسة «ﻓ» وزوجها. وقبل أن ينبس الكونت بأي كلمة للحوذي، رفع تايتنجر صوتَه بما تفتَّق عنه ذهنه: «إلى متنزَّه براتر، السادة يريدون بعضَ الهواء!»

وعلى الفور، بمجرَّد أن دارت العجلات بلا صوتٍ، ولم يكن يُسمع غير دَقٍّ خفيف رشيق لحوافر الحصانَين البُنيَّين، شعرَ النقيبُ بالخجل من صيحته الوضيعة. لقد أسرفتُ في الشراب حقًّا، هكذا فكَّر، أو ربما فقدتُ صوابي.

لكنه لم يفقد صوابه؛ فقد صحَّ ما توقعه. ذلك أنه لم يكن من الضروري على الإطلاق أن يُعطي تعليماتٍ مفصَّلة إلى فرانتس زدلاتشيك وأن يسرد كل التفاصيل. كان لديه ما يكفي من الخيال.

لم يكن هو ولا مرءوسوه قادرين على إيجاد امرأة ذات شأن — أو بحسب تعبير زدلاتشيك: «إيجاد شخص» — يمكن تقديمها إلى صاحب الجلالة بدلًا من السيدة التي انتقاها. لم يبقَ لزدلاتشيك إلا ميتسي شيناجل من بيت يوزفينا ماتسنر المعروف.

انتزعها على عجَل من بين ذراعَي حارس غابة عجوز، وأخذها كما هي معه في العربة المكشوفة، بفستان أحمر قانٍ قصير بالكاد يصل حتى مَشد الجوربَين على فخذَيها. في الطريق كان لديه وقتٌ كافٍ ليُلقي عليها التعليمات. «إياكِ أن تفتحي فمكِ. إذا سألكِ عن اسمكِ فقولي: هيلينا. تظاهَري بأنك متفاجئة، أنت لا تعرفين شيئًا، أنت سيدة، أتفهَمين؟ ألا تذكُرين كيف كانت أول مرة مع أول رجل؟ شغِّلي دماغك البليد وفكِّري! – أريني الآن، ولكن كوني طبيعية! السلوك هو ما أعنيه. أنا في مهمَّة عمل. ها؟»

تركَ زدلاتشيك الوضيعة في العربة تحت السقف المفتوح. أمام العربة الوحيدة التي كانت واقفة بمفردها بعيدًا عن العربات الأخرى بعشرة أمتار، كان يقف عسكري دورية. كانت ميتسي شيناجل تتجمَّد من البرد.

كان عليهم أن يُدبِّروا لها فستان سهرة: أزرق باهت، حرير، مكشوف، مع مشد للخصر، وجواهر وتاج. كان زدلاتشيك يُفكِّر في كلِّ شيءٍ. منذ رُبع ساعة كان رجاله، أربعة موهوبون من رجاله، ينبشون في حجرة الملابس بمسرح بورج. كان الحارسُ الليلي ينير لهم بالفانوس. أربعة أشباح في ملابس نبلاء، الفراك، والعصي في أيديهم، وعلى رأسهم قبَّعات رسمية طويلة سوداء، يُحدثون جلبة وسط مزيجٍ ليلي ناعس من أصوات قِطَع الإكسسوار المسرحي. كلُّ ما بدا أنه حرير ولونه أزرق باهت، خطفوه وجمعوه. ملئوا جيوبَ سراويلهم بجواهر مزيَّفة، وتيجان متلألئة مشعَّة، وزهور اصطناعية، وأربطة جوارب زرقاء شاحبة كأزهار الحمحم، ومشابك لامعة. جرى كلُّ شيءٍ بسرعة كبيرة لا تجري بها إلا شئون قليلة جدًّا في الدولة. لم يبقَ إلا وقت قصير — والفتاة اللطيفة شيناجل ستبدو للأعيُن الشرقية الغريبة كما لو كانت سيدة. كانت تنتظر في غرفة الملابس الخاصة بموظَّف البلاط من الدرجة الثانية أنطون فيسيلي الذي كانت ابنته مع تايتنجر قبل قليل واضطرَّ لأن يتركها بطريقة في غاية الفظاظة.

تمَّ كلُّ شيءٍ بعد ذلك تحت قيادة زدلاتشيك السامية بمُساعدة الياور الحاذق كيريليدا بايِدجاني. أوصلوا صاحبَ الجلالة الفارسي في عربة مغلَقة إلى بيت السيدة ماتسنر، يتبعه زدلاتشيك في العربة المكشوفة. لو أن أحدًا من الضيوف الدائمين مرَّ بالصدفة في هذه الساعة، لظن أن البيت، بل الشارع كله، مسحور. البيت نائم، والشارع نائم، والفوانيس مطفأة، والعالم كله يبدو مطفأً. وحده الشريط الضيق الراكد من السماء فوق أسطح المنازل كان مستيقظًا، ونجومه الفضية تتلألأ.

كان من الصعب أيضًا التعرُّف على بيت السيدة ماتسنر من الداخل. جلست كلُّ العاملات في البيت في غرفهن محبوسات. احتفظت السيدة ماتسنر بالمفاتيح. بفستانها الرمادي ذي الطوق العالي والمقفَل بإحكام، وسط إضاءة خافتة كالغسق كانت قد أعدَّتها بنفسها بجهدٍ جهيد، بفضل الستائر والمفارش بمختلف أنواعها، حتى لا يظهر الديكور العادي بوضوح، كان مظهرها يُذكِّر بشبح وصيفةٍ وكاتمة أسرار قامت بعد سنوات طويلة بل بعدَ قرون من موتها. استقبلت الثنائي، ميتسي وصاحب الجلالة، بانحناءة عميقة عند وصولهما. لا صوتَ يُسمع ولا شيء يُرى بوضوح. يجب أن يعتقد صاحبُ الجلالة الشاه أنه قد هبط في أحد القصور الغربية المسحورة التي كان خياله الواعد يُمنِّيه بها كثيرًا في طهران منذ سنوات طويلة. لقد صدَّق الشاهُ هذا بالفعل. ولأنه كان أكثر سذاجة وطفولية بكثير من مسيحيٍّ أوروبيٍّ سطحي وصل إلى بلاد فارس في تلك السنوات، وظنَّ أنه اكتشفَ أسرار ما يُسمَّى بالشرق، لمجرَّد أنه تمكَّن من رؤية واحدٍ من أماكن اللهو المفتوحة للعالم كله، أُخِذَ صاحبُ الجلالة في هذه الليلة بأسرار الغرب التي يعتقد أنه كشفَ النقابَ عنها نهائيًّا. قال لنفسه بسذاجته المفتونة: إذن فالأمر ليس هكذا. النساء الرائعات في هذه البلاد لا ينتمين فقط لأزواجهن! وواصلَ قوله قائلًا: صحيحٌ أنه لا يوجد حريم في هذه البلاد، لكن ما أجمل وأسحر وأفتن الحب بلا حريم!

أنت لا تشتري المرأة، بل تحصُل عليها كهدية! في الوقت الذي يدعو فيه هؤلاء الغربيون إلى الفضيلة والزواج الأحادي، لا يكشفون زوجاتهم فقط … لا، بل يُعِيرونهنَّ (للغير) أيضًا!

في هذه الليلة اقتنعَ صاحبُ الجلالة، شاه فارس، بأن فن الحب عند الغرب أكثر تطورًا بكثير جدًّا منه في وطنه. في هذه الليلة استمتعَ بكل المتَع التي لا يمكن أن يمنحها النوعُ المعتاد من الحب في بلاده لرجلٍ تسكنُه الشهوة، بل هو النوع غير المعتاد وغير العادي والغريب. بدت الأساليب التي أوصى بها زدلاتشيك قائد البوليس السري ميتسي شيناجل لحاكم الفُرس غريبة. إنه ليس أوروبيًّا، ولديه حريم يمتلئ بثلاثمائة وخمس وستِّين امرأة. بعدد أيام السنة. لكنه هنا في بيت يوزفينا ماتسنر لا يملك إلا واحدة فقط.

قضى زدلاتشيك الليلة بأكملها منتظرًا في العربة المكشوفة. أوه! إنه ليس واحدًا من تلك الشخصيات الضعيفة غير الموثوقة التي تستطيع أن تنام قبل أن تُتمَّ عملها. على العكس، لم يكن النوم أكثر بعدًا عنه مما هو الآن، ولم تكن عينه أشد يقظة منها الآن! كان هذا ما تمليه عليه طبيعته. لم يكن ينتظر أي مكافأة أو وسام أو ترقية. أشياءُ خفية عليه أن يُنجزَها في الظلام، ينبغي أن تبقى سرية إلى الأبد! ولا ينتظر أي أجر!

لما استيقظ الشاه في الصباح التالي لم يجد أحدًا بجانبه في السرير. نظرَ حوله بدهشة، يكاد يكون مصدومًا. من سدول السرير ذات اللون الأخضر الداكن التي ينام تحتها كانت تتدلَّى شُرابة معلَّقة بخيط مجدول. كانت رثة مهترئة. شدَّها على أمل مبهَم أن تُحدِث صوتًا في مكان ما. لم يكن مخطئًا على الإطلاق؛ كانت جرسًا.

رجال كثيرون غيره قد استعملوها من قبل.

١١

لاحَ قوس سماءٍ صباحي أزرق حَنون فوق المدينة. ينشر الندى رائحة طازجة منعشة في أرجاء الحدائق، تختلط بالرائحة الدافئة المزَّة لأرغفة الخبز الوليدة توًّا في سِلال الخبازين.

كان صباحًا ربيعيًّا بجمال ساطع. لم يرَ الشاه المسكين شيئًا من هذا. كان يتدحرَج في عربة مغلَقة عبر الشوارع الباسمة، يحرسُه أكثر مما يُرافقه رجلان يقظان من حاشيته. كان مزاجُه سيئًا. صحيحٌ أن مغامرة الليلة الفائتة تركت فيه ذكرى حلوة، لكنه في سلامة نيته كان قد توقَّع تجربة عظيمة صاخبة؛ كان يتوقَّع تغييرًا في قلبه، وفي الطريقة التي بها يرى ويسمع ويُحس. كانت — إذا أردنا الحقيقة — خيبة حياته. كان قد تصوَّر احتفالًا عظيمًا من نوع ما، لكنه لم يكن سوى حفل صغير. ما الذي عرفه الآن عن الحب الأوروبي أكثر من ذي قبل؟ لم يعُد يحب المدينة كما كان مساء الأمس. وعمومًا بدت له الأمسية الماضية كخداع بصري مبهر. وكلما طالت مدةُ السير، وازداد النهار إشراقًا، صارت روح صاحب الجلالة أشد قتامة، وزادت مرارتها. تذكَّر الكلمات الحكيمة لرئيس خصيانه إذ قال له إن الشهوة والفضول ليسا إلا وهمًا. كان في قلبه كثيرٌ من المرارة وتوقٌ إلى الندم. كان شعوره أشبه بصبيٍّ كسَر لعبته الجديدة قبل ساعة.

لم يقُل كلمة لمرافقيه. ولو أن هناك أي شيءً على الإطلاق، لأحبَّ أن يقول، على سبيل المثال، إن العالم الذي كان قبل بضع ساعاتٍ شديدَ الثراء، أصبح الآن فارغًا فجأة. لكن هل كان هذا يليق به، وهو السيد والشاه؟

بمجرد وصوله استدعى رئيسَ الخصيان. سأله الشاه، وهو يتناول نصف برتقالة يُفرغه بالملعقة على مهل، عما إذا كان سعيدًا هنا. كانت هناك رائحة محلية دافئة، يمكننا أن نقول تقريبًا رائحة فارسية في الغرفة، من القهوة الثقيلة التي شربها الشاه قبل قليل. يُعدُّونها على لهبٍ صغير مكشوف وجميل في وعاء خاصٍّ من الخزف. كانت النار الصغيرة ما تزال مشتعلة؛ تبدو وكأنها نارُ قربان.

قال رئيسُ الخصيان إنه سعيد هنا، كأيِّ مكان آخر يكون فيه بالقُرب من مولاه. فكَّر الشاه أنه كذاب قديم. ومع ذلك كان سماعه لعبارات التملُّق يُسَرِّي عنه. قال: «لديَّ رغبة في أن أجعل حياتك مريرة منذ الآن عقابًا لك على كذبك.» قال الخصي: «مولاي دائمًا رحيم. حتى عقابه لن يجعل حياتي مريرة!» سأل الشاه: «كيف حال نسائي؟». أجابه الخصي: «مولاي، بخير وعافية، يأكلن جيدًا، وينمن في راحة، على سُرر واسعة مريحة. شيءٌ واحد فقط يجعلهن غير سعداء: أن سيدهن لا يزورهن.» قال الشاه: «لا أريد أن أرى أيَّ امرأة، لسنة قادمة. حتى هذه الأوروبية أيضًا لم تُسعدني. أنت الوحيد الذي تنبَّأ بهذا. هل لا بد أن يكون الرجل مخصيًّا كي يؤتى الحكمة؟» أجاب الخصي: «مولاي، أنا أعرف خصيانًا حمقى، ورجالًا طبيعيِّين حكماء.» كانت هذه إهانة، وقد شعر بها الشاه. سأل صاحبُ الجلالة: «ماذا تفعل لو أنك أُصبت بخيبة أمل؟». فأجابه الخصي: «سأتألَّم، وأدفع الثمن يا مولاي. خيبات الأمل مكلِّفة.»

قال صاحب الجلالة: «صحيحٌ، نعم!» وطلب الشيشة، وظلَّ صامتًا لفترة طويلة.

خلال هذه الفترة الطويلة قرَّر أن يعود إلى بلده. لم يعُد يُعجبه الحال هنا. شعر بأن الغرب قد أساء إليه. لم يجد ما كان يُمنِّي به نفسه. غشيت الكآبة وجهَه الناعم الضارب إلى الصُّفرة، وبدا، لثانية من الزمن، هَرِمًا على الرغم من لحيته السوداء اللامعة الفتية.

قال الشاه: «لو لم تكن مخصيًّا، فلربما تبادلتُ معك الأدوار». انحنى الخصيُّ بعمق. قال الحاكم: «يمكنك أن تذهب!» لكنه صاحَ على الفور: «لا، ابقَ!»

«ابق!» كرَّرها مرةً أخرى كما لو كان يخشى أن يُفلت منه حتى خصيُّه. هو وحده، ولا أحد غيره من حاشية الشاه، القادر على انتقاء ومنح أجمل الهبات وأروعها. الخصيان أهل شهامة.

قال الشاه: «سأُكلِّفك بمُهمة. أُريدك أن تحمل هدية إلى سيدة هذه الليلة. ولتُراعِ أن تليق بجلالتنا، ولكن تليق أيضًا بذوقك الذي أثق به. انتبِه لئلا يراك أحدٌ من حاشيتنا. عليك أن تعثُر على البيت والاسم. لن أشغل بالي بهذا الأمر بعد الآن. أنا أعتمد عليك!»

قال رئيسُ الخصيان: «لك هذا يا مولاي!».

كان قد أنجزَ في حياته أشياء أدق وأصعب. عاش منذ وصوله في علاقة طيبة مع الخدم والأتباع، وكانت له خبرة طويلة في التمييز بين عبيد المال والمرتشين، بين الأذكياء والنافِعين والحمقى. لا يعرف لغة البلد، لكن العالم كله يعرف لغته: إنها لغة الذهب والإشارات. الناس يفهمون رئيس الخصيان بكل وضوح.

كان من السهل العثورُ على الطريق إلى ميتسي شيناجل. كان كلُّ العاملين في البلاط يعرفون أين قضى الشاه ليلته. كان الأصعب هو العثور على هدية، مثلما أُمِر رئيسُ الخصيان، تليق بقوة الحاكم وبذوقه هو. فكَّر طويلًا. لم يكن يعرف السيدة. وفقًا لتصوراته، لا بد وأنها ذات مكانة عالية. قرَّر قلادة من ثلاثة عقود ثقيلة من اللؤلؤ. بدا له أن ثمنها مناسب. ومن ثم، استقل العربة بعد الظهر، برفقة خادم البلاط شتيفان لاكنر، إلى بيت السيدة ماتسنر.

لم يكونوا مستعدِّين لهذه الزيارة. كانت السيدة ماتسنر نفسها ما تزال بثياب النوم، وكان عازف البيانو بولاك يرتدي بنطالًا داخليًّا رقيقًا وطويلًا وينتعل الشبشب. لم يكن رئيسُ الخصيان، الذي يرتدي حُلة أوروبية زرقاء داكنة متحفِّظًا لدرجة يبدو معها هذا التحفُّظ وكأنه محاولة للاختفاء، بأيِّ حال من الأحوال أحمق لدرجة ألا يُدرك على الفور أين هو. لم يكن الأمر يتطلَّب خبرات أوروبية ولا خبرات جنسية حقيقية لإدراك حِرفة السيدة ماتسنر. شعر بالأسف على اللآلئ الرائعة في علبتها الفضية.

أحضروا له ميتسي. جاءت بشعرها غير المصفَّف المعقوص على عجل فبدا مشعثًا، وبوجه تُغطيه بودرة ثقيلة، بفستان أحمر لبسته على عجل أيضًا. كانت بعضُ الأزرار في الخلف لم تزل مفتوحة، ما جعلها تقف متخشِّبة وظهرها إلى الباب الذي دخلت منه؛ كانت تقف هناك مثل شخص محكوم عليه بالإعدام ينتظر طلقات الخلاص. بهذه الوقفة تلقَّت باقة الأوركيد، والعُلبة الفضية، والحديث الطويل غير المفهوم من السيد البدين الأزرق الداكن. أومأت برأسها، وابتلعت ريقها بضعَ مرات. لم تكن السيدة ماتسنر حاضرة، ربما كانت نظرتها تُشجِّعها. ذهبت السيدة يوزفينا سريعًا لتُبدِّل ملابسها. وعندما دخلت أخيرًا، مسلَّحة ومستعدة تمامًا لأي مغامرة، كانت كل المراسم قد انتهت للأسف، والسيد الأزرق الداكن ينسحب. وبالرغم من تحولها، فقد فطن إلى يوزفينا ماتسنر على الفور، وسحب محفظته وبانحناءة خفيفة مَد يده بها إلى سيدة المنزل. كانت المحفَظة خفيفة. لا عجبَ؛ فلم يكن بها سوى عملات ذهبية.

عندما أبلغَ رئيسُ الخصيان مولاه في اليوم التالي بأن الأمر قد تمَّ، سأله الشاه إذا ما كانت السيدة قد قالت شيئًا. أجاب الخادم: «مولاي، لن تنساك أبدًا. كان هذا واضحًا رغم أنني لم أفهم لغتها.»

١٢

كثيرون ظلُّوا يذكرون الشاه لفترة طويلة، الراضون منهم والمستاءون. إذ كان قد وزَّعَ الأوسمة والهدايا حسب تقديره الشخصي دون أن يستمع إلى سفيره أو يلتفت إلى درجة ومكانة الممنوحين الهدايا والمكرمين بالأوسمة.

كان التَّعِسُ الوحيد حقًّا هو النقيبُ تايتنجر. ففي اليوم التالي لمغادرة الضيف السامي، جرى تسريحه من «الخدمة الخاصة» وإعادته إلى فِرقته العسكرية بسلاح الفرسان.

غرقت القصةُ المؤسفة برمَّتها في بحر النسيان؛ أي في ملفات الأرشيف السري للشرطة. فلا سبيلَ أبدًا لمعرفة لماذا توجبَ على تايتنجر المسكين العودة إلى حاميته بهذه السرعة.

لم يبقَ للبارون في الحامية الصغيرة بمنطقة سيليزيا شيءٌ آخر غير التفكير في قصته البائسة. كانت لديه نظرةٌ ثاقبة: لقد وصل إلى ما يمكن اعتباره لحظةً عابرة من الوعي بالذات وأصدر بحق نفسه ما يعتبره حُكمًا شديد القسوة: رأى أنه لم يعُد «ظريفًا» على الإطلاق. ومنذ ذلك الحين بدأ يشرب أيضًا. فكَّر أكثر من مرة في أن يكتب إلى الكونتيسة «ﻓ»، ويطلب منها العفو لأنه كشفَ عن هويتها للفارسي. لكنه مزَّقَ الخطابَ الأول، والثاني، والثالث. ثم راحَ يشرب أكثر فأكثر.

كثيرًا ما كان يحلم بتلك اللحظة، حيث يرى نفسه ينزل الدرج ويجد الجاسوس في مواجهته رافعًا له قبعته الأسطوانية العالية. وفي الوقت نفسه، يرى نفسه ينزلق على منحدر حجري أملس. لم يعد يجد سعادته في النساء، الخدمة تصيبه بالملل، ورفاقه لا يحبُّهم، والعقيد ممل. المدينة مملة، والحياة أسوأ من مملة. لم يجد تايتنجر في قاموسه كلمة تعبر عن هذا.

لقد انزلقَ وغرقَ. كان يشعر بأنه ينزلق ويغرق. كان يود لو يتحدَّث مع شخص ما عن هذا الأمر، مع ميتسي شيناجل على سبيل المثال، وهي التي يحلم بها أيضًا في بعض الأحيان. لكنه كان يشعر بنفسه كما لو كان أخرس تمامًا وبليدًا تمامًا لدرجة لا يقدِر معها على قول أيِّ شيءٍ صحيح وحقيقي. ولذا، التزمَ الصمتَ. وراحَ يشرب.

في تلك الأثناء، لم تدُم النشوة الكبرى لميتسي شناجل لثلاثة أسابيع. وقد سرت النشوة أيضًا في بيت السيدة يوزفينا ماتسنر بأكمله. كما انتشى كلُّ أهل سيفرينج لما أخبرهم تاجرُ الغلايين شيناجل العجوز أن ابنته صارت الآن من خاصَّة شاه فارس وتُخطِّط للسفر إلى طهران. فبهذه الدرجة من التحريف وصلت إلى سيفرينج أخبار المغامَرة الشرقية لميتسي. كانت هناك وفرة من ناقلي الأخبار ومروِّجي الشائعات. الخبر الأول أتى به الحلاق ألكساندر. في البداية لم يُصدِّقه أحد؛ شعر بإهانة شديدة، لدرجة أنه توسَّل إلى ميتسي أن تذهب بنفسها إلى أبيها. وهو ما فعلته في النهاية. ذهبت في عربة يجرُّها حصانان. لما صعدت إلى العربة، جلس الحلاق ألكساندر بجانبها وبقي في مكانه لوقتٍ طويل. لكن لما اقتربوا من سيفرينج، غيَّر مكانه؛ جلس قبالة ميتسي على المقعد الخلفي.

كان لَمُّ الشمل حارًّا، يهزُّ القلب. بكى شيناجل العجوز. لم تكد تمرُّ ستة أشهر على اليوم الذي أكَّد فيه لأهلِ سيفرينج جميعًا أنه تبرَّأ من ابنته وقرَّر ألا يراها مرةً أخرى طوال حياته. لكن ماذا يمكن للإنسان أن يفعل أمام قوة الذهب؟ على مرأى من الجميع عانق العجوز شيناجل ابنته التي تبرَّأ منها.

عندما خرجت ميتسي شيناجل من دكان أبيها، شكَّل الناسُ أمامها ممرًّا صغيرًا. كانت إطلالة شيناجل جميلة ومؤثرة، في ثوبها الرمادي الداكن، وقبعتها الكبيرة من قماش أزرق، والمظلة الرمادية الشاحبة في يدها. لا يمكن لشعب سيفرينج أن يتمنَّى ملكة غيرها للشعب الفارسي الصديق. ابتسمت وحيَّتهم ثم صعدت إلى العربة، وعاد الحلاق ألكساندر إلى مكانه قبالتها. دوى سوطُ الحوذي بخفة ومرح. دارت عجلات العربة المكشوفة، عائدةً إلى المدينة، ولوَّحت ميتسي بقفاز أبيض. وقفَ العجوز شيناجل أمام بابه وبكى. لم تكن هذه هي ساعة الذروة الوحيدة في حياة ميتسي شيناجل الجديدة على أيِّ حال. ثمة ساعات كثيرة من هذا القبيل … كانت أيامُها تتألَّف من ساعات ذروة عالية.

كانت اللآلئ مكنونة في بنك إفروسي، ولم يكن ثمَّة ما يدعو للقلق بشأنها. لكن، تُرى إلى أيِّ مدًى يستولي الحظ السعيد على تفكير فتاة فقيرة عاجزة، حين ينزل عليها بمثل هذه القوة التي لا تأتي بها إلا الكوارث عادةً! عليها أن تُؤسِّس حياةً جديدة. لا بد أن تُلحِق ألكساندر الصغير بمدرسة داخلية لتجعل منه إنسانًا حقيقيًّا، تُريده أن يصبح سيدًا نبيلًا! كيف تستطيع مكافأة ماتسنر؟ كيف تكافئ ألكساندر خطيبها؟ هل عليها أن تبقى في فيينا؟ ألن يكون من الأفضل أن تنتقل إلى مدينة أخرى؟ وربما خارج البلاد؟ يسمع المرءُ عن مونت كارلو، ويقرأ من حين لآخر في صحيفة «كرونه تسايتونج» عن أوستند، عن نيس، عن إيشل، عن سوبوت، عن بادن-بادن، عن فرانسنسباد، عن كابري، عن ميرانو! يا إلهي! يا له من عالم كبير حقًّا! صحيحٌ أن شيناجل لم تكن تعرف أين تقع كلُّ هذه الأماكن، لكنها على الأرجح كانت تعرف أن بوسعها أن تصل إليها جميعًا. أدهشَ ثراؤها المفاجئ الجميعَ، أما هي فقد زلزلها. ملأت لياليها حين يُجافيها النوم، وأحلامَها حين تنام، رُؤًى متداخلة من منتجعات، وأثاث، وبيوت، وقصور، وخدم، وخيول، ومسارح، وسادة نبلاء، وكلاب، وأسيجة حدائق، وأرقام يانصيب، وملابس، وخياطين. توقَّفت عن استقبال الزبائن منذ مدة طويلة. داومت يوزفينا ماتسنر على نصحها، رغم أنها هي نفسها قد أصابها ما أصابها من هولِ هذا الحظ السعيد الذي أصابَ فتاتها. ومع هذا كلِّه، كان لا يزال لديها من العقل ما يكفي ليجعلها تُسدي إلى ميتسي أفضلَ النصائح.

نصحتها السيدة ماتسنر: «تزوَّجي ألكساندر. إنه يفتح محلًّا كبيرًا، صالونًا، في وسط المدينة. استغلِّي جزءًا من المال في محل الخردوات، وجزءًا في مشروعي. سيكون كلُّ شيء موثَّقًا لدى كاتب العدل. سلِّمي ابنك للكنيسة في جراتس. وعندما تشعرين بالملل من ألكساندر اتَّخذي عشيقًا! المالُ لديك مثل التبن إذا ما أحسنتِ إدارته، وإلا فستُنفقينه وينتهي في غضون عامَين. اسمعي نصيحتي، أنا أريدُ مصلحتك!»

لكن ميتسي شيناجل لم تكن في وضعٍ يسمح لها باتباع النصائح الرشيدة. كانت تُفكِّر أحيانًا في زوج، لم يكن غير النقيب تايتنجر البعيد المنال. كان يطيب لها أن تتخيل أنه سوف يستقيل من الخدمة، ويتزوَّجها، الآن، بعد أن أصبحت بهذا الثراء. قدَّر الصائغ جويندل قيمة اللآلئ بحوالي خمسين ألف جولدن. وبضمان هذه اللآلئ، وضع بنك إفروسي حسابًا بعشرة آلاف تحت تصرُّفها. حتى هذا الحساب أفزعَ ميتسي المسكينة وأصابها بالدوار. كانت دائمًا ما تحمل معها في مَشدِّ جوربها ألف جولدن من الأوراق النقدية. ومائة جولدن، عبارة عن عشر قطعٍ ذهبية، في محفظتها. ومائة جولدن أخرى من الفضة تدخرها السيدة ماتسنر.

ذات يوم، رأت ميتسي أنها لا بدَّ وأن ترى تايتنجر. دهمتها هذه الفكرة بقوة لدرجة أنها استقلَّت عربة وتوجهت إلى محل جرونبرج في ميدان جرابِن واشترت أربعة فساتين، أرسلت ثلاثة منها إلى البيت، والرابع الذي رأت أنه الأجمل، لبسته. ثم توجَّهت إلى هيرِن جاسِّه، إلى البيت العزيز الذي تعرفه جيدًا. عرفت أن النقيب قد أُعيد إلى كتيبته. ملأتها حيرةٌ أكبر. بدا لها أنها، بعيدًا عن عاصفة الحظ الذهبي التي أذهلتها ودوَّختها، كان عليها أن تتمسَّك بحُبِّ قلبها، بالرجل الوحيد الذي أحبته.

استولت عليها فكرةُ أنها يجب أن تذهب إلى تايتنجر في حاميته. أخبرت السيدة ماتسنر أن عليها أن تُسافر. قالت السيدة ماتسنر: «ستَكتبين إليه أولًا. لا أحدَ يقف على باب أحدٍ هكذا فجأة. لا ترمي نفسك عليه بهذه الطريقة، خصوصًا الآن وأنتِ لديك أكثر مما لدَيه.»

كتبت ميتسي شيناجل أنها أصبحت غنية، وأنها تفتقد تايتنجر، وسألت متى يمكنها أن تأتي. تلقَّى البارون تايتنجر الخطابَ في مكتب الحامية. بدا له الخط مألوفًا، لكنه منذ بضعة أسابيع يشعر تجاه الخطوط المألوفة تحديدًا بشيءٍ من النفور. دسَّ الخطاب في جيبه دون أن يفتحه. قرَّر أن يقرأه في المساء. لكنه لم يخلد إلى النوم إلا عند الثالثة صباحًا، لدى عودته مباشرةً من مقهى بيلنجر. ولم يُصادف الخطاب مرة ثانية إلا بعد يومين؛ فقط لأن الخادم أفرغَ جيوبه.

بدا له أن مقابلة ميتسي شيناجل مرة أخرى أمرًا شديد الفداحة. إنها تُذكِّره بجريرته الطائشة. كان يُفضِّل أن يمحو هذه الحلقة بأكملها من حياته. لكن هل يمكن للمرء أن يمحو من حياته قصصًا كأنها لم تكن؟

قال النقيبُ تايتنجر مخاطبًا ضابط الصَّفِّ تسينوفر — وكان أحد «الظرفاء» القلائل في الكتيبة — إنه يريد إبلاغ الآنسة ميتسي شيناجل رسميًّا، إذا جاز التعبير، على عنوان السيدة ماتسنر، بأن السيد النقيب في إجازة لأسباب صحية ولن يعود إلى الكتيبة قبل ستة أشهر.

بكت ميتسي شيناجل طويلًا وبحرقة مستفيضة بعدما تلقَّت هذا الخطاب. بدا لها أن حياتها انطفأت نهائيًّا — ومتى، في اللحظة نفسها التي كان ينبغي أن تبدأ فيها. فقرَّرت أن تُحضر ابنها وتحتفظ به في الوقت الحالي. لعله كان عزاءً لها.

وانتقلت إلى بادن. استأجرت منزلًا في شارع شِينك جاسِّه لمدة عامَين. اشترى اللآلئَ الصائغُ جويندل. وتولَّى إدارة الأموال كاتبُ العدل زاكس. حصل العجوزُ شيناجل على خمسمائة جولدن. وحصلت السيدة ماتسنر على خمسمائة جولدن. وحصل الحلاق ألكساندر على خمسمائة جولدن. وحصل الخياط جرونبرج في ميدان جرابِن على ألف جولدن. كان الجميعُ سعداء، باستثناء ميتسي شيناجل نفسها.

١٣

بعد فترة من الوقت تبين أن مدينة بادن المنتجعية لا يمكن أن يكون لها تأثيرٌ إيجابي على وجدان ميتسي. وكان هذا لعدة أسباب. أولها سباقات الخيل. لم تستطع ميتسي شيناجل البقاء في المنزل. لم تكن قد شاركت في أي سباق من قبل. بدا لها الآن أنها يجب أن تذهب إلى كل السباقات. بدا الأمر كما لو أن قوة جهنمية تدفعها إلى أن تستمر في تحدِّي القدر، القدر الذي حرَّك نحوها ذات مرة عاصفةً من الحظ السعيد.

دون أي معرفة بطبيعة الرجال، كالحال بعد الإقامة في أحد البيوت المشبوهة حسبما يُطلقون عليها، حيث لا يعرف المرءُ عن العالَم الحقيقي إلا أقل القليل، تمامًا كما هو الحال في مدرسة داخلية للفتيات، كانت ميتسي تحكم على الرجال الذين تقابلهم وفقًا لمعايير قد تكون صالحة لضيوف الساعة الواحدة في بيت السيدة ماتسنر. ومن ثم، لم يكن غريبًا أن تنظر إلى بعض النصَّابين والصعاليك على أنهم سادة أهل ثقة من خلفية اجتماعية جيدة. كانت وحيدة. تشعر بالحنين إلى بيت السيدة ماتسنر. تكتب كل يوم بطاقاتٍ بريدية مصوَّرة إلى أبيها، وإلى السيدة ماتسنر، وإلى كل واحدة من فتياتها الثمانية عشرة، وإلى كتيبة تايتنجر مع تأشيرة على المظروف: «يُرجى تسليمه باليد، شكرًا، شيناجل.»

كانت تكتب دائمًا الكلام نفسه: تعيش حياة رائعة، وتستمتع أخيرًا بالدنيا. لم يصلها أيُّ رَدٍّ من تايتنجر. كانت السيدة ماتسنر ترد من حينٍ إلى آخر ببطاقةٍ بريدية عادية بها نصائح وتحذيرات معقولة. اشتركت الفتياتُ جميعهنَّ في بيت ماتسنر في الرد برسالة مكتوبة على ورقة زرقاء من أوراق الخطابات ذات حوافَّ مذهَّبة بدأت ﺑ «نحن سعداء لأنكِ في خير حال، ونُفكِّر فيكِ كثيرًا.» مذيَّلة بالتوقيعات: روزا، جريتل، فاللي، فيكي، وكل الأخريات، حسب العمر ودور كلٍّ منهن في بيت ماتسنر. كانت ميتسي تنتظر كلَّ واحدة من هذه المراسلات بشوق، تقرؤها بلهفةٍ غريبة: كان عذابًا أكثر منه فرحًا.

أما بالنسبة إلى الرجال، فقد كانت ميتسي لا تعبأ بهم إلا لاعتقادها الراسخ بأن الحياة دون رجال غير ممكنة كما هي دون هواء. عندما كانت لا تزال فقيرة وقليلة الحيلة في بيت ماتسنر، كانت مضطرةً لأخذ المال. الآن يمكنها أن تمنح الحب بلا مقابل. كان يطيب لها أن تمنح الحب بلا مقابل. في بعض الأحيان كانت هي التي تُعطي السادة الرجال بعضَ المال. بعضهم يقترض منها أموالًا من أجل «أعماله». لم يعجبها أيٌّ من هؤلاء الرجال. كان الرجال بالنسبة إليها خبزًا يوميًّا في النهار والليل. كانت مثل حيوان مسكين يبحث بنفسه عن صيَّاده.

كان شوقُها إلى ابنها كبيرًا جدًّا في السابق، أما الآن فقد بدا لها عبثًا وبلا معنى. لم يكن يروقها، ابنُها. كان يعوقها؛ لأنها كانت تعتقد بالأساس أن عليها أن تأخذه معها أينما ذهبت، إلى المقاهي، إلى السباقات، إلى أبهاء الفنادق، إلى العروض المسرحية، إلى الرجال الذين تُقابلهم، وفي نزهاتها بالعربة. في هدوءٍ وبحقدٍ صامت مخيف، كان الصغير يختبر العوالم الجديدة، بعينَيه الكبيرتَين جدًّا الزرقاوين كزُرقة الماء. لم يبكِ أبدًا. كانت ميتسي شيناجل، التي تذكُر أنها كانت تبكي كثيرًا وهي طفلة، وكانت لديها غريزة سليمة تُخبرها بأن الأطفال الذين لا يبكون يُصبحون أشخاصًا سيئين، تضربه كثيرًا دون سبب، لا لشيءٍ إلا ليبكي. كان هذا الصغير يتلقى الضربَ، ويبدو كأنه لا يشعر بأي ألمٍ على الإطلاق. وعلى الرغم من أن قدرته على الكلام كانت ما تزال محدودة جدًّا، كان واضحًا من الكلمات القليلة التي نطق بها أنه لا يرغب في أي شيءٍ آخر غير ما يُلبي رغباته في الوقت الحالي: قطعة من الورق، وعود ثقاب، وقطعة من خيط، ولعبة، وحجر. اعترفت ميتسي بعد بضعة أسابيع بأن ابنها غريبٌ عنها أكثر من أيِّ طفل آخر. كانت هذه ثاني خيبة أمل في حياتها منذ ضربة الحظ الرهيبة؛ وأشدَّ إيلامًا من خبر استدعاء النقيب تايتنجر إلى كتيبته. حتى طفلها بدا وكأنه قد استُدعِي هو الآخر.

قبل انتهاء الموسم بوقتٍ طويل أسرعت بالطفل إلى جراتس. أرادت التخلُّص منه حقًّا. عقدت العزم على أن تجعل ابنها ينشأ حيث ينشأ أبناءُ المجتمع الراقي. كان لديها الكثير من العناوين. ولكنها لم تذهب إلى كل الدور التي رشَّحوها لها، بل إلى أول دار كانت مدوَّنة في القائمة. وهكذا دخل ابنها ألكساندر شيناجل دار التربية الملحَقة بها روضةٌ للأطفال تحت إشراف البروفيسور فايسبارت. أما ميتسي شيناجل، وقد استحوذت عليها فجأة فكرة التوجُّه إلى الجنوب، فلم تستطع البقاء في جراتس ولا العودة إلى بادن. كان رأيها أن بقاءها في جراتس، بالقرب من ابنها، دون رؤيته مرةً أخرى شيءٌ شديد الخِسة؛ وهي لا تريد أن تراه مرة أخرى، ليس في الوقت الحالي. لم تكن تستطيع العودة إلى بادن أيضًا؛ كان ينتظرها هناك لِيسَّاوَر الذي كلَّفها الكثير بالفعل. الله وحده يعلم لماذا عاشت معه الأسابيع الثلاثة الأخيرة!

لم يكن يُزعجها فقط أن هذا الرجل ينتظر، ولكن بدا أن كل الرجال الآخرين ينتظرون أيضًا. الجميعُ ينتظرونها: أما تايتنجر، فلا. لم يكن ينتظر!

وكذلك لم يخطر ببالِ لِيسَّاوَر أن ينتظر عودة ميتسي إلى منزلها. لمَّا رأى أنها لم تعد، سافر إلى فيينا، وذهب إلى السيدة ماتسنر وأخذَ منها عنوان ميتسي.

قال إن لديه رسالة مهمة من تايتنجر ليُسلِّمها إليها. كان مصمِّمًا على ألا يترك شيناجل مرةً أخرى، نعم، ليتبعها أينما ذهبت. فسافرَ إلى ميرانو.

شعرت ميتسي شيناجل بالسعادة حينما رأته على الكورنيش. أثار مشاعرها الرقيقة ببنطاله الكرواتي اللامع، وسُترته الزرقاء، وحذائه الناعم الأصفر الداكن ذي الأزرار، كما أثار فيها نوعًا من الندم أيضًا. كانت خائفة! كان لديها خوفٌ من ثروتها، خوفٌ من الحياة الجديدة التي تفرضها عليها، خوفٌ من العالم الواسع الذي وجدت فيه نفسَها على غير هدى، والأهم من هذا كلِّه خوفٌ من الرجال. في بيت السيدة ماتسنر كانت متفوقة على كل الرجال، المعروفين والغرباء، الأجانب والمحليِّين، السادة والصعاليك. كانت هناك أرضها، وطنها. لم تكن لديها القدرة ولا الخبرة للتعامل مع رجال لم يأتوا لشرائها. يمكنها بالطبع تفسير نظراتهم النَّهِمة وإشاراتهم، كما يمكنها فهم كلامهم المبطن ونكاتهم الصبيانية. لكنها كانت بلا حيلة، بلا مأوى، تتأرجَح دون دفة، دون شراع، دون مجداف في بحر العالم، وكانت خائفة، كان لديها خوفٌ لا يحيط به وصفٌ أو يحدده اسم. كانت تبحث عن شيءٍ معروف، عن شيءٍ شبه مألوف. كانت تميل إلى عدم التفريق بين ما هو معروفٌ وما هو حميميٌّ. ولذا، رحَّبت بفرانتس لِيسَّاوَر.

لا بد أنه خمَّنَ ما يدور في قلبها، بفضل تلك الغريزة المؤكَّدة التي تستجمعها بعضُ الكائنات في لحظة معيَّنة، بل وربما تولِّدها أيضًا بداخلها، حين يلوح لها خطرٌ أو طعام أو متعة أو غنيمة. رفع قبعة بنما الصفراء تحيةً لها، ثم قال بخُلوِّ بال: «يا إلهي، أنتِ أيضًا هنا؟»

أجابته: «أنا سعيدةٌ جدًّا!» واحتضنته. في هذه اللحظة، اختمرت خطته في رأسه. كانت تتمثَّل في دانتيل بروكسل.

كان دانتيل بروكسل في ذلك الوقت ذا قيمة عالية مثل المجوهرات؛ بل ويحظى لدى النساء في بعض الأحيان باستحسانٍ أكثر من المجوهرات. نتيجةً لذلك، كانت هناك نماذج عديدة مقلَّدة للدانتيل الشهير. كان يتعامل زافير فيرِنتي — صديق لِيسَّاوَر — يتعامل مع أنجح هؤلاء المقلِّدين، ومع أنه أصلًا من تريستي، فقد كان يحرص على أن تأتي بضائعه من ميناءٍ آخر أجنبي وبعيد إلى حَدٍّ ما؛ ألا وهو أنتويرب. وهكذا كان يجري تغيير «بلد المنشأ» كما هو معروفٌ بلغة التجارة. كانت البضائع تأتي في واقع الأمر من متجر مشغولات شيرمر في ممشى فيينا. وأما عن مهمة لِيسَّاوَر — إنْ كان ثمَّة ما يفعله — فإنها تتمثَّل في إيجاد مشترين أو ما يُسمَّى مشترين بالجملة لصديقه فيرِنتي، ووسطاء، وبين الوسطاء الكبار يكون هناك وسطاء أصغر. كان يحصل مقابل هذا على عمولاتٍ من صفقة لأخرى، لكنه لا يحصل أبدًا على حصة أو نسبة مئوية. يقول فيرِنتي: «لا يمكنك المشاركة في الأرباح إلا برأس مال.» ثم أضافَ: «المال يأتي بالمال». كانت هذه حكمة شائعة بين لاعبي التاروت في مقهى شتايدل.

الآن أخيرًا، بعد سنواتٍ طويلة من «الكَدِّ مع فيرِنتي دون مقابل تقريبًا» — كما كان لِيسَّاوَر يقول أحيانًا — رأى فرصة للمشاركة برأس مال في تجارة الدانتيل؛ برأس مال شيناجل.

بعد أن اتخذ هذا القرار بدأ لِيسَّاوَر في إهمال ميتسي شيناجل بشكل واضح. كان يخرج في رحلات مع الآنسة كورنجولد، ويرسل الزهور إلى السيدة جليسر، ويتمشى على الكورنيش مع السيدة براندل، ويتأخَّر عن مواعيده مع شيناجل أو يتخلَّف عنها تمامًا، ويجعلها تفهم أنها لا تعني له شيئًا. نعم، بل إنه من حين لآخر كان يقول إنه يُفكِّر في المغادرة قريبًا لأسباب معيَّنة.

بعد أن استمر على هذا المنوال لبضعة أيام، سافرَ إلى إنسبروك وأرسلَ إلى شيناجل برقية: «سافرتُ لإجراء مفاوضاتٍ مهمة، انتظريني مساء الغد.»

وفي مساء اليوم التالي جاء. لم يكن فقط ودودًا ولطيفًا مثلما لم يكن منذ مدة طويلة؛ بل بدا حنونًا للغاية. لكنه في الوقت نفسه أظهر حماسًا كبيرًا. «ضربة حَظٍّ كبيرة» هكذا قال. كان يتحدَّث بفرح لاهث. ها هو أخيرًا في طريقه إلى أن يصبح رجلًا ثريًّا. كان أول ما خطر ببال ميتسي أن سألته: «هل ستتزوَّج؟». وإلا فكيف يمكن للمرء أن يُصبح فجأةً رجلًا ثريًّا؟

قال لِيسَّاوَر: «أتزوَّج؟ نعم، ربما!» وتظاهر بأنه يُفكِّر.

كانت ميتسي شيناجل تعرف عن دانتيل بروكسل أنه باهظ الثمن، ولا شيء أكثر من هذا. بالكاد كانت تستطيع أن تُميِّز ستارة من الشاش الموصلي عن طرحة الزفاف. لم تكن قد دخلت متجر أدوات الخياطة الذي تملكُه أكثر من خمس مرات، لكنها أقرَّت بأن الدانتيل الذي يمكن بيعه بخمسة جولدن ونصف، في حين أن المرء يمكن أن يشتريَه بأقل من اثنين جولدن، قد يكون صفقةً لا تُرَد. قال لِيسَّاوَر: «سنكون شركاء. النصف بالنصف! اتَّفَقنا؟» أجابته شيناجل: «اتفقنا»، ولم تُفكِّر في الدانتيل بعد ذلك. بدءوا في إطفاء الأضواء الكبيرة في بهو الفندق. انبعثَ حزنٌ لا يوصَف من روعة السلالم البيضاء والدرابزينات، ومن روعة السجاد الأحمر الذي بدا أسود فجأة. بدت نخلاتُ الزينة الضخمة في أوانيها الضخمة وكأنها وصلت توًّا من المقابر. كما تحوَّلت أوراقها الخضراء الداكنة إلى اللون الأسود مذكِّرةً بأسلحة منقرضة من أزمان سحيقة. كانت مصابيحُ الغاز في الشمعدانات تفحُّ بضوءٍ أخضر سامٍّ، والمرآة الضخمة المحمَرَّة بإطارها البرونزي الزائف كانت تعكس ميتسي شيناجل أخرى كلما نظرت فيها بسرعة ووجلٍ، كانت تُظهر ميتسي شيناجل أخرى، هي نفسُها لا تعرفها، لا تظن أنها رأتها من قبل، ميتسي شيناجل جديدة لم تكن موجودة من قبل.

اعتراها حزنٌ بالغ. لبضعِ دقائق، تسلَّل خلال روحها البسيطة انعكاسٌ خاطف لذلك النور الذي يجعل الأشخاص الأكثر ذكاءً والأقوى بصيرة إما سعداء للغاية أو حزانى للغاية: نور الإدراك. لقد أدركت كيف كان كلُّ شيءٍ كئيبًا وعديمَ الجدوى: ليس الدانتيل فقط، وليس لِيسَّاوَر وحده، وليست ثروتها فقط، بل وابنها أيضًا وتايتنجر، وحنينها إلى البيت، والحب، والزوج، وحب أبيها الزائف وكل شيءٍ، كل شيءٍ … ومن قلبها خرجت نفثة عاتية كتلك التي كانت تخرج من مخزن التبريد في سيفرينج عندما كانت ما تزال طفلة صغيرة وتُؤمن إيمانًا راسخًا بأن هذا هو المكان الذي يقبع فيه الشتاءُ وكلُّ الرياح السيئة هناك بالأسفل. في هذه الليلة صعدَ لِيساوَر معها إلى غرفتها؛ لأنه كان يعلم بالطبع أنه من الضروري الآن أن يستوثِق منها بشتى الطرق. كانت ميتسي شيناجل تشعر بهذا. كانت متعبة؛ متعبة وغير مكترثة.

في الليل، وبينما كانت ترقد مستيقظة، اتخذت قرارها بالعودة في اليوم التالي. عودة؟ إلى أين؟ كان بيتُ يوزفينا ماتسنر ما يزال موطنًا لها. ليس بعدُ. تذكَّرت النفَس الثقيل واللحية المعطَّرة بعطرٍ مسْكِر والبشرة السمراء واليدين الناعمتَين والبياض الموحِش لعينَي سيد بلاد فارس، مصدر حَظِّها. بدأت تبكي بهدوءٍ. كانت وسيلة مجرَّبة تُساعد على النوم.

عند منبلَجِ الصَّباح، راحت في النوم.

١٤

لفترةٍ طويلة لم يُلاحظ أحدٌ من المحيطين بالسيدة يوزفينا ماتسنر أن شخصيتها أيضًا تتغيَّر بالتزامن مع تغيُّر جسدها. كانوا يرون فقط أنها تتقدَّم في السن. كانت هي نفسها تعرف هذا، رغم أنها نادرًا ما تنظر في المرآة. كانت كما لو أن لديها مرآةً في رأسها مثل بعضِ الناس الذين لديهم ساعةٌ في رءوسهم. قبل بضع سنواتٍ فقط كانت لا تزال تطرب لبعض المجاملات الفجَّة المكشوفة التي يُردِّدها على مسامعها بعضُ زبائنها الدائمين. كانت مجاملاتٍ بلا معنى. فلا هي تُعبِّر عن أي رغبة من جانب الزبون، ولا هي توقِظ في قلب السيدة يوزفينا ماتسنر أي أمنية. ولذا، كان من الممكن جدًّا أن تستمرَّ إلى الأبد، تمامًا كما تستمر بعضُ العادات التقليدية داخل المجتمع بصرف النظر عن أعمار الذين يُمارسونها. لكن انظر، ماذا حدث؟ حتى هذه المجاملات الرمزية التي كانت السيدة موضوعًا لها لسنواتٍ طويلة، أصبحت مع الوقت أكثر ندرةً؛ وذات مساءٍ توقَّفت تمامًا. كان الأمر تقريبًا كما لو أن السادة الرجال قد اتَّفقوا على ذلك. بعد أن غادر آخِرُ ضيفٍ، وذهبت الفتيات للنوم، وخلعَ قائدُ الفرقة الموسيقية سترته الطويلة، نظرت للحظةٍ عابرة في المرآة خلف الخزينة. نعم، كلُّ شيءٍ كما كانت تعرفه مسبقًا منذ فترة طويلة: بين الشعر الأشيب ما يزال يتراقص بصيصٌ قبيح من الحُمرة النارية المثيرة السالفة. ثنيتان كبيرتان من التجاعيد على جبهتها تستقران — بلا سبب تعرفه — فوق جسر الأنف. الشفاه جافة ومتشقِّقة ومزرقَّة. العينان، تحت جفنَين شديدي التجاعيد، كانتا مثل بركتَين صغيرتَين صُفيتَا من الماء. الرأسُ غاصَ مباشرةً في الكتفَين، كما لو لم تكن هناك رقبة يستقر عليها. وعلى ثديَيها، تحت طبقة كثيفة من البودرة، تكمن بقعٌ صفراء محمرَّة لا تختلف في مظهرها عن لسعات بعض الحشرات.

منذ تلك الليلة عرَفت السيدة ماتسنر أن حياتها قد انتهت. لم تكن توهِم نفسَها أبدًا. كان لديها عزمٌ على أن تتعامل مع تقدُّمها في السن بالشجاعة نفسها التي تعاملت بها من قبل مع شبابها ومهنتها ورجالها وعملها. في كلِّ ساعة من حياتها كانت تُحاسب نفسها حسابًا دقيقًا. حتى الشياطين الذين وقعت تحت سطوتهم طوال حياتها كانت تعرفهم، وتكاد تُسمِّيهم جميعًا بأسمائهم. لكن أحد شياطين الشيخوخة لم تكن تعرفه، هذا الذي غالبًا ما يتسلَّل إلى العجائز الوحيدات، فيُحجِّر قلوبهنَّ ويملأ حواسهنَّ المتكلِّسة بشهوة جديدة: شهوة المال. لم تكن تشعر أنها تزداد بخلًا وشراهة للمال.

كما أن شيئًا آخر قد حدَث ومن شأنه أن يجعل الأمر يبدو كنَوع من التقتير المبرَّر أو التوفير: البيت لم يعُد رائجًا. ما أسرع ما تتغير الموضات في العالم!

أصبح بيتُ ماتسنر موضةً قديمة. ظهَر بيتان جديدان؛ أحدهما في شارع التسوُّق التجاري، والآخر في شارع مصلحة الجمارك. حتى الفتيات اللاتي بقين على وفائهن للسيدة ماتسنر تقدَّمن في السن، أما الصغيرات فقد تحرَّرن من هذا القيد. أين ذهبت تلك الأيام التي كانت السيدة ماتسنر ما تزال تقول فيها: «بناتي كلهنَّ ذهب!» أو عندما كانت تلك الفتيات الذهبيات يُنادينها بأصواتٍ تشبه تغريد طيور رقيقة مرحة: «طنط فيني» أو «فينشِن»؟ الآن يقلن «فراو ماتسنر»، ولم تعُد الفتيات يُذكِّرن بالذهب بقدرِ ما يُذكِّرن بالنحاس الذي يجلبنه لها كدَخْلٍ للبيت في شكل عملاتٍ معدنية. قالت ماتسنر وهي تئنُّ: «أفضل من لا شيء!».

لم تكن تنام الليل. فكلما كانت تستلقي ينتابها شعورٌ بأنها تجعل نفسها هدفًا مكشوفًا، فريسة سهلة لمَخاوفها إذ تنقضُّ عليها من أعلى. فتنهض وتُهرول إلى المقعد الهزَّاز. تتأوَّه كثيرًا معتقدةً أن هذا قد يُهوِّن عليها، لكنها تقول لنفسها في الحال: لا بدَّ أن حالتي سيئة للغاية، إذا ما رحتُ أنا، يوزفينا ماتسنر، أئنُّ هكذا. كانت من وقت لآخر تتناول شيئًا يُساعدها على النوم، لكن لا شيء يجدي نفعًا مع المخاوف والرهبة والقلق! رأت نفسها في دار المساكين في حي «آلسرجروند»، في ملجأ المسنِّين بشارع «باخر جاسِّه»، على مائدة إخوان المحبَّة، ثم كخادمة تُنظِّف الأرضيات عند بائعة الألبان دفوراك، وأخيرًا بين أيدي الشرطة، ثم أمام المحكمة، بل وفي السجن أيضًا. كان يبدو واضحًا لها أن الحاجة ستشتدُّ تدريجيًّا لدرجة أنها ستُضطرُّ في النهاية إلى السرقة. ورأت نفسها تسرق، واستشعرت بالفعل خوفَ اللص من القبض عليه متلبسًا.

راحت مع الوقت تُكثر من زياراتها إلى صاحب البنك الذي تتعامل معه، السيد إفروسي. ثروته، وهدوءه المحنَّك، ونزاهته، وسُمعته، وعمره: كلُّ هذا كان يُسَرِّي عنها. كان عجوزًا هادئًا يمتاز بطيبة قلب محسوبة (من ذلك النوع الفريد الذي لا يُفسِد في الأرض). جلست السيدة ماتسنر أمامه على الكرسي غير المريح في المكتب القديم الطراز، منخفضة جدًّا (فما زال المصرفي إفروسي يستخدم ذلك النضد العالي مع كرسيٍّ دوَّار صغير بلا مسند مثبت فوق مسمار معدني غليظ). وهكذا، استدار نصفَ واقف، ونصفَ جالس إلى مكتبه، إلى وجه السيدة ماتسنر. لكنه، وإنْ راح يخفض كرسيَّه أيضًا، ظلَّ على هذا الارتفاع المراقِب فوق رأس زائرته. ولا مجال أيضًا للحديث عمَّا إذا كان يستطيع أن يرى وجهها؛ لأنها كانت ترتدي قبعة كبيرة تُغطي رأسها، ولم يكن إفروسي يدرك إن كانت السيدة ماتسنر توافقه أم تختلف معه إلا من خلال الارتعاشات الخفيفة للريش البنفسجي فوق القبَّعة. أعادَ عليها للمرة الخامسة والعشرين ربما: «لديكِ هنا خمسة آلاف كاستثمار في «الباتروس»، وثلاثة آلاف وخمسمائة سند، مع حصة بعشرة آلاف في متجر أدوات الخياطة، وحصة بألفَين في مخبز شندلر، وعملك الخاص — لا أعرف بكم يُقدَّر — ولكن وكيلك القانوني يعرف. وأنتِ أيضًا تعرفين. فأنتِ في الثالثة والخمسين.» هنا قاطعته السيدة ماتسنر: «في الثانية والخمسين سيد إفروسي!» قال إفروسي: «وهذا أفضل» ثم استأنفَ: «فإنْ كان عملكِ لا يسير على ما يرام ولا تُريدين الاكتفاء بالتقاعُد وإحصاء الأرباح، فيمكنكِ العمل بكامل طاقتكِ لثماني سنواتٍ على الأقل، في متجر أدوات الخياطة على سبيل المثال. أنشئي متجرًا للأزياء — اشتري واحدًا — لديكِ الذوق.» كان منظر الريش البنفسجي دائمًا ما يوحي للمصرفي إفروسي بفكرة الأزياء. سألت يوزفينا ماتسنر: «هل هذا أيضًا موثَّق يا سيادة المستشار الإمبراطوري؟».

قال إفروسي: «يمكنني إثباته لكِ»، وكالعادة هزَّ الجرسَ الصغير على مكتبه. وكالعادة جاء المسئولُ عن الدفاتر. فتحَ الدفاتر. وببلادة راحت يوزفينا ماتسنر تنظر إلى الأرقام الزرقاء، والخطوط الحمراء، والشُّرَط الخضراء: كان كلُّ هذا مريحًا. نهضت، وأومأت برأسها، ثم قالت: «سيادة المستشار الإمبراطوري، لقد أزحتَ حجرًا ثقيلًا عن قلبي»؛ وانصرفت أخيرًا.

ذات يوم خطرَ لها أنها يجب أن تتفقَّد أحوال متجر ميتسي شيناجل. وقبل أن تدخل المتجر المألوف لديها، بدا لها من النظرة الأولى أن شيئًا قد تغيَّر. استشعرت خطرًا. رأت مرآتَين جديدتَين بإطار مذهَّب في النافذة، وعلى الباب الزجاجي لافتة كبيرة مكتوبٌ عليها: «دانتيل بروكسل الأصلي». وانقبضَ قلبها لما أبصرت بداخل المحل السيد لِيسَّاوَر. كانت تعرف هذا النوع من روَّاد منزلها: «زبائن» هي التسمية المناسبة لهؤلاء الأشخاص. «لم نركَ منذ زمن يا سيد لِيسَّاوَر! نعم، لقد تركنا الجميع! لم نعُدْ مسايرين للموضة بما يكفي للسادة. لعلَّ الأمور عندي تقليدية أكثر منها في شارع مصلحة الجمارك على سبيل المثال.»

«كما تعرفين، الواحد يكبر ويُصبح أكثر جدية! وعليه، فكما ترَين! أعمل هنا بجد!»

نعم، كانت ترى ذلك جيدًا. وراحت تتفقَّد المتجر بأكمله بواحدةٍ من نظراتها السريعة الحادة، تلك النظرة التي بسببها كان الناسُ يخشونها في سنواتها التي وَلَّت، سواءٌ في بيتها، أو في المحلات التي اعتادت التسوق منها، وفي المنطقة كلها، بل وفي مركز الشرطة حيث كانت تعرف كلَّ أفراد الشرطة والمخبرين السريِّين. أما زال هذا متجرًا لأدوات الخياطة؟ أين الصناديق الصغيرة اللطيفة التي تحوي الأزرار بمُختلف الأنواع والألوان والأشكال والأحجام. أين الدبابيس والمَشابك التي تجمع بين الجمال والصلابة؟ أين أشرطة الأوسمة والشعارات الرائعة؟ أين كل هذه الأشياء الصغيرة العديمة الوزن والقليلة الأهمية، تلك التي لا تُستخدَم إلا كأشياء ثانوية مع أشياء أخرى حقيقية ومهمَّة، ولكن مع ذلك لا يمكن لأي خيَّاطة في المنطقة أن تستغني هنا؟ وما كلُّ هذه الكمية من دانتيل بروكسل؟ من في هذه المنطقة، ومن من هؤلاء الزبائن، يمكنه شراء دانتيل بروكسل؟ ولم تكن السيدة يوزفينا ماتسنر، بحاجة إلى من يشرح لها ما هو دانتيل بروكسل! لم تستطِع أن تُمسك نفسها عن القول للسيد لِيسَّاوَر: «لقد كنستَ المتجر تمامًا!» صاحَ الشاب: «كنستُه؟ كنستُه؟ أهذا ما ترين؟». وبحماسِه الثَّرثار الذي كان من سماته، والذي جلبَ له العديد من النجاحات غير المفهومة، بدأ يوضِّح للسيدة ماتسنر مدى ازدهار العمل ومقدار ما كسبه بالفعل من الدانتيل وما يُخطِّط لكسبه. وكما يحدث غالبًا لشخصٍ استفادَ من الكذب لفترةٍ طويلة وحققَ مكاسب، فإن لِيسَّاوَر أيضًا كان ينسى في بعض الأحيان أن يأخذ حذره من الغرور. ورغم أنه كان يعلم أنه غير مخوَّل له إدخال حصة ماتسنر في شغل الدانتيل، فقد بدا له، وزيَّن له تفاؤله الأحمق، أن السيدة ماتسنر لن توافقه وحسب، بل ستعتبر نفسها شريكة له في جريرته. قمعَ الذكرى الأليمة لحقيقة أن الدفاتر ليست سليمة، وأنه قد تصرَّفَ بنفسه في ثُلث الأرباح. لم تطلب ميتسي شيناجل أيَّ تفسير. فلماذا تطلبه ماتسنر؟

لم تعُد السيدة ماتسنر قادرةً على إخفاء شعور بسيط بالغثيان. استندت إلى طاولة البيع وطلبت كوبًا من الماء ومقعدًا. شربت في جرعاتٍ صغيرة، واستلقت شبه ممددة على المقعد، رغم الكورسيه الذي يهصر جسدها كبدلة مصفَّحة. شعرت تدريجيًّا ببعض الراحة. سحبت الدبوس الطويل من القبَّعة القش الكبيرة التي كانت تُغطيها، ووجَّهته كسلاح نحو لِيسَّاوَر وهي تقول: «لِيسَّاوَر، أريدُ أن أرى الدفاتر. سيكون لي كلام مع وكيلي القانوني.»

أحضرَ لِيسَّاوَر الدفاتر. ومرةً أخرى رأت ماتسنر المسكينة أرقامًا سوداء، وأرقامًا زرقاء، وشُرَطًا خضراء، وخطوطًا حمراء؛ لكنها لم تطمئنَّ هذه المرة. سألت: «وأين رأس المال؟ والأرباح؟». قال لِيسَّاوَر بهدوء تام: «رأس المال شغَّال يا سيدة ماتسنر». أغلقَ الدفاتر وواصلَ حديثه. لم تعُد تسمع كلَّ شيء. لم تسمع سوى بضع كلماتٍ مثل: «عصر جديد، وأساليب عمل حديثة، ولا رأسَ مال ميت» وأشياء من هذا القبيل. شعرت بالرعب حين تراءى لها أن حصتَها البالغة عشرة آلاف جولدن قد ضاعت.

قامت مودِّعة في الحال، متجاهلةً يد لِيسَّاوَر الممدودة. ذهبت إلى مكتب البريد. ثمة خطرٌ شديد. وكانت ما تزال ممسكة بدبوس القبَّعة في يدها. والقبَّعة الضخمة تتذبذَب فوق رأسها. تغلبت على خوفها من تبذير المال. أرسلت برقية إلى ميتسي شيناجل في بادن. كتبت لها: «احضري حالًا»، وفكرت لحظة، وهي تضع القلم الرصاص بين شفتَيها. لن تأتي ميتسي شيناجل. فما فائدة البرقية الباهظة الثمن؟ كانت السيدة ماتسنر تستعدُّ لإرسال بطاقة بريدية عادية، عندما همسَ لها بفكرة مفيدة أحدُ شياطين الكذب الطيِّبين الذين حكموا تصرُّفاتها لفترة طويلة. ومن ثمَّ، أبرقت لها: «تايتنجر ينتظركِ غدًا».

بالطبع، جاءت ميتسي شيناجل في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي. ها هي تدخل بيت ماتسنر مرة أخرى بعد مدة طويلة. كلُّ شيءٍ أصبح في عينَيها غريبًا. كانت صورتُه التي تحفظها في ذاكرتها كلُّها بهاء وروعة. أما الآن فقد اعتادت منذ مدة ليست بقصيرة على الغُرف والمنازل الفخمة. كان بيت ماتسنر حقيرًا، بل رثًّا، بمراياه العمياء، وشمعدان الصالون الذي سقطت منه كريستالات كثيرة فبدا يُذكِّر بشجرةٍ شبه جرداء، والخروم الرمادية الكبيرة للعِثة في المخمل الأحمر للأريكة، والبرونز المزيَّف المتقشِّر على إطار المرآة، والمفرش الحريري الصغير البالي فوق غطاء البيانو المخدوش الطلاء، والستائر المتربة على النوافذ. ولكن ما أهمية الذكريات في مقابل التوقعات؟ إنها سترى تايتنجر. كان في حقيبتها الصغيرة أحدثُ صورة لابنه وآخِر شهادات المدرسة وإن كانت غير مشجِّعة تمامًا. سلوكه الأخلاقي «غير لائق» وتحصيله «مقبول». حتى الآن كان الابنُ يُعيد كلَّ صف دراسي. لم تكن ميتسي تهتمُّ بالصبي. كانت آخِر مرة زارته في أعياد الميلاد. في محطة القطار طلبَ أولًا كوبًا من الكاكاو، فذهبت به إلى صالة الانتظار. شربَ الكاكاو بشَهية، وفتحَ الحقيبة على الفور وأخذَ لنفسه الهدايا التي كانت أمامه فوق بقية الأشياء في الحقيبة. ثم أغلقَ الحقيبة ونادى: «الحساب!» هكذا كان ابنها. لكنها في الليلة الماضية كانت قد اخترعت حفنة من القصص لتحكيَها لتايتنجر: ألكساندر لاعبُ جمباز بارع، قلبه من ذهب، ومغنٍّ موهوب. بل إنه ذات مرة أنقذَ طفلًا من الغرق. ولم تكن هذه قصة مخترَعة هي الأخرى. فألكساندر كان قد اصطاد طفلًا من الماء؛ بالضبط مثلما اعتاد أن يصطاد الضفادع والسمك والسحالي. نعم، كانت ميتسي شيناجل تُريد أن تحكي كل هذا. بدا لها أنها انتظَرت لفترة طويلة بعضَ الشيء. تركتها السيدة ماتسنر تنتظر. وأخيرًا جاءت، بكامل عُدتها وعتادها، ليست بالروب كعادتها في الصباح، ولكن بالكورسيه والماكياج والشعر المصفَّف. كان العناق سريعًا والقُبلة جافَّة وباردة. قالت السيدة ماتسنر على الفور: «لن يأتيَ تايتنجر! لأسباب تتعلَّق بالعمل.»

تنهَّدت ميتسي شيناجل وجلست مرةً أخرى. بدأت كلامها بقولها: «ولكن، ولكن …» ثم صمتت لفترة، وأخيرًا وجدت بعضَ العزاء: «لكنه كان يريد أن يراني؟» أجابتها السيدة ماتسنر: «نعم، لكن العمل يمنعه الآن. يمكنكِ أن تكتبي له! لديكِ عنوانه.»

كانت ميتسي ما تزال جالسة، والسيدة ماتسنر تقِف أمامها متوعِّدة كعسكري الدرك.

بدأت بقولها: «عندي شيءٌ جاد أقوله لكِ. لقد خدعتِني، أنتِ وصاحبكِ لِيسَّاوَر. سرقتُماني، احتلتُما عليَّ. بعد كل ما قدمتُه لكِ. لقد كنتُ لكِ أمًّا. كنتُ أسميكِ ابنتي الذهبية. لقد بدَّدتما أموالي. ستأتين معي الآن. سنذهب إلى كاتب العدل. ويلٌ لكِ إن هربتِ!» هربَ الدم من عروق ميتسي شيناجل ولم يبقَ فيها شيءٌ حي؛ بدا لها أن المخ توقَّف والقلب أيضًا ولم يعُد سوى شيء واحد يحيا بداخلها: خوفٌ كبير لا يُحيط به اسم أو وصف. والخوف أيضًا يرسل أحيانًا بعضَ الومضات، وهكذا قفزت إلى ذهن ميتسي شيناجل قصة الدانتيل، وتذكَّرت كل الأوراق التي تلقَّتها من لِيسَّاوَر ووقَّعت عليها دون أن تقرأها، كما طفت في ذاكرتها أيضًا جملة كانت قد سمعتها منذ مدة طويلة ونسيتها أيضًا منذ مدة طويلة، كان لِيسَّاوَر قد قالها ذات مرة في لحظة ناعمة؛ وكانت الجملة: «إذا ضبطني أحد، فسوف يحبسونكِ أنتِ!» ها نحن إذن.

نهضت، ومضت. كانت كالمقبوض عليها بالفعل، تمشي مذعنة بجانب ماتسنر الصارمة.

١٥

تدفَّقت قوى جديدة في السيدة ماتسنر في الأسابيع التالية. هذه القوى لم تُجدِّد لها شبابها بأيِّ حال من الأحوال، بل على العكس عزَّزت العلامات الخارجية لشيخوختها الزاحفة بسرعة كبيرة. لكنها هي نفسها لم تكن تشعر بذلك، بل كانت تشعر بأنها خفيفة وسليمة ومَرِحة وشابَّة. بدا لها أن لديها مهمة ضرورية يجب أن تؤديها، المهمة هي إنقاذ مالها، أو الانتقام لهذا المال الضائع، وهذا ما تُحبُّه وتُفضِّله وإنْ كان يُؤلمها أيضًا. كان يملؤها غِلٌّ عظيم، يُشعِلها، يكاد يحرقها. مِرجَل من غضبٍ يغلي بداخلها. أيامها ولياليها تغيرت، كما تبدل إيقاعُ حياتها القديم الطيب المهادِن الرتيب بلا هدف. تنام جيدًا، نومًا عميقًا بلا أحلام، وتستيقظ متجدِّدة النشاط كل صباح، مستعدَّة لأي عمل من أيِّ نوع. أظهرت قدرةً مدهِشة على استيعاب القوانين وتفسيرها، والتحدُّث إلى المحامين وفهم ما يقولون بدقة. لديها الآن اثنان منهم، لتكون في أمان: محامي المحكمة الدكتور إيجون زيلبرر، ومحامي الإجراءات الثانوية الدكتور جوليتسر كمُحامٍ من الباطن، والحقيقة أنها لم تكن بحاجة إليه في القضية بقَدر حاجتها إلى تزجية الوقت بطريقة ممتعة وتعليمية في الوقت نفسه. لم يكن لدى المحامي الدكتور زيلبرر وقتٌ لها، بالكاد نصف ساعة ثلاث مرات أسبوعيًّا، أما الدكتور جوليتسر فكان تحت تصرُّفها يوميًّا لساعاتٍ طويلة. الحقيقة أنها أبقت على جوليتسر هذا لعدم ثقتها في زيلبرر. جوليتسر هو من عرَّفها كيف تتعامل مع كبار المحامين المشاهير. هو من أطلعها على الحياة الخاصة للقُضاة، وعلى الفُرَص التي يُتيحها القانون، وعلى الثغرات التي يتضمَّنها. في مكتبه الكئيب الواقع في ٤٣ شارع فازا جاسِّه بالطابق الثالث، بدأت تتطوَّر تدريجيًّا لتصبح داهية قانونية. لقد لقيت هنا من المتع ما لم تعرفه من قبل. كانت قد عرفت في حياتها الكثير من المتع والملذَّات المحرَّمة، بل والمستنكَرة أيضًا، لكن اللذَّة الحقيقية لم تعرفها إلا هنا في شارع فازا جاسِّه حيث اكتشفت أن تلك القوانين التي كانت تخشاها على نحوٍ غريزيٍّ طوال حياتها يمكن أن تكون طوع أمرها كالكلاب المدرَّبة. عاشت طوال حياتها بتصوُّر خاطئ أن النساء من أمثالها يعِشن خارج القانون، تحت رحمة أي رجل شرطة أو مزاجه. ولكن، دائمًا ما كان يكمُن في أعماق نفسها طموحٌ إلى حياة يكفلُها القانون. ظلَّت تأمل لسنواتٍ طويلة أنها ستتمكَّن ذات يوم، عندما يكون لديها المال، من العيش في رحاب القوانين بظلالها البرجوازية الكريمة؛ في مكانٍ ما بعيدًا عن بيتها الذي كانت تنوي بيعه بسعر مناسب في اللحظة المناسبة، وأن تعيش حياتها الخاصة كيوزفينا ماتسنر، بلا عمل، وبلا خطر، ومؤمَّنة بالكثير من المال. ولكن ها هي الآن تواجه خطر ألا يبقى شيءٌ من المال. بلا مال! بعد كلِّ هذه الحياة الطويلة خارج القانون! يا لها من حالة مروِّعة لامرأة شائخة كانت تأمل أن تتمكَّن أخيرًا في شيخوختها من دخول دائرة البرجوازية المحصنة! وبعد هذا كله: ها هي القوانين في صَفِّها، هذا ما أكَّده المحاميان. لم تعُد السيدة ماتسنر تتعامل مع القوانين كشخصٍ مهمَّش أو منبوذ، بل كربَّةٍ لها ومنتفِعة بها إذا جاز التعبير. بجانب المحامي جوليتسر صاحب الطرق الملتوية، كان يقف بجانبها أيضًا صديقُها القديم المخبر السري زدلاتشيك. أوه، إنها لم تعُد تتعامل معه كما في السابق؛ لم تعُد كما كانت مستباحة نوعًا ما، بل تتعامل معه باعتبارها مساوية له ولها الحقوق نفسها تقريبًا. ساعات طويلة كانت تقضيها مع زدلاتشيك في مكتبِه في شوتِنرينج، بينما رجاله يدورون في المدينة وفي أنحاء الإمبراطورية. قصة كبيرة: دانتيل بروكسل مزيَّف؛ يُصنع في فيينا، ومنها يُرسَل إلى تريستي؛ ومن هناك إلى أنتويرب؛ ومنها يعود إلى فيينا. كان زدلاتشيك أيضًا قد تقدَّم في السن ومتعبًا. لم تعُد وظيفته الحساسة تروقه. أطفاله الثلاثة — وكلهم ذكور — يكبُرون بسرعة رهيبة. وبسرعة رهيبة تتقدم زوجتُه في السن. وبسرعة رهيبة أيضًا يتقدَّم هو نفسه في السن. كان بحاجة إلى «قضية دسمة» ليحصل على ترقية، ويستطيع أخيرًا أن يجلس هادئًا في مركز الشرطة في جراتس، أو إنسبروك، أو لينتس، أو بِرنو، أو براج، أو أولموتس. وُلد في كوسلوفيتش، ورغم أنه عاش مدة طويلة في فيينا، وبحكم وظيفته وصل إلى أعلى الدوائر، لكنه الآن، بعد أن تقدَّم في السن، بدت له أولموتس مدينة لطيفة، كبيرة ولكنها ليست كبيرة جدًّا، واحدة من هذا النوع المناسب له تمامًا. كان يريد التقاعد برتبة كبير مفتِّشين.

كانت قصة يمكن الخروج منها بشيءٍ كبير، ويبدو — أو هكذا بدا للمُفتِّش السري زدلاتشيك — أن القدَر نفسه قد اختصَّه بهذه القضية منذ البداية. يا له من زمن طويل! كان شاه بلاد فارس (الذي حصل منه زدلاتشيك أيضًا على وسامٍ بناءً على اقتراح من رئيس الشرطة لخدماته في التأمين الشخصي للضيف السامي) يستعد لرحلة ثانية إلى فيينا، هكذا كانت الصحف تقول. كان لاتسيك مراسِل الحوادث من صحيفة «كرونه تسايتونج»، وهو صديقٌ مقرَّب من زدلاتشيك، يرى أن اللحظة مواتية الآن — وفي مصلحة صديقِه الشُّرطي أيضًا — لتحويل القصة إلى فضيحة. تضمُّ هذه القصة كلَّ العناصر الضرورية لقضية فاضحة: الوسط الاجتماعي، ومصدر الثروة الشبيه بالحكايات الخرافية، وهو الأمر الذي لا يمكن الإشارة إليه إلا تلميحًا، لكنه مع ذلك سيكون مثيرًا بما فيه الكفاية، والسنوات القليلة المتألِّقة لميتسي شيناجل، ثم سقوطها الآن، شخصية لِيسَّاوَر المغامرة، أهمية دانتيل بروكسل بشكل عام، الكشف عن الغش الذي تقوم به شركة تريستي منذ سنواتٍ طويلة، وأخيرًا يقَظة شرطة فيينا البارعة، وفي المقام الأول المفتِّش زدلاتشيك. مادة كافية جدًّا لمحرِّر الحوادث لاتسيك!

كان العالَم في ذلك الوقت يسودُه سلامٌ عميق ومترفِّع. كان الناس يُطالعون أخبار الدولة والمجتمع في صحف الإمبراطورية، تقارير عن الاستعدادات لاستعراض العربات القادم، موضوعات ثقافية عن جبل كالينبرج، عن سراديب الموتى في كنيسة القديس شتيفان، عن مهرجانات ريفية في مدينة أجرام، مؤشِّرات حصاد التبغ في إقليم بانات، تقارير عن مناورات عسكرية حول مدينة ليمبرج، وصف لحفل أطفال في براتر برعاية أحد أصحاب السمو، وتغطية لمسابقات البولينج بين نقابات الجزارين والنجارين والإسكافية؛ أو ما شابه ذلك من أحداث سلمية وطريفة وغير مهمَّة قريبة منا أو بعيدة في أنحاء العالم. أما قضايا المحاكم والجنايات في ذلك الوقت فكانت نادرة، وكان مراسلو الحوادث يجلسون عند شوبفنر في بلدية جرينسينج أكثر من جُلوسهم في مقهًى مجاور لمركز الشرطة في شوتِنرينج. فجاءت قصة دانتيل بروكسل التي تُنشر مجزَّأة على حلقاتٍ يومية مصقولة ومنمَّقة ومذيَّلة بتعليقاتٍ ظريفة، لتصبح مصدر إثارة حقيقية.

ومع هذا كلِّه، لم تستمرَّ المحاكمة سوى يومين. كان ذلك في أوائل سبتمبر، والصيفُ البديع يفسح المجالَ بطريقة أخويَّة لخريفٍ جميل. لكن الحرارة في قاعة المحكمة كانت شديدة. كان الحضور كبيرًا. واحدٌ فقط من المتَّهمين كان محبوسًا على ذمة القضية: فرانتس لِيسَّاوَر. كان شريكه في تريستي قد اختفى. وكانت الآنسة ميتسي شيناجل قد أُفرج عنها بكفالة. جاءت برُفقة محاميها. طالبت شركة «زايدمان» الشهيرة، التي كانت تتعامل في دانتيل بروكسل الأصلي لسنواتٍ طويلة وشعرت بأنها قد تضرَّرت، بتعويض. وكان يُمثِّل هذه الشركة أيضًا قانونيًّا المحامي الدكتور زيلبرر، مثلها مثل السيدة ماتسنر. كانت كلُّ التوقُّعات تشير إلى أن ميتسي شيناجل قد تفقد بقية ثروتها. وكان دفاعُ لِيسَّاوَر يسعى إلى إثبات أن الآنسة شيناجل قد سخَّرت كل حيَلها الأنثوية لإغواء حبيبها الساذج. كان ماضيها مظلمًا. وأصبحت — بضربة حَظٍّ شرقية كما في الحواديت — من الأثرياء، وفي غضون سنواتٍ قليلة أهدرت معظم ثروتها بتهوُّر إجرامي، وتركت طفلها — وهو ابنٌ غير شرعي بالطبع — ينال منه الفسادُ تقريبًا، لا تزورُه سوى زيارة خاطفة مرةً واحدة في السنة، وأخيرًا — والأمر لا يمكن أن يكون على صورة أخرى بخلاف ذلك — تُغوي رجلًا أحبَّها وتجعل منه أداةً لجرائمها.

لم تكن ميتسي شيناجل تفهم سوى القليل جدًّا مما يجري في قاعة المحكمة من إجراءاتٍ ومرافعات. بل كان يبدو لها أحيانًا كلُّ شيءٍ بسيطًا، أبسط حتى مما كان يحدث حين كانت في المدرسة. تذكَّرت أن هذا يُشبه ما كان يجري في الفصل في المدرسة الابتدائية. كان الواحد يقف عندما يُسأل، ولا يعرف إجابات كل الأسئلة، بل بعضها فقط. وفي الصعوبات الخاصة يهرب المرء إلى نفسِه. يشعر بغُصَّة في الحَلْق، ودموع في العينَين، ويسيل أنفه، ويشعر بحُرقة في الأجفان من ملح الدموع. كلُّ شيءٍ يتكرَّر هنا. تبكي، وتصمت كثيرًا، وفي غمرة ارتباكها ويأسها تقول «نعم!» عندما يُحاول المدَّعي العام استدراجها، و«لا!» عندما يحاول محاميها إنقاذها. كانت مندهشة فقط من قسوة الرجال الوحشية، من هذا الجنس الذكوري الغامض تمامًا، الذي كانت تعتقد منذ زمن طويل أنها تعرفه جيدًا، لو أن التجارب علمتها أيَّ شيءٍ. لكن هؤلاء الرجال يرتدون الأرواب، ويبدون في هيئة غريبة، مثل الكهنة في بعض الأحيان، ولكن أيضًا مثل المخنَّثين في الطقوس الاحتفالية. كان الرجال يأتون إلى صالون ماتسنر بهيئة مختلفة تمامًا فيما مضى.

سأل دفاعُ لِيسَّاوَر موكِّلَه: «كم مرة طالبتك ميتسي شيناجل بمبالغ كبيرة؟» وأجابه على الفور: «على الأقل مرة كل أسبوع!». فسأله: «ولماذا كان يتعيَّن عليك توفير هذه المبالغ لها؟». صمتَ لِيسَّاوَر وخفضَ رأسَه. صاح المحامي: «دَعْ عنك هذا الخجل!». تنهَّد لِيسَّاوَر وقال: «لأنكَ لو لم تفعل، لمنعت شيناجل نفسَها عنك!». صرخت ميتسي شيناجل بحِدة: «ليس صحيحًا!». لكن صوت اليأس غير مريح. يبدو وَقْعُه كصوتِ الكذب.

كان أهم يوم في حياة السيدة يوزفينا ماتسنر. بسؤالها عن الحالة الاجتماعية والمهنة، أجابت: عَزَبة، صرافة. صحَّح لها الرئيس: «مُسجَّلة كمالكة لبيت دعارة في فيدن». قالت السيدة ماتسنر إنها لم تلقَ إلا نكران الجميل والجحود التام. قالت إنها كانت دائمًا تُحسن معاملة جميع الفتيات. وراحت تبكي. كلُّ ما طلبته من المحكمة الموقرة هو مالها. طلبت الرأفة. كانت ريشاتُها البنفسجية، التي أضافت إليها حاليًّا بعضَ ريشات ببغاء أرجواني مثبتة على حافة القبَّعة، تترنَّح كأنها في عاصفة مدوية. كان الدبوسان في يمين القبعة وشمالها يطلان برأسَيهما الحادَّين ببريقٍ منذِر بخطر. حقيبة يدٍ ضخمة ومنتفخة من الحرير الأزرق الشاحب كانت معلَّقة على ذراعها اليُسرى. وقِطَع الألماس تتلألأ على شحمتَي أذنَيها.

قال الرئيس مقاطعًا إياها: «يمكنكِ الانصراف!». كانت ما تزال مأخوذة من صدى كلماتها في القاعة. لم تفهم في الحال. كرَّر الرئيس: «هذا يكفي. يمكنكِ الانصراف!». أدركت أخيرًا، انحنت بعمق، ثم رفعت رأسها مرةً أخرى وهتفت: «إنني ألتمسُ الرحمة!» وانصرفت دون أن تلتفت.

كان المفتشُ زدلاتشيك قد تلقَّى تلميحًا بضرورة الالتزام بعدم الإفصاح عن مصدر أموال شيناجل. أفاد — وهنا بدأ قلبه يهدأ قليلًا — بأنه كان مكلَّفًا بمراقبة المتَّهمة منذ مدة طويلة. كانت في تقديره طائشة أكثر منها مجرِمة واعية. وصل إجمالي المطالَبات بالتعويضات إلى حوالي أربعة وعشرين ألف جولدن. أوضحَ محامي ميتسي شيناجل أن موكِّلته لا تمانع في خمسة عشر ألفًا هي كلُّ ما بقي تحت تصرفها. وبهذه الطريقة وفَّر لها خمسة آلاف يمكنها أن تعيش بها، بعد خصم أتعابه بالطبع.

لكنها مع ذلك أُدِينت. حُكِمَ على لِيسَّاوَر بالسجن المشدَّد لثلاث سنوات؛ وعلى شيناجل بالسجن لستة عشر شهرًا.

بكت. ستة أشهر، أو سنة، أو عشر سنوات، أو مدى الحياة، كان هذا كلُّه بالنسبة إليها في هذه اللحظة سواء.

وعدَها محاميها أن يبذل كلَّ ما في وسعه للإفراج عنها قريبًا. لكنها قالت له: «لا أريدُ شيئًا!». كَفَّت عن البكاء، لم تبكِ أبدًا خلال الرحلة الطويلة من المحكمة إلى السجن. كانت تنتشر في الممر رائحة غسيل رطب متَّسخ ومياه غسيل وبقايا حساء. خلعت ملابسها في غرفة صغيرة، ووضعوها على ميزان وتحت مقياس للطول. أحضرت لها إحدى الراهبات ثوبًا أزرق. ارتدته. وشاهدت بلا مبالاة راهبةً أخرى وهي تجمع ثوبها الإنجليزي الأنيق ذا اللون الأزرق الداكن، وحذاءها ذا الأزرار والكعب العالي والمقدِّمة من الجلد اللميع، وحقيبة اليد الوردية اللون، وتُعبئ هذه الأشياء كلها في صندوق من الورق المقوى ثم تضع عليه لوحة صغيرة من الصفيح. كان عليها أن تجلس وظهرها إلى الباب. سمعت البابَ يُفتَح، لم تجرؤ أن تلتفت. كان شيءٌ معدني يُقرقِع ويُصلصل مقتربًا منها من الخلف، فولاذٌ بارد ويدٌ دافئة يمران معًا على رأسها.

أطلقت صرخةً حادة. قبضت الراهبة على كلتا يديها.

راح شعرُها الفتيُّ الأشقر الرمادي يتساقط حولها في خصلاتٍ ونُدَف. شعرت بفروة رأسها باردة. راحت الراهبة تُرتِّب دبابيس الشعر والأمشاط.

أحضروا لها طاقيةً زرقاء، وكان عليها أن تلبسها. نظرت حولها بحثًا عن مرآة. لا مرآة في أي مكان. أدهشها ذلك. أُمرت بالنهوض. نهضت. تعلَّقت بذراع الراهبة، وكان صندلها يُطقطِق على أرضية الممر الحجرية. صلصلت المفاتيح. تسلَّل ضوءٌ رماديٌّ من فتحاتٍ قليلة عالية، من مكانٍ ما في العالَم تناهى إلى مسامعها صوتُ طيرٍ يُغرِّد.

كانت الزنزانة ٢٣ شاغرة رغم وجود سريرَين فيها. قالت الراهبة: «اختاري يا ابنتي!». لم يكن لديها أيُّ عزاء آخر تُقدِّمه لها سوى حرية الاختيار بين السريرَين الأيمن والأيسر. سقطت ميتسي شيناجل على الأيسر. راحت في النوم فورًا.

بعد ساعة أيقظها شخصٌ ما. كانت السجينة ماجدالينا كرويتسر، اللاعبة على الحبال سابقًا، صاحبة الملاهي في براتر حاليًّا، وهو ما ستعرفه ميتسي بعد قليل.

١٦

حتى يومين بعد المحاكمة كانت السيدة ماتسنر لا تزال لديها فرصٌ كثيرة للاستمتاع بشُهرتها المفاجئة. كانت ما تزال شبه مذهولة من الأيام التي قضتها في الجلسات بمحكمة المقاطعة، ومن الاستجواب، ومن شهادتها، ومن طلبها السمح الرائع حين ناشدت القضاة الرأفة، ولكنها راحت تنعَم بتصوُّراتٍ كثيرة متباينة عن مستقبلها، تصوُّراتٍ مشوَّشة لكنها مريحة. ليومين فقط بعد انتهاء المحاكمة، سُمح للسيدة ماتسنر بالبقاء في هذه المملكة البهيجة من النشوة والأحلام، وهي المدة التي أبقت فيها الصحفُ على اهتمامها، وإنْ كان في شكل مقالاتٍ أصغر فأصغر تودِّع بها قصة الموسم. السيدة ماتسنر لم تدَّخر وسعًا، اشترت كلَّ الصحف. غير أن الجيران والمعارف أيضًا كانوا يُحضِرون لها بعض القصاصات. ولكن في اليوم الثالث، كما لو كان بفعل سحر شرير، اختفى الكلام عن دانتيل بروكسل، وعلى كثرة الصحف التي اشترتها السيدة ماتسنر في ذلك اليوم أيضًا، لم تجد في أيٍّ منها كلمة واحدة يمكن أن تُذكِّر بالمحاكمة ولو من بعيد. كان الأمر بالنسبة إلى السيدة ماتسنر كما لو أنها قد دخلت في حيزٍ من صمتٍ جامد مروِّع كالذي يسود المقابر في الليل أو سراديب الموتى. لا! لم تدخل هكذا بإرادتها في هذا الصمت القبوري، بل هناك من دفعها إليه. عانت المشاعر القاسية والمريرة التي يعانيها كلُّ المهجورين والمغدورين، الدهشة والذهول في البداية، ثمَّ الاستغراب الممزوج بعدم الفهم، ثم الأمل المخاتل في أن كل هذا لم يكن إلا حُلمًا، ثم الإدراك المؤلم أنه لم يكن حُلمًا، ثم المرارة، ثم العجز، وأخيرًا الرغبة في الانتقام. أخفت الصحفَ الحقيرة التي لا تحتوي على شيءٍ حتى لا تقع في يد واحدة من فتياتها. نزلت إلى الشارع، ووقفت لبعض الوقت أمام بوابة البيت لتستعيد صلابتها التي كانت قد أظهرتها طوال تلك الأسابيع؛ إذ كانت تحسُّ أنها تبدو مكسورة وذابلة. وهذا تحديدًا هو ما يجب ألا يراه أحد. ذهبت إلى محالَّ مختلفة للتسوُّق، رغم أنها لم تكن بحاجة إلى أي شيء. لكنها كانت مدفوعة إلى رؤية الناس وتقصِّي ما إذا كانوا هم أيضًا يفوحون بشيءٍ من هذا الصمت المميت والبغيض الذي يسود الصحف. لم تكن بحاجة إلى كعك بريتسل المملَّح الجاف، كانت قد فقَدت شهيتَها منذ زمنٍ طويل، وكانت تعتقد أنها لن تحتاج إلى قضمة واحدة منه بقية حياتها. لم تكن بحاجة إلى المشابك أو العراوي؛ لم تكن تفكِّر في إصلاح فساتين قديمة. لم تكن بحاجة إلى أزرار للحذاء، ولا إلى حزام جديد لمشدِّ الخصر، ولا إلى أمشاط، ولا إلى البندق. لكنها اشترت كل هذه الأشياء، أقامت متاريس حولها من الطرود الملفوفة في ورق الجرائد، من ورق الجرائد الخائنة الغادرة. سقطت نظرتُها على القرطاس المعبأ بالبندق: كان مطبوعًا عليه بالبنط العريض: «المحاكمة في قضية دانتيل بروكسل». ثلاثة أيام الآن، وها هم يلفُّون البندق في تلك الأوراق! لا داعي للتخمين، أيُّ مصير آخر ينتظر هذه الأوراق! لعلَّها الآن، وقد قُطِّعت في شكل رزم مستطيلة متساوية، معلقة بمسامير في مراحيض الحانات والمقاهي.

كانت السيدة ماتسنر تحرص على التحدُّث إلى أصحاب المتاجر بكبريائها المتعالي المعتاد. لكنها أحسَّت أنها لم تعُد تترك الانطباع الرائع نفسه كما في السابق. ثمة نوعٌ من الألفة في طريقة تعبير كلِّ الناس لا يمكن إنكاره. بحساسيتها المتراكمة المختبَرة حمَّلت نفسَها حسابَ ذلك؛ وبدأت تخشى أنها قد أصبحت أقلَّ مما كانت عليه من قبل.

قال لها إفروسي: «ها أنتِ قد حققتِ كل شيءٍ». قال الرجل: «كل شيء تحقَّق.» يبدو أنه لم يكن يُفكِّر إلا في المال …

بعد أسبوعين قرَّرت الاستسلام. لم يعُد استمرار البيت أكثر من ذلك ممكنًا. لم تعُد تشتري النبيذَ الفوار من مورِّد البلاط فاينبرجر، وإنما من باومان في «مارياهيلف». ولماذا أصلًا؟ فما أقلَّ الزبائن الجيدين القُدامى الآن. وحتى هؤلاء، بدا لها أنهم قد تحوَّلوا، أصبحوا ذابلين. مجرَّد صور باهتة ومصفرَّة لذواتهم السابقة. كان الزبائن شاحبين، وأجساد الفتيات المتقدِّمات في السن ووجوههنَّ في تدهور ملحوظ، الفِراك الذي يرتديه عازفُ البيانو استحال لونه إلى الاخضرار، وورق الحائط يتقشَّر تدريجيًّا، والأريكة تتنهَّد إذا ما جلست عليها، وعلى المرآة تراكمت بقعٌ عمياء، وحتى عاملة التنظيف كليمنتينا فاستل أصابها النَّقرس. لم تعُد باليد حيلة. خضعت السيدة ماتسنر لحكم الزمن القاسي. باعت البيت. فصار فرعًا رخيصًا للبيت الأنيق في شارع مصلحة الجمارك.

لم يُحزِنها الوداع حتى. في مساءٍ خريفي، في ساعة الغسق القصيرة التي تفصل بين انطفاء النهار وإضاءة المصابيح، رحلت في عربتها المكشوفة. لم تنظر حولها. الفتيات لا يتبعنها بعد الآن. أصبحنَ تحت إمرة المالك الجديد في شارع مصلحة الجمارك.

في البداية، بدا للسيدة ماتسنر أن حياتها قد انتهت، لكنها كانت مخطئة، بل كانت تدرك تمامًا أنها مخطئة. إذ بدلًا من أن تنسحب، كما كانت نيتها سابقًا، وتحتمي بالصمت الحالم في مكانٍ ما من أيِّ مقاطعة لا يعرفها فيها أحد، قرَّرت فجأة أن تبقى في فيينا، بل في وسط فيينا، في قلب المدينة. وبصورة طبيعية، امتزجَ داخلها البخلُ والجشعُ بالخوف من أنها — في عزلتها عن العالم — لن تجد بانتظارها إلا الموت أو الشيخوخة بوتيرة أسرع؛ وكذلك الخوف من أنها قد تفقد الصلة بمَواطن أموالها. بدا لها أنها ستخون مالَها لو أنها تركته؛ سيصبح يتيمًا، كطفل لا حول له ولا قوة. لا، لم ترغب في المغادرة! بل على العكس من ذلك استأجرت مسكنًا في قلب المدينة في شارع «يا زو مير جوت جاسِّه».

كانت في الأيام الأولى تُحسُّ وكأنها تائهة، وعلى الرغم من أنها تعرف وسط المدينة جيدًا منذ صباها، كان يبدو لها أحيانًا أنها ليست في فيينا على الإطلاق. كانت المحالُّ التجارية مختلفة، واللافتات مختلفة. حتى الحيوانات، والخيول، والكلاب، والقطط، والطيور، تختلف عن حيوانات فِيدن وطيورها. كان الأمر كما لو أنه لن يخطر أبدًا ببال شحرور من المنطقة الأولى أن يذهب للبحث عن الطعام في المنطقة الرابعة. كما أنها كانت تشعر ببعض الخوف من غرفتَيها، وقد بدتا لها واسعتَين للغاية ومفروشتَين بأثاثٍ باهظ الثمن للغاية أيضًا. لم يكن هناك شيءٌ واحد في هذه الشقة يبدو لها قريبًا أو مألوفًا بما يكفي. كلُّ قطعة أثاثٍ تقع عليها عيناها تُذكِّرها حتمًا بأنها دفعت ما يسمَّى رسوم استهلاك لكل شيءٍ، وعلى الرغم من أن مبلغ هذه الرسوم كان محدَّدًا من قبل، دائمًا ما كان يتجدَّد لديها الخوفُ من أن أي لمسة لقطع الأثاث مهما كانت طفيفة، ستزيد من رسوم الاستهلاك، وذلك بفضل ثغراتٍ غامضة في عقد الإيجار. ولكي تشعر ببعض الراحة في هذه البيئة الغريبة، سحبت خمسمائة جولدن من بنك إفروسي، نصفها ذهب، ونصفها أوراق نقدية. هكذا تكون على الأقل متأكِّدة من أن شيئًا جيدًا ينتظرها عندما تعود إلى منزلها في المساء بعد جولاتٍ طويلة في الشوارع بلا هدف، أو بعد ساعاتٍ ناعسة قضتها على مقعد في منتزه المدينة أو في منتزه البلدية. كانت أرملة رائدٍ في الجيش هي التي أجَّرت لها الشقة بعد انتقالها للعيش مع زوج ابنتها في جراتس. وقد ورثت السيدة ماتسنر شيئًا من المكانة الاجتماعية التي كانت تتمتَّع بها صاحبةُ الشقة لدى حارس العقار، وسكان المبنى الآخرين وخدمهم. كانت قد سجَّلت نفسها في استمارة التسجيل «عزباء» — ولكن أيضًا «مستقلة». كانت تبدو ميسورة. لم يتعرَّف عليها أحدٌ. كانت صاحبة سلوك ودِّي مسالم، ونصف دستة فساتين جيدة، وثلاث علب لحفظ القبعات، وملابس داخلية جيدة من الكتان. كانت مدبِّرة المنزل تُرتِّب لها الغرفتَين. وتُفتِّش في الأدراج أحيانًا عن خطاباتٍ أو مستندات. لم تعثُر مرةً على صورة، أو دفتر توفير. تخلَّت أخيرًا عن البحث وقرَّرت أن تتعامل مع المستأجرة الجديدة على أنها امرأة وحيدة غنية وكتومة، إلى أن ينكشف لها المزيدُ ذات يوم.

احتفظت السيدة ماتسنر بالمال في الصندوق القديم الذي ورثته عن أبويها، وهو صندوق متين مؤطَّر بالحديد ومثبت على عجلاتٍ، واحتفظت بالأوراق النقدية في محفظة، وبالعملات الذهبية في كيس شبكي فضي. كلما عادت إلى المنزل، أخرجتِ المفتاح من حقيبة يدها، وفتحت القفل، وأخرجت اللسان الحديدي من عروته، ورفعت غطاء الصندوق الثقيل. تفتح المحفظة، ثم الكيس الفضي، وتتنفَّس الصعداء، ثم يُصيبها غَمٌّ من أن هذا قليل جدًّا، لكنها بعد ذلك تُذكِّر نفسَها بأن هذا ليس سوى جزءٍ صغير جدًّا من ثروتها، وتتنفَّس بارتياحٍ مرة أخرى. خلعت القبعة، وأنزلت غطاء الصندوق، وأقفلته، ونزلت إلى مدبِّرة المنزل لتفكَّ لها أزرار فستانها كما اعتادت كلَّ مساء. ثم عادت إلى الطابق الأول وقد وضَعت على كتفَيها شالها الحريري. كان كثيرًا ما يخطر ببالها وهي على الدرَج أنها مستهترة بلا شك؛ إذ تترك كل أموالها في البنك. ألا يمكنها أن تُحضر المزيدَ إلى المنزل. تُقرِّر مقابلة إفروسي مرةً أخرى في الغد. لكن هذا يتطلب شجاعة غير عادية. وكثيرًا ما كانت أيضًا تدور على عقبَيها وتطلب من مدبِّرة المنزل أن تُحضر لها قدحًا من بيرة أوكوسِيمر، أو بيلسنر … من أجل النوم، كما كانت تقول؛ أما في الواقع، فكانت من أجل أن تتجرَّع الشجاعة اليوم للغد.

في صباح اليوم التالي كانت تجلس في مكتب إفروسي. لكن شجاعتَها تبدَّدت تمامًا. كان صوتُ إفروسي الحكيم الناعم — وهو نصفُ جالس على كرسيه الدوار — ينسابُ برفق على قبَّعتها الكبيرة. شكوكها أيضًا قد تبدَّدت تمامًا. كما تبدد كلُّ خوفها على مالها. اعتادَ إفروسي أن يقول لها: «إذا بلغتِ العشرين بعد المائة يا سيدة ماتسنر، فلن تموتي من الجوع، وسيكون لكِ أيضًا نعشٌ محترم فاخر على عربة تجرُّها أربعة أحصنة إذا أردتِ، وسيتبقَّى لديكِ أيضًا ما تورِّثينه!»

قالت السيدة ماتسنر: «شكرًا جزيلًا! شكرًا على المعلومات!». ثم اقتربت من كرسيِّه الدوَّار ومَدَّت إليه يدها رافعةً إياها من موقعها المنخفض وقالت: «اسمح لي، يا سيادة المستشار الإمبراطوري!». عندما يكون الجو دافئًا، كانت تذهَب إلى منتزه المدينة لرؤية الطابية، وتجلس بجوار كشك البارومتر. وكانت تذهب بعد ذلك في تلك الأجواء المشمِسة للجلوس في حديقة حان كريجل في شارع فِيبلِنجر.

ظلَّ خريفُ هذا العام لفترة طويلة دافئًا ووديعًا وفضيًّا. كانت الفرقة العسكرية «هوخ أوند دويتشمايستر» تعزف في مطعم حديقة فولكسجارتن بعد الظُّهر. تبدأ الفرقة الحفلَ في تمام الخامسة. لكن إذا أتيتَ قبل الخامسة برُبع ساعة وطلبتَ القهوة بالكريمة، فلن تدفع الخمسة كرويتسر الإضافية للموسيقى، بل ستدفع الثلاثين كرويتسر المعتادة للقهوة وخمسة عشر أخرى مقابل شريحة من كعكة جوجلهوبف. كان هذا محتمَلًا، وإنْ كان فيه شيءٌ من الإسراف. لكن، فوق ذلك، كانت هذه الفرقة العسكرية تمنح السيدة ماتسنر لذة لا تُقدَّر بثمن: لذة الشَّجَن. كانت هذه هي الساعات الشاعرية في حياة السيدة يوزفينا ماتسنر، أي تلك التي تشعر فيها برعشة حزن رهيب وحنون، بألم رحيم، بيقين مريح ورهيب في الوقت نفسه بأن كلَّ شيءٍ قد انتهى. يمكنها أن تستمتع بكلِّ أنواع المرارة. وأن تتلذذ بكل أنواع المرارة. عزفت الموسيقى ألحانًا منسية منذ زمن طويل، بولكا ومازوركا من زمن كانت فيه يوزفينا ماتسنر لا تزال مراهقة صغيرة، فتاة غَضَّة، لا تزال تحلم بأن تصبح زوجة ﻟ «آنجر» ناظر المحطة. لم تعد تحبه، منذ مدة طويلة بالطبع، وكيف لها ذلك! لكنها تحبُّ شبابها، بل وتحبُّ الطريقة التي أهدرت بها شبابها. كلُّ الفتيات اللاتي عرفتهن بعد ذلك في عملها لدي جيني لاكاتوس في بودابست، تساقطن من شجرة حياتها. ها هي تتذكرهن جميعًا بحنين أيضًا. كانت هي وحدها القادرة على أن تصنع لنفسها «وجودًا». كانت «شخصًا ما»، وكانت «قادرة على فعل شيءٍ ما». والآن؟ أوه، الموسيقى التي تعزفها فرقة «هوخ أوند دويتشمايستر» أيقظت ذكرياتٌ رقيقة وحلوة، لطَّفت الشيخوخة، وحلَّت المرارة، وطَلتِ الحزن بماءِ الذهب، وحتى عندما انتهت وحزمَ الموسيقيون أصحاب الزي الرسمي أغراضَهم؛ الحوامل والنوتات والآلات الموسيقية، بقيت تلك الموسيقى التي عزفوها عالقةً في الهواء لفترة طويلة، طويلة جدًّا، كما لو أنهم قد تركوا الألحانَ في السُّحُب، والأشجار في فولكسجارتن بأوراقها الذهبية الذابلة، تُهسهِس في تناغُم مع الأصوات الداخلية للسيدة ماتسنر في حيرةٍ أخوية مريحة: والآن؟ والآن؟

في عصر أحد الأيام، بينما كانت السيدة ماتسنر تستمتع بالقهوة وكعكة جوجلهوبف والموسيقى، سمعت فجأة صوتًا: «حيَّاكِ الله، طنط فيني!»، صوتًا أنوفًا لرجلٍ نبيل من مجتمع راقٍ، التقطته وهي في غمرة أحلامها. رفعت بصرها. نعم، كان رجلًا نبيلًا، وجهه مألوف للغاية، لكنها لم تستطع في البداية أن تتذكَّر من هو. فَزَّت من مقعدها، كما لو أن الذاكرة قد انتزعتها من مكانها، فزَّت كما لو كانت ما تزال جالسة في صالونها أو عند الخزينة. نعم، نعم، كان هو: البارون تايتنجر، ولكن في ملابس مدنية. لم يرفع قبَّعة الصيد الصغيرة الخضراء. ابتسم فقط. ما تزال أسنانه ناصعةً كما كانت. ولكن رغم هذه النصاعة التي لم تتغيَّر أدركت السيدة ماتسنر أن شيئًا آخر قد تغيَّر؛ بعد ثانية واحدة عرفته أيضًا، أصبح شاربُ النقيب رماديًّا تقريبًا؛ أو فلنقُل مرقطًا.

ظلَّت السيدة ماتسنر واقفة، من باب الاحترام القديم للنقيب، ولكن أيضًا بشيءٍ من الرهبة من شاربه الذي استحال لونُه إلى الرمادي. تلفَّت البارونُ حوله بسرعة، ولما لم يجد بالقرب منه وجهًا يعرفه، قال: «أتسمحين لي، فراو ماتسنر؟» وجلس. خلعَ القبَّعة الصغيرة الخضراء، وعندئذٍ رأت السيدة ماتسنر أن رأس البارون استحالَ رماديًّا أكثر من شاربه؛ كان أبيض تقريبًا. كانت ما تزال واقفة ولم تجلس، بدافع الدَّهشة الآن أكثر من الاحترام. تساءلت في نفسها: هل جرت السنواتُ بهذه السرعة؟ أم إن السنوات تمضي بشخصٍ أسرع مما تمضي بشخصٍ آخر؟ أم إن البارونَ مريض، أم غير سعيد؟ قال لها: «تفضَّلي بالجلوس!» فجلست بتصلُّب وحذر على حافة المقعد مستندةً بمرفقَيها على الطاولة الصغيرة. بدا لها هذا أكثر تأدُّبًا ومناسبًا للظروف.

بدأ النقيبُ حديثَه: «ها، أما زالت الأمورُ عندكِ ممتعة؟».

«عندي؟ لقد بيع البيتُ يا سيدي البارون. لم أعُد طنط فيني القديمة، ولا حتى «فراو ماتسنر»! لقد عدتُ ماتسنر كما كنتُ قبل عشرين عامًا! أعيشُ في شارع «يا زو مير جوت جاسِّه» كامرأة عزباء ومستقلة، لا أهشُّ ولا أنش. أوه يا سيدي البارون، كانت أيام! وبعد؟ لا شيء الآن غير الوحدة!»

توقَّفت، وتنهَّدت.

قال النقيب بحماس: «تكلَّمي! تكلَّمي!» كما لو كان يتوقَّع بعد هذه المقدمة حكاياتٍ في غاية المرح.

حكت السيدة ماتسنر بتسلسل دقيق. كانت كمن يُقدِّم تقريرًا عسكريًّا. تعثَّرت أكثر من مرة وهي تحكي قصة الدانتيل. «ميتسي شيناجل، يا سيدي البارون، لعلك تعرف …» ثم عاودت الصمت لبرهة.

«نعم، نعم!». أثار اسم ميتسي شيناجل في نفْسِ النقيب كلَّ أنواع المشاعر غير المريحة.

استأنفت السيدة ماتسنر سرد الحكاية: «والتمستُ الرأفة من عدالة المحكمة». كانت تتوقَّع القليلَ من الإعجاب، القليلَ من التقدير، أو حتى كلمة صغيرة تافهة، أو نظرة تأييد. لكن من الواضح أن النقيب لم يهتم بسماع هذه الجملة المهمَّة. رفع بصره فجأة محدِّقًا في قمم الأشجار المصفرَّة. وكما لو كان قد أسقطها بنظرةٍ واحدة، تهادت ببطءٍ وخفَّة ورقةٌ كستنائية عريضة كأنها من رقائق الذهب واستقرَّت على الحافة العريضة لقبعة السيدة ماتسنر. راحَ يتأمَّل الورقة الصفراء على المخمل البنفسجي. لماذا خطرت بباله منطقةُ كاجران الآن؟ لماذا كاجران هكذا فجأة؟

قالت السيدة ماتسنر: «وهي الآن في السجن!» وتنهَّدت من جديد.

نعم، ها هو يتذكَّر. كان ذلك قبل بضعة أسابيع، وقد طُلِبَ منه التوقيعُ على ورقة صغيرة في المكتب. كان خطابًا مسجَّلًا، بخط معروف، وعلى المظروف ختمٌ أحمر يقول: «قُرِئَ، ويُمرَّر!». هذا الختم تفوح منه رائحة «قصة مملة»، أثقل من رائحة الكتابة نفسها. كان مظروفًا رخيصًا وقبيحًا بلون أزرق يميل إلى الاخضرار، يُذكِّر بالفقر وبالقانون في الوقت نفسه. بعد أن وقَّعَ النقيبُ، فتحَ الخطابَ وهو شاردُ الذهن وألقى نظرة فقط على رأس الورقة المطبوع: «سجن كاجران للنساء». لم يكن لديه فضولٌ للمزيد. بل لم يكن في حياته فضوليًّا على الإطلاق. هذا الخطاب، بهذا العنوان السخيف والمثير للشفقة والملل فوق هذا كله، كان من الظواهر العَصِية على التفسير التي تُطارد البارون تايتنجر من وقتٍ لآخر، كرسائل براندل ناظر زراعته على سبيل المثال، وفواتير كبير الندل رايتماير، وأي إفاداتٍ لا لُزوم لها من عُمدة أوبرندورف حيث تقع أملاكه. كانت كلُّها بالنِّسبة إليه مثل ظواهر غامضة. لا علاقة لها بالحب، ولا بمُجتمع فيينا، ولا بعمله في سلاح الفرسان، ولا بالخيول. لم تكن مثل هذه الأمور مملَّة فقط، بل كانت «عقيمة»، وذاك أعلى درجات الملل.

قال وقد عقَد العزم على عدم الإنصات بعد الآن: «أكملي! أكملي!». كان قد لملمَ نفسه أخيرًا وتشجَّع بعد أسابيع طويلة على المجيء إلى فيينا مرةً أخرى. ومرةً أخرى، كما يحدُث له كثيرًا منذ تلك القصة الفظيعة مع الشاه وعودتِه المفاجئة إلى الكتيبة، ألمَّ به سوءٌ شديد وخطير وغامض لا يعرف له اسمًا. كان مزيجًا غريبًا من الألم والخِزي والحنين والحب والضياع. في مثل هذه اللحظات يصل النقيبُ إلى تصوُّر واضح عن رعونته، ويأكله الندم؛ حتى ليكاد يُحسُّ بأسنانه الحادة تنهش جسده. وعبثًا يتساءل، لماذا فعل هذا بحياته، لماذا فوَّتَ هذا وأضاعَ ذاك. كلُّ ما حدثَ له منذ تخرجه في المدرسة العسكرية بدا له عديمَ الجدوى. حاولَ أن يُعيدَ توجيه ذكرياته قسرًا، إلى المدرسة العسكرية، إلى أمِّه، إلى أبيه، لكنها لم تُطاوعه، بل تمضي في طريقها وتتوقَّف دائمًا أمام الكونتيسة «ﻓ»، والشاه، والظريف كيريليدا بايِدجاني، والمخيف زدلاتشيك بقبعته الطويلة، تتوقَّف أولًا، ثم تظلُّ تدور حول هؤلاء الأشخاص الأربعة. هذه القصة المخزية كانت قد دُفِنت منذ زمنٍ بعيد، لم يعرف بها أحد، لا العقيد ولا الرفاق. ولكن ما فائدة هذا بالنسبة إلى تايتنجر نفسه؟ ثمة حلقة في حياته لا يستطيع أن يتحدَّث عنها مع أي شخص. تجري في دمه مثل جسم غريب، ومن وقتٍ لآخر تصل إلى ناحية القلب، تضغط عليه، تخزُّه، تنخر فيه. في مثل هذه الساعات لا يكون أمامه إلا ثلاثة مخارج؛ أن يهرب إلى فيينا، معقل المجد والمكان الذي وُلد فيه العار، أو يغرق في الشراب، أو … أو يطلق النار على نفسه. ربما كانت الحربُ مَخرجًا. لكنك حيثما تُولِّ وجهك تجد العالَم كله قد عمَّه سلامٌ قانع ثقيل ومترفِّع.

ها هو الآن يُدرك: كانت ميتسي شيناجل هي التي كتبت إليه من السجن. كان الأمر أشبه بتلك التحية الحميمة من المفتش المقزز زدلاتشيك. من الممكن أن يتكرَّر مثل هذا الإحراج في كل لحظة. وكيف نمنعه؟ وعلى قلة ما كان يفهم المسكين تايتنجر من قوانين المدنيِّين، فقد فهم جيدًا أنه يُسمَح للسجين بإرسال رسائل إلى العالَم الحر. والمأمور يقرؤها. وقد قرأ أيضًا آخر خطاب من شيناجل. كان تايتنجر ما يزال يتأمَّل الورقة الصفراء الذهبية التي سقطت على حافة قبَّعة ماتسنر البنفسجية. أوه، لم تكن لديه أيُّ ميول أو أحاسيس شعرية. لكنه في تلك اللحظة بدأ يشعر بعاطفة غريبة وسخيفة نحو الوريقة المسكينة. إنها تُنبئ بالخريف، هذا واضح! وكم رأى من قبل أوراقًا متساقطة تُنبئ بالخريف. لكن هذه الورقة، هذه بالذات، تُنبئه هو، تحديدًا هو، تايتنجر، بخريفه الخاص. ارتجفَ.

سمع فجأة صليلَ سيوف، فاعتراه قلقٌ من أن يراه بعضُ الرفاق على طاولة ماتسنر، فأخرج ساعتَه وقال فجأة مقاطعًا حديثَ ماتسنر الدءوب المصحوب بالتنهدات: «يجب أن أذهب. سنلتقي غدًا في مثل هذا الوقت — لكن أين؟» فكَّر لبرهة، ما هو المكان الهادئ الذي لا يراه فيه أحد؟ نعم، نعم، تذكر وقال: «عند جروتسنر! هل هذا يُناسبكِ فراو ماتسنر؟» أجابت: «كما يحب السيدُ البارون». فنادى: «الحساب!» وارتدى القبعة الصغيرة. دفعَ حساب ماتسنر أيضًا، ولاحظت بصدمة حزينة أن النادل قد احتسبَ الخمسة الإضافية رغم أنها كانت قد جاءت قبل بدء الموسيقى برُبع ساعة!

مَدَّ لها تايتنجر أطرافَ أصابع أربعة بتراخٍ، فنهضت بانحناءة: وهنا سقطت الورقة من قبعتها على الطاولة.

ثم اختفى البارون في ظلام فولكسجارتن.

١٧

للمرة الأولى في حياته يختبر البارون تايتنجر معنى عبارة: «اتخاذ خطوات». لا يتَّخذ المرء خطواتٍ في الحياة العسكرية. كلُّ شيءٍ محدَّد سلفًا. لا توجد تعقيدات، وإنْ وُجِدت فإنها تكون نتيجةً لتعليماتٍ وضوابط معيَّنة هي بدورها لديها القدرة على حَلِّ التعقيدات التي صنعتها في الحال. أما في الحياة المدنية، فكثيرًا ما يكون على المرء «اتخاذ خطوات». يتعيَّن على المرء أن يُعدِّل وجهته من وقتٍ لآخر؛ لأن القوانين على ما يبدو ليست مهمتُها تنظيمَ حياة الناس، بل، على العكس، دفعهم إلى الفوضى. أفكارٌ من هذا القبيل منعت النقيبَ من النوم في تلك الليلة. استيقظَ مبكرًا مع بزوغ فجر الخريف. بالأمس فقط، فكَّرَ في طبيب الشرطة الدكتور شتياسني الذي كان يلتحق بفرقة تايتنجر للفرسان وقتَ المناورات من كلِّ عام ليكون كبير أطباءِ الاحتياط. كان من رابعِ المستحيلات أن يذهب تايتنجر لرؤية المأمور البارون هاندل، الذي كان يعرفه من بعيد؛ وذلك لسببٍ بسيط؛ وهو أنه لم يسبِق له أن قابله بالزي الرسمي. أما الدكتور شتياسني فعلى الأقل كان قد جلس معه في نادي الضباط وشاركه لعبَ الدومينو.

كان المزيدُ من عدم الراحة ينتظر تايتنجر في مركز الشرطة. كان بملابس مدنية، ولذلك كان من المحتَّم أن يتحقَّق الحارسان منه قبل الدخول بطريقة تخلو من الاحترام، كما أن المخبرين الذين تعجُّ بهم الممرات كانوا يُحاصرونه بنظراتٍ خاطفة لكنها نافذة للغاية. كان يسيطر عليه شعورٌ بأنه قد يقابل المفتش السري زدلاتشيك في أي لحظة. كان الأمر «محرجًا» و«مُملًّا». كان عليه أن ينتظر لرُبع ساعة من العذاب، على مقعد خشبي داكن، مع أشخاص صنَّفهم على أنهم من مقدِّمي الالتماسات. قال الموظف أخيرًا: «السيد الدكتور يقول لك تفضَّل!».

قال الطبيبُ من قوة الشرطة: «أوه، أيها البارون!» ونهض واقفًا. كان ممتلئًا، وسمينًا، وعلى ساقَين قصيرتَين هرولَ إلى النقيب. كان تايتنجر يراه في ذاكرته بصورة مختلفة. وجدَ صعوبة في التوفيق بين ما يراه الآن وما كان في مخيِّلته. وبخلاف الملابس المدنية، كان الدكتور شتياسني يرتدي نظَّارة ذات عدستَين بشريط أسود، مما أربك تايتنجر. قال بصوتٍ ملتاع: «أهلًا دكتور!». كان الدكتور قد جاء لتوِّه من المستشفى؛ ومن ثم كانت تفوح منه رائحة اليود والكلوروفورم، مثل صيدلية. ومن جيب صدريته، كان يبرق الطرفُ الزئبقي الحاد لميزان الحرارة. جلس تايتنجر في حيرة. وراحَ الدكتورُ يسأل عن أحوال الرفاق في الكتيبة. وكان النقيب يُجيب دائمًا: «في خير حال، شكرًا جزيلًا!» و«يا لها من ذاكرة يا دكتور!». كانت أغلب الأسماء تسقط من ذاكرته هو نفسه بمجرد أن تطأ قدمه محطة الحامية ليغادر في إجازة.

كان عذابًا حقيقيًّا أن ينتظر كل هذا الوقت الطويل قبل أن يفصح عن طلبه. وكيف يبدأ؟ «هناك فتاة يا دكتور، كما ترى، من ذلك النوع من المذنبين، وهي الآن تحت أيديكم» هكذا بدأ، فاعتقد الدكتور شتياسني أن الأمر يتعلق بما يُسمى «الأمراض السرية» أو شيء محظور من «أعمال القابلة» كما اعتاد أن يقول. تطلَّبَ الأمر استجوابًا مفصلًا قبل أن يتمكَّن الدكتور شتياسني من تجميع القصة من كلمات تايتنجر المبتورة. كان كمن يجمع العديدَ من الخيوط القصيرة ويربطها معًا. لما استوعبَ أخيرًا، تفاجأ بعضَ الشيء، لكنه كان مرتاحًا على كل حال، وأبدى استعداده للخروج مع النقيب تايتنجر إلى كاجران قبل الظهر. قال تايتنجر: «لا يا عزيزي الدكتور، بل فورًا من فضلك!». لم يكن يُطيق الانتظار ولو لنصف ساعة أخرى. فجأةً، وقد أصبح على بُعد خطوة من مواجهة مَلل كاجران، بدا له أنه يحس مقدمًا بكل الأهوال التي تنتظره هناك. هو! ذاهبٌ إلى سجن! كان الأمر مرعبًا! أما الدكتور شتياسني، فكان يتحدَّث عن الأمر بكل سهولة! طبعًا، فليس كلُّ الناس مثله: طبيبُ شرطة ويذهب إلى السجون كل يوم. كان عليه أن ينتهي من الأمر برمته بأسرع ما يمكن.

في الطريق إلى كاجران بالعربة المكشوفة، كان تايتنجر يجلس في صمتٍ قَلِق، بينما كانت العربة تجري بسرعة. وعندما وصلوا كان الملل والهَم والقلق قد بلغوا منه مبلغهم حتى إنه وصل إلى حالة من اللامبالاة تقريبًا.

كان مأمور السجن، المستشار الحكومي سميكال، يضع نظارة ذات إطار ذهبي، ولكن حتى هذا لم يكن ليصدم تايتنجر التَّعِس. قدمه الطبيبُ إلى المأمور. مَد يده للمصافحة. فعل كل ما يجب فعله، لكنه لم يُدرك مما يحدث معه أو يجري حوله سوى صورة ضبابية. وكما لو كان من مسافة بعيدة جدًّا، سمع المأمور يقول إنه من المستحيل أن يمنع بعضَ السجناء من كتابة الرسائل. بلا جدال! مستحيل! كان يفهم جيدًا «الصعوبات» التي يواجهها البارون، ولكن: «اللوائح!» … على أنه سيُحاول الإيعاز إلى السجينة شيناجل بألا تكتب بعد الآن إلا لأبيها في سِيفرينج وابنها في جراتس. لكن الأسهل بالتأكيد هو: أن يتحدَّث البارون معها بنفسه. ليس في اللوائح ما يمنع هذا. بإمكان مستشار الحكومة سميكال أن يطلب إحضار السجينة شيناجل في الحال، هنا في المكتب، بينما يُغادر هو لنصف ساعة، بغرض التفتيش. وقبل أن يستوعب تايتنجر الأمر جيدًا، قال الدكتور شتياسني: «ممتاز!»، وبينما هبطَ على المسكين تايتنجر فتورٌ غريب لم يسبق له مثيل، مزيجٌ من رصاص وحزن، دقَّ المأمورُ الجرسَ، وأعطى الأمرَ، وتناولَ قبعته من المِشجَب، وقال: «بعد نصف ساعة إذن سيدي البارون!». أما من ناحية الدكتور شتياسني، فقد قال هو أيضًا: «سأتمشَّى في الفِناء لبعض الوقت!» وفي التوِّ اختفى كلا السيدين. لم يسمع الباب حتى وهو يُفتَح ويُغلَق.

وجد تايتنجر نفسَه بمُفرده في غرفة المأمور، محاطًا برسوم بيانية وجداول غريبة على الجدران، وملفَّات خضراء هادئة، وفي مواجهته محبَرة فولاذية تفتح حلقها الأسود الجحيمي بطريقة شيطانية.

دخل أحدُ الحراس وأدَّى التحية العسكرية، ثم خرج مرةً أخرى. وعبر الباب الذي تُرِكَ مفتوحًا دخلت ميتسي شيناجل المكتب. جفَلت على نحو واضح. في البداية، استدارت كما لو كانت تُريد العودة إلى الممر، ثم بدا أنها تُعيد النظر، فوقفت جامدة عند العتبة، وغطَّت وجهَها بيديها. كانوا قد أخبروها فقط أنها ستُقابل المأمور. وعندما رأت تايتنجر كان رَدُّ فعلها الأول هو الهروب، كما لو أنها تهرب من كارثة، لكن أعقبَ ذلك مباشرةً يقينٌ مروِّع بأن كل سبل الهروب مغلقة في وجهها. امتزجت بداخلها الفرحة العارمة مع الخزي الشديد بالقدر نفسه. وقفت هكذا لبضع ثوانٍ ويداها أمام عينَيها. بدا لها أنها إذا أسقَطت يديها فلن ترى تايتنجر؛ ستجده قد اختفى. ولهذا، كانت تُحاول بيديها — ومن خلفها جُفونها المغمضة — الاحتفاظ به، بالقوة. أخيرًا أسقَطت يديها، لكن عينَيها كانتا ما تزالان مغمَضتَين. شعرت أنها ستبكي في اللحظة التالية مباشرةً، فاغتمَّت لذلك، لكنها في الوقت نفسه كانت تتوق إليه أيضًا.

كان تايتنجر في حيرة لم يعرف لها مثيلًا من قبل في حياته. قام، لكنه لم يتوجَّه نحو شيناجل، بل نحو الحائط، وراحَ يُحدق بشرود في بعض الرسوم البيانية التي لا معنى لها. كانت يداه تعبثان بالقبعة الصغيرة الخضراء وبالقفازَين الرماديَّين. مرت بضعُ دقائق قبل أن يستعيد لا مبالاته المعتادة وطبيعته الهادئة: عدم الاكتراث الرزين. قال بأنَفته المعهودة الرقيقة المرحة: «ها أنتِ يا عزيزتي ميتسي! دعيني أراكِ! كيف حالكِ؟». كان وقعُ الجملة لطيفًا على أذنَي ميتسي، ولكي تسمعها أفضل، فتحت عينَيها أيضًا. قال تايتنجر: «اجلسي يا ميتسي!»، فأطاعت وجلست على حافة المقعد وقد شبكت يديها في حِجرها مثل تلميذة. فكَّر أن مجاملةً صغيرة قد تكون مناسبة الآن؛ لكنه لم يستطع في ظلِّ هذه الظروف. وبأيِّ حالٍ، لم يكن من المناسب مثلًا أن يقول لها: «تبدينَ على ما يرام». تلعثَمت ميتسي: «شكرًا جزيلًا! لأنك … لأن سيادة البارون جاء من أجلي، معذرةً على خطابي!» كان الخطابُ بالطبع هو السبب الذي جاء من أجله إلى هنا؛ ولكن عليه أن يقول هذا بطريقة لطيفة. قالت ميتسي بصوتٍ خافت تمامًا: «كم هو لطيف أن تأتي عندما أطلب، وأكون واقعةً في ورطة. هذا في منتهى النُّبل!» لقد عثرت على هذه الكلمة بعد جهدٍ كبير، وكأنما قد تحرَّرت فجأة، اندلعَ من قلبها سيلٌ من النشيج. اقتربَ منها تايتنجر بوثبة سريعة، رأته من خلال دموعها قادمًا، مَلاكًا في بدلة رمادية يحوم مقتربًا منها. وقفَ أمامها جامدًا، وما زال لا يعرف ماذا يقول. فجأةً بدأ يُملي عليه صوتٌ غير مألوف، صوتٌ لم يسمعه من قبل. فراحَ يقول وراءه: «إنني أسعدُ كثيرًا عندما أتلقَّى خطابًا لطيفًا. أقرؤه على الفور، وأنا ما زلتُ في المكتب. تعرفين، أنا بالأساس رجلٌ طيب جدًّا.» أرادَ أن يقول المزيد، أرادَ أن يقول أيضًا إنه يحبُّ أن يتلقَّى منها العديدَ من الخطابات، ولكن ها هو لسانه ينعقد فجأة، وتذكر أنه لم يكن يريد إلا أن يقول العكس تمامًا. لهذا بدا له مناسبًا أن تبدأ الجملة التالية ﺑ «لكن». ثم واصلَ قائلًا: «ولكن حقيقة الأمر أن تسينوفر، ضابط الصَّفِّ، يتسلم كل يوم كومة من البريد، ويكون في عجلة من أمره، وقد يفتح خطابًا عن طريق الخطأ، ولهذا السبب طلبتُ من كل أصدقائي ومعارفي ألا يكتبوا لي بعد الآن، إلا … إلا». توقَّفَ، وفجأةً أصبح ذلك الصوتُ غير المألوف قويًّا للغاية، وراحَ يُملي عليه بقوة، فكرَّر هو وراءه: «إلا إلى عناية (ﻫ. ﻓ. ﺗ.) يُحفَظ في شباك البريد!».

كرَّرت ميتسي: «(ﻫ. ﻓ. ﺗ.)، يُحفَظ في شباك البوستة!» عندئذٍ نظر إلى قبعتها الزرقاء الداكنة، وقفَ أمامها، كانت ركبتاه تلامسان رداءها الطويل المخطط. أزعجته القبعة، كانت مصنوعة من النسيج الليفي الخشن الذي تُصنَع منه أكياس الخَيش، وتذكَّر الكونتيسة هيلينا «ﻓ»، وشعر كلتا المرأتَين، وفجأة، وبحركة خاطفة، أزاحَ قبعتها بإصبعَيه إلى الخلف. في اللحظة نفسها، غطَّت ميتسي شيناجل رأسَها بيديها. ثم انفجرت مرةً أخرى في النحيب بمرارة. كان شعر ميستي ينتصب واقفًا في خصلاتٍ قصيرة شائكة غير منتظمة، مما جعل تايتنجر يُجاهد كي لا يتراجع إلى الخلف. امتلأ بالذعر والشفقة حتى فاض. نعم، شفقة! لأول مرة في حياته يشعر بالشفقة. انتابه شعورٌ كمن يخاف من ساعات حَظِّه. راحَ يُمرِّر يده بخجلٍ على الخصلات الشائكة، وهو يتساءل في نفسه متعجِّبًا لماذا يفعل ذلك. لم يعُد تايتنجر القديم، لقد فقدَ نفسه، سقطَ، والسقوط قد منحه نعمة جديدة لم يعرفها من قبل، وكان بمثابة التحليق. سألها وهو يُعيد القبعة إلى رأس ميتسي المسكين: «متى تخرجين؟». انتحبت قائلة: «لا أعرف. ليتَني أبقى هنا!» قال تايتنجر: «سأرى ما يمكنُني فعله!». وردَّت ميتسي بقولها: «شكرًا لك، سيدي البارون!».

لم يعُد قادرًا على النظر إليها. بدا له فجأةً أن هذا ذنبُه: لكنه لم يكن يعرف كيف ولماذا. لعلَّ شيناجل شعرت بذلك. إذ نهضت واقفة فجأة. وسألت «هل تسمح لي بالذهاب، سيدي البارون؟» كانت وقفتها تشي بالكرامة والسمو، وكذلك كانت نظرتها، وكان صوتها.

قال تايتنجر: «ﻫ. ﻓ. ﺗ – يُحفَظ في شباك البريد!». كان قبقابها الخشبي يطقطق على الأرضية الخشبية لحجرة المكتب أولًا، ثم بصوتٍ أعلى وأعنف على أرضية الممر المبلطة بالحجارة. لم ينظر تايتنجر حوله. وقفَ في مواجهة الحائط يُحدِّق شاردًا في الرسوم البيانية التي لا معنى لها.

لم يتذكَّر غير الآن أنه كان يجب أن يسأل عن ابنه. أين هو بالتحديد؟ أوه، لم يكن لديه أيُّ شعور بالالتزام على الإطلاق. بل آلمه أنه لم يراعِ أصولَ اللياقة. في الوقت نفسه تذكَّر بصورة ضبابية أن الملازم فاندر، الذي لدَيه ابنٌ غير شرعي، يدفع كل شهر مبلغًا معينًا من المال. ولماذا لم يدفع هو — تايتنجر — لابنه حتى الآن أي شيءٍ، هذا ما لم يستطع تفسيره. لا بدَّ أن لهذا علاقة بتلك «القوانين» غير المفهومة. لكن شيئًا ما كان يُؤلمه، لم يكن يعرف بالضبط ما هو. كان يشعر فقط بأنه لن يستطيع أبدًا أن ينسى شعر ميتسي شيناجل المحلوق. يبدو أن يده اليمنى أيضًا قد اكتسبت ذاكرةً من نوع ما. ستبقى دائمًا كَفُّ يده اليمنى محتفظة بذكرى الخصلات القصيرة الخشنة الشائكة من شعر ميتسي شيناجل.

لمَّا جلس بجوار الدكتور شتياسني مرة أخرى وهما عائدان إلى المدينة، بدأ رغمًا عنه يحكي عن أشياء بلا معنى، أشياء مَرِحة وبهيجة، بل وسخيفة؛ من أيام الصبا. في بعض اللحظات كان يسمع نفسه يتحدَّث، فيبدو له أنه قد كبرَ بالفعل، ويشعر بسخف حديثه، فيتسامح مع نفسه، وهنا كان يجمع بداخله بين وجهَين من تايتنجر: أحدهما صبيٌّ أحمق، والآخر شخصٌ بالغ وأكثر حكمة.

في اضطراب حزين ركبَ العربة بعد الظهر لتلبية موعده مع ماتسنر. جعلها تحكي بالتفصيل قصة الدانتيل والمحاكمة برمَّتها. اندهشَ حين وجدَ نفسه قادرًا على متابعة تفاصيل الأعمال التجارية.

كان يشعر ببعض الاشمئزاز من السيدة ماتسنر. أدركَ لأول مرة الفارق بين الملل والاشمئزاز. بل إنه راحَ يتعجَّب أيضًا من راحة الضمير التي تنعم بها السيدة ماتسنر؛ إذ عرفَ أن جشعها كان هو السبب في الدفع بالقضية إلى المحكمة. وعلى نحو غريب كان يشعر بالنفور والانجذاب في الوقت نفسه، وبالتورُّط العاجز القليل الحيلة في «قصة لا تخصُّه». وعندما ألقت ماتسنر باسم زدلاتشيك في سياق حديثها، شعرَ النقيبُ بالخوف أيضًا. فدفعَ الحساب بسرعة وغادر تاركًا ماتسنر في حيرة. نادته: «عنواني، سيدي البارون» وكتبت عنوانها على ظهر مظروف سحبته سريعًا من حقيبة يدها.

وضعه النقيبُ في محفظته بأدب.

بقيت السيدة ماتسنر حتى وقتٍ متأخِّر من المساء. كان هواءُ الخريف في المساء نقيًّا وشديدًا وقارسًا. عندما نهضت ماتسنر قاصدةً محطة الترام (الذي تجرُّه الخيل)، شعرت بدوار خفيف في رأسها ورعشة باردة في قلبها. اعتقَدت أن هذا بسبب النبيذ الذي لم تكن معتادة عليه، وأيضًا بسبب اضطرابها لكونها مع البارون. في طريقها إلى الترام عزمت على أن تشرب كوبًا من شاي الكاموميل.

١٨

في اليوم التالي أيضًا واصلت ماتسنر حياتها المعتادة. لم تستيقِظ بحيوية. لم تعُد تقرأ أيَّ صحيفة منذ ذلك اليوم الذي أدركت فيه تمامًا أنها لم تعُد تحظى باهتمام العالم. غير أن لقاء البارون لمرتَين لا يزال يمنحها اليوم بعضَ العزاء. كانت تعرف أهم الأخبار الجديدة من صحيفتَي «كرونه تسايتونج» و«فيلت بلات» كانت تعرفها من مدبِّرة المنزل؛ إذ تأتي للتنظيف في حوالي التاسعة صباحًا. ورغم قلة البقشيش الذي كانت تُعطيه، وكونها في السجلات الرسمية عزباء، كانت مدبِّرة المنزل تدعوها: سيدتي الكريمة. (كانت في أغلب الأحيان تتجنَّب مخاطبتها بأيِّ لقب.)

حتى الآن لم يكن هذا اليوم قد اختلفَ عن كل الأيام السابقة. ما تزال الأيام الخريفية المشرقة الحنونة ممتدة. كانت ماتسنر تضع جدول يومها بينما تحزم لها مدبِّرةُ المنزل فستانَها. ستذهب أولًا إلى بنك إفروسي، ثم إلى كاتب العدل، وكيلها، وأخيرًا إلى مركز الشرطة لترى المفتِّش زدلاتشيك مرةً أخرى. كان من المهم في رأيها أن تخبر زدلاتشيك بأنها قابلت البارون تايتنجر.

لكن في الشارع، عندما شملتها الأنفاسُ الفضية اللطيفة المفعَمة بالأمل لذلك الخريف المعتدل، بدا لها زدلاتشيك أكثر أهمية. كما أصبَحت أكثر إلحاحًا برغبتها في أن تتباهى بمُقابلاتها مع البارون أمام أي شخص يمكنه أن يُقدِّر شيئًا كهذا. فحثَّت خُطاها إلى مقهى فيرتسل في شوتِنرينج حيث اعتادَ المفتشُ زدلاتشيك أن يلعب التاروت مع مراسِلي الحوادث بين الساعة الحادية عشرة والواحدة. ومن قد يعرف بالضبط؟ كلُّ شيء ممكن. ربما جاء البارون إلى فيينا في شأنٍ هام؛ بملابس مدنية: لماذا يرتدي ملابس مدنية؟ ربما كان زدلاتشيك على علم ببعض التفاصيل. وربما كان من المهم له أن يعرف خبرًا كهذا. وما أكثر ما كان يتردَّد على السيدة ماتسنر في بيتها ليسألها عمَّن كان موجودًا عندها من السادة ليلة أمس. كان السادة المحرِّرون يجلسون أيضًا في المقهى، ومن بينهم لاتسيك. ومن الممكن أن تنال قصة ماتسنر إعجابَ الصحافة أو تُثير اهتمامها.

في مقهى فيرتسل كانت هناك استراحة بين دورتَين من اللعب. كان زدلاتشيك ورفاقه على الطاولة يأكلون نقانقَ براج مع الفجل المبشور، ويشربون كوبًا من البيرة. رحَّبوا بالسيدة ماتسنر بموجة حارة من «لم نركِ منذ زمن يا طنط فيني!» — أُحضرَ لها فنجانٌ من القهوة مع الكرواسون الصغير ببذور الخشخاش، وبينما تمضغ الكرواسون المقرمش بتلذُّذٍ مسموع، بدأت قصتها: «اسمع يا سيد زدلاتشيك، ستندهش! وأنا جالسة في حالي في فولكسجارتن، خمِّن من يأتي فجأة؟ بدأت الموسيقى تعزف للتو: «في الأعالي حيث تُحلِّق السحب الصغيرة» — من يأتي عندئذٍ؟ …».

ظلَّ زدلاتشيك يُردِّد: «كذا، كذا!». أما المحرِّر لاتسيك، فكتب تاريخَ رحيلِ تايتنجر على سوار قميصه تحسبًا لأيِّ ظرف. قال زدلاتشيك: «أشكركِ شكرًا جزيلًا!». قامت السيدة ماتسنر. كانت مثل منطاد ألقى ثقله للتوِّ وراحَ يرتفع بحرية وفخر إلى الطبقات العليا. حلَّقت خارجةً من الباب. وذهبت إلى إفروسي.

لكن المستشار الإمبراطوري لم يكن في مصرفه، للمرة الأولى منذ ثلاثين عامًا. كان المحاسب، الذي بدا اليوم متغيرًا بل وغريبًا، هو من استقبلَ السيدة ماتسنر. وقد أخبر السيدة ماتسنر أن المستشار الإمبراطوري نُقِلَ فجأةً ليلة أمس إلى المستشفى، وخضع لعملية جراحية، الزائدة الدودية، وهي مسألة حياة أو موت.

صاحت ماتسنر: «وماذا عن المال؟». سألها المحاسب: «أيُّ مال؟».

صرخت: «مالي، مالي!» وارتمت على المقعد بشدة كما لو كان وزنُها قد تضاعف فجأةً.

قال المحاسب: «اهدئي، اهدئي! البنك سيبقى كما هو يا سيدة ماتسنر، حتى في أسوأ الأحوال، لا قدَّرَ الله! ومالُكِ سيبقى مالَك!»

«أُفضِّل الذهابَ إلى المستشفى بنفسي. والاستفسار عن الأمر.» كان صوتُها تخنقه العَبَرات وقلبُها مقبوضًا. وعيناها تسبحان في ضبابٍ كثيف. صرخت: «العنوان، العنوان!». أخذت العنوان. ومع أن رجلَيها كانتا ترتعشان، وقلبها يدقُّ بعنف، إلا أنها في لمح البصر كانت في الخارج بأعجوبة، وأشارت لعربة. صاحت بحِدة: «مستشفى هازِلماير»، كما لو كانت تصرخ: «حريق!»

وصلت بعد رُبع ساعة على الأكثر من موت المستشار الإمبراطوري إفروسي إثر مضاعفات عملية الزائدة. هكذا أخبروها، بطريقة باردة وعملية، كما هو الحال في المستشفيات.

سقطت مغشيًّا عليها. أفاقت في حجرة الكشف على أنفاس لاذعة حادة من ملح النشادر. نزلت الدرج مترنِّحة تتسنَّد على ذراع الممرضة. صحيحٌ أنها كانت تحسُّ بالأرض تحت قدمَيها، وبيدها اليمنى مقبضُ المظلة، وباليسرى حقيبةُ يدها. لكن أفكارها كانت هاربةً منها. مثل سِرب من طيور برية تبعثَرت في نوع من الهياج الصامت، تتشاجَر بالرءوس والأجنحة، وتختفي فجأةً ثم تعود في اضطراب متجدِّد. توقَّف قلبُها عن النبض، انخلعَ، وراحَ يتأرجَح صعودًا وهبوطًا، صعودًا وهبوطًا. سألها شخصٌ عن عنوانها. ووضَعها آخر في عربة. وسلَّمها ثالث إلى مدبِّرة منزلها. اقتادوها إلى شقتها، ووضعوها على الأريكة. كان ما يزال لديها من حضور الذهن ما يكفي لتقول: «اتركوني بمفردي، أريدُ أن أنام!» تركوها وحدها. فتوجَّهت إلى الصندوق لترى النقود. تناولتها، المحفظة والكيس الشبكي الفضي. دسَّتهما في جوربها. بعذوبة أحسَّت بالكيس الصغير وهو ينزلق على سمانة ساقها إلى الكاحل مثل حيوان صغير لطيف. ارتمت على المقعد ذي المساند. راحت في النوم برغبة عميقة في أن تنام أسبوعًا، شهرًا، بل سنة كاملة.

لكنها استيقظت في مساء نفس اليوم، والشمسُ لم تغرُب بعد. جبهتها ملتهبة، والخدر في صدغَيها جعلهما كالرصاص. تخترق جسدها قشعريرةٌ باردة، واحدة تلو الأخرى. قامت لاهثة إلى الباب، فتحته، استجمعت كل قواها ونادت: «فراو سميليك! فراو سميليك!» وتعجَّبت من أنها ما يزال لها صوت. جاءت مدبِّرة المنزل وفكَّت أربطة الكورسيه، وسرعان ما فاضَ جسمُ السيدة ماتسنر وقد تحول إلى كتلة هلامية عديمة الشكل من مادة لا يمكن تحديدها مغطَّاة بكتان أبيض. لم تدَعْها تلمس جوربها.

بدا للسيدة سميليك أن الوقت قد حان لاستدعاء الطبيب. وقد أخبَرت ماتسنر بذلك رغم اعتقادها أن المريضة لم تعُد قادرة على إدراك أي شيء. لكنها كانت مخطئة. إذ سألتها السيدة ماتسنر: «كم تكلفة الزيارة؟» أجابتها مدبِّرة المنزل: «نصف جولدن! حسبما أعرفُ من آخِر مرة كان عند السيدة أرملة الميجور.» قالت السيدة ماتسنر: «لا يُهم، أحضريه!». كلُّ ما كانت تُفكِّر فيه هو أن تخلع جوربها بما فيه من نقود دون أن يراها أحد وتُخبئه تحت الوسادة.

جاء الطبيبُ. كانت السيدة ماتسنر راقدةً في سريرها وقد خلَعت ملابسها، ولا تكاد تحسُّ بالجورب تحت الوسادة إلا قليلًا. شعرت وكأنها راقدة هكذا لوقت طويل مثل دهر، تنتظر شيئًا ما. كان وجهُها يحترق، ولفترة شعرت أن رأسها لم يعُد متصلًا بجسدها الذي كان باردًا مثل كتلة من الجليد. فجأة سمعت المفتاح، وفكَّرت لبرهة: من الذي تنتظره ومن قد يأتي الآن، ولم تستطع أن تتذكر. رأت جيدًا أن مدبِّرة المنزل دخلت مع رجل غريب، وأدركت جيدًا أنها مدبِّرة المنزل ومعها رجلٌ غريب، لكن بدا لها في الوقت نفسه أن ميتسي شيناجل تدخُل أيضًا ومن خلفها البارون تايتنجر. يا لها من دنيا تتغيَّر! الناس يأتون الآن مثنى وثلاث، والواحد لم يعُد يعرفهم. أشارَ الطبيبُ — أم تراه البارون تايتنجر؟ — إلى مدبِّرة المنزل — أم إنها كانت ميتسي؟ — لتَخرج، واقتربَ من السرير وأخرج من جيب صداره شيئًا لامعًا. صرخت ماتسنر. لكنها سرعان ما هدأت كأنما قد خدَّرتها رائحة السيجار وحامض الفينيك التي تفوح من الطبيب.

راحَ يتحسَّسها، ينقُر ويستمع، ويُمسك بيدها ليقيس النبض. كانت لمساته محرِجة بقدر ما كانت مريحة، لطيفة بقدر ما كانت مخجِلة، أربكت مشاعر السيدة ماتسنر ولطَّفتها في الوقت نفسه. ابتعدَ الطبيب. كان يقف مثل بقعة ضبابية داكنة عند الحوض يلعب في الماء بطريقة طفولية. فُتح البابُ مرة أخرى، وظهَرت مدبِّرة المنزل من جديد، ولكن هذه المرة كانت هي حقًّا وليست تجليًا في صورة ميتسي. والطبيب أيضًا كان هو الطبيب وليس له أي صلة بالبارون تايتنجر. وسمعت السيدة ماتسنر بوُضوح ما قاله الطبيب لمُدبِّرة المنزل: «التهاب في الغشاء الجنبي للرئة! لديها حُمى شديدة. سأُرسل ممرضة. ستكون هنا بعد حوالي نصف ساعة. هل يمكنكِ البقاء معها هذه المدة؟». قالت مدبِّرة المنزل: «نعم يا سيدي الدكتور!»، وبقيت. جلَست بجانب السرير، بجوار ماتسنر مباشرةً. ذابَ وجهُ مدبِّرة المنزل، صار ضبابيًّا مشوشًا، انصهرَ مثل عصيدة رمادية.

لما وصلت الممرضة أخيرًا، لم تعُد ماتسنر تعي شيئًا. كانت تهذي بأشياء من طفولتها. في صباح اليوم التالي، كانت قد تحسَّنت. لم تدع للطبيب مجالًا للشك؛ إذ سألته على الفور عن تكلفة الزيارة، فأجاب: «نصف جولدن!» حسنًا — هكذا رأت — إذا كانت الحالة تستدعي تكرار الزيارة لعدة مرات، فمن الأفضل أن نتَّفق الآن. ولاستمالته إلى جانبها حكت كيف أن الموت المفاجئ لصاحب البنك إفروسي يجعلها عُرضة لخطر فقدان «آخر ما لديها». نعم، قال الطبيب بلُطفٍ إنه سيحتاج إلى المجيء إليها بضع مرات، ولن تكون هناك حاجة لاستدعاء القسِّ في الوقت الحالي. أما الاتِّفاق بشأن المال، فيُفضل أن يكون بعد تعافيها تمامًا.

ظلَّت السيدة ماتسنر مبتهجة طوال فترة وجود الطبيب في الغرفة. لكن بمُجرد أن غادرها لم تتذكَّر مما قاله إلا كلامه عن القسِّ. وفجأة بدا لها الطبيبُ الطيب مخادعًا وكاذبًا، جاء بخبثٍ يُنبِّئها بالموت الوشيك. رجلُ دين! لم تُفكِّر في هذا منذ سنواتٍ طويلة جدًّا. رجلُ دين! تذكَّرت أول مناولة لها. كثيرًا ما كانت تهتف في حياتها قائلة: «يا يسوع!» وفي بعض الأحيان «يسوع — ماريا ويوسف!» دون أن تُفكِّر في أي شيء. لماذا تحدَّث الطبيبُ عن الكاهن؟ لماذا قال إنه لا داعيَ للتفكير فيه الآن؟ وما دام قد قال هذا، أليس هذا دليلًا — على العكس تمامًا — على أنه قد حانَ الوقت للتفكير فيه؟ — الموت؟ هل هو قريب؟ ما هو الموت؟ طقس مناولة أيضًا، ولكن بملابس سوداء بدلًا من البيضاء؟

لم تأكُل السيدة ماتسنر سوى القليل من حساء الشعير، ونامت، وحلمت بمناولتها، وبوالديها، ثم بالمحاكمة، بالقاضي، وبالمدَّعي العام، وبالمحامين، وبالمحلَّفين. هتفت بصوت عالٍ بضع مرات: «ألتمسُ الرحمة!». في المساء، اشتدَّت الحمى. وقبل منتصف الليل بقليل طلبت القِسَّ. كان رجلًا بسيطًا. أيقظوه من النوم، فكان أبسط مما يكون عليه بالنهار. لقد مَر زمنٌ طويل منذ آخِر مرة شهدَ فيها شخصًا يُحتضر، وخصوصًا المرضى المحمومين. فلم يفهم كل ما قالته له السيدة ماتسنر.

على سبيل المثال، سألته إن كان يعتقد أن المهنة التي زاولتها طوال حياتها ستذهب بها إلى الجحيم. ولما سألها أيُّ مهنة هذه التي زاولتِها، قالت إنها كانت صاحبة بيت ماتسنر في فِيدن. لم يفهم، وقال إن امتلاك منزل ليس بخطيئة. فأضافت أنها كانت عزباء أيضًا. لم يكن هذا أيضًا خطيئة في نظره. تعبت وأغمضت عينَيها، وبدا للقِس أنها راحت في النوم. لكنها كانت يقِظة، ورغم الحُمى كانت قادرةً على التفكير بوضوح. خوفُها الهائل من الموت طردَ منها كل حيرة. خوفُها من الآخِرة صفَّى ذهنَها وأنعشَ روحَها. في تصوُّرها البائس الكئيب الذي عاشت به طوال حياتها، عن ثِقل الذنب وعن سُبل التخلُّص منه أو على الأقل التخفُّف منه ولو قليلًا، كان المال أحدَ وسائل التكفير الأساسية. ومن ثمَّ، وبينما هي مغمضة العينَين هكذا، فكَّرت بموضوعية أن الخطايا يمكن محوها بالعطايا. حياتُها كلُّها المليئة بالخطايا، بيت الدعارة، والمحاكمة التي على إثرها دخلت ميتسي شيناجل السجن، والاستقطاعات الصغيرة غير المبرَّرة التي كانت تخصمها من فتياتها بمنتهى الخُبث، وما شئتَ من خطايا أخرى مدرَجة في تعاليم الكنيسة، خطايا بسيطة صريحة، كالسب والقذف — على سبيل المثال — وعبارات التجديف على الله، وغير ذلك مما حفلت به حياتُها. وبالفعل قررت إخبارَ القسِّ بأنها تريد أن تترك أموالها لأغراض خيرية وكنسية، وجزءًا منها، على سبيل التعويض، لميتسي شيناجل التي لا بدَّ أنها فقدت كل شيء. نعم، كل المال! وعلى الرغم من أن المصرفي إفروسي قد مات بالفعل، فقد فكَّرت أن تبحث عنه في الحياة الآخرة في مكانٍ ما، وبرغم عدم ثقتها في المحاسب ذي الوجهَين، فلا بد أن شيئًا ما قد تبقَّى لها في البنك! شيءٌ ليس بالكثير! وبالطبع لا بد من ترك شيءٍ للجنازة. ينبغي أن تكون جنازة جميلة، هكذا فكَّرت وجلَست متكئة على الوسائد. بسرعة كبيرة وبطلاقة، كما لو كانت تتلو شيئًا حفظته عن ظهر قلب منذ زمن طويل، أخبَرت السيد المبجَّل بأنها تريد أن تترك ثُلث مالها للفقراء، والثُّلث للكنيسة، والثُّلث لميتسي شيناجل. أرادت أن يأتي كاتب العدل لها غدًا، في الصباح الباكر. أومأ القسُّ برأسه. سألته بارتياب مستتر في صوتها، كم تبلغ في رأيه تكلفة جنازة من الدرجة الأولى بأربعة أحصنة سوداء. قال السيد المبجَّل إن هذا شيء تعرفه مؤسسة «بيتاس» لتجهيز الموتى، ومن السهل معرفته. على كل حال لن يحصل هو على أكثر من جولدن واحد لقداس الجنازة، كرسوم مقرَّرة. ها هي قد أصبحت مستعدة للموت، وبدأ القسُّ عمله. قالت السيدة ماتسنر بصوتٍ رنان كتلميذة: «بندمٍ وتواضع أعترفُ بخطاياي».

استلقت بين الوسائد من جديد وراحت في النوم على الفور. نامت نومًا هادئًا بلا أحلام طوال الليل. استيقظت في الصباح بأثر بسيط للحمى، نشيطة كأيامها قبل المرض، ومفعَمة بالطاقة. أرسلت على الفور في طلب كاتب العدل، بلا أي رغبة في التوفير، سمحت لمدبِّرة المنزل أن تأخذ عربة أجرة. كان الأمر كما لو كانت ماتسنر تستعد للموت كما يستعد الآخرون للصفقات الكبرى. طلبت طاقية ليلية زرقاء وقميص النوم ذا الحواف الزرقاء الباهتة. هكذا استقبلت كاتب العدل.

سألته أولًا عما يمكن أن يكون قد حدث للمال الذي في بنك المرحوم إفروسي، وطمأنها كاتب العدل: ليس هناك أيُّ خطر على الإطلاق. المالُ في أمان. وهنا طلبت السيدة ماتسنر من كاتب العدل أن يكتب وصية، وأعطته التفاصيل طبقًا للوعد الذي قطعته أمام القسِّ ليلة أمس. دوَّن كاتب العدل بعضَ التفاصيل على قطعة من الورق، ثم أخرج من حقيبته الجلدية المحبَرة والقلم وجلس إلى الطاولة. كتب الصيغ المعتادة أولًا بخطِّه البطيء المتأني الواضح كأنه نقش على الورق. وعندما وصل إلى الأرقام التفتَ وسأل السيدة ماتسنر: «وهل تعرفين حجم ثروتك؟» لم تكن تعرف. «إنها بالضبط» قال كاتب العدل وهو يتصفَّح الأوراق مرة أخرى «اثنان وثلاثون ألف جولدن وخمسة وثمانون كرويتسر. ألف جولدن سحبتِها من إفروسي قبل أسبوعين!». سألت السيدة ماتسنر: «كم؟». كرَّر كاتب العدل: «اثنان وثلاثون ألفًا وخمسة وثمانون».

كل هذه الأموال … وتموت؟ لماذا مرضت من الأصل؟ ألا يكون المرض كله مجرَّد أضغاث أحلام؟ وماذا يعرف الأطباء أصلًا؟ ألا يكون مجرَّد فزعة رهيبة من موت إفروسي؟ من قال إنها ستموت أصلًا؟ إن كان هذا مكتوبًا، فأين؟ وإذا كان لديها عشرون سنة أخرى أو فلنقُل عشر سنوات أخرى لتعيشَها، أفلا يكون أمامها ما يكفي من الوقت لتكتب وصية؟ سألته: «هل أنت متأكِّد يا كاتب العدل؟». «متأكِّد تمامًا!» أكَّد لها. مالت إلى الوراء متَّكئة على الوسائد وراحت تُفكِّر لفترة طويلة جدًّا، بينما كان كاتب العدل يجلس صابرًا وقد أمسك بقلمه المشهَر على ارتفاع سنتيمتر واحد فوق الورق.

حسَمت أمرها أخيرًا. اعتدلت قليلًا وقالت وهي محرَجة نوعًا ما: «إنما أريدُ فقط أن أُخلِّف وصيةً بالألف جولدن التي لديَّ هنا في البيت، مؤقتًا! وإذا اقتضت الحاجة، فسأرسل في طلبك مرةً أخرى. وصية بالتقسيم على ثلاثة أجزاء يا كاتب العدل! ٣٠٠ للفقراء، و٣٠٠ للكنيسة، و٣٠٠ لميتسي شيناجل. وتبقى ١٠٠ للنفقات من أي نوع.» لم تكن تعرف ماذا قد تكون هذه «النفقات من أي نوع»، بل قالتها هكذا. بدا لها أنها تعطي انطباعًا بالكرم نوعًا ما. قال كاتب العدل: «نفقات من أي نوع! لا بدَّ من تحديد ذلك.» واقترحَ: «جنازة وشاهِد قبر!» كلمتان كان وقعُهما في هذه اللحظة مخيفًا لماتسنر التي كانت قبل لحظة واحدة تتأهَّب للموت.

وبالفعل راحَ كاتبُ العدل يكتب، ببطءٍ، ولكن بصرامة. كان الغموض يلفُّ جسده ورأسه ووجهه. لعله كان يُفكِّر في أشياء كثيرة، ولعله أيضًا لم يكن يُفكِّر في أي شيءٍ على الإطلاق. موظَّفٌ مسئول في غرفة مغلَقة. أنى لك أن تعرف ما يدور في غرفة مغلَقة، لدى كاتب عدلٍ رسمي. حبَست السيدة ماتسنر أنفاسَها. راحت تستمتعُ بسير الإجراءات، ويقينها الداخلي بأنها لا يزال أمامها وقتٌ طويل لتعيشه. لقد قامت بتجربة أداء أو بروفة للموت، إنْ صَحَّ التعبير. الناسُ جميعًا — بمن فيهم القسُّ بالأمس — كانوا يتطلَّعون إلى موتها. هي الوحيدة التي تعلم أنها ستبقى على قيد الحياة. وأيُّ حياة ستكون هذه! حياة إنسانة وُلدت من جديد، عادت من الآخرة!

سأل كاتب العدل: «وبقية ثروتكِ؟».

قالت ماتسنر: «سنتحدَّث عن ذلك لاحقًا!». ووقَّعت بالقلم الذي ناولها إياه كاتبُ العدل. دسَّ الورقة بعناية فائقة في مظروفٍ سميك مبطَّن بالكتان. ثم ختمَه بالشمع. أخرج الشمعة والختم من حقيبتِه. أغمضت ماتسنر عينَيها أمام الشمعة المشتعلة التي تذُكِّر بالموت. لم تفتحهما إلا بعد أن سمعت كاتب العدل ينفخ. قال كاتب العدل: «إلى اللقاء!». فابتسمت له.

تناولت حساء الشعير بشهية كبيرة، بينما كانت ترغب في شيءٍ أكبر. راودتها رغبةٌ عارمة في تناول بعض الجلاش وقدح من بيرة أوكوسِيمر. لم تكن مريضة، لم تكن مريضة على الإطلاق. غير أنها فكَّرت أن تلعب دور المريضة لبعض الوقت، ليوم أو يومين آخرَين. لكنها في المساء، عندما عادَ الطبيبُ، لم تتعرَّف عليه. كانت حبات العرق تتجمَّع على جبهتها كلآلئ كبيرة. القبَّعة مكبوسة على رأسها بشريطٍ مطاطي مشدود. كانت تشعر كما لو كانت تحمل على رأسها تاجًا، فطلبت بتضرُّع: «انزعوا التاج عني!» وتذكَّرت بصورة ضبابية اعترافَ الأمس وما يتبعه من غفران، فأضافت: «تاج الشوك!» لكن أحدًا لم يهتمَّ بما قالت. كان ميزان الحرارة يشير إلى ٤٠ درجة.

صرخت فجأة. شعرت بألم قاطعٍ في ظهرها، كما لو كان سيفٌ ذو حَدَّين يمرُّ بين ضلوعها. فتحت فمها على اتساعه، هرَبت أنفاسها، أرادت أن تصرخ بشيءٍ: هواء أو شبَّاك، لكنها نسيت في الحال. ارتفعت حرارتها بشدة، ألمَّ بها خوفٌ لا يوصَف، راحت تنقر بأصابعها على اللحاف. جحظت عيناها. أرسلَ الطبيبُ الممرضةَ إلى الصيدلية لتُحضر الأكسجين، وأعَد حقنة المورفين. جاءت الممرضة ومعها الأنابيب. في هذه اللحظة، نهضت السيدة ماتسنر جالسةً في السرير، ثم سقطت مكانها على الفور. رعشةٌ خفيفة حرَّكت أجفانها، وكذلك رفرفت أصابعها على اللحاف. ثم سقطت يدها اليمنى على جانب السرير. حلَّت السكينة على يوزفينا ماتسنر. دفنوها في يوم ممطر في أوائل ذلك الخريف. كانت جنازة من الدرجة الثالثة، بزوج من الخيل دون مرافقين بالزي الرسمي. وطبقًا للوائح، نشرَ كاتب العدل الإعلان المعتاد في الصحف: «البحث عن ورثة!» بعد شهرَين، اتصل به ابنُ شقيق ماتسنر، مزارع لحشيشة الدينار البوهيمية في زاتس، بهدوءِ بالٍ ودون أيِّ شعور بالامتنان للقدَر أو لعمَّته.

وصل إعلامٌ إلى سجن النساء في كاجران بأن السجينة ميتسي شيناجل صارت تملك ثلاثمائة جولدن، نصيبها في ميراث المتوفَّاة العزباء يوزفينا ماتسنر. قرأ هذا الخبر في الصحف مراسلُ الحوادث لاتسيك. وتفتَّق ذهنه الخصب عن خطة محدَّدة. تحدَّث عنها مع صديقه كبير المفتشين زدلاتشيك في مقهى فيرتسِل في شارع شوتِنرينج.

١٩

سادَ العالم سلامٌ عميق رهيب على نطاق واسع، حتى إن سجلات الشرطة الرسمية التي اعتادت أن تُسجِّل حتى أتفه الحوادث، لم تكد تبلُغ صفحتَين ونصفًا يوميًّا. يجلس مراسلو الحوادث مكتئبين في مقهى فيرتسِل، منهَكين من الهدوء الذي لا يُطاق، وقد أصابهم هذا السلام الخالي من أيِّ أحداث، وبلا أدنى أمل في حدوث شيءٍ مثير، بالشلل. كلما انفتح البابُ، رفع الرجالُ أبصارهم عن أوراق اللعب. إذا ما دخل أحدٌ من المخبرين، وكانوا دائمًا ما يتردَّدون على فيرتسِل، علَّقوا عليه نظراتهم المترقِّبة كما لو أن الأعينَ يمكن أن تسمع ما لم تلتقطه الآذانُ. سأل خمسة أو ستة منهم في نفَسٍ واحد: «هل من جديد؟» لم يخلع المخبرُ قبعتَه الأسطوانية العالية؛ إذ كان هذا علامة على أنه لا ينوي الجلوس، وأنه ليس لديه شيءٌ ليحكيَه. عادت الرءوس لتنحنيَ على الورق في خمول موحِش. كان لاتسيك هو المراسل الوحيد الذي يتتبَّع في صمتٍ فكرةً محدَّدة. لم يكن يبدو عليه أيُّ شيءٍ. كان حريصًا على أن يبدو مثل الآخرين تمامًا، كما لو أنه قد أنهكه اليأسُ في تلك الأيام الهادئة البائسة. في تلك الأثناء، كان يضع الخيط على الخيط، يغزل الفكرة، وينسجها الغُرزة تلو الغرزة، ثم يُعيد فكَّها من جديد، يجمع خيوطًا متباعدة مؤلِّفًا بينها في عقدة أخوية، ثم يعود فيحلُّ ما عقدَه؛ لأنه يريد كل عود من حزمة الأفكار هذه على حِدة ليعقد بينها روابط وصلاتٍ أخرى وينظمها في سلاسل. كان وحدَه يُحسُّ بوجود رابط بين موت المصرفي إفروسي وموت يوزفينا ماتسنر. إن لم تخُنه ذاكرته، فإن المصرفي إفروسي هو الذي دفعَ الأموال مقابل لآلئ ميتسي شيناجل الشهيرة، بل وربما باعَها في أنتويرب. لم يكن من الممكن بأيِّ حال إيجاد صلة مباشرة بين اللآلئ وبلاد فارس والشاه وماتسنر وإفروسي وشيناجل، لكن الروابط غير المباشرة كانت تستحق الجهد وتعِد بالنجاح. علاوةً على ذلك، فإن الخداع القبيح الذي كان ضحيته ذلك الحاكم الأحمق، قد تورَّط فيه البارون تايتنجر أيضًا. حسنًا فعلت الراحلة ماتسنر أنْ جاءت إلى مقهى فيرتسِل قبيل موتها المفاجئ! قال لاتسيك لنفسه: «المادة» وفيرة. احترس يا لاتسيك!

ذات ضُحًى، وبينما هم جالسون هكذا منغمسين في لعبهم الكئيب للتاروت، تنهَّد لاتسيك تنهيدةً حارة. سأله كايلر: «ما الأمر؟ هل ستعود إلى كتابة الشعر؟» كان هذا بمثابة إهانة في هذه الدائرة. لم يكن سوى القليل من الصحفيِّين من يتذكَّرون الكُتيِّبَ المأسوف عليه من شعر لاتسيك. قال لاتسيك: «كم هو محزن أن تذكر الموتَ على هذا النحو. لم يكد يمرُّ وقتٌ منذ كانت المرحومة ماتسنر جالسةً هنا، والآن تأكلها الديدان. كلُّ تلك الأموال تركتها!» أومأ الآخرون برءوسهم فقط. قال زدلاتشيك: «كان هذا أوان موتها. زمنٌ جديد والدنيا تغيَّرت. لم تستطع أن تتأقلم. والبيتُ في شارع مصلحة الجمارك أجهَزَ عليها.» قال لاتسيك: «كانت ذروة حياتها هي زيارة الشاه! هل تذكر اللآلئ؟ أين انتهى بها الأمر؟». أجاب زدلاتشيك: «عند إفروسي، وقد ماتَ هو أيضًا! أوه، لو أن لدينا الآن قصةً كهذه!». بدأ لاتسيك مجدَّدًا: «ألن يعود الشاه أبدًا؟ أعتقدُ أنه كان هناك ذكر له في صحيفة «فريمدن بلات»، الدكتور أوشبيتسر تحدَّث مرة عن ذلك في صالة التحرير.» قال زدلاتشيك مشدِّدًا في نُطقِه على «نحن» ليكون وقعُها رسميًّا: «نحن لا نعرف شيئًا عن هذا». قال لاتسيك بهدوءٍ: «ألم يبِع إفروسي اللآلئ؟» ثم راحَ يصيح: «شايب! ولد!» ويُصفِّق الورق على الطاولة ليُغطي بهذا الصخب على أهمية السؤال بالنسبة إليه. «أعطاها للصائغ جويندل مقابل عمولة. ظلَّت معروضةً لعدَّة أشهُر في واجهة العرض. ذهبتُ عدة مرات لرُؤيتها مع خبير المجوهَرات لدينا، المفتش فاركاس. وذات يوم اختَفت!»

خمدت المحادثة. واستمرَّ اللعب. هبطَ الخمول المعتاد على المقهى من جديد، مثل رطوبة صيفٍ ثقيلة تعود بعد هَبَّة صغيرة من نسمة خادعة. خسر لاتسيك خمسةً وعشرين كرويتسر أمام كايلر. كان يريد أن يخسر. إنه شخصٌ مؤمن بالخرافات. وكان قبل كلِّ مهمة صعبة يُقدِّم القرابين للآلهة. نهض فجأة قائلًا: «أنا معزوم اليوم». واختفى دون تحية.

اتجه أولًا إلى شارع فازا جاسِّه للتمويه على أصدقائه؛ لأنه كان يعرف أن من طبعهم — كما هو من طبعه أيضًا — أن يقفوا عند الباب متلصِّصين على الشخص الذي خرج، على الأقل ليعرفوا الاتجاه الذي سلكه. ثم انعطفَ إلى شارع فارينجر، وقفزَ إلى داخل ترامٍ تجرُّه الخيل، ونزلَ عند ساحة الأوبرا. مضى في شارع كارتنر إلى الصائغ الكبير جويندل. طلب التحدُّث إلى السيد جويندل شخصيًّا. كان السيد جويندل يعرفه جيدًا. كان جالسًا في الجزء الخلفي من المحل، في المكتب الضيق المبطَّن بكسوة حائط خضراء، أمامه صناديقُ وعلبٌ صغيرة سوداء فاغرة أفواهها المخملية الناعمة ذات اللون الأزرق الداكن، عارضةً كل ما ابتلَعته من عظَمة متألقة متلألئة. أغلقَ كل الصناديق والعلب ووضع النظارة المكَبِّرة جانبًا، واستقبل المحرِّر لاتسيك.

قال لاتسيك: «تشرَّفنا يا سيدي المستشار التجاري!».

قال المستشار التجاري جويندل: «سيادة المحرِّر! أي خدمة؟ سيجار؟ تفضل بالجلوس!». وبينما كان المستشار التجاري ينحني ليُخرِج من الدرج السُّفلي سيجار فيرجينيا؛ إذ كان يحتفظ بسيجار ترابوكو في الدرج العُلوي لضيوفٍ أرقى، مثل شركاء الأعمال والعُملاء النبلاء على سبيل المثال، كان يُراقب بعينٍ حذرة يدي لاتسيك. وتنفَّس الصعداء عندما وضع صندوق السيجار على الطاولة أخيرًا.

تحدَّثا في البداية عن المستجدات التي لم يكن يوجَد منها إلا القليل في تلك الأوقات الهادئة. هذا باستثناء الخبر المتداوَل مؤخرًا في صالة تحرير «فريمدن بلات» عن زيارة جديدة مرتقَبة من شاه بلاد فارس.

أيقظ ذِكرُ هذه الشخصية الرفيعة ذكرياتٍ لطيفة لدى المستشار التجاري جويندل. ارتبطت هذه الذكريات بعقد اللؤلؤ الخاص بميتسي شيناجل الذي كان إفروسي قد أعطاه لجويندل على العمولة. بقي في متجره طويلًا دون جدوى. وفي النهاية، أخذه القومسيونجي هِيلبِرن من أنتويرب. اشتراها تاجرُ المجوهرات بِرليستر. ربحَا ألفَي جولدن، على اثنين. كانت اللآلئ تُقدَّر بخمسين ألف جولدن. باعَها بِرليستر بستين ألفًا، هذا ما يتردَّد في دوائرهم. في كل الأحوال، لم تكن الألف جولدن بالشيء الهين. نعم، وها هو الشاه سيأتي مرةً أخرى. ومن يدري، ربما يكون هناك مكسب جديد! انفرجت أسارير المستشار التجاري جويندل. بدأ لاتسيك قائلًا: «لعلَّ السيد المستشار يعرف. يعرف السيدُ المستشار على الأرجح أين ذهبت تلك اللآلئ الشهيرة؟»

حكى المستشارُ ما يعرفه. لكنه وعدَ بأن يسأل زميله بِرليستر عن مصير اللآلئ بعد ذلك. في غُضون أسبوع سيكون لدى لاتسيك المزيد من المعلومات. راحَا يتحدَّثان عن الرياح وأحوال الطقس، وعن مجتمَع البلاط، وعن سوء أحوال التجارة، حتى في هذا الوقت من العام، بينما كانت «مُزدهرةً» في كل السنوات السابقة، بحسب قول جويندل.

قال لاتسيك: «ها هي أعياد الميلاد على الأبواب!».

غادر بهذه الجملة معزِّيًا الصائغ الذي بدأ رويدًا رويدًا يحدوه الأمل في أن تتزامن زيارة الحاكم المسلم إلى فيينا مع الأعياد المسيحية. رأى — وعيناه مفتوحتان — أرضَ الأحلام، رأى الشرقَ مكتظًّا بأشجار عيد الميلاد.

بعد أيام قليلة، عرف لاتسيك الطريق الذي سلكته لآلئ الشاه. لكنه قرَّر عدم إلقاء القصة كاملة على قُراء صحيفة «كرونه تسايتونج» كدفعة واحدة وبغير حنكة مثلما كان غالبًا سيفعل زميلُه كايلر عديم الخيال. بل على العكس، لا بدَّ من طهي هذه القصة بعناية؛ لا بد أن تُطهى على مهل.

أعلنَ عن سلسلة مقالاتٍ بعنوان: «لآلئ طهران … خلف الكواليس بين الصفوة والمشبوهين.» بدأ بالتأكيد على حدثٍ حقيقيٍّ واضح كما يفعل الروائيون الكبار في كثير من الأحيان؛ ألا وهو: خبر وفاة يوزفينا ماتسنر مؤخَّرًا. كان لاتسيك يكتب عن «يوزفينا ماتسنر» بعينها. وبعد السؤال الخطابي المعتاد: «من هي يوزفينا ماتسنر هذه؟» أعقبه وصفٌ للبيت منذ افتتاحه في عام ١٨٥٧م، وللفتيات العاملات به، وللزوَّار والرُّواد المنتظمين من عِلية القوم، دون ذكر أسماء طبعًا، لكن مع إشاراتٍ لا يُخطئها أحدٌ. كانت هذه السلسة من المقالات تُباع على شكل كراساتٍ صغيرة، صحيحٌ أنها تُطبع على صفحات الجريدة أيضًا، لكن الكراسات كانت مغلفة بغلافٍ ملوَّن يُظهِر فتاة لطيفة شبه عارية على شيزلونج أخضر فاتح. ترقد بكل ألوانها وأشواقها، هيِّنة ومستعدَّة للهجوم في الوقت نفسه. كانت الكراسات تُباع في محلات التبغ وأكشاك الجرائد. وكان يشتريها طلابُ المدارس الثانوية والخياطات والغسالات والشغالات، حتى لو كانوا قد قرءوا المقالات من قبلُ على صفحات «كرونه تسايتونج». لفترة طويلة لم يكن هناك أيُّ حديثٍ عن اللآلئ التي يُشير إليها العنوان الرئيسي كلَّ يوم.

في تلك الأسابيع لم يكن لاتسيك يجلس في مقهى فيرتسِل سوى بضع دقائق يوميًّا. لم يكن يُطيق زملاءه ولا المخبِرين. كان يشعر بأنهم يغارون منه بعضَ الشيء، ولكنهم أيضًا لم يعودوا يُعاملونه كواحد منهم. فهم ليسوا «شعراء». لم يُبدِ أحدُهم أيَّ أمارة من «خيال». المادة التي لديهم عبارة عن «أخبار»، صغيرة، كبيرة، مثيرة، لكن ليس لديهم «قصص» أبدًا. في أوقات الجفاف كهذه، كانوا يتقصون بتواضع الأخبار اليومية المتواضعة، حادثة طعن، ولادة ثلاثة توائم، سقوط من نافذة في الطابق الرابع. لقد خرج لاتسيك على قواعد اللُّعبة. وهو الذي لم يكن ليحظى بأيِّ اعتبار بينهم في لعبة التاروت.

كثيرًا ما كان يحلم بالكسب السريع للمال، وتركِ الوظيفة. كان يقترب من السادسة والخمسين، وقد سقط معظم أسنانه كما سقط شعر رأسه الأصلع. ماتت زوجته في عمر الشباب، وتعيش ابنته مع أخته في بوديباردي. لا يحمل أعباء كبيرة، بل هي أزمات الضيق، وديون صغيرة، وإحراج الدائنين، وفوائد تتضاعف على نحو مخيف، والنُّدُل الذين توقَّفوا عن إعطائه شيئًا على الحساب. وصارت روحه عطشى لترف الأوساط العليا. كان يحبُّ الحياة الفاخرة، والسباقات، والمطاعم الهادئة التي لا يخدم فيها إلا النُّدل الفخورون، وحيث يجلس أصحابُ السيادة الوقورون بوجوههم الهادئة وإيماءاتهم المعتدلة المحسوبة يستمتعون بالطعام والشراب، ليعودوا بعد ذلك في عرباتٍ مغلقة محكَمة إلى منازلهم الأكثر إحكامًا وهدوءًا. كلما غادَر لاتسيك مقهى فيرتسِل، تاركًا خلفه زملاءه والمخبرين وأوراق اللعب المزيَّتة ورائحة القهوة وبيرة أوكوسِيمر والسجائر الرخيصة وأصابع البقسماط الدافئة، بدا له أنه قد أضاعَ نفسَه على نحوٍ ما، وأنه قد هوى. كان من الواضح أن أموره تتَّجه من سيِّئ إلى أسوأ، من شاعر قدَّم مسرحية لمسرح بورج، إلى كاتب اختزال في المحكمة، ثم إلى مراسل حوادث معروف في الأوساط المهنية باسم «المتداعي!» لأول مرة منذ ثلاثين عامًا يُطبَع اسم برنهارد لاتسيك — ليس فقط في الصحيفة — بل وعلى الغلاف الملوَّن للمُلحَق الصغير. أرسلهما لاتسيك إلى أخته وابنته في بوديباردي. ماذا تبقَّى له؟ إشارة صغيرة بخط ٦ في «كرونه تسايتونج»: «بالأمس ماتَ زميلُنا الذي عمل معنا لفترة طويلة …»، وتكون النهاية. قليلٌ من العظام في مقبرة فيرِنج. لم يكن «الاستوديو» الذي يسكنه في شارع رامبرانت أكثر اتساعًا. كما أنه ليس أكثر إضاءةً من القبر؛ لأنه يُطلُّ على الممر الداخلي. لم يستطع التوفير يومًا ما. كان يخسر نقوده القليلة في السباق وفي اللعب. كانوا يدفعون له اثنين كرويتسر مقابل السطر. «انقلاب!» — يقول لنفسه أحيانًا — «انقلاب» واحد فقط في حياتك يا لاتسيك!

بعد بضعة أيام وجد نفسه خلالها وحيدًا، بل وشعر ببعض المرارة أيضًا؛ إذ بدا له أنه ليس هو الذي بدأ يتجنَّب معارفه، بل على العكس، هم الذين يتجنَّبونه، راحَ يراجعُ كلَّ صباح لدى «الأمن» قوائمَ تسجيل النزلاء الجُدد بالفنادق. كان البارون تايتنجر هو الوحيد الذي يُثير اهتمامه، من بين «عِلية القوم» الذين كانوا يتردَّدون على بيت ماتسنر. لم يكن لاتسيك يعرف بالضبط بأيِّ ذريعة سيقترب من ضابط الخيالة، ولا حتى ما الذي سيعرضه عليه. كلُّ ما كان يعرفه هو أنه لا بد له من التحدُّث مع تايتنجر، بل وأنه في الخامس عشر من نوفمبر سيحين موعد استحقاق الثلاثمائة جولدن التي يدين بها لبروسينر «مصاص الدماء». في تلك الأيام، كان لاتسيك يشعر أن حياته في مفترق طرق. خيَّم على عقله شيءٌ من جنون العظمة غير محدَّد المعالم، وجعله يُفكِّر أحيانًا أن عليه أن يحسم قراراته؛ إما الآن، أو لا إلى الأبد. ذات يوم، وجدَ بالفعل لدى «الأمن» استمارة تسجيل النقيب تايتنجر. كان يقيم، كعادته دائمًا، في فندق «إمبريال». انطلق لاتسيك في الحال قبل أن يعرف بالضبط ما الذي سيقوله للبارون، بل حتى قبل أن يُدرك أنه بالفعل في طريقه إلى فندق «إمبريال». كان يحمل في جيبه بعض النسخ من كراسته ذات الألوان الصارخة، وراحَ يُخرجها من جيبه باستمرار طوال الطريق، يتأمَّل اسمه على الغلاف. أسود وثخين، تحت الأريكة ذات اللون الأخضر السام التي تستلقي عليها الفتاة مباشرةً. كان يفكر أيضًا في الثلاثمائة جولدن المستحقة يوم الخامس عشر من نوفمبر. وبدا له «مصاص الدماء» بروسينر أقبحَ وأخطَر من المعتاد، رغم أنه كان يعرفه جيدًا منذ عامَين، ويمتلك الفن والقدرة على تهدئته، «كسر سمِّه» على حَدِّ تعبيره.

كان من المزعج للغاية بالنسبة إلى البارون تايتنجر استقبال أي زيارات. والأشخاص الذين يعرفهم ليسوا استثناءً في ذلك، فهم مملُّون في الغالب. وحتى أولئك الأشخاص غير المملين، من الممكن أن يُصبحوا «ماسخين» إذا لم تكن مستعدًّا لهم جيدًا. عندما وصل إليه كارتُ الزيارة الخاص بلاتسيك، فزعَ في البداية. مجرَّد وقع اسم لاتسيك أثار في نفسه شعورًا بالإهانة. وكان مكتوبًا تحت اسم برنهارد لاتسيك كلمة «مُحرِّر». كانت هذه واحدة من الوظائف التي يعتبرها البارون تايتنجر «مشبوهة». لم يكن تايتنجر يقرأ أيَّ صُحُف باستثناء الجريدة العسكرية. نعم، وعندما يذهب في بعض الأحيان لشراء السجائر من دكان للتبغ، كان يشيح بنظره بعيدًا عن تلك الأكوام القبيحة من الجرائد برائحتها النفَّاذة من حبر الطباعة. لم يكن يعرف بالضبط ما الذي تحويه، ولأي غرض هي موجودة. وكان كثيرًا ما يكاد يتملَّكه الغيظ إذا رأى في المقهى أحدَ السادة النبلاء جالسًا أمامه تلٌّ من الصحف. والآن عليه أن يُقابل محررًا صحفيًّا بشحمه ولحمه! شيء لا يمكن تصوره! وضع كارت الزيارة على الصينية المعدنية وقال للنادل: «أنا لا أستقبل أحدًا!»، وتنفَّس الصعداء.

لكن لم تكدْ تمرُّ ثلاث دقائق حتى كان واقفًا أمامه رجلٌ أصلع الرأس، شاحب الوجه، ذو شارب رمادي متهدِّل في بؤس. قال الغريب: «أنا المحرِّر برنارد لاتسيك». كان صوتُه متهدجًا ذكَّر النقيب بآلة هاربسكورد بائسة غير مضبوطة الأنغام حاول العزف عليها ذات مرة، في مكان ما، في يوم ما، لعله كان في طفولته.

سأل تايتنجر: «ماذا تُريد مني إذن؟».

قال لاتسيك: «أودُّ لو يسمعُني السيد البارون»، ثم أضافَ بصوت أكثر خفوتًا وبنبرة تكاد تكون باكية: «لأمر يهمُّك».

قال تايتنجر مصممًا على عدم الاستماع: «وبعد؟».

بدأ لاتسيك: «إذا سمح لي السيد البارون، فإن القصة ليست بسيطة. إنها مسألة تتعلَّق بالشرطة، مسألة سرية …».

قاطعه النقيب: «لا أريدُ أيَّ أسرار». وعلى الرغم من أنه كان قد قرَّر ألا يستمع إلى شيء على الإطلاق، فقد وجَد نفسه مضطرًّا لاستيعاب كل صوت يصدر عن هذا الرجل البائس. كان في هذا الصوت قوة غريبة. استأنفَ الصوت: «وأنا أيضًا، سيدي البارون، لا أُريد أن أقول أيَّ أسرار». «الأمر تحديدًا أنه قبل فترة قصيرة ماتت يوزفينا ماتسنر»؛ ضرب الاسم أذن تايتنجر بقوة، شعر به كدويِّ صفعة على الخَد. سأل: «أوه، هل ماتت؟». فلمعت عينا لاتسيك بفرحة صغيرة. ثم تابعَ حديثه: «ماتت. من يُصدق! وتركت مبلغًا صغيرًا من المال لميتسي شيناجل المسجونة حاليًّا. شيء قليل جدًّا، بالنسبة إلى ثروة كبيرة.» سكتَ لاتسيك لبرهة. كان ينتظر. لم يقُل النقيب شيئًا، لكن صمته كان موحيًا باهتمام واضح، حتى إن لاتسيك استمدَّ منه بعضَ الشجاعة. صار صوتُه أقوى. كان ما يزال واقفًا أمام المنضدة الصغيرة في البهو، يبدو كما لو كان خادمًا، لكنه تجرَّأ ووضع يديه على المسند الجلدي للمقعد الشاغر. كان الأمر كما لو أن يديه على الأقل قد سُمح لهما بالجلوس. لاحظ تايتنجر هذا، على مضض في الوهلة الأولى، ثم بقَدرٍ من التساهُل في اللحظة التالية. لم يُقرَّ بعدُ بأن بالشخص المشبوه حظيَ باهتمامه، ولو حتى على سبيل الإزعاج. لكنه رأى أنه قد يكون لافتًا للنظر لو أن الرجل بقي واقفًا هكذا لفترة أطول. فقال: «اجلس!» في الحال كان لاتسيك جالسًا بالفعل. جلس بسرعة لدرجة أن تايتنجر ندمَ على دعوته. كانت علبة سجائره الفضية مفتوحة على المنضدة، وكانت لديه رغبة في إشعال سيجارة، ولكن ها هو ذا الرجل جالسٌ أمامه، أليس من الواجب أن يُقدِّم له واحدةً أيضًا؟ كان تايتنجر يعرف كيف يتعامل مع أكفائه، ومع رؤسائه، ومع التابعين، والخدم؛ أما مع المحرِّرين فكان في حيرة. بعد كثير من التفكير قرَّر أن يُشعل لنفسه سيجارة أولًا، ثم بعد ذلك يُقدم واحدة إلى المحرِّر.

راح لاتسيك يُدخن ببطءٍ ووقار كما لو أن السجائر «المصرية» نوع لذيذ على نحوٍ استثنائي. أخرج كراساته من جيبه ووضعها على المنضدة قائلًا: «هذا ما أنشره الآن سيدي البارون! من فضلك ألقِ نظرة فقط على البداية!». قال تايتنجر: «أنا لا أقرأ الكتب». سأل لاتسيك: «إذن، فهل تسمح لي أن أقرأ لك؟». وقبل أن يتلقَّى إجابة راحَ يقرأ. سيان الآن، هكذا فكَّر تايتنجر. ولكن، انظر؛ مباشرةً بعد جملة: «من هي يوزفينا ماتسنر هذه؟» امتلأ تايتنجر بالفضول كطفل. لم يجتهد في إخفائه بل انحنى إلى الأمام، واستمع إلى قصة تأسيس بيت ماتسنر، ومن السمات المميزة — التي وضعها المؤلِّف مع الأحرف الأولى من أسماء الروَّاد الدائمين — تعرَّف بسعادة بالغة على هذا أو ذاك من أصدقائه ورفاقه القُدامى، «المملُّون» و«العاديون» و«الظرفاء». وكلما توقَّف لاتسيك وسأل بتواضع يكاد يكون قلقًا: «هل لي أن أُكمل؟». حثَّه تايتنجر: «فقط اقرأ، فقط اقرأ يا سيدي». عقَّبَ المؤلِّف بعد أن انتهى من قراءة الكراسة الأولى: «هذه هي الحلقة الأولى». قال النقيب تايتنجر: «بِعني هذه الكُتيِّبات!». قال لاتسيك: «ليسمح لي سيدي البارون أن أُقدِّمها له بلا مقابل». ونقَر بقلم رصاص على الحافة المعدنية للمنضدة، وطلبَ من النادل: «حبرًا وقلمًا!». أحضرَ ما طلب، فغمس لاتسيك قلمه وكتب الإهداء في كل من الكراسات الثلاث: «إلى السيد النقيب البارون تايتنجر، إهداء مع كامل الاحترام من المؤلِّف برنارد لاتسيك».

قال البارون: «شكرًا جزيلًا! أرسل إليَّ الأجزاء التالية. أُحبُّ أن أقرأها!».

أجاب المؤلِّف: «هذا إطراء كبير سيدي البارون. لكن ثمة مشكلة، إنني أعصر رأسي ولا أدري كيف أواصل هذه الكتب».

صاحَ تايتنجر: «ولكن كيف هذا؟ أنت على دراية جيدة … مطَّلع، هذا ما أودُّ قوله!».

أجاب لاتسيك: «بالتأكيد، بالتأكيد، سيدي البارون». تنهَّد لاتسيك ثم أكملَ حديثه: «لكن هذا مكلِّف، وأنا أبحث عن المهتمِّين، أبحث، باختصار، عن بعض المال، كي أستطيعَ مواصَلة عملي. نعم، الحياة صعبة على أمثالنا!». تدلَّى رأسُه على كتفه اليسرى. شعرَ تايتنجر بالتعاطُف معه، وقدَّمَ له سيجارة. الرجلُ ليس مملًّا على الإطلاق، هكذا فكَّر. ثم سأل: «كم تحتاج إذن لكُتيِّباتك؟». في البداية فكر لاتسيك في ألف جولدن، لكن فزعة مفاجئة من الفرح أصابت قلبه. ثلاثمائة جولدن لمصاص الدماء بروسينر، ثم تبقى سبعمائة، إنه «انقلاب»، هو «الانقلاب» يا لاتسيك! وعلى الفور ضاعفَ المبلغ خيالُه الجشع. ألفين! هكذا قال خيالُه. رأى المبلغ أمامه بالأرقام وبالحروف، مكتوبًا بخط اليد ومطبوعًا، ونقدًا على شكل عشرين ورقة زرقاء من فئة المائة جولدن. شعرَ بيده تزداد سخونة ورطوبة، وفي الوقت نفسه قشعريرة برد، خيط من الثلج يسري بطول عموده الفقري. أخرج منديله — وهي حركة استنكرها تايتنجر وتمنَّى لو أغمضَ عينَيه عنها — وجفَّف يديه تحت المنضدة وهمسَ: «ألفان، سيدي البارون!».

سأل تايتنجر: «ألفا جولدن تكلفة هذا؟». لم يكن يعرف بالضبط قيمة النقود، لكنه يعرف — على سبيل المثال — كم يكون ثمن حصان، أو زي موحَّد، أو برميل من نبيذ «بورجوند» أو برميل صغير من «نابليون». خسر ذات مرة قبل سنوات ألفَ جولدن في مونت كارلو. لكن هذه الكُتيِّبات الصغيرة النحيلة! — ومع ذلك فالرجل ليس مملًّا؛ لا، لم يكن كذلك! لو أنه فقط يُسمِّي الناس بأسمائهم، لكان شيئًا عظيمًا!

سأل النقيب: «حسنًا، لماذا لا تُسمِّي الناس بأسمائهم بدلًا من الأحرف الأولى؟».

همس لاتسيك: «لأنه فيما بعد، فيما بعد — سيدي البارون — سيظهر سيدي البارون بنفسه!». قال تايتنجر: «أما أنا، فلا بالطبع!». لم يشعر بالكراهية مرةً في حياته التي بدت له في تلك اللحظة طويلة جدًّا وغنية بالتجارب. لكن فجأة، وفي هذه الساعة، وجدَ نفسه مستمتعًا بفكرة أن هذا الشخص أو ذاك من «المملِّين» الذين يكرههم، من الممكن أن يظهروا، بأسمائهم ورُتَبهم، في أحد هذه الكتيبات الملوَّنة الجميلة؛ كان يشعر أيضًا ببعض المرارة من أولئك «المملِّين» الذين تسبَّبوا في إعادته من فيينا إلى ثكنتِه العسكرية. كانت مرارة طفولية بريئة، غضبة عابرة أو حالة مزاجية أكثر منها كراهية. قال لاتسيك: «يمكنني أيضًا تسمية السادة بأسمائهم، كما يرغب سيدي البارون!».

قال البارون: «جيد. رائع!».

ظلَّ لاتسيك ساكنًا. قلبه يخفق بقوة، وأعضاؤه أصبحت فجأة ثقيلة كالرصاص، في الوقت نفسه شعر بأفكاره تُرفرف في رأسه المسكين كأسراب طيور حائرة. تُرفرف، ألفا فكرة — كل فكرة بجولدن — بألفَي جولدن. سأله البارون تايتنجر: «ألفا جولدن، ها؟». تنفَّسَ لاتسيك: «نعم سيدي البارون!». قال تايتنجر: «تحصُل عليها غدًا!».

بجهدٍ جهيد، نهض لاتسيك واقفًا. انحنى بعمق وتمتم: «امتناني إلى الأبد، سيدي البارون!»

قال تايتنجر: «حياكَ الله!». ودسَّ الكتيبات الثلاثة في جيبه.

بالطريقة المعتادة، وكما فعل عدة مرات من قبل، أرسلَ تلغرافًا إلى ناظر زراعتِه «الممل» يقول فيه: «٢٠٠٠ إمبريال». وصل المبلغ، لكن مع برقية مرفقة: «المطلوب مرفق طَيَّه، وفي الطريق إليكم خطاب مستعجل!».

مزَّقَ البارونُ البرقية بسبب اشمئزازٍ لا يُقاوَم من عبارة «خطاب مستعجل». وضع النقود في مظروف وطلبَ من حارس بوابة الفندق أن يُسلمه إلى يد «الرجل الذي زراه بعد ظهر أمس»، ثم ركب عربة بحصانَين. لم يكن قد ذهب إلى جرينسينج منذ مدة طويلة. وعليه أن يعود غدًا إلى حاميته العسكرية.

٢٠

عادةً ما يستغرق تايتنجر في النوم فور ركوبه القطار. لكنه اليوم راحَ يقرأ في كتيبات لاتسيك، بما في ذلك العدد الأول الذي كان قد قرأه المؤلِّف عليه. تصوَّر أن العالم كله يجب أن يقرأ هذه الكتيبات الصغيرة بنفسِ الاستمتاع والحماس. غدًا سيحكي في الكتيبة عن اكتشافه الأدبي، وربما قرأ عليهم شيئًا في قاعة طعام الجند، في غياب العقيد بالطبع. انقضى الوقت بهذه الأفكار البهيجة حتى وصل إلى المدينة التي بها حاميته العسكرية.

كان الليل قد أسدل سدوله عندما ترجَّل من القطار. مطرٌ خفيف ومملٌّ وبارد ينساب برفق وبإصرار، محيطًا مصابيح النفط المصفرَّة الهزيلة على رصيف المحطة بهالة رطبة. وكذلك كانت صالة الانتظار للدرجة الأولى تغشاها كآبة ضاغطة للروح، والنخلات الصغيرة المحفوظة خلف زجاج البوفيه تُدلي أوراقها الرفيعة الثقيلة كما لو كانت هي أيضًا تقف تحت مطر الخريف. وكان هناك مصباحان من مصابيح الغاز، هما سبقُ محطة القطار وموضع فخرها، بهما رتينتان معيبتان، يندلع منهما ضوءٌ مهتزٌّ أخضر كئيب. كما يخرج منهما طنينٌ بائس كما لو كان نحيبًا. وكذلك بزغ القميصُ الأبيض للنادل أوتوكار يحمل بقعًا مريبة مجهولة المصدر. كان البريقُ المعدني لنقيب الخيالة بمثابة دخول منتصر إلى كل هذه الكآبة. أحضرَ النادل أوتوكار قائمة الطعام وكأسًا من كونياك هينيسي على سبيل التَّدفئة. «اليوم عندنا حساء مع كفتة الكبد سيدي البارون!». قال تايتنجر ببهجة: «أغلِق فمَك!». كان دائمًا ما يقصد العكس تمامًا عندما يتحدَّث بمثل هذا، وهذا ما يعرفه أوتوكار أيضًا. ولذا، قدَّم له اللحم البقري المسلوق مع رءوس الفجل وفطيرة البرقوق المطهية جيدًا. قال تايتنجر: «أغلِق فمك وشغِّل يديك!». حسَّن الكونياك مزاجَه أكثر وزاد من شهيته. وعندئذٍ فقط نهض وخلعَ معطفه. أسرع أتوكار نحوه. كانت الحواف الملوَّنة لأعمال لاتسيك تُطلُّ من الجيب الأيمن للمعطف، وفي الحال وقعت عليها عينُ أوتوكار الشغوفة. سمحَ النادل لنفسه أن يقول: «قصص من عالم الصفوة وعالم المشبوهين». إذا ما قال البارون مرةً «أغلِق فمك!» فمن المسموح ساعتها التحدُّث معه في كل شيء. سأل تايتنجر: «أوه، أنت تقرأ أيضًا يا أوتوكار؟». «كرونه تسايتونج كل صباح، سيدي البارون، واسمَح لي أن أُبدي ملاحظة متواضِعة! القصص منشورة هناك أيضًا، بل أكثر طزاجة، كأنها خارجة من الفرن مباشرة!»

«آها، آها!» لم يقُل تايتنجر غير هذا. راحَ يأكل بشهية كبيرة، ويجدُ اللحم «رائعًا»، وفطيرة البرقوق «جذابة جدًّا» وشربَ كأسًا من شليفوفيتس (براندي الخوخ) مع قهوته السادة، وقد قرَّر البقاء جالسًا في صالة الانتظار حتى وصول قطار المساء القادم من فيينا الذي لا يصل إلا في الساعة ١١:٤٧، والذي يصل فيه أحيانًا أحدُ رفاقه المتأخِّرين، وإن كانوا في الغالب من ضُباط فرقة المشاة الذين يُشاركون الفرسان نفس الحامية. أحيانًا ما تُقام مثل هذه الحالة المزاجية، وهذه الأمسيات. ما دام المرء لم يزل جالسًا في المحطة، فهذا يعني تقريبًا أنه لم يعُد بعدُ إلى الحامية. كانت تمطر في الخارج على نحو مزعج. لا يُعوَّل على عربات الأجرة المكشوفة في هذه المدينة، ورصف الشوارع ليس بحالة جيدة. من الأفضل أن يبقى جالسًا. يعرف أوتوكار كيف يلعب سوليتير. وكان تايتنجر يرى في قرارة نفسه أن هذا غير لائق. ومن ثمَّ، لعب أوتوكار واقفًا قبالته منحنيًا إلى الأمام بتركيز، والفوطة تتدلَّى من كتفه كما لو كانت مغرفة. كان أوتوكار يتحدَّث خلال ذلك. عندما كان لا يزال شابًّا، ويُفكِّر أن «يُحسِّن من نفسه»، كان قد تعلَّم مهنة النادل في فيينا، ويريد العودة إلى فيينا في أقرب وقت. لا تزال تحدُث في فيينا أشياءُ على غرار تلك القصص المنشورة في الكتيبات الصغيرة وفي صحيفة كرونه تسايتونج. نعم، وبعض السادة ورَدت أوصافهم بدقَّة لدرجة أن المرء يستطيع أن يتعرَّف عليهم بسهولة. هتفَ تايتنجر: «صحيح! تعرفهم!». قال أوتوكار: «نعم». السيد هانفل — وكان يُدير مطاعم الدرجة الأولى والثانية والثالثة بمحطات السكة الحديد — يعرف كل شيءٍ. وفي ذلك الوقت، أثناء زيارة الشاه لفيينا، كان لديه مطعم في فيدِن. يعرف البيت، وقصة اللآلئ، وكلُّ المنطقة لم يكن لها حديث آنَذاك إلا عن هذا الأمر. «نعم، وحتى سيدي البارون» قالها أوتوكار برعونة، ثم أمسكَ لسانه، وتظاهر فجأة بأنه يُفكِّر مليًّا في مخرج للعبة السوليتير.

سأل تايتنجر: «ما هذا الذي قلتَه؟».

لم يُجدِ شيءٌ نفعًا، كان على أوتوكار أن يحكي. هكذا كان الأمر، قصة تايتنجر معروفة للناس. بل إن أوتوكار اضطرَّ إلى إحضار مدير المطعم من مكتبه. حكى السيد هانفل مدير المطعم بعضَ التفاصيل، لكنه لم يقُل شيئًا محددًا عن البارون نفسه. كان يحكي بصدر منشرح كما هو حال أولئك الذين يظلُّون طويلًا ينتظرون فرصة للإدلاء بشيءٍ لا يعرفه أحدٌ سواهم. سأل تايتنجر أخيرًا: «من أين تعرف هذه القصة إذن؟». مالَ صاحبُ المطعم إلى الأمام مقتربًا قليلًا — وهو ما اعتبره تايتنجر كثيرًا جدًّا — وهمسَ، تقريبًا كما يهمس المرءُ إلى شريكه: «السيد المفتش زدلاتشيك هو صديقي المقرَّب يا سيدي البارون!».

بدا للنَّقيب فجأة أن العالم قد تغيَّر، أو بالأحرى، أنه بدأ يكشف النقاب تمامًا عن صورته المروِّعة. لم تكن في حياته كلها سوى قصة واحدة محرجة. سنوات عديدة وهي تخنقُه، لُقمة جافة مثيرة للاشمئزاز، تقف في حلقك، لا تستطيع أن تبتلعَها ولا حتى أن تبصقها. لم يكن يستطيع التحدُّث عن هذه القصة مع أي شخص في العالم. والآن تُلقَى في وجهِه، تلك القصة التي يعرفها حتى مديرو مطاعم السكة الحديد. ومن المحتمَل أن رفاق السلاح أيضًا يتحدَّثون عن هذا، على الأقل أولئك الخبثاء من ضباط المشاة. رأى تايتنجر الآن الهيئة القبيحة للمُفتش زدلاتشيك، استعادَ تلك اللحظة حين قابله على الدرج، والقبعة الطويلة المرفوعة قليلًا على السحنة المبتذلة، والعينَين الزجاجيتَين اللتَين تُذكِّران بمصابيح صغيرة زرقاء باهتة، والشارب المبروم لأعلى ممتلئًا بوقاحة ذات لون أصفر ذهبي، ومن تحته تظهر أسنان قوية طويلة صفراء كأسنان الحصان.

كان مديرُ المطعم ما يزال مستمرًّا في حديثه، لكن تايتنجر لم يعد يستمع. سمع فجأة ما لم يكن قد لاحظه حتى الآن. النقرُ الكئيب للمطر على السقف الزجاجي لرصيف المحطة، والطنين المنتحِب لمصابيح الغاز ذات اللون الأخضر السام. ومع أن هانفل كان ما يزال في منتصف حكيه الحماسي، نهض تايتنجر وارتدى معطفه واعتمرَ قبَّعته، وأمرَ أن تُرسَل حقيبته والفاتورة إلى فندق «الفيل الأسود»، وخرج شاردَ الذهن صامتًا، لا يُسمع منه سوى صوت نعليه.

كان شارع «كايزر يوزِف شتراسه» المؤدِّي من محطة القطارات إلى مبنى البلدية بوسط المدينة خاليًا إلا من المطر البارد. سار النقيب تايتنجر وحيدًا في الشارع بصحبة المطر.

لم يكن قبل هذه الساعة قد عرفَ أي هواجس أو نُذُر سيئة أو حتى جدِّية فقط. كان في مقدوره إزاحة المنغِّصات، أو بالأحرى الأجواء المملة، بسهولة عن طريقه مثلما يهشُّ الذباب. لكنه هذه المرة قد سلَّم نفسه لها، كما سلَّم نفسه للمطر والليل وشارع «كايزر يوزِف شتراسه». فيما مضى، كان من عادته كلما عاد من فيينا أن يُعرِّج على قاعة طعام الجند «ليتأقلمَ من جديد» مع الأجواء. واليوم ها هو يكاد يهرب إلى فندق «الفيل الأسود». الملازمان شتوكنجر وفيلش نزيلان هنا أيضًا. لم يكن تايتنجر يريد مقابلتهما بأيِّ ثمن. ذهب فورًا إلى غرفته. لم يُؤدِّ روتينه الليلي المعتاد الذي حافظ عليه طوال خمسة عشر عامًا كطقسٍ سامٍ! قال للخادم: «دَعْ هذا!» حين شرَع الخادم كالمعتاد في إخراج المشط والفرشاة، ومعجون الأسنان، وكريم الشعر، وشبكة للشَّعر ليُحافظ بها على المفرق، وفازلين وزبدة كاكاو. تركه النقيبُ يخلع له حذاءه فقط. ثم قال «اذهب لتنام!». وتمدَّدَ على السرير، ببنطاله وجوربه. لم يجرؤ على خلع ملابسه، بل إنه لم يكن يفهم لماذا يخاف من الليل لأول مرة في حياته. كأنما كان يريد أن يُطيل أمد اليوم، المساء. كان خائفًا من تلك الليلة. لن أستطيع النوم، هكذا فكَّر. لكنه نام على الفور. غطَّ في النوم كما لو كان مخدَّرًا.

ومع ذلك، كان خوفه من هذه الليلة مبرَّرًا؛ فلأول مرة منذ فترة طويلة يرى أحلامًا بعضها مخيف وبعضها حزين بدرجة لا توصَف. على سبيل المثال، رأى نفسه ينزل الدرج الرخامي المفروش بالسجاد الأحمر، وزدلاتشيك قادم في مواجهته ويرفع قبعته الأسطوانية الطويلة؛ لكنه رأى في الوقت نفسه أنه (أي تايتنجر) كان هو نفسه زدلاتشيك أيضًا؛ هو نفسه الذي رفع القبعة؛ وهو نفسه القادم في مواجهة نفسه. كان يصعد الدرج، لكنه في الوقت نفسه ينزله أيضًا. وفجأة وجدَ نفسه واقفًا في مكتب مأمور السجن في كاجران، وطبيب الشرطة يسأله: «ماذا بك؟ لماذا لا تحكي لي عن الأحوال في كتيبتي؟» لم يستطِع الإجابة، تايتنجر المسكين. كان خائفًا أيضًا من أن يأتيَ رئيس الشرطة في أي لحظة ويقول: «أنا لا أعرف أيَّ بارون باسم تايتنجر.» والأكثر من ذلك، ظهرت أيضًا الكونتيسة هيلينا «ﻓ»، حليقة الرأس، تمامًا مثل ميتسي شيناجل، وطلبت استرداد جميع رسائلها. كلُّ ما استطاع أن يقوله، أن هذا خلطٌ كبير، فلم يتلقَّ أبدًا أي رسائل من الكونتيسة، ناهيكَ عن خطابات مسجلة. «رجاءً يا كونتيسة، يمكنكِ أن تسألي ضابط الصف تسينوفر!» لكنها صاحت: «فات الأوان! فات الأوان!» واستيقظ هو. أيقظه الخادمُ.

كان الوقت قد تأخَّر، الساعة السابعة إلا الربع، لم يكن لديه متسع من الوقت للحلاقة. كان قد أمرَ العريفَين ليشاك وكانيوك بالحضور اليوم إلى المكتب بسبب مثولهما قبل ثلاثة أيام في طابور العرض دون حلاقة. شعر النقيب بتأنيب من ضميره العسكري. كان عليه أن يذهب على أيِّ حال، الحذاء والسترة والشاكة، وينطلق مسرعًا إلى الثكنات. إنهم الآن راكبون فوق السروج، السَّرِية بأكملها. لم يعُد هناك وقت «للتمام» بنداء الأسماء في الطابور. كانت تُمطر برفق وبلا انقطاع كما كانت مساء أمس. كان المطر يصل الأمس باليوم كأنما لم يكن هناك شروق جديد للشمس بينهما! كأنما لن تشرق شمس جديدة بعد ذلك أبدًا!

انتظمَ الفوجُ، وفُتحت البوابة المزدوجة العريضة المخططة باللونَين الأصفر والأحمر، وخرجوا راكبين. لم يشعر تايتنجر بعودته إلى الواقع اليقظ إلا وهو جالسٌ فوق السرج. الآن فقط استطاع أن يُدرك أن كل الرعب الذي رآه لم يكن إلا حُلمًا. ومن خلال السرج ورقبتَي حذائه، راحَ يشعر بدفء دماء الفرس التي يركبها. إنه يجلس اليوم مستقرًّا على فرسة بُنيَّة. اسمها فاللي. كان يُحبها رغم أنها لم تكن على القدر نفسه من الذكاء كحصانه الرمادي بيلادس. هكذا سماه ظنًّا منه أن بيلادس كان فيلسوفًا يونانيًّا. كانت فاللي بطيئة، وحَرون في بعض الأحيان، عليك أن تُكثِر لها الكلام. لم تكن ضغطةٌ خفيفة على فخذَيها كافية أبدًا. الواقع أنها متقلِّبة المزاج، ليس عبثًا أنها أنثى، وفي لحظة تتحوَّل من الكسل إلى الحيوية المفرطة. لكنه يحبها رغم كلِّ شيءٍ.

عندما نزلَ عن فرسه في المرج، كان قد عاد تقريبًا تايتنجر القديم المألوف. أخذَ تقرير التمام، وبصرامة شديدة عاقبَ العريفَين على عدم الحلاقة، ثلاثة أيام حبس انفرادي لكلٍّ منهما. قال بينما يتحسَّس تلقائيًّا ذقنه الشائكة: «عارٌ على عريف أن يكون غير حليق!». وهذا ما لاحظه الضابط المناوب بروكوراك. لا بأس! الآن تبدأ تمارين اللياقة البدنية ثم تمارين الركوب ثم التدريبات على السلاح. كان النقيب تايتنجر شديد المراس للغاية في هذا اليوم.

لكنه بعد أربع ساعاتٍ، بعد عودتِهم إلى الثكنات، كان يقف في مكتب التفتيش مرتبكًا مرةً أخرى، يكاد يكون صاغرًا. كان هناك خطابٌ مسجَّل له. مرة أخرى! وقَّعَ على ورقة بالتسلم. كان على وجه ضابط الصَّفِّ تسينوفر تعبيرٌ جادٌّ بصورة مخيفة اليوم على غير عادته عندما تكون هناك خطابات مسجَّلة. كان الخطاب أيضًا سميكًا وثقيلًا للغاية. إذا أُلقيَ في سَلة المهملات الورقية، فسيُحدث قدرًا غير قليل من الضوضاء المزعِجة غير اللائقة. كان مكتوبًا على المظروف الأصفر: «بلدية أوبرندورف». قال البارون لنفسه: «الآن أفضل من آجلًا». فتحَ المظروف. وبدأ في القراءة.

مع الإخطار الرسمي من العمدة الذي يُبلغ فيه تايتنجر أن ولدًا قاصرًا اسمه ألكسندر آلويس شيناجل قد حضرَ إلى مجلس المدينة وأفادَ بأنه ابنٌ غير شرعي لضابط الخيَّالة النقيب البارون تايتنجر، وطلبَ عنوان أبيه الحقيقي، وعنوان أمه ميتسي شيناجل التي لم تكن زوجةً شرعية، كان مرفقًا خطابٌ من ناظر الزراعة. وهو في الواقع، لم يكن خطابًا بقَدر ما كان ضربًا من فروض الرياضيات المدرسية التي اعتادوا أن يُفاجئوا بها طلابَ المدرسة العسكرية في مدينة هرانيتس مورافيا. لم يفهم تايتنجر سوى الجملة الأخيرة التي تقول: «وفي ضوء ما سبق، أسمحُ لنفسي بكل تواضُع واحترام بإخبار السيد البارون أن حُضوره في الحال ودون إبطاءٍ ربما يُساعد في إيجاد حلول أو توفير بعض الفرص الممكنة.» قرَّر تايتنجر إعطاء كلا الخطابَين إلى تسينوفر الذكي الطيب. كان يعلم منذ فترة طويلة أنه سيحتاج إلى تسينوفر. قال له: «عزيزي تسينوفر، لديك ملابس مدنية بالطبع؟» فأجابه تسينوفر: «بالطبع سيِّدي البارون!» فقال له البارون: «إذن هل تتلطَّف وترتديها اليوم، في حوالي السادسة، بعد التمام، سأنتظرك في القاعة الصغيرة في فندق «الفيل الأسود». وهناك تُخبرني ماذا يريد الناس مني بالضبط.»

٢١

في المساء، بعد التمام، جاء تسينوفر إلى القاعة الصغيرة بملابس مدنية. كان يبدو أكثر جدِّية منه في الزي العسكري. لأول مرة يراه تايتنجر بملابس مدنية. لم يعُد هو ضابط الصفِّ تسينوفر، لا مرءوس ولا رئيس، لكنه مع ذلك لم يكن مدنيًّا، بل كائنًا فريدًا من نوعه بين العوالم، بين السلالات، غريبًا وغامضًا، لكنه على كل حال ينضح بالقتامة والشر. لا بد من جرعة قوية من الشراب، وعمومًا كانت الأمور مطمئنة بعضَ الشيء. بدأ تايتنجر بقوله: «عزيزي تسينوفر، هل تشرب الكونياك؟». شعر تايتنجر أن راحته معلَّقة الآن باستعداد تسينوفر لشرب الكونياك. قال تسينوفر: «بالتأكيد سيدي البارون!». بل وابتسم أيضًا. غريبة، الناس لا تبقى على حالها. لم يكن تسينوفر مملًّا على الإطلاق. لم يكن تابعًا منقادًا على الإطلاق، وكذلك لم يكن «عاديًّا» على الإطلاق. لو لم يكن صارمًا للغاية، فلربما اعتبره من «الظرفاء». شَرِبا الكونياك. سأله تايتنجر، وهو يعي تمامًا أن الكونياك لم يقُم بعمله ويجعله أكثر جرأة: «ها؟ ماذا لديك من أنباءٍ طيبة يا تسينوفر؟» فجأةً رأى وجه تسينوفر على حقيقتِه. كان قاسيًا وباردًا، أقسى وأبرَد وهو يبرز من الياقة البيضاء المدنية منه في سترة عسكرية خضراء تحتَها كنزة برقبة عالية. تجاعيد كثيرة على جبهته الطويلة، ومزيد من الغضون تحت عينَيه وعلى صدغَيه، حتى شَعرُه بدا فجأة أكثر شيبًا. كان رجلًا أكبر سنًّا وأشد صرامة وأكثر رزانة.

قال الرجل الرزين: «سيدي البارون، للأسف ليس لديَّ أنباء طيبة لك. هل تُريد أن تسمع ما عندي، سيدي البارون؟»

قال تايتنجر: «طبعًا، طبعًا!».

«إذن: النقطة الأولى تتعلَّق بالعمدة. يُخطرك بأن ألكساندر آلويس شيناجل قد حضر إليه بعد أن هربَ من المؤسسة في جراتس وقبضَ عليه عساكر الدَّرَك. الصبيُّ شيناجل يبلغ من العمر ستة عشر عامًا. وقد جاء إلى العُمدة برفقة رقيب الدرك في آيشهولتس. لم يدفع أحدٌ للمؤسسة منذ ستة أشهر. وقد علم رئيس المؤسسة أن أمه، الآنسة ميتسي شيناجل، موجودة حاليًّا في سجن كاجران. وبسؤالها كتبت له أن السيد البارون تايتنجر هو الأب الطبيعي للصبي، وقد زارَها في السجن أيضًا، ولا شكَّ سيعتني بالطفل. لا بدَّ أن الصبيَّ قد سرقَ هذا الخطاب. وجدوه في بدلته. لكنه أنكرَ وسأل عن مكان أمه. وليُّ أمره هو والد الآنسة ميتسي شيناجل. وهو الآن في دار المسنِّين في لاينتس. وهو مشلول الطرفَين ودكانه في سيفرينج قد وقعَ الحجز عليه. وقد أبلغَ العمدة أن السيد البارون تايتنجر هو والِد الصبي وأنه لم يدفع أي نفقة حتى الآن. في غضون ذلك ومراعاةً للظروف، سلَّم العمدةُ الصبي إلى ناظر زراعتِك، تجنُّبًا لفضيحة كبرى. وهم ينتظرون الآن قرارك، سيدي البارون!»

قال تايتنجر: «ميتسي لم تطلب نفقة قط. خسارة! وما العمل إذن يا تسينوفر؟»

«إذا جاز لي النُّصح، فبإعادة الصبي إلى جراتس، ودفع المصاريف المستحقة. إنها تبلغ حوالي ثلاثمائة جولدن.»

«نعم، عزيزي تسينوفر، هذا ما سأفعلُه.»

قال تسينوفر: «والآن إلى النقطة الثانية، سيدي البارون.». وانتظر لبرهة. «النقطة الثانية ثقيلة للغاية. يلتمِس الناظرُ المعذرة، لكنه يرى أن من واجبه إبلاغ السيد البارون بأنه بعد إرساله مؤخَّرًا ألفي جولدن إلى فيينا، قد يكون من الخطورة سحب أي مبالغ نقدية أخرى. السيد البارون استنفَدَ في السنوات الأربع الماضية حوالي خمسة وعشرين ألفًا. والمتبقِّي من النقد حوالي خمسة آلاف. ثلاثة عشر ألفًا كانت قد دُفِعت لسداد الكمبيالات طرف ابن عمكم السيد البارون تسِرنوتي.»

قال تايتنجر: «شخصٌ ممل، هذا التسِرنوتي!».

أضافَ تسينوفر: «قد يكون هذا تعبيرًا مناسبًا أيضًا.». إنه يُحب النقيب تايتنجر كما هو، بجمود قلبه المرِح، برأسه الذي لا يحوي سوى بضعة أفكار هزيلة بحيث إن جمجمته تُعتبر مسكنًا فسيحًا جدًّا بالنسبة إليها، بغرامياته التافهة، وشغفه الطفولي، وملاحظاته العديمة الجدوى التي تخرج من فمه كيفما اتفقَ وفي غير سياقها. كان ظابطًا متواضعًا، لا يبالي برفاقه أو جنوده أو حياته المهنية. لم يكن تسينوفر يفهم الآلية الداخلية التي تدفع رجلًا مثل البارون تايتنجر إلى مثل هذه الأمور العبثية الفارغة تمامًا، بل والضارة به هو شخصيًّا. بالنسبة إلى تسينوفر الذي يُفكِّر في العالم والناس أكثر من الكتيبة بأكملها، بما فيها العقيد، ظلَّ تايتنجر أحد ألغاز الطبيعة. لو أنه فقط كان غبيًّا على نحو استثنائي! لو أنه فقط كان شريرًا استثنائيًّا! لو أنه كان مقامرًا أو عاشقًا شغوفًا! لو أنه على الأقل عانى بوضوح من النقل الوظيفي! ومع ذلك — يقول تسينوفر لنفسه — لا يملك إلا أن يكون غير سعيد. ربما يكون قد مرَّ بمحنة شديدة جدًّا، لدرجة أنها سلبته كل قُدرة بشرية على التفكير والشعور! وربما لا تزال تنتظره مثل هذه المحنة، وهو يعرف هذا جيدًا وينزلق نحوها. وإلا، فكيف يمكن للمرء أن يبقى على هذه الحالة من اللامبالاة لدى سماعه مثل هذه الأخبار؟ ها أنا جالسٌ، أُخبر رجلًا راشدًا بأنه لم يبقَ لديه مال، فلا يكون ردُّه إلا أن قال: «شخصٌ ممل، هذا التسِرنوتي!».

تابعَ تسينوفر: «الحالة سيئة بالنسبة إلى الأملاك. قيمة الرهن ثلاثون ألفًا — حسبما فهمت — وكذلك أغلبها ديون لابن العم. لا بدَّ أنه سحب ما يفوق نصيبه منذ زمن طويل. من الواضح أن المرحوم عمك كان قد قرَّر ألا يُسمَح لابن عمك بسحب أي نقود، ناهيكَ عن الاقتراض، دون موافقتك. أليسَ كذلك يا سيدي البارون؟». قال تايتنجر: «نعم، سيكون كلُّ شيءٍ كما ينبغي. كنتُ دائمًا أقول نعم، ودائمًا كان هو مملًّا. يُنفق كل شيءٍ على الأولاد. قُل لي يا تسينوفر، هل تفهم، أي متعة يجدها المرء في الأولاد؟»

قال تسينوفر بحِدة: «لا، يا سيدي البارون، لكن هذا غير مهم. المهم أن أملاكك لم تُحقِّق أي إيرادات منذ ثلاث سنوات. قبل عامَين قُطِعت أشجار غابة التنوب الصغيرة. ثم أفلسَ تاجر الأخشاب، فلم يصلكم منه إلا العربون. وفي العام الماضي، تساقطت الثلوج بكثافة في مايو، ففسدت البذور. وفي هذا العام، المحصول بائس. والبيت متضرِّر، ولم يعش فيه أحدٌ منذ عشر سنوات. أما عن حال الماشية، فليست بحاجة إلى كلام. الناسُ بحاجة إلى زوج من الخيل، ولا يوجد مال.»

قال تايتنجر: «منتهى النحس!»، وصفَّق بيديه وطلبَ كأسَين أُخريَين من الكونياك.

شربَ على جرعتَين كبيرتَين. وبقي صامتًا. بدأت تتصاعَد داخله مرارةٌ طفيفة تجاه تسينوفر. لكنه أيضًا كان يشعر بأنه يقف وحيدًا تمامًا، وفي الوقت نفسِه يشعر بلمسة من الامتنان. فهناك أيضًا من يتولى قراءة الرسائل والتفكير والتدبير، رجلٌ ذكي، تسينوفر. لعلَّه الآن يفعل ما كان يفعله مع تايتنجر دائمًا كلُّ الأشخاص الأذكياء، بدءًا من النقيب يِلينِك أستاذ الرياضيات في المدرسة العسكرية المتوسِّطة؛ في البداية يُخيفونه بأشياء مملَّة، يُنهكونه، ليعودوا بعد ذلك فيشدُّوا عوده من جديد بنصائح جيدة وسديدة. ليس من الضروري أن تكون منهَكًا حقًّا، بل عليك فقط أن تتظاهر بأنك كذلك، وبعدها سيعود كلُّ شيء على ما يُرام. لكن تايتنجر هذه المرة أخطأ في الحساب؛ لأنه عندما اتبعَ الخطة التي كانت دائمًا ما تنفعه في التعامل مع الأذكياء، وسأل ضابطَ الصَّف: «وما العمل؟» أجاب تسينوفر: «لا شيء يُجديك نفعًا سيدي البارون!». يا له من نوع غريب من الأذكياء، هذا التسينوفر.

لفترة طويلة بقي كلاهما صامتًا. ثم طلبَ تايتنجر زجاجة من نبيذ بوردو الأبيض. نظرَ إلى ساعة الحائط، فوجدَ أنه ما تزال هناك ساعة على موعِد العشاء.

بمجرد أن شربَ من كأسه الأولى، بدأ تسينوفر: «سيدي البارون، هل تسمَح لي أن أقول كل شيء بصراحة؟» أومأ تايتنجر موافقًا. «حسنًا، في الوقت الحالي يمكنك بيع الحصان الرمادي!»

صاح تايتنجر: «من؟ بيلادس؟ فلنقُل فاللي!».

«لا. لن تأتي بما يكفي؛ ومن ثمَّ سيُصيب الدورُ على الحصان الرمادي أيضًا. يجب أن تُدبِّر نقودًا لزوج من الخيل للعمل في المزرعة، لا بدَّ أن تأخذ إجازة، وتسافر إلى ضيعتك، وتصلح البيت، وتتحدَّث مع أصحاب الرهن، ومع العمدة، وتُدبِّر للصغير شيناجل وصيًّا جديدًا. أرجِّحُ إجازة لثلاثة أشهر سيدي البارون! لا توقِّع أيَّ شيءٍ آخر يخصُّ ابن عمك، هذا مفهوم طبعًا. ما لم تفعل كل هذا، فإني أرى مستقبلًا قاتمًا. سيكون عليك الانتقال إلى المشاة.»

«قوات الحدود؟ ها؟ أنا لا أعرف كيف أسير في مسيرة يا عزيزي تسينوفر!»

قال تسينوفر: «هذا هو كلُّ شيء». ونظرَ هو أيضًا إلى الساعة. «اسمح لي بالانصراف سيدي البارون!» قال تايتنجر، وفي عينَيه نظرة متوسِّلة لطفلٍ على وشك أن يُحبَس في غرفة مظلمة: «لا يا تسينوفر، فلتبقَ!». قال تسينوفر: «كما تشاء!».

قام النقيب إلى الشماعة حيث كان معطفه معلقًا، وسحب كتيبات لاتسيك الملونة. «أتعرف هذا يا عزيزي تسينوفر؟» تصفَّح تسينوفر الكتيبات، وقرأ شيئًا من هنا وشيئًا من هناك، ثم صفقها مغلقًا إياها مرة أخرى وقال: «فظيع، يا سيدي البارون!». صاح تايتنجر: «بالعكس!» وحكى أن كلَّ الأشخاص الذين ظهروا فيها «مرسومين ببراعة». هو نفسه قد التقى المؤلِّف لاتسيك. بل إن آخِر ألفَي جولدن قد أعطاها لهذا المؤلِّف.

قال تسينوفر: «هذا أسوأ من كل ما سبق!».

من العنوان وحده، خمِّن ما بداخلها. كان هو أيضًا يعرف القصص التي نسجوها حول تايتنجر، تقريبًا منذ يوم عودته إلى الكتيبة. كضابط صَفٍّ خدَم لفترة طويلة وحصَّلَ خبرةً واسعة، كان يعرف ذلك النوع الخاص من الضعف البشري، الذي يتميَّز به بعضُ المنتسبين إلى الجيش، الشماتة المبتكَرة. لوقتٍ طويل قبل إعادة تايتنجر، كان بعضُ الضباط مرضى النفوس في الكتيبة يروون قصصًا عنه لا يمكن لعاقل أن يُصدِّقَها. كانوا يحسُدونه على منصبه في فيينا. لكن بعد ذلك، عندما عاد عسكريًّا مرةً أخرى مثلهم جميعًا، بدءوا يتساءلون، لأيِّ سببٍ أُعفِي من «الخدمة الخاصة». البعض حكاه مديرُ المطعم. وكانت للنادل أوتُّكار تلميحاتٌ منذ ظهور المقالات في «كرونه تسايتونج». سأل تسينوفر: «هل أعطيتَه النقود لكيلا يذكرك في هذا السياق؟». أجاب تايتنجر: «لا، وما الذي يعرفه عني؟» فأضافَ تسينوفر: «هل يعرف أيَّ شيءٍ يمكن أن يضرَّك، يا سيدي البارون؟»

لم يجب تايتنجر. كان هذا أسوأ مما كان مساء أمس في صالة الانتظار. خلال النهار كان قد نسيَ ما جرى مساء أمس رغم الخطابَين. وأسِفَ؛ لأنه طلبَ مشورة تسينوفر. كان الأفضل، وفقًا لسنواتٍ من التَّجارب، أن يتجاهل الخطابَين تمامًا. لكن شيئًا ما كان قد تغيَّر مؤخرًا، لا يعرف بالضبط ماهيته. إن كان حتمًا فيمكنه أن يتذكَّر متى بدأ هذا التغيير: ها هو يتذكَّر بالضبط: لقد كان في اللحظة التي رأى فيها تايتنجر رأسَ ميتسي شيناجل الحليق. نعم، هو ذاك.

كانت كلُّ الخيوط متشابكة ومعقَّدة على نحو ميئوس منه. حتى لو امتلكَ القدرة على أن يحكيَ لتسينوفر كل شيءٍ، بما في ذلك «الفضيحة»، فلم يكن بوسعه أن يفعل ذلك في تلك اللحظة؛ بسبب عدم قُدرته على تجميع جملتَين وربطهما ربطًا منطقيًّا. سمع تسينوفر يقول: «إذا سمحتَ لي سيدي البارون، من الممكن أن أمشي!» فصاح: «لا، انتظر بحقِّ الله! أنا فقط لا أستطيع التحدُّث في هذه اللحظة. يلزمني أن أفكِّر يا عزيزي تسينوفر!» لكنه لم يُفكِّر في شيء. كانت عيناه فارغتَين، كرتان من زجاج أزرق. حتى عدم التفكير كان مرهقًا جدًّا. راحَ يشرب ويُدخِّن وعبثًا حاول أكثر من مرة أن يبتسم، أرهقَ ذهنه للعثور على نكتة أو عبارة مَرِحة أو طرفة، ولم يحظَ بشيء، وفي الوقت نفسه كان يشعر بالخجل من التزامه بهذا الصمت الثقيل. في غرفة طعام الجند، مع أقرانه، كان يجد الكلمة المناسبة في كل موقف. مع أقرانه! تشبَّث بهذه الكلمة؛ فقد قدَّمت له تفسيرًا لما هو واقعٌ فيه من حيرة الآن؛ لأن تسينوفر في الواقع ليس من «أقرانه». للحظة اعتقدَ أنه استعادَ التوازن والحزم والثبات، فقال، وبهذا الودِّ المتغطرس الذي يمكن أن يكلم به الأتباع قال: «لماذا لا تحكي لي شيئًا يا عزيزي تسينوفر، عن حياتك على سبيل المثال!». قال تسينوفر: «لا شيء في حياتي مهم على الإطلاق، سيدي البارون. هذه هي السنة الثالثة عشرة لي في الخدمة، كنت كيميائيًّا. كان ذلك منذ زمن بعيد الآن. لستُ متزوجًا. التحقتُ بالجيش آنذاك، بمحض إرادتي، وأنا في الثانية والعشرين؛ لأن الفتاة التي أحببتها تزوَّجت من شخص آخر.» قاطعه تايتنجر: «هذا غير لطيف!». «نعم يا سيدي كان هذا هو الألم الوحيد في حياتي، والأخير أيضًا.» هتفَ تايتنجر: «عجيب! أما زالَ والداك على قيد الحياة؟» «ليس لي أحد، ماتت أمي مبكرًا، كانت طباخة. أما والدي فلا أعلم عنه شيئًا، فأنا ابنٌ غير شرعي.» كرَّر تايتنجر: «هذا مثيرٌ للاهتمام. ونشأتَ بمُفردك هكذا؟» فأجابه تسينوفر: «في دار الأيتام التابعة لبلدية موجليتس. ثم بدأتُ تدريبي المهني في السادسة عشرة.» قال النقيب: «أنت رجلٌ ذكي يا تسينوفر. لماذا لا تتقدَّم لاختبار المحاسبة؟». قال تسينوفر: «أنوي هذا. رغم أنني لن أتمكَّن من الوصول إلى أعلى من نقيب محاسب. لكن ما تزال هناك صعوبات بسبب ولادتي كابنٍ غير شرعي. لكن لي صديقٌ يعمل في قسم المحاسَبة في وزارة الحربية.» قال تايتنجر مؤازرًا: «سيفيد هذا بكل تأكيد! لديك حياة مثيرة للاهتمام يا تسينوفر! إنك في الواقع —كما يقولون — ابن الشعب. وهذا لم يكن ليخطر ببالي أبدًا!» قال تسينوفر: «ابن الشعب … هذا بعيدٌ عن تصوُّري. إنني لا أعرف سوى أنني ابن طبَّاخة!». تذكر تايتنجر الطباخة العجوز في بيت أسرته. كان اسمها كارولينا. كانت عجوزًا وكانت تبكي دائمًا، ثلاث مرات سنويًّا، كلما عاد تايتنجر إلى البيت، في عيد القيامة، وفي الإجازة الصيفية وفي عيد الميلاد. لكنه قال فجأة، غير مدرِك أنه يتحدث بصوتٍ عال: «عزيزي تسينوفر، كنتُ للتوِّ أعتقد أنني لا أستطيع التحدُّث معك بصراحة تامة. والآن عرفتُ السبب: إنني أشعرُ بالخجل أمامك، وأحسدُك، ولا أُمانعُ أبدًا في تبادل الأدوار معك». هو نفسه صُدِمَ بهذه الجُملة، بصدقه، وقبل كلِّ شيءٍ بالسرعة التي استطاعَ بها سردَ أفكاره. لقد ضبطَ نفسه متلبسًا بالصدق. وللمرة الأولى منذ سنواتٍ طويلة احمرَّ خجلًا، مثلما كان يحمرُّ وهو صبيٌّ عندما يُضبط متلبسًا بكذبة. قال تسينوفر: «سيدي البارون، لستَ بحاجة إلى أن تحسد أحدًا، ولا أن تتبادَل الأدوار مع أحد، ما دمتَ صادقًا مع نفسك دائمًا. واليوم، معي أيضًا!». قال النقيب: «أوه يا تسينوفر». وقد شعرَ بحزن عظيم وفرح شديد في الوقت نفسه. «سألقاك بعد العشاء في زِدلاك، مجلسي المعتاد، هل تعرف؟ ستأتي؟ سأُغادر قاعة الطعام بعد ساعتَين.» ضغطَ على يد تسينوفر الكبيرة، التي تُشعرُك وكأنها عضلة واحدة دافئة وحيوية للغاية. أحسَّ بشيءٍ طيب وقوي ينبع منها، شيءٍ معبِّر مسموع. كان الأمر كما لو أن يد تسينوفر قالت شيئًا طيبًا.

٢٢

تقع حانة زِدلاك خلف بوابة السكة الحديدية، قبالة ما يُعرَف باسم التلال الرملية، تحتاج إلى نصف ساعة للوصول إليها. مكان يلتقي فيه المزارعون وتجار الحبوب ومربو الخيول، وأحيانًا من الفئات العليا الطبيبان البيطريان. لن تُقابل بالتأكيد زيًّا عسكريًّا هناك. كان الثلج قد بدأ يتساقط بلطف عندما غادَر تايتنجر الحانة. قال للملازم أول تشوخ عند الباب: «معذرةً، لديَّ موعد!». سأل تشوخ: «ما اسمها؟». لكن تايتنجر لم يسمع. كان هذا هو أول سقوط للثلج في هذا العام. شعرَ تايتنجر، الذي لم يتأثَّر أبدًا بالظواهر الطبيعة سواءٌ كانت معتادة أو غير متوقَّعة، لأول مرة بفرحة صبيانية برقاقات الثلج الرقيقة الناعمة الوديعة التي تسقط بتراخٍ وإيقاع حالِم على قبعته العسكرية وعلى كتفَيه وعلى الطريق الواسع المؤدِّي إلى التلال الرملية. بدا له شيئًا مهمًّا أن أول تساقط للثلج اليوم. سارَ بخفة خلال هذا الستار الأبيض الكثيف. كانت بوابة السكة الحديدية مقفلة، واضطرَّ إلى الانتظار لفترة طويلة. في أي يوم آخر، كان ليقول إن السكة الحديدية «مُملة». لكنه اليوم انتظرَ باستمتاع. شعرَ بأن الثلج سيتكاثَف عليه أكثر في وقوفه هكذا. قطارُ بضائع بلا نهاية يمرُّ أمامه. ما الذي يمكن أن تحويه هذه العربات الخرساء؟ مواشٍ، أم خشب، أم صناديق بيض، أم أكياس حبوب، أم براميل بيرة؟ قال تايتنجر لنفسه: «ما هذه الأفكار التي تأتيني اليوم!». هناك أشياءُ كثيرة في العالم ليس لدى أمثالنا أيُّ فكرة عنها! أما الناس مثل تسينوفر، الذي كانت أمه طبَّاخة ونشأ في دار للأيتام، فيَعرفون الكثير. ما يزال القطار لم ينتهِ. من الممكن أيضًا أن عربات قطار الشحن تحتوي على أمتعة، كما كانت آنذاك الحقائب العديدة لصاحب الجلالة الفارسي، التي وصلت متأخرة جدًّا. خطرَ ببال تايتنجر الظريفُ كيريليدا بايِدجاني. تُرى ماذا يفعل الآن في طهران؟ ربما كان الثلج يتساقط هناك أيضًا. محظوظ بايِدجاني هذا. لا يحمل في ضميره عبء فضيحة، ولا ميتسي شيناجل، ولا ابن العم الممل تسِرنوتِّي، ولا خطابات مسجَّلة، ولا ناظر زراعة، ولا مدير أملاك! ها قد مرَّ القطار، رُفعت البوابة إلى أعلى، كما لو كانت تُكافح ببطءٍ ومشقة ضد الثلج بوزنه الخفيف. سأحكي له، هكذا قرَّر تايتنجر في اللحظة التي رأى فيها وميضَ نافذتَي الحانة خلال الثلج.

كان تسينوفر جالسًا هناك بالفعل، يقرأ في الكتيبات الملوَّنة، تعرَّف عليها تايتنجر من المدخل. مَدَّ يده إلى جيب معطفه، على نحو لا إرادي، ظنًّا منه أنها كتيباته الملقاة هناك على طاولة تسينوفر. لكن لا! كان تسينوفر يقرأ في كتيباتٍ أخرى. سأل تايتنجر: «آها، هل اهتديت؟ هل هي نفس التي معي؟» أجابه تسينوفر: «لا يا سيدي البارون، ليس الأمر كذلك! في هذا الوقت القصير منذ عودتك صدَر بالفعل كتيبان جديدان. للأسف!» قال تايتنجر: «دعني أرى». قال تسينوفر: «لاحقًا سيدي البارون. فيها ما لا يسرُّ. ما لا يسرُّك!»

شَرِبا نبيذَ فوسلاور معًا؛ ما أسرعَ ما تغيَّر تسينوفر. كان يبدو مختلفًا حتى عصر اليوم. لم تكن الملابس المدنية هي التي غيرته؛ إذ كان ما يزال يرتدي البدلة المدنية البُنية نفسها. هو أصغر من النقيب بسنواتٍ قليلة، لكن شعره الخفيف الأشقر الفاتح يلمع بلمعة رمادية تحت ضوءِ مصباح الغاز الكبير، والنظرة العسكرية البارقة غابت عن عينَيه الرماديتَين، تركها في الثكنة، مع السيف والقبعة والزي الرسمي. العينان اللتان تنظران إلى النقيب تايتنجر الآن حزينتان، ومهمومتان، وفاحصتان. بالكاد يستطيع تحمُّلها. لم يستطع أن يحمل نفسه على تصنيفها ووصفها بأنها «مملَّة». لم يكن يعرف على الإطلاق أين يضَع تسينوفر بالضبط. لم يكن مناسبًا لأيِّ صنف، لا هو من «الظرفاء» ولا هو من «العاديِّين». أيًّا كان ما بداخل هذا التسينوفر، فلن يكون من السَّهل معرفته، مثل محتويات عربات الشحن المغلقة التي مرَّت منذ قليل. ومع ذلك فلا يزال من الجيد الجلوس معه، فإنه يصبغ أيَّ حديثٍ، مهما كان مخيفًا، بصبغة تكاد تكون مريحة.

بدأ البارون قائلًا: «أنت أولُ شخص أستطيع أن أحكيَ له أخيرًا عن «الفضيحة»». قال تسينوفر: «لا داعي يا سيدي البارون. أنا أعرفُها بالفعل. إنها هنا في هذا الكتيب، واضحة لكل من يعرف القراءة. لم يُذكر اسمك، لكنك موصوفٌ بدقة.»

شحبَ وجه تايتنجر. نهض وجلس مرةً أخرى. مَدَّ يده إلى ياقة قميصه.

قال تسينوفر: «حافظ على هدوئك يا سيدي البارون! لقد اشتريتُ كل النسخ الموجودة عند بائعي التبغ في المدينة.» وأخرج حزمة كبيرة من الحقيبة. «علينا أن نُفكِّر. لكني لا أجدُ مخرجًا. لأكون صريحًا: لاتسيك هذا لا يستحي. يكتب مثلًا: «قوَّادة على أعلى مستوى». قد يظنُّ الناس أن بعض الشخصيات المرموقة، وأنت من بينهم سيدي البارون، مستفيدون من هذا بكل بساطة. هذا فظيع».

صمتَ لفترة طويلة. كان تايتنجر يشرب بسرعة ولكن على رشفاتٍ صغيرة. كان يشعر بالحاجة إلى شغل يديه وعدم تركهما عاطلتَين على الأقل. كان يريد أن يقول شيئًا، وكأنه — إن جاز التعبير — يهرب بالكلمات من شيءٍ لا يزال بعيدًا. لكنه رغمًا عنه وضدَّ إرادته نطقَ بالجملة الرهيبة التي كانت تتردَّد في رأسه: «لقد ضعتُ يا عزيزي تسينوفر!».

الآن يمكنه أن يتحمَّل عينَي تسينوفر الحزينتَين دون أي عناء. كانتا عزاءه، الوحيد. «ضعتَ يا سيدي البارون، الأمر ليس كذلك. أنت لا تعرف شيئًا عن الضائعين. أستميحك عذرًا، العالم الذي تعيش فيه ليس هو العالم الذي يمكن للمرء فيه أن يضيع حقًّا. إن العالم الحقيقي كبيرٌ جدًّا، وفيه احتمالاتٌ للضياع مختلفة تمامًا. حتى الآن لم يضِع شيءٌ، حتى في تصوُّرك، لم يضِع شيءٌ. أنت فقط في خطر. مؤكدٌ أن هذا الصحفي خطير، لكنه غبيٌّ للغاية. وعلى هذا، من السهل حتمًا تحجيم أذاه. هذه الكتيبات بالتأكيد لا يجري تداولها في الطبقات العُليا. أما بخصوص القُراء، فلا يهمُّ على الإطلاق. لكن الخطر في أن يذهب المؤلِّف نفسه إلى السادة الكبار، كما جاء إليك. لا أعتقد أن الآخرين أيضًا سيُعطونه المال. لكن لا بدَّ أن لديه مثل هذه الآمال. بوسعه دائمًا أن يستشهد بك كمثال.»

«ماذا أفعل يا عزيزي تسينوفر؟»

بدا النقيبُ مثل صبي أشيب. يعضُّ على شفتَيه. يتأمل أصابعه، كما لو كان يتبيَّن إنْ كانت ما تزال هي أصابعه، أم إنها يدٌ غريبة لشخصٍ ضائع.

قال تسينوفر: «اسمح لي أن أتكلم مع لاتسيك. سأطلب غدًا إجازة لثلاثة أيام».

تمام، كلُّ المسائل محلولة. استعادَ تايتنجر بهجته القديمة. سيُسافر تسينوفر، هذا الذكي الطيب، ويتكلَّم ويسوي كل شيءٍ. وغير ذلك أيضًا. سيُعاد الصغيرُ شيناجل إلى جراتس. وسيُسوِّي كل الأمور في الضيعة. سيُباع بيلادس. غدًا، بعد التدريب مباشرةً، سيذهب إلى مكتب البريد؛ من المحتمَل أن يجد في انتظاره هناك خطابًا من ميتسي من كاجران. من الآن فصاعدًا، لن يخاف من الرسائل والتوقيعات، باختصار: من كل الأحداث المروِّعة التي تجري خارج الثكنات، وقاعة طعام الجُند، وفندق «إمبريال في فيينا»، و«المجتمع». أصبح تايتنجر مقتنعًا «حقًّا» بأنه منذ أمس قد كبر سنواتٍ عديدة، وصار أكثر خبرة وثراءً بالتجارب المريرة، وتغلَّب على العديد من العقبات، والفضل كله يرجع إلى تسينوفر. ويظنُّ أنه ابن الشعب!

قال تايتنجر بصوتٍ عال: «الشعب شيءٌ جيد!».

قال تسينوفر: «أنت لا تعرفه. الشعب! الشعب عبارة عن ناس، والناس منهم الجيِّد والرديء». ووقفَ بحزم لدرجة أن تايتنجر لم يُسعِفه الوقت ليطلبَ منه الجلوسَ لنصف ساعة أخرى. وفي تلك اللحظة، بينما يقف تسينوفر هكذا، بمعطف مدني ذي ياقة مخملية سوداء، وقبَّعة عالية، والقفازان في يده اليُسرى، والعصا معلَّقة على ذراعه، للمرة الثالثة لم يكن تايتنجر يرى فيه تسينوفر القديم. تغيَّر مرةً أخرى، صارَ غير مألوف، صارمًا، وعزيزًا، ولو أنه أيضًا عادَ «مُملًّا» بعض الشيء. لكن يده قوية ودافئة ومعبِّرة كما في أول المساء، وبعد مغادرته أحسَّ تايتنجر أنه يفتقده. كما استاء أنه تُرِكَ بمُفرده. شربَ زجاجة أخرى. رأى آخِر الزبائن يُغادرون، وازدهر الأملُ والسَّلوى في قلبه من جديد. سيكون كلُّ شيءٍ على ما يرام، هكذا فكَّر. كان الثلجُ ما يزال يتساقط، يزداد كثافة، في أيِّ وقتٍ نحن الآن؟ إنه نوفمبر. ذكَّره الثلجُ بعيدِ الميلاد؛ ومن ثمَّ قال تايتنجر في نفسه: «حتى عيد الميلاد سيُصبح كلُّ شيءٍ على ما يرام».

في تلك الليلة نام نومًا جيدًا، خاليًا من الهموم ومن الأحلام.

في الصباح، كان الثلج قد ارتفع مشكِّلًا طبقة كثيفة وصلبة ومتجمِّدة. كانت حوافرُ بيلادس، الذي امتطاه اليوم بدافعٍ من العاطفة وألم الوداع، تنزلق بخطورة على الأرضية المبلَّطة بالحجارة بعد كسحِ الثلج عنها. كان صوتُ الأبواق يخرج خافتًا ومحجوبًا وبليدًا. قال النقيب، وهو يترجَّل على ساحة العرض: «بيلادس، بيلادس، إنها المرة الأخيرة!». ربتَ على رقبة الحصان الرمادي وأخذَ قطعة سكر من كيس الذخيرة ودسَّها بين أسنان الحصان، ولفترةٍ طويلة أبقى كفَّ يدِه المقوَّسة أمام الخطم الدافئ الناعم واللسان الكبير الممتن الساخن والبارد معًا. شعرَ بأنه لن تكون لديه طاقة ليعود إلى الثكنات في نهاية اليوم ممتطيًا بيلادس، فأمرَ الرقيبَ بإعادته. سلمَ قيادة السرب إلى الملازم أول تشوخ. غادرَ في استراحة الساعة العاشرة، أبلغَ الرائدَ فيستيتش وحثَّ خطاه إلى المدينة، بسرعة مطردة، بأكبر قدر ممكن من الضجيج، ليُخدِّرَ حزنه وكذلك خوفه الطفيف من الخطابات التي قد تكون بانتظاره في مكتب البريد.

لم يكن هناك سوى خطاب واحد، عمره ثلاثة أسابيع ويحمِل ختم كاجران المثير للاشمئزاز. وهذا نصه:

«سيدي البارون المحترَم! لقد كان شرفًا عظيمًا لي وفرحة كبيرة في قلبي أن السيد البارون فكَّر فيَّ. أنا بخير، والراهبات يتعاملن معي بكل طيبة ولطف، وأنا الآن أعمل في مشغل الخياطة حيث يُسمَح لي أيضًا بالغناء. سيفرجون عني قريبًا. ونحن لا نزال في أكتوبر. تفضلوا بقبول وافر الاحترام والحب، من ميتسي شيناجل.»

قرأ تايتنجر الخطاب مرتَين، في ردهة مكتب البريد؛ لأنه كان مكتوبًا على ورق رمادي كثير المسام يُستخدَم في صنع الأكياس، وكانت السطور تتخلَّلها وتشوهها بقعٌ كبيرة. تأثَّر تايتنجر بالخطاب، بل أكثر من ذلك دأبه في الحضور لتسلُّمه وقراءته مرتَين، لكن السببَ الأهم كان وداع بيلادس. في حانة تارتاكوفر التي تفتح وقت الإفطار، قوى نفسه بلقمة من سمك الرنجة وبراندي الخوخ. أرادَ أن يرى تسينوفر في المكتب قبل أن يُغادر إلى فيينا. قرَّر ألا يتغدَّى في قاعة طعام الجند، بل في الخارج في زِدلاك. كان الهواءُ نقيًّا كالزجاج، ويُغلِّف مشاعرَ الكآبة اللطيفة لدى النقيب تايتنجر ببرودة لذيذة. كانت الشمسُ تدفئ ظهره، يمكنه أن يحس بها من خلال سترته الثقيلة. كلُّ شيء في العالم يبدو جيدًا ومرتبًا. لم تعُد هناك مفاجآت. كأن ما جرى بالأمس لم يكن مجرَّد مناقشة فقط مع تسينوفر حول أزماته، بل كأنما سويت أيضًا. كان شعوره تقريبًا كشعوره بعد أداء الامتحان.

٢٣

للأسف نزلَ سوءُ الحظ على تايتنجر المسكين بسرعة مباغتة جدًّا لدرجة أنه لم يُتِح له شيئًا من الوقت للتحوُّل من حالة الصفاء التي شعر معها بأُلفة تامة إلى اليأس. لم يكن لديه وقتٌ حتى ليشعر بالصدمة. استمعَ صامتًا دون استيعاب، وكأنه مسحورٌ نوعًا ما، إلى إبلاغ تسينوفر في المكتب. كان ضابط الصفِّ تسينوفر القديم، قد عادَ مرةً أخرى بالزي الرسمي. وقفَ وقفة انتباه عندما دخل النقيب، وقد استعادَ نظرة الانضباط الرسمية البارقة، وبنَبرته الرسمية المعتادة قال: «سيادة النقيب، بعد الإذن، أُبلغكم بأن سيادة العقيد قد سمحَ لي بثلاثة إيام إجازة؛ بعد إذنكم، أبلغكم أن سيادة العقيد قد أمر بحضور سيادة النقيب إلى مكتبه فورًا؛ سيادة العقيد ينتظر!» أمره تايتنجر: «استرح! يمكنك الجلوس يا تسينوفر!»، وجلس هو نفسه على حافة المكتب. ثم قال له مستفسرًا: «وماذا يريد العجوز، إذن؟». لثانية واحدة لمعت في عين تسينوفر نظرةٌ تُشبه من بعيد النظرة المدنيَّة التي كانت في عينَيه بالأمس: «سيدي البارون، سيادة العقيد ثائرٌ جدًّا. لقد تلقَّى اليوم خطابًا مسجلًا من وزارة الحربية. رأيتُه على مكتب الرقيب. سيدي البارون …» لم يكمل ضابط الصفِّ تسينوفر حديثه. قال تايتنجر: «ها، تكلم!». ولكن مرةً أخرى، هبَّ تسينوفر واقفًا وقفة انتباه: «سيادة النقيب، بعد إذنك، أُبلغكم أن سيادة العقيد قد أمر بحضور سيادة النقيب إلى مكتبه فورًا.»

غمغم تايتنجر: «أوه، فهمت!». رغم أنه ما يزال لم يفهم شيئًا. خرج، وعبَر الفِناء. في بعض الأحيان يكون العجوز عند نافذته يتلصَّص من خلف الستارة. على الواحد أن يعبُر الفناء بخطواتٍ حثيثة، وردُّ تحية أي جندي موجود في الفناء طبقًا للوائح. لعله سمع — هكذا قال تايتنجر لنفسه — أنني أريد أن أستغني عن بيلادس. فلطالما كان معجبًا بالحصان.

دخل المكتب. بالكاد تعرَّف على العقيد كوفاتش. كان رجلًا قصيرًا ممتلئ الجسم، بجمجمة مستديرة وأنف محمرٍّ وشارب رمادي قصير وعينَين سوداوَين صغيرتَين تبدوان وكأنهما ليستا سوى بُؤبُؤَين فقط. ذراعاه القصيرتان، اللتان دائمًا ما تبدوان مع ذلك أطول من الأكمام، تنتهيان بيدين بضَّتَين حمراوَين تُذكِّران بنوع من المطارق مغطاة بالجلد. أما الآن، فقد بدا العقيد كوفاتش نحيفًا على نحو واضح. كان أنفه أزرق شاحبًا، ويداه بيضاوان تقريبًا. وعلى جبهتِه الضيقة التي يبرز فيها مثلَّث منبت الشعر الرمادي الخشن، يبرز وريدٌ أزرق غليظ ومنتفخ، في إشارة واضحة على غضب مكبوت غير عادي. خطا العقيد أمام مكتبه واضعًا يده في خاصرته وبانتباهٍ شديد راحَ يتأمل النقيبَ الذي كان ساكنًا كأنه تمثالٌ ملوَّن! لم يقُل العجوزُ أهلًا ولا سهلًا. بدأ تايتنجر يشعر تدريجيًّا بشيءٍ من عدم الارتياح. لم يستطع التفكير. كانت عينا العقيدِ المتقدتان كجمرتَين صغيرتَين تمسحان تايتنجر من منبت رأسه إلى أخمص قدمَيه، من أعلاه إلى أسفله. ومرَّت على هذا دقيقة، دقيقتان، بل ثلاث دقائق. كان الصمتُ مطبِقًا لدرجة أنه يسمع تكتكة عقارب الساعة التي في جيبه وساعة العقيد أيضًا.

قال العقيدُ أخيرًا، وكان صوتُه خافتًا على نحو مدهش: «سيادة النقيب، هل تعرف أحدًا يُدعَى الكونت «ﻓ»، رئيس قسم بوزارة المالية؟». شعر تايتنجر ببرودة في ركبتَيه، لم تعُد ركبتاه فوق رقبتَي الحذاء، بل جليد. من الصعب أن تحافظ على استقامتك ومكان ركبتَيك كُتلتان من الجليد. «نعم، سيادة العقيد!» — «وتعرف شخصًا، شخصًا … شخصًا، صحفيًّا باسم برنهارد لاتسيك؟» — «نعم، سيادة العقيد!» «هل عرفتَ الآن لماذا تقف هنا؟» — «نعم، سيادة العقيد!» أمره العقيد قائلًا: «استرِحْ!». فبسطَ النقيبُ قدمَه اليمنى إلى الأمام قليلًا. قال كوفاتش، وهو يُشير إلى الكرسي الخشبي العاري: «يمكنك الجلوس!». قال تايتنجر: «شكرًا لسيادتكم!» ووقفَ مترددًا. صاح كوفاتش: «اجلس! قُلتُ لك!». جلس النقيبُ. وراحَ العقيدُ يذرع الحجرة ذهابًا وإيابًا، طولًا وعرضًا، على السجادة الكبيرة. راحَ من وقتٍ لآخر يضمُّ ذراعَيه على صدرِه ثم يبسطُهما مرةً أخرى، يُكوِّر قبضتَيه ثم يضعُهما في جيبَي بنطاله، يُصلصِل بالمفاتيح ثم يسحبها من جيبه، يدور بحلقتها حول إبهامه، ثم يضعها في جيبه من جديد. بدا أنه يُصبح مع الوقت أكثر نحافة وشحوبًا وغير واقعي. تراجعت شمسُ نوفمبر لينسدلَ أولُ الغسق في داخل المكتب، لم يكن يُخفِّف منه إلا لمعة الضوء المنعكس من الثلج الجديد في الفِناء متسلِّلًا عبر النوافذ.

صرخَ العقيد: «ألن تتكلَّم؟». كانت صرخة وزمجرة في الوقت نفسه. «وضِّح لي يا سيادة النقيب!»

قال تايتنجر: «سيادة العقيد، إنها المسألة الحَرِجة التي بسببها أعادوني إلى الكتيبة».

صرخَ العقيد: «حرجة! حرجة! إنها فظيعة، شنيعة، إنها …» ثم وجدَ الكلمة أخيرًا: «فضيحة! نعم! ليست حرجة، بل فضيحة! هذا ما فعلته بي! بكتيبتِنا رقم ٩، لا يا سيادة الرائد، بل بكتيبتي أنا، لا كتيبتك أنت — أوه لا! لن أسمح، مثل هؤلاء السادة لن أحتمل بقاءهم معي. أنا ضابطُ خطوط أمامية بسيط، تفهمني، ضابط خطوط أمامية بسيط. لم أُنتدَب من قبل. ليس لي أيُّ علاقاتٍ في فيينا. لا أعرفُ أصحاب سمو! نعم، لستُ إلا العقيد يوزِف ماريا كوفاتش، مجرد عقيد بسيط، تفهمني يا سيادة النقيب. ستدفع ثمن هذا! هنا، خطابات مثل هذه!» اتجه العقيدُ خلف مكتبه ولوَّح بخطاب وزارة الحربية في قبضة يده المرفوعة عاليًا. «أتعرف ما به؟» قال تايتنجر: «لا، يا سيادة العقيد». عندئذٍ كانت حباتُ العرق نابتة على جبهته. وقدماه ساخنتان حَدَّ الاحتراق في داخل الحذاء، أما فوق رقبتَي الحذاء فكانت ركبتاه في جليد. قلبُه يخفق بشدة لدرجة اعتقدَ معها أن أحدًا قد يرى دقاتَ قلبه من خلال قميصه السميك. «اسمع إذن يا سيادة النقيب! لما عُدتَ إلى الكتيبة من انتدابك الخاص، عرفتُ بالطبع أنك ارتكبتَ خطأً. ثم أخفيتَ القصة. لكن الآن! لا يمكنك الفكاك، من تلك الفضائح … أنت، أنت … تتَّفق مع شخص، شخص … ها، وتُعطيه ألفَي جولدن، وتُشاركه في قذارته، في ابتذالاته، وحقارته … ها، والرجل يذهب إلى رئيس القسم الكونت «ﻓ»، ويطلب منه المال أيضًا، ويخبره بما دفعتَه أنت، والرجل للأسف مشلولٌ منذ شهرَين، مشلولٌ … ها، وزوجته الكونتيسة مذكورة في هذه الكتيِّبات القذرة، والرجل لا يستطيع أن يُبارزك، وهو ما لم يكن ليفعله حتى لو كان بصحة جيدة، فيكتب إلى صديقه السيد وزير الحربية، صاحب السعادة الوزير شخصيًّا … شخصيًّا … ها، وأنا، أنا! في تاريخ جيشنا كله … لا أجد ما أقوله! أنا رَهنُ تصرُّفك يا سيادة النقيب!».

هَبَّ تايتنجر واقفًا وصاحَ: «سيادة العقيد!». أمره كوفاتش: «انتباه!» ثم أردفَ: «استرِحْ! جلوس!» فجلس تايتنجر مرةً أخرى.

راحَ العقيدُ يصرخ لدرجة أن صوتَه كان يُسمع في كلِّ ممرات الجناح الأيسر للمبنى. ظلَّ المساعد، الملازم أول فون دِنجل، واقفًا بالباب لفترة، وفي يده ملفَّان والأوامر اليومية مستعدًّا ليقول — في أي لحظة يُفتَح فيها الباب — إنه كان يهم بطَرقه. كان الرقيبُ شتاينر والكاتبان مساعداه في السكرتارية يسمعون كل كلمة عبر الباب الواصل بين الحجرتَين، رغم أن ثلاثتهم كانوا يتظاهَرون بأنهم منهمِكون في دفاتر التسجيل وبلاغات الهروب وتقارير الشرطة العسكرية وصحائف السير والسلوك. حتى في الفِناء، وفي المقصف، خمدت ضجة لاعبي الورق من ضباط الصف. كان هواء نوفمبر البارد الصافي كالزجاج ينقل بوضوح كل نبرة من صوت العقيد الهادر. كان صوت رب الثكنات المدوي ظاهرة طبيعية من الدرجة الأولى. أدرك الجميع على الفور أن الأمر متعلِّق بتايتنجر؛ ليس فقط لأن بعضهم رآه ذاهبًا إلى العقيد؛ لا! كانوا قد قرءوا كتيبات لاتسيك؛ إذ لم يشترِ تسينوفر كل النسخ من كل بائعي التبغ! فزعٌ هائل وغَمٌّ كبير سيطرَ على الجميع، رغم أنهم كانوا دائمًا لا يُبالون بالبارون تايتنجر. لم يكن يتلاءم مع الكتيبة ولا يتلاءم مع الثكنات. كلُّ الريفيِّين في الكتيبة، من بوكوفينا ومن سلوفاكيا ومن باتشكا، الذين لم يروا من قبل صالونًا من صالونات فيينا، كانوا كلما نظروا إلى تايتنجر تولَّدت لديهم قناعةٌ بأن المكان الأنسب له هو أحد هذه الصالونات. ومع ذلك، يمكنهم الآن أن يتخيَّلوا معاناته، بفضل ذلك التضامن بين الجنود الذي يجعل من الكتائب والأفواج العسكرية عائلات، ومن القادة والرؤساء آباءً أو إخوة كبارًا، ومن المرءوسين أبناءً، ومن المجنَّدين أحفادًا، ومن الرقباء أعمامًا وأخوالًا، ومن العريفين أبناء عَمٍّ. سادَ الصمتُ في المقصف، وأوراق اللعب راقدة على الطاولات بلا حراك تلمع كمرآة.

صمتَ العقيد فجأةً في أثناء ذلك، وكان صمتُه مخيفًا أكثر من صراخه. كان قد استنفدَ صوته وحصيلته اللُّغوية. أحسَّ، هو أيضًا، أن ركبتَيه تتجمَّدان من البرد وترتعشان، فاضطرَّ إلى الجلوس. دفنَ رأسه بين يديه وقال موجِّهًا حديثه إلى الأوراق أمامه على المكتب أكثر مما يوجِّهه إلى تايتنجر: «الاستقالة يا سيادة النقيب! الاستقالة، ها! لا أُريدُ محاكمة تأديبية! اسمع! سأُخبرهم بأنك تقدَّمت باستقالتك! لقد تحدَّثتُ بالفعل مع طبيب الكتيبة، الدكتور كالير، وهو يعرف تمامًا مدى سوء حالتك الصحية. أعصابُك منهارة، لقد فقدتَ صوابك. الاستقالة! لا أريد لك النَّقل إلى أي مكان آخر بصحيفةِ سُلوك مثل هذه، أتفهمني يا سيادة النقيب؟»

نهض النقيب تايتنجر واقفًا: «نعم يا سيادة العقيد! غدًا سأتقدَّم باستقالتي!»

أحس العقيد بألم في قلبه. همَّ بالوقوف، لكنه شعر بضعف شديد. فمَدَّ يده عبر المكتب إلى تايتنجر وقال: «وداعًا تايتنجر!».

٢٤

جلس كلٌّ من تايتنجر وضابط الصف تسينوفر طوال الليل عند زِدلاك. كان تسينوفر أيضًا متعجبًا من سرعة القدر. إنه هو أيضًا، ابن الطبَّاخة، ابن من أبناء الجيش. لم يكن هو أيضًا ليستخفَّ بألم تايتنجر رغم معرفته بالمعاناة الحقيقية في العالَم خارج الثكنات؛ فكان مغمومًا هو أيضًا، شأنه اليوم شأن الجميع، بدءًا من العقيد إلى المجنَّدين المستجدِّين. بالتأكيد هناك الكثير من المِحَن على الأرض. ولكن هنا مِحنة واضحة وملموسة في الثكنات، حيث ينامون ويأكلون ويعيشون. حتى الأمس كان يستطيع أن يقول للنقيب شيئًا، يُعطيه مشورة، يُساعده. أما اليوم، فهو أخرس. تايتنجر أيضًا أخرس. فقط يقول من حين إلى آخر: «فَكِّر فقط يا تسينوفر!» لكنه لا يعرف بالضبط ما الذي ينبغي أن يُفكِّر فيه تسينوفر. تكتكة ساعة الحائط متواصلة، عقاربها السوداء تدور بلا كلل، تنزلق بسلاسة متجاوزة الأرقام فلا تكاد تتوقف عندها، كما لو أنها مجرَّد علامات للدقائق، وكثيرًا ما ينظر كلا الرجلَين إلى الساعة في اللحظة نفسها، عندئذٍ وبالدرجة نفسها من الوضوح يشعر كلاهما بمدى العجز البشري أمام قوانين الزمن غير القابلة للتغيير، وكذلك أمام كل القوانين الأخرى، المعروفة وغير المعروفة. كانت الساعات التي تمرُّ أجزاء من الحياة. ساعة أو ساعتان أو ثلاث أو حتى عشر ساعاتٍ من عمره، أضاعها تايتنجر أو أهدرها؛ ولم يعُد هناك ما يمكن إصلاحه.

غادَر آخِر الزبائن. كان الكيروسين في المصباح الزجاجي الكبير يتضاءل على نحوٍ واضح. طلبا الشموع والنبيذ وظلَّا جالسَين. لما انطفأ المصباح تمامًا كان في وسعهم رؤية البريق الفضي للثلج على النوافذ. الريحُ الباردة تُصفِّر برقَّة وبهاء خلال الليل، وزجاج النَّوافذ يهتزُّ مطقطقًا برفق. ورغم أنهما لم يقولا شيئًا محدَّدًا بهذا الشأن، كان كلاهما يعلم أنه يتعيَّن عليهما انتظار أول خيوط الفجر. ففي منتصف الليل لا يمكن أن يتخلَّى أحدهما عن الآخر. بقيا ينتظران.

كسرَ تسينوفر حاجز الصمت أخيرًا، فقال: «سآتي معك يا سيدي البارون! أنت ذاهب في إجازة غدًا. سأُسافر معك إلى فيينا. على كل حال، كان يُفترَض أن أزور صديقي مراجع الحسابات منذ مدة طويلة. أعتقد أنه لا يزال بإمكاني التقدُّم للامتحان في يناير». قال تايتنجر: «نعم، بالطبع!».

كان زِدلاك صاحب الحانة نائمًا خلف البار. وكان وهو نائمٌ يتكلَّم من حين لآخر بشيءٍ غير مفهوم. قال تسينوفر: «نومًا هنيئًا!» لكن تايتنجر الذي لم يكن منصتًا على الإطلاق أجابه: «نعم، لديه نبيذ فوسلاور جيد جدًّا!». قال تسينوفر: «عن نفسي، أُفضِّل أن أشربَ بيرة جيدة!». ثم سادَ الصمتُ مرة أخرى. عبثًا ظلت جهودهما المتفرِّقة للهروب منه إلى أي حديث عادي. كانا لا يُفكِّران فيما يقولان، بل يتحدَّثان فقط حتى لا يسمعا صوتَ الساعة، مناشدات عقيمة، وعبارات غير مترابطة، وأكاذيب صغيرة حمقاء. لم يكن قد بقي من الشمعتَين غير الثُّلث الأخير، عندما بدأ الثلج في الخارج أمام النوافذ يتحوَّل إلى لون مائل إلى الزُّرقة، وصفير الصقيع صار أكثر حِدة، والسماء أكثر شحوبًا. نهض تسينوفر متوجِّهًا إلى البار، أيقظَ زِدلاك، ودفعَ الحساب.

سارا ببطءٍ نحو المدينة، إلى الثكنات. «غدًا سأرتدي الملابس المدنية، إلى الأبد!» قال تايتنجر وهما يدخلان إلى الثكنات والحارس يُقدِّم التحية. وتابعَ: «للمرة الأخيرة يُقدِّم التحية!». فكَّر تسينوفر: «ما الأمر الجلل في هذا! ما الأمر الجلل في ألا يتلقَّى المرء تحية». لكنه شعر على الفور بأن تفكيره هذا غير منصِف. إنها حياة، تلك التي تنتهي هنا. فكما يُغادر المحتضر جسده، يخلع العسكريُّ زيه الرسمي. مدنية، مدنية؛ إنها بمثابة حياة آخِرة غير معروفة، وربما رهيبة. في الساعة التاسعة كان تقرير الضباط. على الفور، حصل تايتنجر على «إجازة طويلة لأسباب صحية». نصت مذكرة التشخيص من طبيب الكتيبة الدكتور كالير على أنه يُعاني انهيارًا عصبيًّا حادًّا. وهو ما أعفى تايتنجر أيضًا من واجب توديع الكتيبة. في الساعة الثالثة إلا الثُّلث استقلَّ القطار بملابس مدنية مع تسينوفر. وصلا في الساعة السادسة. كتب تسينوفر صيغة طلب الاستقالة. نسخه تايتنجر بخط يدِه الرسمي المائل في مكتبة فندق «الأمير يوجين»، تاركًا مسافة أربعة أصابع من أعلى الورقة، وثلاثة من الهامش. وقَّع ببطءٍ شديد: «آلويس فرانتس بارون فون تايتنجر، نقيب بسلاح الفرسان». لم يكن يُماثل توقيعه المعتاد على الإطلاق، كانت حروفه مرسومة ببطءٍ شديد وحذر. شعرَ كأنه لم يكن اسمه على الإطلاق. كأنه قد وقَّع باسم غريب تمامًا.

كان تسينوفر ينتظر في البهو. أخذَ الطلبَ، وتظاهرَ بالقراءة فيه لوقتٍ طويل ليبدو وكأنه لا بدَّ أن يدقِّق فيه بعناية فائقة، فقط ليُؤجِّل اللحظة التي يتعين عليه فيها النظر في وجه النقيب. وأخيرًا طواه.

قال تايتنجر: «الآن لم أعُد رئيسَك يا تسينوفر!».

أخرج الساعة من جيب صداره، ساعة ذهبية من محلِّ الصائغ والمستشار التجاري جويندل، نُقِشت على ظهرها الأحرفُ الأولى من اسم تايتنجر واسم عمه. كانت هدية من عمه بمُناسبة التخرج في أكاديمية هرانيتس مورافيا العسكرية. قال تايتنجر: «خُذِ الساعة!». لأول مرة يهدي شيئًا، باستثناء المال والزهور لم يسبق له أن قدم أي شيءٍ على سبيل الهدية. حدقَ فيه تسينوفر طويلًا، ثم أخرج ساعته الفضية الكبيرة وقال: «خُذ هذه يا سيدي البارون!» ثم لما رأى أن تايتنجر ينتظر، والساعة الفضية ما تزال في راحة يده، أضافَ: «إذا كنتَ بحاجة إلى صديق …».

قال تايتنجر: «أنا ذاهبٌ اليوم إلى الضيعة.» وضع الساعة في جيب صداره. أبدى نشاطًا غير عادي. «أليس كذلك؟ ستُنهي أنت الطلب، أليس كذلك؟! بِع الحصانَين. لا رغبة لي فيهما. اكتب إليَّ في أقرب وقت. شكرًا جزيلًا يا عزيزي تسينوفر! لديكَ عنواني، ها!»

قال تسينوفر: «رحلة سعيدة!» ونهض.

نادى البارون: «أمتعتي!» واستقلَّ عربة إلى المحطة الشرقية.

٢٥

لم يكن من السهل الوصول إلى ضيعة تايتنجر. إنها تقع في منطقة سيتريمنتار؛ حيث تُطوِّقها جبال الكاربات المغطاة بطبقة كثيفة من الجليد. كان عليه تغيير القطار مرتَين. ومن محطة سيتريمنتار، لا تزال هناك ستة كيلومتراتٍ ونصف صعودًا حتى مشارف الضيعة، ثم مسافة كيلو ونصف أخرى نزولًا. اسمها زامكي، لكن تايتنجر كان يُطلق عليها دائمًا «مصيدة الفئران»، مذ كان صبيًّا، حيث كان عمُّه يدعوه في العطلات. العمدة فِينك ألمانيٌّ؛ فهو أحد المستعمرين الساكسونيِّين المتناثِرين الذين يعيشون في المنطقة. ناظر الدائرة من مورافيا، والفلاحون من الكاربات الروس، أما الخادم — الأصم منذ مدة — فهو مَجريٌّ، لكنه قد نسيَ تمامًا من أي منطقة أتى، ومتى ولأيِّ غرض. آخِر شيء يتذكَّره هو الانتفاضة في بودابست وموت سيده البارون العجوز. خفير الأحراج روثاني من غاليسيا، رقيبُ الدَّرَك من براتيسلافا الشخص الوحيد في المنطقة بأسرِها الذي يستطيع تايتنجر أن يجريَ معه محادثة من حين إلى آخر في الخمارة.

كان ذلك في أوائل ديسمبر. يكسو الصقيعُ المكانَ على القِمَم كما في الضيعة أيضًا بالأسفل. كانت الغربان السوداء واقفة بلا حراك على أشجار التنوب المغطاة بالجليد، ولولا أنها كانت تُرفرف فجأة وتبدأ في الطيران والنعيق بشدة، فلربما اعتقدتَ أنها فاكهة مسحورة. لم يتسنَّ لهم إصلاح المنزل إلا إصلاحًا سريعًا (كان مجيء تايتنجر سريعًا جدًّا، والأكثر من هذا، لم يكن هناك سوى القليل من المال). علاوة على ذلك، فلم يدفع الناظر للعُمال سوى نصف ما اتَّفقوا عليه، وكانوا يعرفونه جيدًا بما يكفي ليُدركوا أنهم لن يروا الباقي «بعد عيد الميلاد» كما وعدهم. بالمناسبة هناك عيدان للميلاد، أحدهما للرُّوم الكاثوليك، والثاني للروس الأرثوذكس! السقف مدعم ببلاطاتٍ جديدة هنا وهناك، لكنه احتفظَ مع ذلك بالفتحات القديمة. لما بدءوا تشغيل المدفأة مرةً أخرى بعد كلِّ هذه السنوات، تعوَّجت أعضادُ الأبواب القديمة وإطارات النوافذ، لم يعد أي ترباس أو قفل يستقر في مكانه، والخزانات الكبيرة الثقيلة تُحدِث صريرًا وقرقعة وقد تقوَّست فيها الدرفُ والأرفف. في غرفة المكتب، كانت الصور القديمة الكالحة لأسلاف عائلة تسيرنوتي معلَّقة على نحو مائل على خطافات شبه مفكَّكة. وفي غرفة الطعام الفسيحة ينتشر العَفن. ألواحٌ كبيرة من الكرتون البُني والأزرق والأبيض تملأ الإطارات الفارغة لنوافذ الشرفة. يأوي المطبخُ زوجَين من الضفادع العجوزة، يُطعمهما الخادم يوسِي بالذباب الشتوي القليل الذي يتسلَّل خارجًا عند إشعال الموقد، فيكتشفه يوسي في التو. كانت مفاجأة محرجة عندما وصل البارون. لكنهم كانوا قد اعتقدوا أنه سيبقى أسبوعًا على الأكثر، يرسل الابنَ غير الشرعي إلى مكانٍ ما، ويُلقي نظرة على المكان ويُسافر عائدًا. لكنهم لما عرفوا من رقيب الدرك أن تايتنجر ينوي البقاء، بل وأنه استقال من الخدمة، بدءوا يكرهون البارون، ذلك الكره الذي يولَد من رحِم الخوف. لم يكونوا يعرفونه جيدًا. كان مستهترًا حتى الآن، هذا مؤكد؛ أهدر الحبوبَ والغلال والغابة الصغيرة والمال. لكن الآن وقد أدرك بوضوح مدى فقرِه، أفلن يكون أكثر حَذرًا؟ أليس هذا هو سبب تركه الجيش؟ إذا ما أراد هذا، فسيكون أمامه الكثير من المحاسبة. ماذا حدثَ لقبو النبيذ؟ من المسئول عن الجراد وفساد المحاصيل، ثم إفلاس تاجر الأخشاب الذي اشترى غابة التنوب؟

أول ليلة له في النُّزُل، غرفة النوم ليست جاهزة بعد، وعلى تايتنجر أن يبيت في النُّزُل. لا يزال بضعة فلاحين يجلسون هناك على طاولة كبيرة بُنية اللون بجوار موقد كبير من الطين. يتلكَّأ يانكو، صاحب النُّزُل، حول تايتنجر رغم أنه يعرف أن تايتنجر لن يقول شيئًا كما أنه ليس لديه فضول لسماع أي شيء. الفلاحون معتادون على التحدُّث بصوتٍ عالٍ، وإلا التزموا الصمتَ. لا يعرفون كيف يتحدثون بهدوءٍ. الآن لا يمكنهم أن يتحدثوا بصوتٍ عالٍ بسبب البارون. لا يمكنهم إلا أن ينفضوا غلايينهم من حينٍ إلى آخر، لا ينفضونها على حافة الطاولة كالمعتاد، ولكن على رقبة الحذاء تحت الطاولة. وعندما يدخل رقيبُ الشرطة، ويقف مشدودًا أمام البارون، فيدعوه البارون للجلوس، ويُصافحه، بل ويشرب معه، يسقط الفلاحون في صمتٍ تام يعمُّ خارجهم وداخلهم. يخفضون رءوسهم ويختلسون النظر من حين لآخر إلى طاولة السيد. يتحدَّث البارون والرقيب الألمانية، فلا يفهمون إلا كلمة من عشرة، وحتى لو كانا يتحدَّثان السلوفاكية أو الروثانية، لخافوا أن يسمعوا. يعتقد تايتنجر أن الفلاحين صامتون هكذا بطبيعتهم. منذ أن آلت إليه مِلكية الضيعة، بل وقبل ذلك أيضًا، ربما جاء إلى هنا إجمالًا عشر مرات، ودائمًا ما يكون الفلاحون صامتين هكذا. لكن الرقيب يعرف مدى صخبهم، فيقول للبارون: «إنهم صامتون هكذا خوفًا من السيد البارون!». يتساءل البارون في نفسه: «خوف … مني أنا!» ثم يقول: «لن أفعل لهم شيئًا!». قال الرقيب: «نعم، هذا هو السبب بالضبط يا سيدي البارون! هذا شيء حساس للغاية!». يذهب رقيب الشرطة إلى الفلاحين ويُخبرهم بالسلوفاكية أن السيد البارون يريد منهم ألا يظلوا صامتين بسببه. هذا بمثابة أمر. راحوا يتحدَّثون، مثنى، وثلاث، قائلين أشياء ما كانوا ليقولوها على الإطلاق. ثم يسقطون في الصمت مرة أخرى. يحضر صاحب النُّزُل الجلاش والبيرة. فيأكل تايتنجر وشرطيُّ الدرك.

فجأة ينفتح الباب، ويدخل شاب ويمشي مباشرةً نحو تايتنجر. يتوقف البارون عن الأكل، ولا يزال ممسكًا بالشوكة والسكين، وينظر إلى الشاب الذي لا يظن أنه يعرفه. يقول رقيب الدرك: «أهلًا زاندل!». كلُّ الفلاحين يعرفون أنه الابن غير الشرعي للبارون، يرفعون أنظارهم نحوه. ويستدير أولئك الذين يجلسون وظهورهم إلى البارون. لم يأمنوا للبارون بعد، لكن الفضول أكبر من الخوف؛ والشماتة تعويضٌ كبير. ينقصهم الآن أن يأتي أحدُ الدائنين وهم كُثُر. يعرف الفلاحون أن مالك الضيعة مَدين. يسأل تايتنجر الرقيبَ: «ابنك؟». يقول الشاب: «لا، بل ابنك أنت يا سيادة البارون!». يقول تايتنجر: «أوه، أنت شيناجل!». يقول الفتى: «نعم!». يتأمله تايتنجر بنظرة فاحصة. إنه يرتدي بدلة خضراء من القطيفة بأكمام قصيرة، ويداه الكبيرتان حمراوان متشقِّقتان وأظافره مقزِّزة. الرأس محتمل، يجتهد تايتنجر للعثور على أي شبه بينه وبين الشاب. لا شيء، بأيِّ حال من الأحوال. الفتى له عينان من البورسلين الأزرق تُحيط بهما حوافُّ حمراء، يلوي فمه باستمرار، وأذناه متوهِّجتان بالحُمرة، ورأسه حليقٌ تمامًا حتى إنه لا يستطيع أن يُميِّز لون شعره، وطاقيته الزرقاء الملطخة بالحبر ومقدمتُها المكسوة بالمشمع متهالكة حيث لا يتوقف عن عجنها بقبضتَيه القبيحتَين. لا يستطيع أن يبقى ساكنًا للحظة. ينتقِل من قدمٍ إلى أخرى، ويترنَّح أثناء وقوفه. لم يرَ تايتنجر في حياته مخلوقًا مثله. إنه يُفكِّر بالفعل في المغادرة صباحَ الغد.

يقول تايتنجر: «نعم، يا سيد شيناجل! ماذا تُريد؟». إنه صوتُه المألوف، صوت البارون والنقيب بسلاح الفرسان القديم، صوتٌ بطيءٌ جدًّا وغير مبالٍ، لكنه حادٌّ كالبوق. يترنَّح الفتى متراجعًا خطوة إلى الخلف. ويتحدَّث بصوت عالٍ جدًّا فيقول: «أودُّ أن أعرف كيف حال أمي؟» حتى إن تايتنجر يشعر أن صوته يكاد يكون أحمر هو الآخر مثل يديه وأذنَيه. الفتى لا يُطاق، هكذا يُفكِّر تايتنجر، ويدفع الجلاش بعيدًا ويشرب البيرة. يسأل البارون مرة أخرى: «ماذا تُريد؟». يُكرِّر زاندل: «أن أعرف حال أمي!». يُفكِّر البارون، لكن ليس في حال ميتسي شيناجل، ولكن فيما إذا كان الأنسَب أن يقول: أمك السيدة، أو أمك الآنسة! لم يخطر بباله أن من الممكن أن يقول ببساطة: أمك.

يقول أخيرًا: «لم أسمع شيئًا عن الآنسة شيناجل منذ مدة طويلة».

يسأل الفتى: «ولكن ماذا عن عنوانها؟».

يسأله البارون: «لكنك في المدرسة في جراتس، أليس كذلك؟». فيُجيبه الفتى: «نعم، لكنهم طردوني. أمي لم تدفع المصروفات، كما أنني ارتكبتُ بعض الأفعال أيضًا، ولا أريدُ العودة مطلقًا!».

كان رقيبُ الشرطة قد أنهى طبقَه من الجلاش دون أن يوقفه شيءٌ، وشربَ قدحه، والآن يطلب بيرة أخرى، ويتناول منها جرعة كبيرة، ويتحوَّل فجأة إلى اللون الأُرجواني، ويُجفِّف شاربه بمنديلٍ أقرب هو الآخر إلى اللون الأرجواني. ثم ينهض واقفًا، ويدسُّ المنديلَ في جيبه، ويصفع زاندل على وجهه. يترنَّح الفتى. يجلس رقيبُ الدَّرك ويقول بهدوءٍ: «زاندل، تحدَّث مع السيد البارون بأسلوب لائق، وإلا سآخُذُك من هنا ولن تعود إلا بعد عامَين من السجن. هل تعرف كيف تتصرَّف؟»

«نعم سيادة الرقيب!»

«اعتذر إذن من السيد البارون!»

يقول زاندل: «أعتذرُ منك سيدي البارون».

يضحك الفلاحون في جوقة من أصواتٍ مجلجلة ويخبطون بأيديهم على أفخاذهم.

يُنادي البارون صاحبَ النُّزُل: «سيدي، قدِّم للفتى شيئًا ليأكله»، ويُضيف: «هناك!». ثم يقول للفتى: «بعدما تأكل اذهب إلى المنزل، إلى الناظر، وقل له إنك ستعود غدًا إلى جراتس!».

«شكرًا جزيلًا سيدي البارون! أودُّ أن أطلب شيئًا آخر!»

«نعم!»

«هل تسمح لي بالعودة إلى هنا في عيد الميلاد؟»

يقول البارون: «نعم!».

يقول رقيب الدرك: «اسمح لي بشيءٍ من الحرية يا سيادة البارون، لن يأتيَ من ورائه شيءٌ نافع!».

يُجيب البارون: «ليس ذنبه!».

يقول الرقيب: «أنا أعرف أن أصحاب السيادة والرُّتَب العليا دائمًا ما يُحسنون الظن كثيرًا بمثل هؤلاء الرعاع. قائدُ منطقتنا مثلًا، عندما أُخطره بعناصر سياسية تخريبية، يقول دائمًا إن الأمر لن يكون بهذا السوء».

يقول تايتننجر وهو يُفكِّر في تسينوفر: «إنه ابن الشعب!»، وإنه أيضًا كان ابنًا غير شرعي، ولعلَّه أيضًا من أبٍ ينتمي إلى آل تايتنجر. من يدري، كلُّ الأمور متداخلة تمامًا.

عندما انتهى زاندل من طعامه، نهض، ومشى، ولكنه توقَّف فجأة، وقال: «ألتمس المعذرة!» وسلم البارون مظروفًا، ثم انحنى انحناءةً عميقة خرقاء منفرة، ومضَى. أعطى تايتنجر المظروف إلى الرقيب: «ماذا يريد؟».

يقرأ الرقيبُ بصوتٍ عالٍ: «السيد البارون المحترم، السيد ناظر الدائرة غير أمين، والعمدة يعرف ذلك. زوجة الناظر أخذت كل مفارش المائدة والمناديل والملاءات التي عليها التاج، وسلطانية كبيرة على هيئة سمكة وعليها صورة الإمبراطورة. وقد سمحتُ لنفسي أن أخبرك بهذا بدافع من العرفان بالجميل. زاندل شيناجل». يقول الرقيب: «للأسف هذا صحيح!». فيقول تايتنجر: «ألا نستطيع فعل شيء!» ويُحدِّق في الهواء. يعلم أنه لم يُخلَق لمثل هذا العالم.

منذ هذه المقابلة الأولى مع ابنه، يُدرك تايتنجر أنه يكره ضيعته، والناحية كلها، والمنزل، وذكرى عمه تسيرنوتي المتوفَّى، وابنه، ابن عمه الممل، والجبال، والشتاء، والناظر، والأواني المسروقة، وحتى يوسي الأصم. لم تكن التدفئة كافية. في منتصف الليل، عندما خمدت النار في حجرة النوم، تحوَّلت فجأة وبلا تدريج إلى ثلج ورطوبة، الوسائد والملاءات تنضَح بالبرودة الرطبة وتفوح برائحة التبن الفاسد. كان عيد الميلاد يقترب، وهو احتفالٌ لا يُطاق، مليءٌ بالرغبات المخادعة والأمنيات المنافقة من شِرار الناس في كل مكان، بأيادٍ ممدودة في جشع، بأبناءِ فلاحين يرتدون ملابسَ احتفالية وأشكالَ ملائكة من الورق، وبفضل التقويم الروسي كان عيد الميلاد في تلك المنطقة يستمر حوالي ثلاثة أسابيع. وها هو الفتى شيناجل قد أُنذرَ بالمَجيء إلى هنا. كان من المستحيل — من دون رقيب الشرطة — التعامُلُ أو حتى النظر إلى هذا الفتى. بِيعَ الحصانان، ودُفعت مصاريفُ شيناجل للفصل الدراسي القادم، ولا يزال لدى البارون تايتنجر ما يكفي من المال للعيش في فيينا بضعة أسابيع. بمستوًى متواضع طبعًا، ليس في فندق «إمبريال». كلَّ ليلة، عندما يغادر تايتنجر حانة يانكو ليبدأ «طريق الآلام» والبرد القارس إلى منزله، يكون قد شرب الكثير من شليفوفيتس (براندي الخوخ)، لدرجة تجعله يقتنع بأنه من الممكن أن يحزم أغراضه الليلة، وفي الصباح الباكر يطلب تجهيز العربة ويغادر. لكن عندما يدخل منزله ويوقِد الشمعة أولًا، ثم المصباح، يستولي عليه الخوفُ والاشمئزاز من الظلال الليلية لقطع الأثاث والرطوبة العَفِنة على الحوائط، وصرير الأبواب والنوافذ. يستلقي بسرعة، ويبقى راقدًا ما بقيت النار في المدفأة، ثم يسقط في نوم مضطرب، ويستيقظ متأخرًا، يشرب قهوة الهندباء، ثم كأسًا من نبيذ ريفي شاحب، ويرتدي ملابسه، يهيم على وجهه في المنطقة بلا هدف ودون تفكير وهو يتوق إلى المساء، فيذهبُ إلى الحانة، ينتظر الرقيب، وبالكاد يتحدث بكلمة مع العمدة أو ناظر أملاكه؛ إذ يأتيان في بعض الأحيان، ومن جديد يشرب جرعة من شجاعة لا تزيد عن ساعتَين، لا تكاد تكفيه إلا للعودة إلى المنزل. لم يكن تايتنجر بِدعًا من الناس الذين نشئوا على الانضباط العسكري، يتطلعون إلى الأوامر والتعليمات من القادة والرتب الأعلى تطلُّعهم إلى القدَر.

وذات يوم جاءه شيءٌ من مثل هذه التعليمات. كان على النقيب تايتنجر المثول أمام اللجنة الطبية العُليا بمستشفى فيينا العسكري الثاني في الرابع عشر من ديسمبر، في التاسعة والنصف صباحًا. كان هذا بناءً على ما تقدَّم به من طلب للحصول على إجازة طويلة لأسبابٍ صحية. كانوا متعجِّلين للتخلُّص من هذا النقيب. في العادة لم تكن أوراق الحالات التي تُشخَّص تصل إلى اللجنة العليا بمثل هذه السرعة! شعرَ تايتنجر بالإهانة. شعر بالكآبة والألم واحتقار الذات.

بالفعل غادر الضيعةَ في العاشر من ديسمبر. قال للناظر قبل أن يغادر: «سأعودُ في فبراير! عندئذٍ سيتغيَّر كل شيء!» وأثناء وداعه لرقيب الدرك في محطة القطار قال: «أنا أعتمدُ عليك في إعادة هذا الولد، شيناجل، إلى جراتس. يمكنه البقاءُ مع الناظر لأسبوع!». لما أعطى ناظرُ المحطة إشارةَ المغادرة، لوَّح له تايتنجر من النافذة بطريقة ودية، بامتنانٍ من قلبه، كما لو أن الموظف المسئول قد سمحَ للقطار بالمغادرة فقط لأجل البارون شخصيًّا.

سأعودُ في فبراير، هكذا فكَّر تايتنجر، وقال لنفسه أيضًا وهو ممتلئ بثقة لا أساس لها على الإطلاق: «في فبراير سأكون شخصًا آخر تمامًا، وفي فبراير نكون على مشارف الربيع.»

فكَّر أنه سيكون من الجيد أن يرى مجددًا تسينوفر الطيب العزيز في فيينا، وأرسلَ تلغرافًا من براتيسلافا حيث كان عليه أن يُغيِّر القطار: «أنتظركَ عاجلًا، فيينا، الأمير يوجين» وتوجَّه مفعَمًا بالأمل تلقاء اللجنة العليا.

كان تشخيصُه وفقًا لما هو مكتوب في الشهادة: تضخُّم في القلب، وهنٌ عصبي مزمن، ضعفٌ في عضلة القلب، غير لائق للخدمة الفعلية في الفترة القادمة. لم يفحصوه حتى. لم يزِد اللواءُ الطبيبُ رئيسُ القطاع الطبي بمستشفى فيينا العسكري الثاني على قوله: «أهلًا!» ووقَّع الورقة.

ثم أضافَ: «كلُّ خير يا سيادة النقيب!». كانت نوعًا من التعزية.

هكذا إذن! كان هذا وداعًا للجيش. مشى البارون تايتنجر بطول شارع فارنجر، مشى بلا اكتراث وسط الثلج الذائب المختلط بالوحل، لأول مرة لا يكون جنديًّا، منذ تفتَّح وعيه، لأول مرة ليس جنديًّا. فماذا إذن؟ مدني. الشوارع مليئة بالمدنيين، لكنهم كذلك منذ زمن طويل. أما هو، فمستجَدٌّ بين المدنيين، إذا جاز التعبير. لا يزال خطاب التسريح من الخدمة مطويًّا في محفظته.

ليس من السهل أن تصبح مدنيًّا هكذا فجأة. قد يكون للمدني رؤساء، لكن ليس له قادة أو رتب عليا. يمكن للمدني أن يذهب أينما يشاء وقتَما يشاء. المدني ليس ملزمًا بالدفاع عن شرفِه بالسلاح والمبارزة. يمكن للمدني أن يستيقظ دون أن يوقِظَه خادم؛ فالمدني يستخدِم المنبه. ها هو يمشي وسط الجليد الموحل بلا مبالاة وكأنه بهذا يجعل من نفسه مدنيًّا أكثر، وينعطِف يسارًا إلى شوتنرينج ليجلس في المقهى. لم يعُد ينظر عبر النوافذ نظرة عابرة ليرى إن كان هذا المكان يليق برتبته ومكانته. فالمدني لا يتقيَّد بكلِّ هذه الأشياء.

هكذا إذن يدخل تايتنجر أحدَ المقاهي في شوتنرينج، بالقُرب من مركز الشرطة. مقهًى صغير من ذلك النوع الذي يُطلَق عليه مقهًى شعبي. حول إحدى الطاولات القليلة، يجلس ستة رجال يرتدون قبعات. جميعهم بقبَّعاتٍ عالية. يلعبون التاروت. لا شأنَ لي! يقول تايتنجر لنفسه وينظر خارجًا إلى النهار الشتوي الكئيب ويشرب القهوة بالكريمة المخفوقة.

يدخل زبونٌ آخر. صحيحٌ أن تايتنتجر لاحظ أن شخصًا ما قد دخل، لكن الأمر ليس أكثر مما لو لاحظ ذبابة.

لا يرفع الرجلُ قبعته عند التحية، لا يزيد على لمسها بإصبعه، ويجلس مع لاعبي التاروت ويبدأ في مراقبة اللعب بفضول. في اللحظة التي يُنادي فيها تايتنجر «الحساب!» يهبُّ الرجل واقفًا ويتلفَّت. يظنُّ تايتنجر أنه رآه في مكان ما. يخلع القبعة. يقترب ويقول: «سيادة البارون، ألا تعرفني؟ سيادة البارون هنا؟»

نعم، هذا هو الرجل صاحب الكُتيِّبات، عرفه تايتنجر على الفور. سأل لاتسيك وهو جالسٌ بالفعل: «هل لي أن أجلس؟» ويمضي في الحديث قائلًا: «يا لعالَم هذه الأيام! لقد عرفتُهم جميعًا على حقيقتِهم، هؤلاء الجبناء، هؤلاء الأوغاد! هؤلاء السادة المدعوُّون نُبلاء! كلُّ واحد منهم يحمل في رقبته حياة إنسان واحد على الأقل، قتَلة، قتَلة من ذوي الامتيازات. يحظون بالأوسمة والمال والشرف! أما أنا، فانظر يا سيدي البارون، كيف نزلتُ إلى الحضيض!» نهض لاتسيك، وشَد بنطاله، وقلب سُترته لإظهار البطانة المهترئة، ورفع قدمه وأشار إلى وجه الحذاء الجلدي الممزَّق، وتحسَّس ياقتَه وقال: «منذ أسبوع لم أُغيِّرها.» قال تايتنجر: «هذا سيئ!». قال لاتسيك: «سيدي البارون، أنت ملاك! سيدي البارون، كنتَ أنت الوحيد الذي أحسنَ معاملتي. أريد أن أُقبِّل يديك يا سيدي البارون. اسمح لي بنعمة تقبيل يديك.» انحنى لاتسيك، لكن تايتنجر أبقى يديه في جيوبه. قال لاتسيك: «لا! أنا فاهم، أنا لا أستحق. لكن اسمح لي أن أُخبرك عن الظلم الفادح، ها؟» قال البارون: «ها!». «طيب، ذهبتُ بكتبي إلى الكونت «ﻓ»، مشلول هو الآن، الحمد لله، عدالة السماء لا تزال موجودة. ورُحتُ أتحدَّث معه مثلما تحدَّثتُ مع البارون. لكن لسوءِ الحظ كان لدى الكونت ذراع ما تزال سليمة، فيمدُّها ويقرع الجرس، فيأتي الخادم، ويقول الكونت: «السكرتير». ويأتي السكرتير، فيقول الكونت: «تصرف مع هذا السيد كما يليق.» وأتكلَّم أنا مع السكرتير بخلو بالٍ كطفل بريء، وعندما أعود إلى المنزل، إذا بي أجد روتبوخر واقفًا هناك، من الفرقة الخاصة، ويقول: «لاتسيك، عندي أمرٌ بالقبض عليك!» باختصار إذن، صودرت الكتب وحُظِرت، وطردوني من الجريدة، والآن أعيش فقط بفضل هؤلاء الرفاق، وهم أيضًا من الفرقة الخاصة.»

قال تايتنجر: «سيئٌ يا سيادة المحرِّر!».

قال لاتسيك بصوت تخنقه دموع الامتنان: «سيدي البارون كريم للغاية ليُخاطبني بهذا اللقب. لو تسمح لي أن أردَّ بالمثل: لديَّ هنا عينات من بعض الأدوية.» وأخرج من جيوبه مجموعة من الأنابيب الصغيرة والمساحيق. «لا يستطيع المرءُ أحيانًا النوم، وأنا أعرف يا سيدي البارون أن المرء لا يستطيع الحصول عليها بوصفة من طبيب!»

في تلك اللحظة قام الرجال الستة، حيَّوا بقبعاتهم الرسمية العالية، وقال الأخير منهم: «معذرة!» ووضع الأنابيب وأكياس المساحيق في جيوبه، وأمرَ لاتسيك: «تعالَ!» قام لاتسيك، وانحنى، ثم تبعَ الرجال.

جاء النادلُ إلى الطاولة. «ألتمسُ المعذرة يا سيدي البارون! السيدُ كبير المفتِّشين زدلاتشيك (وهو يقول إن البارون لم يتعرَّف عليه) يُخبرك أن المحرِّر لاتسيك يتعامل في الكوكايين وأن الشرطة تستخدمه و… و… لا بد أن أقول إن على السيد البارون ألا يدعمه!»

قال تايتنجر: «شكرًا!». خرج وأشارَ إلى عربة أجرة، وقال: «كاجران!».

لما دخل مبنى السجن، وأعطى المأمور خبرًا بحضوره، انتابه شعورٌ كما لو أنه قد أتى إلى هنا ليُسجَن بمحض إرادته. كان المأمور ما يزال هو القديم، تعرَّف على تايتنجر على الفور. قال كما في المرة السابقة: «سأترك السيد البارون هنا». قال تايتنجر بحزم حتى إن المأمور لم يقُم من مكانه: «لا، من فضلك! لا أريد التحدُّث إلى الآنسة شيناجل على انفراد!».

فُتح البابُ، وجاءت شيناجل، ظلَّت واقفة على العتبة كما في المرة السابقة، وغطَّت وجهها بيديها أيضًا، فذهب تايتنجر إليها. قال: «حيَّاكِ الله يا ميتسي!» رأت ميتسي المأمور جالسًا خلف مكتبه، ففزعت وانحنت على نحو غريب. قال المأمور: «اقتربي يا ميتسي!» ثم للبارون: «إنها مهذَّبة جدًّا! سنُفرج عنها في مارس!». سأل تايتنجر: «ماذا ستفعلين؟». «أوه، سيدي البارون كريم جدًّا!» بدت لتايتنجر مختلفة عن المرة الأخيرة. أزاحَ طاقيتها إلى الخلف، كان شَعرُها ينمو غزيرًا وأشقر. قال المأمور: «لسنا بهذه القسوة يا سيادة البارون!».

قالت ميتسي: «شكرًا جزيلًا سيادة المستشار!» وانحنت مرةً أخرى انحناءة غير موفَّقة. أخرجت منديلًا من فستانها الأزرق ومسحت عينَيها. لكن لم يكن في عينَيها دموع، هذا ما رآه البارون جيدًا. لا شيء يُحرِّك قلبه. لم يكن الأمر كالمرة السابقة. أراد أن يكون كريمًا في ظنه، ربما تغيَّرت شيناجل هذه المرة بسبب وجود المأمور أو بسبب الشعر الذي راح ينمو من جديد. قال تايتنجر: «ابنكِ كان عندي! أرسلته مرةً أخرى إلى جراتس!». هتفت ميتسي: «زاندل! كيف يبدو؟» للأسف ليس مثلي، هكذا أراد تايتنجر أن يُجيب لكنه قال: «جيد جدًّا! جيد للغاية!». راحت ميتسي تبكي حقًّا، لكنها مسحت عينَيها هذه المرة بمعصمَيها. على أي حال لم تبكِ طويلًا، سرعان ما توقَّفت عن البكاء. وبصوتٍ معدني صلب وغير مبالٍ طلبت الإذن بالانصراف. قال تايتنجر: «تفضَّلي!». فاقتيدت بعيدًا.

قال المأمور اللطيف: «إنها مرتاحة هنا يا سيادة البارون!» قال تايتنجر: «بالتأكيد، هذا ما أراه! هذا من لطفكم الشديد!» ردَّ المأمور: «دائمًا في الخدمة يا سيادة البارون!» ونهض وهو يُكرِّر «دائمًا في الخدمة!»

كانت العربة في انتظاره. كان لدى تايتنجر شعورٌ واضح بأن شيئًا ما قد انكسر. في الوقت نفسه بدا له أنه غير قادر تمامًا، ولن يكون قادرًا أبدًا على فهم هذا العالم المضطرب. بالضبط كما كان حاله قديمًا أمام واجب الرياضيات في مدرسة هرانيتس مورافيا. لم يعُد عسكريًّا، ولم يصبح مدنيًّا بعدُ. هل لهذا علاقة بالأمر؟ لم يكن يعرف ما إذا كان شخصٌ ما جيدًا أم لا. ولو أنه سئلَ، لما استطاع أن يقول إن كان لاتسيك طيبًا، أو ضعيفًا، أو دنيئًا، أو إن كانت ميتسي صالحة، أو فاسدة، أو خبيثة، أو حتى إن كان ابنها — ابنه، حسبما خطر بباله الآن — فاسدًا تمامًا أم لا يزال فيه الرجاء ولم يضِع تمامًا. لو أن تسينوفر فقط كان موجودًا الآن!

كان يومًا حافلًا بالأحداث، وهنا خطَرت ببال البارون كلمة «مصيري» التي كان قد قرأها ذات مرة في مكان ما. أخبروه في الفندق أن سيادة الملازم تسينوفر قد وصل للتو.

للمرة الرابعة يبدو تسينوفر مختلفًا، هذه المرة في زيِّ الضباط، حتى إنه أغرب مما كان عليه في الملابس المدنية. الآن، ولم يعُد يحمل على ذراعه أشرطة الرقيب، بل شارة ملازم مبتدئ بدلًا منها، بدا كبيرًا في السن، أكبر بكثير مما هو عليه في الواقع. وربما كان هو نفسه يحسُّ بهذا. لم تعُد إطلالته عسكرية، بل يبدو في هيئة ضباط الاحتياط: يرتدي ملابس بين الهيئتَين. لا هي ملابس مدنية، ولا هي زيٌّ رسمي. ملازم المحاسبة ليس لديه مهمازان في حذائه. بعد ثلاثة عشر عامًا من المشي بالمهمازَين، تحسُّ أنك مدني أو أنك لا تمشي أصلًا. كأنك تقريبًا بلا قدمَين! كلُّ هذا حكاه تسينوفر بجدية حقيقية تكاد تكون مريرة. كان تايتنجر يفهمه تمامًا. لم تعد الشاكة جزءًا من زيه الرسمي، بل قبعة مثلَّثة مثل مأمور المركز. كان تايتنجر يفهم هذا الألم. مضى وقتٌ طويل قبل أن ينتهيا من التنديد بالظلم الفادح الذي تفرضه لائحة سخيفة على ضباط المحاسبة. كلُّ ذكاء تسينوفر الفطري لم ينفعه. ثلاثة عشر عامًا في سلاح الفرسان كان لها تأثير قوي يُضاهي قوة الطبيعة. أصبح ملازم محاسبة. أصبح ملازمًا كبيرًا في السن.

كان لا بد أن يشربا نخب الأُخوَّة في تلك الليلة. عادا إلى الفندق ذراعًا في ذراع. وفي اليوم التالي، كان على ملازم المحاسَبة أن يُغادر إلى حامية بعيدة، حيث يحتاجون إلى ملازم محاسبة. كانت كتيبة المشاة الرابعة عشرة، بعيدة في آخر الدنيا، في برودي، على الحدود الروسية.

استيقظا متأخِّرًا، لم يكن لديهما متسعٌ من الوقت ليتحادَثا، فضلًا عن استعادة الألفة والحميمية بعد رفع الكلفة بينهما في الليلة الماضية. قال البارون: «من يدري متى أراك مجددًا!». قال تسينوفر: «من يدري إنْ كنتُ سأراك مجددًا!». تعانقا وقبَّل كلٌّ منهما الآخر على خَدَّيه.

عادَ البارون من جديد وكأنه طفلٌ يتيم تُرِك وحيدًا. تركَ أموره تمضي إلى حالها. ومع الوقت اكتسبت لا مبالاته إيقاعًا معينًا. لم يعُد يلتقي أصدقاء قُدامى. راحَ يستمتع بساعاتٍ طويلة من فراغ البال، ومشى بلا هدف، أكلٌ دون شهية، وشرابٌ دون لذة، وامرأةٌ دون متعة، ووحدة بلا معنى وسط زحامٍ صاخب، وفي بعض الأحيان سُكر دون بَهجة.

كان فكره يتَّجه أحيانًا إلى ميتسي شيناجل وإلى مارس. كتب ذات مساء إلى مأمور السجن. قيل له إن شيناجل سيُفرَج عنها في الخامس عشر من مارس. لم يكن يُحرِّكه أيُّ شعور خاص نحو ميتسي، ولا نحو الخامس عشر من مارس على وجه التحديد. لكنه على الأقل كان تاريخًا، نقطة ثابتة، حدًّا فاصلًا. توقَّفت الأفكار القَلِقة عند هذا التاريخ؛ عند هذا الحاجز.

٢٦

حلَّ ربيع هذا العام مبكرًا، تُدفئه في مارس شمسٌ تُشبه شمسَ مايو. أينعت أزهار «لابُرنون» (أو «مطر الذهب») بوفرة وطاقة مفاجئة على أغصانها في الحدائق. طغت أصواتُ الشحرور على كلِّ أصوات المدينة. ونمت الأوراقُ الخضراء الباهتة لأشجار الكستناء بوفرة وكثافة ملحوظة، وفاحت قناديلُها برائحة نفَّاذة كما فاحت بالكبرياء، وكانت بيضاء وشاهقة. حتى طيور السنونو الهَرِعة بدت هذا العام أكثر ألفة وثقة. تعبُر فوق رءوس المارة سريعًا كأنها سهامٌ سِلمية من السماء. ومن مرتفعات كالِنْبيرج تهبُّ نسائم لطيفة معتدلة على المدينة. وتُجاوبها بشيءٍ من الامتنان الحنون الجدرانُ وأحجارُ الأرصفة بأنفاسها الخاصة. وعندما يأتي المساء، يمكنك أن ترى، من أيِّ نقطة في المدينة، حُمرةَ الشفق الطيبة وهي تُداعبُ برجَ كاتدرائية القديس شتيفان. تعبق المدينة برائحة البيلسان المنعشة، برائحة الخبز الطازج في المخابز التي تفتح أبوابها على مصاريعها، برائحة الشوفان في الأكياس أمام الخيول التي تجرُّ العربات، برائحة البصل الأخضر والفجل الأحمر في الأسواق.

في أحد هذه الأيام، في العاشرة إلا الثُّلث صباحًا، أُطلق سراحُ ميتسي شيناجل من سجن النساء. كان تايتنجر يُدرك اقترابَ موعد إطلاق سراحها، وهو ما منحه على مدار أسابيع سببًا لتأخير عَودتِه إلى الضيعة.

ذات مرة، وبينما هو جالسٌ بمُفرده في إحدى حدائق النُّزُل التي ازدهرت مبكرًا في ضواحي فيينا، وقد أصابه النبيذُ بمسحة حزنٍ وجعله الهواء ثملًا، أجرى مع نفسه حوارًا صامتًا. راحَ يسأل أسئلة لا يعرف لها إجابة. لم يكن ضميره هو ما يُعذِّبه! لم يكن ما يشغله هو إنْ كانت ميتسي قد وصلت إلى بيت ماتسنر بسببه هو أم لا؛ إذ لم يكن ليرى في مصير امرأة ضائعة شيئًا محزنًا. لم يكن يعرف من البغايا سوى فتيات ينعمن بالبهجة وراحة البال، ويبدو أن الحياة تمنحهنَّ من المتعة أكثر مما تمنحه لزوجات الكبار من المستشارين الوزاريِّين ورؤساء الأقسام على سبيل المثال، وأكثر من بائعات التبغ الدائمات الشكوى والنَّكد، وأكثر من الطبَّاخات الباكيات، ومن بنات البرجوازيِّين اللاتي هجرَهنَّ أزواجهُن. علاوة على ذلك، كانت «قصته» الدنيئة مع ميتسي قد منحتها بضع سنواتٍ رائعة من عالم الأحلام؛ وهي «القصة» نفسها التي فقدَ بسببها تألقه ولا مبالاته، بل سُمعته وشرفه أيضًا. فلماذا إذن لا يزال يهتم بميتسي؟ هل يُحبها؟ ليس هذا أيضًا. كان قلبُ تايتنجر من بين أعضائه الضامرة. لم يكن يعرف إجابة لسؤاله. كان يشعر نحو ميتسي ونحو «قصته معها» بارتباط غير مفهوم ولا يزول مع الوقت. كان كلُّ هذا غير مفهوم في واقع الأمر؛ لكنه مقدَّرٌ ومحتوم. وأمام المقدر والمحتوم لا شيء يمكن فعله.

لم يسعه كبتُ إحساسٍ احتفاليٍّ معيَّن لما خرج في صباح الخامس عشر من مارس متوجهًا بالعربة إلى كاجران. لم يعُد يذكر أنه هو الذي ألزمَ نفسه بإحضار شيناجل من السجن. بدا له أن بعض الشكليات هي التي فرضت هذا العملَ الأحمق. على أيِّ حال، كانت الرحلة بالعربة وسط هذا الحفل الصباحي الباذخ ملائمة تمامًا لتذوب هذه الأفكار النابتة في رأس تايتنجر في سَكرة بهيجة.

وهكذا، توجَّه إلى مكتب مأمور السجن ليأخذ شيناجل، وكأن هذا هو الأقرب إلى التصرف البديهي بطبيعة الحال. ونتيجةً لذلك، أخرجوها من الزنزانة قبل موعدها بنصف ساعة. كانت ترتدي المعطف البُني الذي دخلت به في الخريف الماضي. أما القبَّعة الكبيرة من اللباد المزيَّنة بحبات الكَرز الزجاجية فكانت تُمسكها في يدها، خوفًا من أن تكون موضتُها قد تراجَعت في هذه الأثناء. كان شعرها الذي ما يزال قصيرًا ولكنه جميل وغزير، يتألَّق بلمعان جديد، وبدت ملامح وجهها الشاحب رقيقة، بل ونبيلة. الآن تبدو حقًّا مثل هيلينا! هكذا فكَّر تايتنجر.

قال المأمور مبتسمًا: «يمكنُني أن أوفِّر على نفسي المحاضرة الأخلاقية المعتادة. ميتسي شيناجل، إن سيادة البارون يهتمُّ لأمركِ بمُنتهى النُّبل لدرجة أنني على يقين من أنني لن أراكِ هنا مرة أخرى. سيادة البارون، أنا دائمًا تحت أمرك!»

كانت العربة تنتظر تايتنجر في الخارج. سأل تايتنجر: «إلى أين تُريدين أن أوصلكِ؟». لكن ميتسي راحت تنظر حولها في قلق، وكأنها تبحث عن شخص ما. ثم قالت «ما يزال عليَّ أن أنتظر، ليني لم تأتِ بعد. لقد أخرجتَني مبكرًا جدًّا.» كان هذا بمثابة عتاب. الحرية، والربيع، والعربة ذات الإطارات المطاطية، والبارون، بدا أن هذا كله لا يرضي ميتسي. سأل تايتنجر: «من هي ليني؟». فأجابته ميتسي: «صديقتي يا سيادة البارون! كانت تُشاركني الزنزانة. ليني امرأة نقية وقد خرجت منذ أربعة أسابيع، صِرنا صديقتَين بعدما ساعدتُها في الإجهاض. إنها دائمًا عند كلمتها، ستأتي بالتأكيد.»

في تلك اللحظة، رأى البارون شيئًا ضخمًا مبهرجًا يلوح ويقترب مسرعًا. ها هو يُدرك هذه الظاهرة، ويسمع لها صوتًا أيضًا. تنطلق منها صرخات حادة تسبقها. شيئًا فشيئًا، يُدرك أنها تهتف مناديةً باسم ميتسي، وأن هذا الشيء هو كائن أنثوي في تايير من حرير خام أصفر، وقبعة خضراء زاهية بحجم عجَلة تقريبًا، تنسدل من تحتها خصلاتٌ سوداء غزيرة مجعَّدة، وحذاء أصفر ذي أزرار، ومظلَّة، ووشاح من الريش وحقيبة يد قماشية صغيرة. كانت ماجدالينا كرويتسر، صاحبة دوامة خيل مرخَّصة في منطقة براتر. تبادلت المرأتان القبلات بحرارة. وقالت: «أنتَ سيادة البارون، أعرف هذا، لستَ بحاجة إلى أن تقول شيئًا، فأنا أعرف كل شيء من ميتسي. وها هي العربة. هيا نركب ونذهب سريعًا إلى أبيكِ، فهو مشلول، وإلا ما كان ليتأخر عن المجيء إلى هنا!». وقبل أن يعي تايتنجر ما يحدث، كان جالسًا بالفعل في المقعد الخلفي قبالة ميتسي وليني، يشعر بالخجل وعدم الارتياح، ورُكبتاه مرتفعتان أمامه. طأطأ رأسه. تهافتت عليه عباراتٌ غير مفهومة، وانشقَّت صيحاتُ تعجب مثل برق ساطع، وتعالت أصواتُ ضحكات مثل أمطار غزيرة مبهجة، بلهجة لم يسبق له أن سمعها بهذا الشكل المكثَّف وعن هذا القرب، واستدعت داخله صوت دحرجة العجلات ومواء القطط ونفخ الأبواق في آنٍ واحد. أخيرًا وصلوا إلى سيفرينج.

كانت ميتسي قد وصلت إلى هنا ذات مرة في أبهى صورها كمحظية لدى كسرى الفُرس. ما تزال مدبِّرة المنزل على قيد الحياة، والحلاق زاندل تزوَّج وانتقَل إلى بِرنو. أُعيدَ فتحُ الدكان من جديد (وقد آلَ إلى أحد الشباب). سمحوا للعجوز شيناجل بمُغادرة دار المسنين في لاينتس هذا اليوم فقط؛ لأنه لم يكن يريد أن تعرف ابنته أي شيء عما لحق به من «خزي». في الدكان، بجوار الباب المفتوح مباشرةً، كان يجلس شيناجل العجوز المشلول. في الخلفية المظلمة كانت تلمع الغلايينُ البيضاء مثل أجزاء هيكل عظمي. أيقظ الدكان بعض الذكريات في البارون أيضًا. هنا رأى ميتسي لأول مرة. لم يكن العجوز شيناجل قادرًا على شيء إلا تحريك ذراعَيه. لسانه أيضًا كان عاجزًا، راحَ يتلعثَم، ويئن، وفي النهاية تمخَّط بقوة غير متوقَّعة. من ارتباكه اشترى تايتنجر خمسة غلايين. سألته مدبِّرة المنزل، هل تُحضر له بعض التبغ؟ ومن ارتباكه قال: «نعم، من فضلك، شكرًا جزيلًا!» سأل العجوزُ متلعثمًا إن كانت ميتسي تُريد أن تبقى هنا؟ قرَّرت ماجدالينا كرويتسر: «لا!». كان هذا مقرَّرًا منذ فترة طويلة. ستسكُن ميتسي لفترة، حتى «تُرمم» نفسها قليلًا، في بيت كرويتسر، شارع كلوستر نويبورجر. كانت لديها أيضًا كروت شخصية مطبوعة في حقيبة يدها، أخرجت واحدًا، وأعطته لتايتنجر وقالت: «لا تُضيِّعه يا سيادة البارون، سننتظرك غدًا، الأحد، الطابق الثالث يسارًا، باب رقم ٢١، لا تنسَ، الخامسة بعد الظهر. من فضلك لا تتأخَّر يا سيادة البارون!» بهذا ودَّعت تايتنجر. انحنى، وأخبر سائق العربة بعنوان السيدة كرويتسر، ودفع أجرة توصيل المرأتين مقدمًا، واختفى في أول شارع جانبي حيث لاحت شرفة مقهًى تعِده ببعض الراحة.

لم يُضِع العنوان، ولم ينسَ الموعد أيضًا، احتفظ بكل ما اتُّفقَ عليه، كما هو حاله دائمًا. وبشيءٍ من القلق، وقفَ يوم الأحد أمام الباب رقم ٢١، يشم رائحة الكرنب المخلل والقطط وحفاضات الأطفال، يسمع أصواتًا تأتيه من كل الغرف، بالأعلى والأسفل، والغرف المجاورة، وها هو يُميِّز من بينها صوت ميتسي أيضًا. شَد حبل الجرس بحزم، ثم دلفَ مباشرةً إلى غرفة مؤلَّفة من المخمل الأحمر، ومفرش طاولة أخضر، ومزهرياتٍ صفراء، وقِطَع جاتوه، وثمار برتقال، وأقداح قهوة، وكعكة جوجلهوبف ضخمة. جلست المرأتان وكأنهما أختان بفستانَيهما الصيفَيَّين الأبيضَين المرقطَين بنُقَط سوداء. إحداهما سمراء، والأخرى شقراء. فعل كلَّ ما طلباه منه؛ أكل من كعكة جوجلهوبف الإسفنجية، ولعقَ حساء الخضروات وغيره من المعلبات، شرب القهوة، ثم شراب التوت البري، ودخنَ سيجار ترابوكو، رغم أنه لا يُدخن غير السجائر فقط، أنصتَ إليهما، لم يفهم شيئًا، ولم يُفكِّر في شيءٍ، وشعر بحرقة في المعدة. ولكنه تشجَّع وسأل عن المرحاض، فأرشده أحد الخدم إلى المطبخ، ومنه إلى مكان لم يستطع تحديد ماهيته، فاكتفى بسكب بعض الماء من الإبريق الصفيح في الوعاء وخرج. لم يكد يجلس في مكانه مرةً أخرى حتى رنَّ الجرس. دخل عملاق، ليس من هذا العالم. ما بين عربجي أو جزار، أو نصب تذكاري بملابس. كان هذا هو إجناس ترومر، صديق ماجدالينا كرويتسر. هكذا قدَّم نفسه، ومن كلِّ ما قاله في اللحظة التالية، بسرعة لا تُناسب ضخامة جسده ولا صوته المدوي، لم يفهم تايتنجر إلا أنه قد حصَل له عظيم الشرف. أكلَ وشربَ وتكلَّم ودخنَ، ثم شربَ وأكلَ وتكلم. وأخيرًا قال: «هه؟ متى نمشي هه؟ بالله عليك!» هكذا كان يصيح بلا سبب من وقت لآخر. ثم يعود فيضيف: «حكمتك يا رب!» الأمر كان أبعد من كونها لهجة سكان فيينا. كان كما لو أنه دبٌّ يُحاول أن يتحدَّث الإيطالية.

كان الترام (الذي تجرُّه الخيول) مكتظًّا، فأصر ترومر، «حكمتك يا رب»، على أن يذهبوا إلى براتر سيرًا على الأقدام حيث توجد دوارة الخيول، مقر عملهم. سار تايتنجر طائعًا بجانب إجناس، تسبقهما المرأتان. بمجرد أن يعتاد المرء على اللهجة يبدأ فهم بعض ما يقال. ترومر رجل مخضرم، كان يعمل في الأصل حوذيًّا لدى الكونت تسامبورسكي. وبعد وفاة العجوز أصبح تاجر خيول. ثم تصرَّف بتهور مما أدخله في مشكلة مع لجنة فحص خيول عسكرية، كان هذا لأجل خاطر أحد أصدقائه، فأرسل إليهم حصانًا آخر غير الذي فحصوه وأقرُّوا بصلاحيته، وتلفيقات من هذا القبيل. ولا بد أن سيادة البارون قد صادف أيضًا قصصًا من هذا القبيل في عهده، وهكذا انتهى به الحال بأن أصبح شريكًا في دوارة ماجدالينا كرويتسر، وهي عمل جيد؛ والآن لديه فرصة لشراء متحف للشمع بسعر زهيد. إنه شيء رفيع وفن راقٍ، نشاط مقنع …

كانت الدوَّارة فخمة بالفعل، تضمُّ مقاعد على شكل أحصنة وعربات وزلاجات وقوارب. تدور حول تمثال كبير ملوَّن مصنوع من عجينة الورق، تمثال لعذراء بضفيرتَين ذهبيتَين كالقمح، وذراعَين ضخمتَين، وتصفيفة شعر شاهقة الارتفاع، وتنورة مطوقة عملاقة. تدور هذه العذراء أيضًا حول نفسها، ومن داخلها ينبعث صوت أرغن دوار يُشبه البيانولا حاليًّا. تقف الدوارة على قاعدة خشبية مستديرة. فُتح بابٌ في هذا الهيكل الخشبي المستدير، ودخلت المرأتان، وكان على تايتنجر أن يتبعهما، والغريب أن العملاق دخل هو الآخر بطريقة عجيبة من هذا الباب الصغير. وقفوا الآن بالأسفل، تعلوهم ضجة الناس، وموسيقى الأرغن، وصلصة السلاسل التي عُلِّقت عليها المركبات. كان المكان مظلمًا ورطبًا. وكان هناك حمار يذوب لونُه الرمادي مع الظُّلمة الكابية في هذه الغرفة، يدور في دائرة محدَّدة بلا انقطاع، خلف كيس صغير من الشوفان يتدلَّى أمامه لكنه بعيدٌ عن متناوله. هذا الحيوان هو الذي يُبقي الدوَّارة دائرة، ومن حين لآخر يهتف به شاني مشجعًا لدرجة أنه يبدأ في الركض كما لو كان حصانًا. أوضحت كرويتسر: «أنا لستُ عديمة الإنسانية. لديَّ حمار آخر، للتناوب!» خرجوا جميعًا من خلال الباب الضيق مرةً أخرى إلى الهواء. وتوجَّهوا بأمر من ترومر إلى «المقهى الثاني!» كانت الموسيقى العسكرية تعزف، والناس يضحكون، سعداء، ينضحون بالعرَق، في شبه فقدان جماعي للوعي. وكان الهواء مع ذلك خفيفًا، عطرًا، أنيقًا على نحو ما، مهذبًا، والناس على ما هم فيه من صخب، كانوا ما يزالون متحفِّظين. كانت هتافاتهم تبدو كما لو كانت تحذيرات موجَّهة إلى الآخرين لتنحية كآبتهم، أمنية السعداء في رؤية الأشياء المفرحة فقط. ابتهجَ تايتنجر.

سألته كرويتسر إن كان قد رأى من قبل متحفًا للشمع. فقال: «بالتأكيد»، وسرد لها بحماس كل الأشياء التي رآها هناك. على سبيل المثال: ذو اللحية الزرقاء، والمجرم الخطير تسينجرل، وشيخ المنسر كراسنيك من ترانسيلفانيا، وثوار البوسنة، وتوءم ملتصق. قال ترومر هذه المرة بلُغة سليمة: «السيد البارون يتمتَّع بذاكرة فذة!». لم يسبق لتايتنجر أن سمع مثل هذه الإطراءات. أرادت ميتسي أن تعرف متى سيظهر بالزي العسكري مرةً أخرى. قال تايتنجر: «في عيد ميلاد الإمبراطور». كان يعرف أنه يكذب. لكنه أراد أن يجعل الجميع سعداء. في الواقع كان الكل هنا من الشعب. كانوا ظرفاء للغاية، «أبناء الشعب هؤلاء»، حتى العملاق ترومر.

من أجل استعادة كيان ميتسي المحطَّم مرة أخرى، كان من الضروري استغلال الفرصة الوحيدة السانحة لها الآن؛ ألا وهي متحف الشمع. كانت السيدة كرويتسر ترى أن البارون لا يمكن أن يُمانع. من جانبه أيضًا قال تايتنجر: «لكن كيف!» المسألة سهلة. عليهم فقط أن يكونوا حذِرين ولا يتعرَّضوا للخداع، حتى يصلوا إلى السعر الحقيقي.

هتفَ ترومر: «مبلغ كبير!».

إلا إذا كان البارون سيُساهم بجزء، بدلًا من النفقة إن شئنا القول؛ حيث إن ميتسي هي التي تولَّت أمر الولد، بل وبأسلوب جيد، كما يليق بطفل له مثل هذا الأب.

هكذا! فكَّر تايتنجر. بهذه الطريقة أتخلَّص نهائيًّا من مسألة النفقة المملة. وقال: «بالطبع! بما في وسعي» — لم يقُل هذه العبارة من باب الحذر، ولكن لأنها بدت ذات وقع جاد للغاية — «سأُساعد ميتسي!»

لسوء الحظ حدثَ في اللحظة التالية مباشرةً شيءٌ محرج للغاية. الملازم أول تويفنشتاين من الفرقة الحادية عشرة من فرسان الأولَنْ (حملة الحراب)، كان يسير متأبطًا ذراع خطيبته الآنسة هوفمان فون ناجيفوتيج، فلما مرَّ به هتفَ: «إنه هو! تايتنجر!» كان موقفًا مروعًا، أو بالأحرى «لا يُحسَد عليه». قال لجلسائه: «أنا أقيم في فندق الأمير يوجين! رجاءً، اسألوا عني غدًا!» نسي حتى أن يدفع الحساب، نهض وأسرعَ نحو تويفنشتاين، فسحبه هذا إلى طاولة أخرى، حيث شرب النبيذ، واضطرَّ إلى أن يضحك، ويستمع إلى الحكايات، ويشرح كيف أنه تفرغ تمامًا لضيعته. «فهي كما تعلم، ثروة، وإلا ضاعت إلى الأبد!»

في وقت متأخِّر من الليل، كان يسير بمُفرده عبر منطقة براتر. كان الغبار لا يزال يملأ الأجواء. حوافر الخيل الرشيقة تدقُّ برفق على الطريق الرئيسي أمام العربات ذات العجلات المطاطية العديمة الصوت. «تضيعُ إلى الأبد، إلى الأبد، إلى الأبد» هكذا كان يتردَّد في رأسه على إيقاع حوافر الخيل. ومن بين الخمائل والأشجار على جانب الطريق، كانت تصله همساتُ العشَّاق المفعَمة بالرغبة. قدمت له بائعة زهور زهر البنفسج. اشترى منها خمس باقاتٍ وظلَّ ممسكًا بها دون تفكير، حتى أول فتاة جاءت في طريقه. أعطى الصغيرة الزهور وذهب معها إلى الفندق. كان يخشى قضاء الليل وحيدًا.

٢٧

في الضحى كشفت براتر عن وجهٍ يجمع بين جمال حضاري لمتنزَّه، وسكون غامض لغابة، وحركة نشطة عشية يوم عيد.

في ذلك الوقت، كثيرًا ما كان يُرى البارون تايتنجر يسير — على قدمَيه — في الشارع الرئيسي. وكان قبل سنوات طويلة — تبدَّل خلالها وجهُ العالم — يقطع هذا الشارع راكبًا، على ظهر بيلادس.

كان البارون يسير أحيانًا بمحاذاة طريق الركوب، فيمر به السادة في خبب أو في ركض. يتعرَّف على بعضهم حتى دون أن يتبيَّن ملامحهم، من إيقاع الخيل ومن خطواتها، من الطريقة التي يجلس بها الراكب على السرج، وكيف يُمسك باللجام وبالسوط، ومن انحناءة الظهر. هذه فرس جلانس آيري باز. والراكب هناك تيبور فون دانيِل. وفي الجهة الأخرى كان إيميليو كازابونا يُحيِّي مواطنه الكونت بوجاتشيو. حصان المصرفي فون جولدشميت كان بُنيًّا من إسطبلات الكونت خون هيدرفاري، يساوي ألفَي جولدن. على النقيض من هذا تركب السيدة زايلر فرسًا قبيحًا ذا مشية غير متناسقة وعجُز عريض جدًّا. بجدية تامة، كان تايتنجر ينتبه كلَّ صباح إلى مثل هذه الملاحظات. لم يعُد يذهب إلى أيِّ مكان آخر، لكنه ما يزال يعرف الجميع. وقد بدا له بطريقةٍ ما أن من واجبه متابعة ما يقومون به. في بعض الأحيان كان يُثير قلقه غيابُ أحد الفرسان؛ إذ لم يظهر في الشارع ليومين متتاليَين. عندئذٍ يذهب إلى فندق «شبيتس» ويجلس في المطعم، حيث اعتاد الكثير من راكبي الخيل أن يترجَّلوا. كثيرون يعرفونه. وعما حدَث له يسألون، فيُجيب دائمًا بنفس العبارة الكاذبة: «أنا صاحب قراري!» هكذا كان يقول. الحياة في الضيعة مروعة، لكن وجوده هناك ضرورة ملحَّة. أصبح انطوائيًّا غريبًا عن الناس. لم يعُد يجرؤ على الذهاب إلى أحد الصالونات. وفقَدت الحياة لديه كلَّ معنى. قال البارون العجوز فيلموفسكي، عضو مجلس الشيوخ، والذي يتعهَّد منذ سنواتٍ وبشغف كبير تزويج السادة كبار السن من فتياتٍ صغيرات من أُسَر مثقلة بالديون: «حان الوقت لتتزوَّج أخيرًا!». اعترفَ بصراحة أن النهج السياسي الوحيد الذي يقرُّ به ويتَّفق معه يتمثَّل في سياسة الأسرة. قال تايتنجر: «كان يجب أن أتزوَّج من هيلينا آنذاك!». فرد فيلموفسكي: «إنها غير سعيدة على الإطلاق. الكونت «ﻓ» مشلول تمامًا. والشاب تشيرشكي يغازلها. لطالما كان زوجها عديم التمييز.»

وعلى هذا النحو كانت الصباحات مخصَّصة في الغالب للطبقة الأرستقراطية. أما فترة ما بعد الظهر، فقد نذَرَها البارون «للشعب»، في براتر أيضًا. كثيرًا ما كان يمرُّ بدوارة الخيول ويتسامَر مع ميتسي وكرويتسر والسيد ترومر، ويذهب معهم بكل سرور لسماع الموسيقى العسكرية في «المقهى الثاني»، ويطلع على سير المفاوضات بشأن متحف الشمع. كان شديد الحماس لفكرة متحف الشمع. شخصيات الشمع لطيفة للغاية؛ ألطف من الدوَّارة على أيِّ حال. قال ترومر إن الأمر يتطلب قدرًا لا بأس به من المال ليخرج كلُّ شيء كما ينبغي «حكمتك يا رب». كما أن المكسب المتوقَّع كبير جدًّا. في بعض الأحيان، كانت ميتسي شيناجل تتبادل الأماكن مع كرويتسر أو ترومر، كما لو أنها تذكَّرت فجأة واجبًا كان مهملًا منذ فترة طويلة، فتجلس ملاصقةً للبارون وتُمسِّد يده برفق. في المرة الأولى فزعَ وهبط عليه صمتٌ مفاجئ. ثم اعتادَ الأمر متعللًا: «لا يهم، ميتسي فتاة طيبة على كل حال؛ إنهم جميعًا أناس طيبون. إنها «طريقتهم الشعبية» ليس إلا.» بل إنه أحب هذه الأساليب تدريجيًّا. في أمسيات الربيع الباردة كان ينبعث من ميتسي شيناجل دفء أنيس. استيقظت فيه ذكريات دافئة، ذكريات جسدِها، الظاهر منه والخفي، وتمنُّعه الهادئ، وعطاياه الشهوانية. صحيحٌ أن ميتسي كانت تصدُر عنها حركاتٌ مزعجة. لكنها أدركت ذلك بنفسها، فبدأت تمتَنِع عن ذلك تدريجيًّا. كبَحت جماح حيويتها، لم تعُد تُصفِّق بيديها أمام وجهِها عندما تضحك، ولم تعُد تصرُخ عندما تندهش. منعت نفسها من كل هذا، وطمأنت نفسها بنفس الطريقة التي جرَّبتها قديمًا أيام المدرسة؛ سينتهي كل هذا خلال أربع ساعات على الأكثر. حامت في رأسها أفكار متضاربة ومشوَّشة. كانت في السجن كما في المدرسة من قبل، تشعر فقط بالعقاب، لا بالمهانة. لكنها الآن بعد أن أصبحت حرة تشعر بأنها قد وُصِمت ظلمًا. ظلمًا! فماذا كان ذنبها؟ فكَّرت مليًّا، وبالدقة التي لا يقدر عليها سوى الذين يتعرَّضون للأذى والازدراء، تتبَّعت حياتها سنةً بسنة، وفعلًا بفعل. في البدء كان تايتنجر. قبل ذلك لم تكن هناك سوى الظُّلمة الغامضة في دكان أبيها. فجأةً دخل شخص محاط بهالة لامعة. على ياقته نجوم، وعلى سُترته شموس، وخطوط رفيعة من البرق الفضي اللامع على فخذَيه. كانت ستتزوَّج الحلَّاق زاندل في سلام لو لم يأتِ هذا الرجل المتألق! لم تكن لتذهب إلى السيدة ماتسنر! ولم تكن لتصبح محظيَّةً وتحظى باللآلئ كهدية! اللآلئ تجلِب النحس! تايتنجر هو المسئول عن ذلك.

ولأنها عجزت عن الصمت لفترة طويلة، كعادتها دائمًا، عبَّرت عن أفكارها أمام كرويتسر. نالت التأييد. أثارت كرويتسر مسألة الطفل غير الشرعي. من واجب تايتنجر أن يرعى الأم والابن. وانضمَّ إليهما إجناس ترومر. وكان له نفس الرأي. وانطلقَ من نقطة أن «الناس كلهم سواسية!». كان ترومر يُفكِّر في أطفاله الثلاثة غير الشرعيِّين: «الرجل من عينتي يشدُّه إذا لم يدفع النفقة! مجرَّد بداية! والبقية تأتي، حلقة ورا حلقة!» كان ترومر يُفكِّر في أطفاله الثلاثة غير الشرعيِّين. يا لها من مشاكل! بالطبع كانت الأمهات الثلاث قد لجأن إلى المحكمة. نجحَ في حالتَين في إنكار الأبوة. أما الحالة الثالثة، وهي طفلة، فقد تركها مع عمَّته العجوز في كريجلاخ. وهناك سقطت في غلاية الغسيل وماتت. أما بالنسبة إلى السادة النبلاء، فالأمور ليست بهذه الصعوبة. كان بديهيًّا أن يُقدم البارون لميتسي متحف الشمع كهدية! بل وحتى هذا لم يكن إلا تعويضًا متواضعًا عن كل ما احتملته.

اعترفت شيناجل: «لكني ما زلتُ أُحبه!». كانت تحبُّه بالفعل. بل إنها تعتقد أحيانًا أنها تستطيع أن تتبع تايتنجر مرةً أخرى، كما سبق وأن فعلت، من بيت أبيها إلى هيرِن جاسِّه، ثم تذهب إلى بيت ماتسنر، وتُنجب طفلًا، وتحصل على لآلئ النحس، وتُسجَن مرةً أخرى. لم تكن نادمة على أيِّ شيءٍ من هذا. كما أن حنينها إليه يملأ قلبها، حنين إلى يديه، رائحته، لياليه، إلى حبِّه. إنها تشتاق إليه، وفي لحظات صفائها كانت تستغرب أن ما يدفعها إليه ليس الحب فحسب، بل الرغبة في الانتقام أيضًا. تُريد أن تنتقم. إنها لتايتنجر. فلماذا يبتعد عنها؟

كانت تعلم أنه يتمشَّى كل صباح في براتر؛ فخرجت ذات مرة لمقابلته. رمقته من بعيد، كان يمشي على مسافة بعيدة أمامها، عرفته من ظَهره ومن مشيته. بدا نحيفًا وضعيفًا وهو يمشي بين الأشجار الضخمة، اغرورقت عيناها بالدموع؛ فمجرد الطريقة التي يمشي بها يمكن أن تُبكيها. كان من الجميل جدًّا مجرَّد السير خلفه، أن ترى ظهر سيِّدها فقط وتُحبه، وظلَّه كلما ابتعدَ من حين لآخر عن الأشجار إلى الشارع المشمس. كانت تقول في نفسها: «سيدي، البارون، النقيب.» حتى في سرِّها لم تجرؤ أن تسميه فرانتس، كانت تخاف ذلك. كانت إن قالت في ذهنها «فرانتس»، اخترق سيفٌ قلبها.

كان من الجيد أنها لم تلقَه مصادفةً؛ فربما كان هذا أكثر من احتمالها. أوشَكت على العودة إلى الوراء، حتى لا يُقابلها اليوم؛ ليس اليوم؛ لكنها أرجأت العودة لبعض الوقت. وبدون أن تشعر راحت تُسرع خطاها أكثر فأكثر. أصبح بوسعها الآن أن تسمع خطواته. فجأةً توقف، واستدار بسرعة، فرآها. كان قد شعر بأن أحدًا يتبعه.

جعلها تقترب. «أتعرفين يا ميتسي، أنا لا أُحب المفاجآت!» هذا صحيح، كان يكره المفاجآت. حتى هدايا عيد الميلاد التي لا يرغب فيها أو بالأحرى لم يطلبها بنفسه، كان يكرهها، يُتلفها أو يُضيعها على الفور. كان يجد المفاجآت شيئًا مبتذَلًا، مثل صرخات الذُّعر أو الاستغاثة، وبكاء امرأة بصوتٍ عال، ولعبة تاروت صاخبة في المقهى، وشجار بين رجلَين في الشارع. كذبة ميتسي: «إنها مصادفة، أعتذر يا سيدي البارون! ظننتُ أن سيدي البارون يُحب الركوب؟» فأجابها: «ليس لدي حصان يا ميتسي. ولا أركب الخيول المستأجَرة! إلى أين تذهبين إذن؟» كان مرتابًا بعض الشيء. قالت ميتسي: «ليس إلى أيِّ مكان، أسير فقط!». فقال لها: «حسنًا، عودي إذن، واجلسي عند شتاينكر في الحديقة، واشربي قدحًا من البيرة. سآتي خلال ساعة!» استدار ومضى.

لكنه في الحقيقة لم تعُد لديه أي رغبة في هذه التمشية. وقد ابتعد أيضًا عن طريق الفرسان. استدار عائدًا. شعرَ ببعض الشفقة على ميتسي. ثم خجل من هذا الشعور بالشفقة. لو لم يكن لدَيها هذا الابن البائس، لكان كل شيءٍ على ما يرام. فجأة تذكَّر أنه ابنه أيضًا. لم يكن هذا شعورًا بالمسئولية على الإطلاق. لكنها حقيقة لا يمكن إنكارها؛ لا شكَّ أن زاندل ابنه، ولم يكن بوسع ميتسي فعل أي شيء حيال ذلك، أو لم يكن سوى القليل جدًّا. عند دخوله حانة شتاينكر بدا وجهُه لطيفًا بعض الشيء. كانت فترة بعد الظهيرة بالنسبة إلى البارون قد بدأت مبكرًا اليوم. وقد افتتحت ميتسي القسم الشَّعبي من يومه في حوالي الحادية عشرة. تحوَّل اهتمام تايتنجر تلقائيًّا إلى الدُّمى الشمعية. يلزم الكثير من المال. كم؟ هذا يعرفه ترومر. سألها تايتنجر كم لديها هي. فاعترفت ميتسي فقط بمبلغ ٣٠٠ جولدن الذي ورثته عن المرحومة ماتسنر. أما ما تبقَّى من متجر أدوات الخياطة، فلم تأتِ على ذكره. كانت كرويتسر وهي لا تزال في الزنزانة قد نصحتها ألا تُخبر أي شخص عن هذا «القرش الأبيض»، ولا حتى ترومر. والأهم ألا تُخبر ابنها. لكنها الآن لم تكن تتبع نصيحة ليني السديدة فحسب، بل تتبع صوت قلبها أيضًا. فمنذ سجنها سكنها خوفٌ رهيب من الشيخوخة ومن العوز. وكأن كل نصيبها من اللامسئولية قد استُهلك، تبخَّر في آنٍ واحد مع أموالها؛ استُنفد كلُّ رصيدها من الأريحية والثقة والحيوية والكرم. ما بقي في أعماق روحها هو الخوف الغريزي من تقلُّب الحياة المريرة، ذلك الخوف الذي كان يتوارى فقط في مرحلة الشباب، التوق إلى الأمن، وحب التملُّك والاقتناء، والميل إلى الاحتفاظ بالأشياء وتنحيتها جانبًا وإخفائها، باختصار، الإيمان الغريزي والأبَدي لدى النساء بالادِّخار والتأمين. لم تشعر بالخجل. كان كتمانها أشبه بواجب أخلاقي. كان التزامًا أخلاقيًّا أيضًا أن تدع تايتنجر يدفع. فالمال الذي دفعه لها يُغذي حبها له. مبلغ الألفَي جولدن في البريد. ودفتر التوفير يرقد في قاع صندوقها ملفوفًا في منديل. ومفتاح الصندوق معلَّق في رقبتها بجانب الصليب وميدالية القديسة تيريزا. قال تايتنجر الذي كان يُكنُّ لتماثيل الشمع تقديرًا بالغًا، تمامًا كازدرائه للمال: «مؤكَّد أن ثلاثمائة مبلغ قليل جدًّا». لا يمكن أن تكون هذه التماثيل الشَّمعية رخيصة. نعم، بكل تأكيد، إنه يفهم هذا. قال «سأسمح لنفسي بمساعدتكِ قليلًا!» فأجابته: «أوه، شكرًا جزيلًا! هذا لطفٌ منك، نبل منك، هذا ما يليق بك دومًا يا سيدي البارون!» وبكلتا يديها أمسكت يده اليمنى؛ وقبل أن يتمكَّن من أيِّ حركة دفاعية رافضة، انحنت على يده وقبَّلتها بحرارة. كان مصدومًا ومرتبكًا وعاجزًا.

فجأة انفجرت ميتسي باكية. ضاعفَ هذا من استياء تايتنجر، لكنه حرَّك قلبه أيضًا، مثلما حدث من قبل تقريبًا، عندما بدأت ميتسي بالبكاء في مكتب مأمور السجن. سألت ميتسي: «ما زلت تكنُّ لي بعض الحب؟». أجاب تايتنجر ثقةً منه أنها ستكفُّ عن البكاء: «نعم، نعم، بالطبع». لكن العكس هو ما حدث: تدفَّقت دموعها أكثر حرارة وكثافة. لكنها لم تدم طويلًا. رفعت ميتسي وجهها. شعرها المشعث، وقبَّعتها البالية، والمنديل المجعَّد، والزرقة البريئة لعينَيها اللتَين بدتَا طفوليتَين من بين الجفون المبلَّلة بالدموع، كلُّ هذا وقعَ في قلب البارون وعقدَ رباط الأُلفة بينه وبين هذه المرأة. شعرت به على الفور، وبالسرعة التي ينقضُّ بها نسرٌ على فريسته بعد طول حَوم وتربُّص، بمُجرد أن يعرف أن لحظة ضعفها قد حانت، سألته: «هل لي أن آتيَ إليكم اليوم، في المساء؟» أجاب تايتنجر: «ليس اليوم!». لا يُحب أي شيء يأتي على غير استعداد. سألته: «غدًا؟ بعد غد؟ متى؟» قال تايتنجر: «نعم، غدًا، هذا إن لم يمنعني شيءٌ مفاجئ!»

٢٨

كان لديه أملٌ غامض في أن يحدث أيُّ شيءٍ كفيل بأن يمنعه. لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وجاءت ميتسي شيناجل، حسب الاتفاق. سرعان ما تعوَّد عليها، كما هو حاله مع أغلب الأشياء التي يُصادفها، الجيد والرديء، «الظريف» و«الممل». استعادَ مع ميتسي الدفء المألوف، وأعادَ اكتشاف أسرارها المعروفة له سلفًا. تكرر مجيء ميتسي بشكل مطرد. بشغف راحت تُغذي هذه العادة القديمة التي تجدَّدت. كان حبها عميقًا، كما كان في السابق، عندما بدأ. وكما في السابق، كانت تستسلم أحيانًا لتلك الأحلام الخطيرة وهي تعرف جيدًا أنها حماقة، وأن الاستيقاظ منها مرارة موحِشة. أحلام ساذجة، لطيفة في مرورها العابر، ومبهجة حتى مع خيبة الأمل التي تنتهي بها: البارون سيتقدَّم به العمر، وربما يُدركه أيضًا شيءٌ من المرض. أوه، حفظه الله! ربما يُصاب مثلًا بنوبة شلل بسيطة ومؤقَّتة تتطلَّب الرعاية. فتعتني به، تكرس نفسها له تمامًا، ليس كما تفعل الآن، بل بتضحية. ثم يتقدَّم به العمر أكثر، وتزداد حاجته إلى ميتسي، ثم تصير زوجة له. لقد حدَث ذات مرة أن كانت كونتيسة لليلة كاملة. فمن الممكن جدًّا أن تكون بارونة في آخر عشر سنواتٍ من عمرها.

في واحد من هذه الأيام تلقَّى شيناجل العجوز — إذ كان ما يزال ولي أمر حفيده — إخطارًا من مدير مؤسَّسة جراتس يفيد بأنه لم يعد بإمكانهم الاحتفاظ بالصبي زاندل؛ وعليه فإما أن يذهب إلى أمه في فيينا أو إلى أيِّ مكان آخر. لم يكن سلوكه ولا اجتهاده ولا حتى مواهبه تُؤهِّله للالتحاق بأي مؤسسة أخرى، لا في جراتس ولا في مقاطعة شتايرمارك كلها. أرسلَ العجوز الخطاب إلى ابنته. ماجدالينا كرويتسر وترومر كان لهما نفسُ الرأي، أن الولد لأمِّه، وأن طفلًا غير شرعي لا يذهب أصلًا إلى أيِّ مؤسسة. بل يتعلَّم حرفة؛ ومن ثم تجعل منه شيئًا نافعًا. كما أنها علامة من السماء، إشارةٌ من الرب، كما يقول الكتاب المقدَّس وكما يقول المعلم المسيحي دائمًا. ها هو الأب بيننا. لن نُخبره بشيءٍ. سيأتي الولد إلى هنا ببساطة. ثم نرسله إلى سيادة البارون، يُفضَّل أن يكون في الصباح. ها أنا ذا، ماذا أفعل الآن؟ ها أنا يا أبي! ربما يرسله إلى الضيعة، من يدري؟ فالبارون رجلٌ متعدِّد الأطوار.

بعد أسبوع، وفي الصباح بينما كان تايتنجر يهمُّ بمُغادرة الفندق، أخبروه بحضور الشاب شيناجل. كان الفتى الفظيع قد ترك انطباعًا قويًّا لدى تايتنجر المسكين. فعرف على الفور — على غير عادتِه — من الفتى المقصود. فأمرهم تايتنجر: «أحضروه! لكن إذا ما جاء إلى هنا مرةً أخرى فاطردوه!»

نعم، كان ذلك الفتى الفظيع مرةً أخرى، أطول من المرة السابقة، فمُه أكثر اعوجاجًا، وجفونه أكثر احمرارًا. ابنه! يبدو ابنه كما لو أن الطبيعة أرادت أن تسخر من البارون. نفس الجبين، وخط الشعر، والذقن، والحاجبين، وشَرطة العين. قال الصبي، وكان ممسكًا بقُبعته في يده: «صباح الخير!». لقد تغيَّرت ملامحه، صار أقبح بكثير من ذي قبل، لكنه مع ذلك بدا كما لو أنه رآه بالأمس فقط. قال تايتنجر: «السيد شيناجل؟» ثم أردف: «أوصتني أمي أن أُلقيَ عليك تحية الصباح!» قال تايتنجر: «شكرًا، أبلغ تحياتي للآنسة شيناجل!» وأشار إلى عربة أُجرة. يا لها من بداية يوم عصيب. سأله السائق: «إلى أين؟» فأجابه تايتنجر: «إلى بادن!» لكنه سرعان ما غيَّر رأيه، وهو ما يزال في شارع كيرنتنر، فقال: «إلى مركز الشرطة!» نزلَ، ودفعَ، لكنه لم يجد الشجاعة ليذهب إلى طبيب الشرطة الذي كان بالفعل يريد مناقشة موضوع شيناجل معه. فراح يتجوَّل في الشوارع بلا هدف. عندما دقت الساعات من الأبراج معلنة الثانية عشرة، كان قد مرَّ للتو من أمام قصر هوفبورج، قبل ثانية واحدة من تغيير نوبة الحراسة. كان الملازم من فرقة المشاة «دويتش مايستر» يصيح فيهم قائلًا: «خطوة تنظيم!» لأن الساعة في ساحة القصر لم تكن قد بدأت بعد في إعلان منتصف النهار. رفع ضاربُ الطبل عصاه، وتلاشت في أسًى آخر نغمات مارش رادتسكي مخلِّفة صدًى ضعيفًا تحت قوس بوابة القصر. الآن تدوي في الساحة دقات الساعة، مع قرع خفيف للطبل كأنما كُفوف صغيرة مخملية تضرب على جلد العجل، والآن يأتي النداء من الداخل: «سلام سلاح!» والآن يطلُّ الإمبراطور نفسه من خلف ستارة في مكانٍ ما. استولى على تايتنجر حزن لا يوصف. لأول مرة منذ فترة طويلة يشعر بالحنين إلى الزيِّ العسكري وبالأسى على الجيش. عزَفت الفرقة الموسيقية فالس الدانوب الأزرق. ظنَّ الجمعُ في ساحة القصر أنهم لمحوا الإمبراطور في إحدى النوافذ. رُفِعت القبعات والأيدي. وكادت الموسيقى أن تتلاشى وسط الهتافات. غمرت شمسُ الربيع الحانية القصر وابتسمت كأمٍّ شابة. تصاعد نشيدُ «حفظَ اللهُ الإمبراطور»، فاعترت تايتنجر قشعريرة قديمة يعرفها جيدًا، قشعريرة الجندية، قشعريرة النشيد الوطني. وقفَ وقبَّعته في يده، تتوق نفسه إلى التحية العسكرية.

في طريقه إلى «البيت الألماني»، حيث كان سيتناول الغداء اليوم، فكَّر بجدية، أليس من الأفضل أن يعود إلى الجيش. لم يعُد لديه نقود. جيد! كما أن قوات الاحتياط ليست سيئة. التقرير الطبي من الممكن تغييره. فصديقه كالرلجي يعمل في وزارة الحربية. لمدة ساعة أو ساعتَين ظل النقيبُ المسرَّح من الخدمة يتأمَّل تفاهة حياته وعدم جدواها. الضيعة، وميتسي، وهذا «الشعب» في براتر، هذه الماجدالينا كرويتسر، وهذا الترومر!

حتى تماثيل الشمع لم تعُد تُثير فيه أدنى اهتمام. مرةً يشتري متجرًا لأدوات الخياطة، والآن يشتري متحفًا للشمع، ثم ينتهي كلُّ شيء. يبيع الجزء الهزيل المتبقِّي من ضيعته! ويعود إلى وطنه! وطنه هو الجيش! سيُعيد التفكير في الأمر عند عودته إلى الفندق. عادَ وجلس في البهو.

جاء حارسُ البوابة وأخبره بأن الفتى الذي جاء في الصباح قد عاد برفقة السيدة التي تأتي كل يوم، ولا يعرف ماذا يفعل. قال تايتنجر: «دعهما يأتيان.» ومن ثم جاءا. كان تايتنجر يعتزم البقاء جالسًا، لكنه نهض، قام من مقعده. لم يكن في مقدوره أن يبقى جالسًا أمام أي مخلوق يرتدي زيًّا نسائيًّا. (ولو اقتربَ منه فستانٌ معروض في أحد محلات الأزياء، لقام له أيضًا.) بل إنه ابتسم أيضًا. دعاهما إلى الجلوس. أخرجت ميتسي شيناجل من كيسها خطابَ مدير المدرسة وقدَّمته إلى تايتنجر. ثم أخرجت منديلها أيضًا وأبقته في يدها. استعدَّت للبكاء. قرأ تايتنجر بضعة أسطر ووضع الخطاب على الطاولة. بدأت ميتسي تمسح عينَيها بالمنديل. وقالت بحرقة وبصوتٍ منتحِب: «الولد ضاع!» كان اتهامًا واضحًا. لقد حبطَ عمل تايتنجر.

قال تايتنجر: «عزيزتي الآنسة شيناجل، كم عمر ابنكِ الآن؟»

«سيُتم الثامنة عشرة، غدًا!»

قال تايتنجر: «أوه، تهانينا!» ثم سأل: «ماذا تنوي أن تفعل الآن؟»

«أعتقد، والسيد ترومر من نفس الرأي أيضًا، أنه يجب أن يُساعِد أبي في دكانه، ثم قد يرث الدكان، فأبي مريض!»

قال زاندل: «لكن ليس غدًا؛ غدًا عيد ميلادي!»

قال تايتنجر: «وسأُهديك شيئًا في الحال حتى لا تُكبِّد نفسك عناء المجيء إلى هنا مرة أخرى!» سحب من محفظته ورقة بمائة جولدن. طواها زاندل وأمسكها في قبضته وقال: «شكرًا!» هتفت ميتسي: «قل شكرًا جزيلًا سيدي البارون!». قال زاندل: «حسنًا. شكرًا جزيلًا سيدي البارون!» سادَ الصمتُ لبرهة. ثم قال زاندل فجأة: «هيا يا ميتسي!» ونهض واقفًا.

قال تايتنجر: «أنا أيضًا يجب أن أذهب»، ونظر في ساعته، ونهض. التقط قبعته وخرج قبلهما.

قالت ميتسي لابنها في الشارع: «هات النقود!». صاحَ زاندل: «ما أعرفه الآن أن مائة مثل هذه ليست لامرأة مثلك!» سار بجانبها قليلًا، لكن عند أول تقاطع انعطفَ دون أن ينطق بكلمة. نادت ميتسي: «زاندل، زاندل!». لكنه لم يلتفت. سارت في شارع روتِنتورم شتراسه، وعلى رصيف فرانتس يوزِف وجدت نفسها محتاجة إلى الجلوس. كان هادئًا في هذه الساعة. كان يصلُها صوتُ الخرير الهادئ لماء الدانوب من بين شجيرات لابُرنون (أو مطر الذهب) الكثيفة. بعض طيور الشحرور الأليفة حطت على المقعد الذي تجلس عليه ميتسي. جاءت من أجل الطعام، كما يمرُّ موسيقيو الشارع على الناس لجمع النقود بعد فراغهم من عزف لحنهم القصير. نهضت ميتسي لشراء بعض المخبوزات من أحد المحلات المجاورة لتُطعم الطيور. مثل كل النساء الصغيرات كان لديها فيضٌ من حنان على الطيور، وامتنانٌ عميق لهذه الألفة التي تُبديها. فتتت قطعة الكرواسون ببطءٍ متعمَّد، لتُبقي الشحارير بالقرب منها أطول فترة ممكنة. لن تحتمل أن تكون وحيدة اليوم. أرادت أيضًا أن تعود سريعًا إلى كرويتسر وترومر. وبصوتٍ خافت، راحت تتحدَّث إلى الشحارير. حكت لهم إلى أي درجة كان زاندل سيئًا منذ عودته. («وقد كان لطيفًا جدًّا عندما جاء إلى العالم، وبعد ذلك أيضًا، عندما كان لا يزال لدَيه خصلات شعر جعدة. وكم كان يُسعدها عندما يُناديها: أمي. والآن لا يقول أمي أبدًا، بل دائمًا ما يقول ميتسي، أو يا امرأة. أيتها المرأة!») بدأت تبكي بمرارة. بدأت تشعر بأنها لم تتعرَّض للإذلال الحقيقي إلا بعد ميلاد هذا الابن. بالطبع في بيت يوزفينا ماتسنر كانت تتعرَّض لسوء المعاملة في بعض الأحيان، لكنها لم تتعرَّض للإهانة مطلقًا. حتى في أثناء الزيارات الأسبوعية الإلزامية للطبيب في قسم الأمراض السرية، لم تشعر بالعار أبدًا، ولا حتى بعد ذلك، سواء في الحجز أو في السجن. كان لا بد أن يأتي ابنها لينتهكها. في هذه اللحظة شعرت بفداحة الكلمة وثِقلها: انتهاك. يا للعجب، كانت هذه الكلمة من مفرداتها اليومية منذ وعت الدنيا، لكنها الآن فقط تُدرك معناها الثقيل. نهضت، ونظرت حولها، كان المكان يخلو من أي شرطي. تجرأت وخطت فوق العشب، ووقفت على درابزين قناة الدانوب، وراحت تنظر إلى النهر بالأسفل. قبل بضع سنوات ألقت كارولينا الصهباء بنفسها في الدانوب، من مكان أعلى قليلًا عند جسر أوجارتن، ولم يُعثَر لها على أثر. في ذلك الوقت، قالت السيدة ماتسنر إن الدانوب لا يحبُّ أن يُسلِّم جثثه. بل يسحبها إلى البحر. ارتجفت ميتسي من ميتة كهذه؛ وكلما أطالت تحديقها في المياه المندفعة بسرعة، اشتدت رجفتها، لكنها في الوقت نفسه بدأت تستعذب خوفها. راحت تستمتع بخوفها من رقادها الأبدي تحت الماء. لما رأت وميضَ خوذة شرطي بالأسفل على رصيف الميناء، عادت إلى المقعد.

شعرت بالحنين إلى السجن. لم تشعر بمثل هذه الوحدة هناك في الزنزانة الصغيرة. أما هنا في الخارج، فالعالم كبير حتى إن امرأة شابة مثلها يتضاعف شعورها بالوحدة ألف مرة. كانت الوحدة كبيرة بحَجم العالم. صحيحٌ أن كرويتسر صديقتها، لكن لديها ترومر. هل هناك صديقة يمكن الاعتماد عليها إذا كانت تحب رجلًا؟ البارون لا يمكن أن يكون لها. الشيءُ الوحيد الذي استطاعت نيله منه هو زاندل وقد هرب منها، فلم تكن أمًّا بالنسبة إليه. لو أنها فقط تستطيع أن تنسى كم كان لطيفًا. ربما كان يشعر بالأسف لما فعل، وينتظر أمه الآن عند الدوارة كما كان يفعل عصر كل يوم. مضت عبر براتر، متمهِّلة في مشيتها. فكلما تأخَّر وصولها، كانت أكثر ثقة في وجود زاندل هناك. لكن زاندل لم يأتِ إلا متأخرًا، في المساء، تفوح منه رائحة البيرة والكحول. كان أهدأ من العادة. في عينَيه وميضٌ غريب. تردَّدت قليلًا قبل أن تسأله عن المائة جولدن. لكن في النهاية لم تستطِع مقاومة فكرة أنها قد تستطيع إنقاذ سبعين جولدن على الأقل. قال زاندل: «ها هي!». سحب رُزمة أوراق من فئة عشرة جولدن. «أنفقت عشرين جولدن. دفعت مقدم دراجة، وسوف أتسلمها غدًا. هات الباقي!» دسَّ زاندل النقود في جيبه مرةً أخرى. ثم نزلَ عند الحمار ليحثه قليلًا، ويتكلَّم مع شاني. كان يريد أيضًا أن يتباهى بثروته. وكان شاني يحتاج إلى المال. كان لديه خاتمٌ فضِّي بفصٍّ أصلي، لكن زاندل لم يكن يثق في الفضة ولا في الحجر الكريم. الشيء القيم الوحيد الذي كان يمتلكه شاني هو مسدس. باعه إياه مع عشرين خرطوشة بمبلغ خمسة جولدن. عليهما أن يُجربا المسدِّس غدًا في مرج النهر، حيث يتدرَّب الجنود، وحيث لا تُثير الطلقات ريبة أي شرطي. كان السيد ترومر يحشر جسدَه خلال المدخل الضيق في اللحظة التي تمَّت فيها الصفقة. رأى النقود الورقية، وسأل من أين؟ ونعت البارون بالأبله، والأحمق اللعين، وأمر زاندل بأن يعطيه النقود فورًا أو يُعطيها لأمه. وإلا فسيحضر الشرطي، ويُحبس الولدان بسبب المسدس. قال شيناجل بنَبرة تصالُح: «لكنِّي سأحتفظ بالمسدس!». احتفَظ بالمسدَّس وسلَّم النقود. قال ترومر لميتسي أنه سيحتفظ بالنقود معه ما دام الولد في المنزل. فلن يستطيع أن يسرقها منه، كما قد يفعل مع أمه. اعتبرت ميتسي أن المال قد ضاعَ بلا رجعة، وتضاعفَ حزنُها.

لبضعة أيام ظلَّت تبحث عن تايتنجر. لم يعُد يأتي إلى براتر. لم تُقابله في الفندق. ذهبت إلى محل «شاوب» للحلويات في شارع بيتر جاسِّه، حيث يلتقي السادة أحيانًا. وقد كان جالسًا هناك، مع اثنين من الضباط. لم تجرُؤ على الاقتراب منه، ولا حتى الجلوس على طاولة أخرى. بقيت في الخارج. ظلَّت تسير أمام الباب جيئة وذهابًا، أخيرًا خرج تايتنجر، بمُفرده، قال: «آسف يا ميتسي، مشغول هذه الأيام، لأسبوع آخر. سلام!»

كان يُتابع عودته إلى الجيش بطاقة لم يعرفها في نفسه من قبل. يريد المثول أمام اللجنة الطبية في غضون أسبوع. ولكي يُنقَل إلى المشاة عليه أن يأخذ دورة مدتها ستة أشهر. كان يملؤه حماسٌ شبابي مثل طالب عسكري. كان لديه حماس متَّقد، كما يقال، لكن تصوُّره الطفولي أن حماس الإدارة العسكرية سيتَّفق مع حماسه كان في غير محله. كان يعتقد أن الأمور في وزارة الحربية تسير كما في الكتيبة: القائد يأمر، والمرءوس يُطيع. بعد الظهر تصدُر أوامر الكتيبة، وفي اليوم التالي تدخل حيز التنفيذ. لكن الحال ليس كذلك في ديوان الوزارة. فهم لا يتحدَّثون شفاهة أحدهم إلى الآخر، بل يرسلون المذكرات. حتى المقدم كالرجي لم يتمكَّن من تجنيب طلب تايتنجر هذه الرحلة المحيِّرة بين المكاتب، تلك الرحلة التي يجب أن تقطعها كلُّ الأوراق في دواوين الإمبراطورية النمساوية المجَرية العجوز. نما «ملف تايتنجر» وتضخم مع تنقُّله بين المكاتب. لكنه كان ما يزال أمامه الكثير حتى يصل إلى الحجم الذي يُؤهِّله للعودة إلى مكتب المقدم كالرجي. وبرغم يقظته في متابعة الملف خلال رحلته بكل تقاطعاتها وتعرُّجاتها، فإنه كان يفلت منه دائمًا، في نفس اللحظة التي يظن فيها أنه قد أمسك به.

لا، لا يزال أمام البارون تايتنجر وقتٌ طويل قبل أن يمثُل أمام اللجنة الطبية.

٢٩

في واحد من هذه الأيام تلقَّى تايتنجر أكثر زيارة محرجة له، من «صديقَين له من أبناء الشعب». جاءا معًا هذه المرة، الآنسة كرويتسر والسيد ترومر. كان تايتنجر جالسًا في البهو، وبشعور أقرب إلى الصدمة رآهما يقتربان. تقدم السيد ترومر أولًا وسأل عن البارون. وفي اللحظة نفسها، رأى تايتنجر جالسًا أمام قهوته. لوح بقبعته السوداء الرسمية. بدا وكأنه يُعطي إشارات براية حِداد. ثم استدار على الفور عائدًا إلى مدخل الفندق ولوَّح لماجدالينا كرويتسر لتأتي. كان يرتدي ملابس سوداء بوقار، أما كرويتسر فكانت في ملابس مزركشة كألوان الصيف. بجانب الجدية القاتمة التي كان عليها الرجل، بدت كرويتسر مثل مشتل أزهار متنقل يعتني به الموت شخصيًّا. ها هما أمامه، في بضع ثوانٍ استسلمَ تايتنجر للأمر الواقع. لم يستطع أن ينكر أنه هو شخصيًّا كان قد فكَّر أن يذهب إليهما في أحد هذه الأيام.

جلسا على الفور، ومكثا لفترة طويلة ينظُر أحدهما إلى الآخر، كما لو كانا يتفاوضان بأعينهما أيهما يبدأ بالكلام. وأخيرًا بدأ كلاهما في الوقت نفسه، بلغة ألمانية سليمة، وبالجملة نفسها: «وقعت مصيبة كبيرة!» سأل تايتنجر: «ما الذي حدث؟». كررت كرويتسر: «مصيبة!» وانفجرت في البكاء. أمرها ترومر: «اهدئي يا ليني!». وأخذ منها دفة الكلام، بعد جملتَين فقط بالألمانية السليمة، غرقَ في اللهجة، وفقدَ الثقة، فراحَ يسأل بين جملة وأخرى: «مفهوم؟» وفي النهاية كفَّ عن الكلام مضطرًّا. بدأت السيدة كرويتسر القصة من جديد. كان البكاءُ لا يزال عالقًا في حلقها، يصبغ كلامها الذي يُذكِّر بمواء قطة وشحذ سكين في الوقت نفسه، وأحيانًا برنين حاد لشوكة تنزلق على طبق. لقد دوَّخت تايتنجر لدرجة أنه لم يستطع أن يفهم منها أي شيءٍ طوال عشر دقائق. علاوة على ذلك، فقد بدا وكأنها هي نفسها لا تعرف ما تقول؛ إذ كانت من وقتٍ لآخر تقاطع نفسها بسؤال: «ماذا قلت للتو؟» فلا يجيب تايتنجر بشيءٍ، بينما يُعيد السيد ترومر الكرة من جديد. الآن بعد أن قرَّر ألا يحيد عن لهجته هذه المرة، تمكن من سرد شيءٍ مترابط. ومع ذلك، فقد مرَّ رُبع ساعة على الأقل قبل أن يفهم تايتنجر أن زاندل قد ارتكبَ فعلًا شائنًا، وأن المسئولية تقع على عاتق البارون في ذلك؛ فالذنب ذنبه.

كرر ترومر: «إنه ذنبك!».

قاطعته كرويتسر: «مع كل الاحترام يا سيادة البارون! لكن لا يصحُّ أن تضع ثروة في يد الولد!»

سأل البارون: «ماذا فعل بها؟». كلُّ ما أفعله خطأ، هكذا فكر. لقد أعطيتُه النقود لأرتاح، لكن العكس هو ما يحدث الآن.

قال ترومر: «لقد شرع في جريمة قتل! لكن الحمد لله أنه أنا. وما زلت حيًّا! وسأعيش طويلًا!»

سأل تايتنجر: «قتل، كيف؟». قالت ليني: «أطلق عليه النار!». وراحت تحكي مرة أخرى أن ترومر أخذ من زاندل المبلغ المتبقِّي من المائة جولدن؛ لكن زاندل احتفظ بالمسدس. «وفي مساء أول أمس، بعد أن أحصى ترومر حصيلة النقود من الدوارة كالمعتاد، ومضى عائدًا إلى بيته بعد منتصف الليل، إذا به يجد زاندل في مواجهته مطالبًا، ليس بنقوده فحسب، بل بمائة جولدن كاملة. رفع ترومر يده ليضربه. فأخرج زاندل المسدس وقال: «ارفع يديك». لكن ترومر لم يكن ليخاف من لصٍّ صغير كهذا، فدفعَ زاندل دفعةً أسقطته على الأرض وانطلقت رصاصة، ثم راحَ الولد يطلق بقية الرصاصات كالمتوحش، يستلقي على الأرض هكذا ويطلق النار في الهواء، وجاءت الشرطة في الحال، وها نحن جميعًا الآن في ورطة.»

سأل ترومر: «ألا تقرأ الجرائد أبدًا؟». كان يشعر بالإهانة. منذ الأمس والقصة كاملة بكل تفاصيلها منشورة في الصحيفة؛ بما في ذلك أيضًا استجوابه في مركز شرطة ليوبولدشتات. حتى إن أحد هؤلاء الصحفيِّين رسمه اليوم أيضًا، وستُنشَر صورته غدًا. هكذا. أمضت ميتسي اليوم كله في مركز الشرطة. السيد المفتِّش قال إنها قضية كبيرة وستُحال إلى المحاكمة، والتهمة — نطقها ترومر «الدهما» — سطو مسلَّح وشروع في قتل. استجوبت ميتسي أيضًا، وأدلت بأقوالها وكشفت عن هوية أبيه. وها هو موجود أيضًا في الصحيفة بالأبيض والأسود. أخرج ترومر صحيفة وأشار إلى جملة فيها. فقرأ تايتنجر: «المجرم الشاب هو ثمرة غير شرعية لعلاقة حبٍّ رومانسية خالصة جمعت بين الشابة ميتسي شيناجل وضابط بسلاح الفرسان من النبلاء ينتمي إلى صفوة المجتمع في فيينا، بارون …» وبدلًا من الاسم وُضِعت ثلاثُ نجمات.

ظل المسكين تايتنجر جالسًا لا يُحرك ساكنًا. قالت كرويتسر: «لو أنك فقط لم تُعطِه هذا المال الكثير يا سيادة البارون!». كانت عاقدة العزم على توعية البارون الأحمق. طرحت أمامه كل العواقب الوخيمة التي لا تنتظر الولد فحسب، بل تنتظر ميتسي وتايتنجر نفسه أيضًا، إذا ما وصلت القضية إلى المحكمة. بوليتسر، كاتب المحامي، وأحد معارف كرويتسر، وضَّح لها كل شيء كما يجب أن يتم. قال بوليتسر: «في بلدان أخرى، في أمريكا على سبيل المثال، الأطفال الأحداث تعاملهم المحكمة بشكل مختلف تمامًا. لكن هنا في النمسا، متأخِّرون في كل شيء.» دمدم ترومر: «صحيح تمامًا! الكبار هنا على أعينهم غشاوة. حكمتك يا رب!»

راحَ تايتنجر يُفكِّر، لكنه كان يدرك جيدًا من تجاربه السابقة أن أيَّ تفكير لم يصل به ولو مرةً واحدةً إلى نتيجة معقولة. المهم الآن أن يتخلَّص منهما. ومن ثم، استخدم طريقة نفعت في حالاتٍ كثيرة عندما كان في الجيش، أو على الأقل كتهدئة مؤقَّتة. نهض واقفًا وقال: «سأعمل اللازم!»، فملأهما شعورٌ بأنهما قد حقَّقا أهدافهما وأنزلا الهزيمة بالبارون. نهض كلٌّ من كرويتسر وترومر وغادرا الفندق. لكن في الأيام التالية، تبيَّن لتايتنجر أنه غير قادر تمامًا على «عمل اللازم». كانت قضية شيناجل وترومر قد أُحيلت بالفعل إلى قاضي التحقيق، عندما ذهب تايتنجر لمقابلة طبيب الشرطة. قال الدكتور شتياسني: «كما تعلم، ما دامت الأمور في أيدينا، في يد الشرطة، فالاحتمالات قائمة وثمَّة ما يمكن القيام به. القضايا، كما تعلم، من الممكن أن نجهضها، إذا جاز التعبير، ما دامت أجنَّةً في مرحلة مبكرة. لكنك جئت متأخرًا للغاية! أما مع قاضي التحقيق، فإن الثمرة تنضج على مهل، لكن بخُطًى ثابتة وتقدُّم لا يمكن إيقافه. ولا يوجد ما يمكن فعله حيال ذلك. كلُّ ما يمكنك فعله هو منع ذكر اسمك في سير المحاكمة، سواءٌ بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. وأتعهَّد لك بذلك؛ فالدكتور بلوم، سكرتير الجلسات في المحكمة، صديقي. حتى لو جاءت سيرتك أثناء المحاكمة، فلا شيء من ذلك سيصل إلى الصحف. عزيزي البارون، هذا كلُّ ما يمكنني فعله من أجلك.»

كان المقدِّم كالرجي أيضًا يرى أن المسألة قد خرجت من تحت أيديهم. لم يكن تايتنجر يفهم لماذا يكون التدخُّل في القضية وهي أمام القضاء أصعب منه وهي بين يدي الشرطة. قال له كالرجي يوعيه: «لتعلَم أن القاضي ليس مثل الضابط أو أي موظَّف في الشرطة. إنهم مثل الملائكة بين الموظَّفين. لكن ما يعنيك من القضية برمَّتها ألا تُؤثِّر على محاولتك العودة إلى الجيش. سافر، مؤقتًا! وسأحرِص على أن يسير كلُّ شيءٍ على ما يرام.»

لا، لم يُسافر تايتنجر بعيدًا، منعه من ذلك خوفٌ غريب. كان خوفًا من ضميره على ما يبدو. كان يشعر فعلًا بالذنب، وأنه مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بمصائر هؤلاء وشئونهم. كان يشعر بأن تغييرًا كبيرًا قد حدث فيه، لا يعرف بالضبط متى بدأ. ربما عندما قابله زدلاتشيك على الدرَج. وربما قبل ذلك، في دكان شيناجل في سيفرينج. وربما لاحقًا، عندما زار ميتسي في السجن. وربما لم يحدث إلا بعد أن ترك الجيش. بل إنه الآن أصبح قادرًا على إيجاد تفسير لحالة اللامبالاة التي كان ينعم بها في سنواته السابقة؛ قلة الوعي. يتصوَّر أحيانًا أنه كان يمشي طوال سنواتٍ عديدة معصوبَ العينَين على شفا هاوية مخيفة، والسبب في عدم سُقوطه هو أنه لم يكن يراها. ها هو بعد فوات الأوان قد تعلَّم أن يرى. يرى الآن الأخطار، صغيرها وكبيرها، في كل مكان. أفعال بلا تدبُّر، ونوايا لا تنفع ولا تضر، ترتَّب عليها تصرُّفاتٌ لا جدوى منها ولا ضرر، وكلمات طائشة مستهترة، وإجراءات ألقاها وراء ظهره بتجاهُل ولا مبالاة مطلقة، كلُّها الآن تفغر أفواهها بشكل مخيف، تريد أن تثأر لنفسها. منذ مدة والعالم لم يعُد بتلك البساطة التي كان عليها من قبل؛ لا سيما منذ الساعة التي خلعَ فيها زيَّه العسكري. تصنيفه البسيط للناس على ثلاث فئاتٍ: «ظرفاء، وعاديون، ومملون»، لم يعُد له وجود. فالناس في نظره الآن: مجهولٌ لا يُدرَك. قبل سنواتٍ طويلة كانت تلك العلاقة اللطيفة مع ميتسي تبدو سهلة، مجرَّد تجربة من سلسلة تجارب ممتعة، لا تعدو أهميتها وجبة طعام جيدة، ركوبة خيل ممتعة، دعوة للصيد، زجاجة شمبانيا، إجازة لأسبوعين. تبدو هذه التجارب في وقتها ملوَّنة ومبهجة ومحلِّقة في الهواء. تظلُّ ممسكًا بها كخيوط البالونات ما دامت مصدرًا للبهجة. ثم بمجرد أن يبدأ شعورك بالملل منها، تترك الخيط. ترتفع البالونات بلطفٍ في الهواء، بينما تتابعها بنظرة امتنانٍ لبعض الوقت، ثم تنفجر في مكان ما وسط السُّحُب. لكن بعضها لا ينفجر. تمكُث لسنواتٍ طويلة مستخفية في مكان ما، متحدية كل قوانين الطبيعة. وها هي الآن تعود معبَّأةً بأثقال كالرصاص فتسقط على رأس تايتنجر المسكين.

لم يعُد يقاوم هذا الإحساس السخيف بالواجب الذي يدفعه كل يوم إلى الذهاب إلى براتر وإبلاغ ميتسي وكرويتسر وترومر بفشلِ «مساعيه». كان بلا حيلة أمام إدراكه المؤلم أنه مسئول عن كل شيء: عن وجود زاندل، وعن المائة جولدن، وعن بشاعة الولد. كان يسقط في نظر «الشعب» هكذا كان شعوره حقًّا؛ (لأن هؤلاء الثلاثة كانوا هم «الشعب» بالنِّسبة إليه). قال ترومر: «لو كنت مثلك أعرف الرءوس الكبيرة!». أما كرويتسر، فرأت أن: «المسألة تتطلَّب فقط شيئًا من الشجاعة!» صرخت ميتسي: «مسكين يا ولدي!». كانت دمعتُها قريبة، تبكي بسهولة وسُرعة وغل. لم تكن دموعها وليدة الغَمِّ، بل الغِل. الثلاثة معًا شكَّلوا جبهة معادية ضد تايتنجر. حتى إنه لاحظَ من حين لآخر، وهو الذي لا تزيد قُدرته على الشك عن قدرته مثلًا على الجري لملاحقة الترام أو الانحناء لالتقاط شيءٍ غريب يجده في طريقه، تلك النظرات الخاطفة الغامضة التي كان ممثلو الشعب الثلاثة يتبادلونها من فوق رأسه. وفي بعض الأحيان يكون الشعب مباشرًا أيضًا. يتحدَّث بوضوح من خلال فم ماجدالينا كرويتسر: «نعم! لو أنك فقط كنت تدفع النفقة بانتظام!» و«هل يكفي متجرٌ لأدوات الخياطة ثمنًا لإغوائكِ أيَّتُها الفتاة الشريفة!» وقد وصل ازدراؤهم له إلى حَدِّ أن انزلاقهم إلى اللهجة المحلية صار أقل مع الوقت. كانوا يخلُقون بالألمانية الفصيحة مسافة بينهم وبين البارون. لم يعُد جديرًا بسماع لهجتهم.

قالت كرويتسر ذات يوم بنبرة ذات مغزًى: «سنُساعد أنفسنا!».

كانت لديها فكرةٌ رائعة، هكذا بدت لها. بمساعدة بوليتسر الذي كان مستعدًّا لكتابة أي عريضة قانونية تخطر ببالك في مقابل اثنين جولدن ونصف، سيكتبون إلى سمو الإمبراطور شخصيًّا عريضة استرحام. في البلاط وديوان الحكومة — كما يقول بوليتسر — يفحصون كل شيءٍ بعناية تامة. سنكتب أن ميتسي المسكينة أغواها البارون تايتنجر وتركها وطفلها بلا نفقة. وفي غياب الأب، نشأ الولدُ مستهترًا. إن ما يجري هو تدمير لحياة زهرة ما تزال تتفتَّح. وحدها رحمة الإمبراطور السامية هي التي من الممكن أن تُنقذ صبيًّا كهذا ومواطنًا وجنديًّا مخلصًا في المستقبل، من قسوة العقوبة التي يفرضها القانون. في البداية، فكَّر بوليتسر أن يتمهَّلوا قليلًا بهذه العريضة حتى جلسة المحاكمة. لكنه فكَّر في الاثنين جولدن ونصف وقال: «سأكتبها، ولكن على مسئوليتكم الشخصية!» وكتبها.

قبل ربع ساعة من خروج سمو الإمبراطور لنُزهته اليومية بالعربة في شوارع فيينا، ينطلق المخبرون السريون إلى التقاطعات ونواصي الشوارع، ليس للبحث عن مشتبه بهم أو شيء من هذا القبيل، بل على العكس، لتنبيه زملائهم، خُفَراء الدرك الذين يرتدون زي الشرطة الرسمي.

تُشبه نزهة الإمبراطور هذه أحد الأعياد المعتادة والمألوفة، يعرفها المرءُ منذ زمن طويل لكنه لا يزال ينتظرها كما لو كانت شيئًا جديدًا. فالناس يعرفون الربيع، على سبيل المثال، ومع ذلك يُرحِّبون به كل عام بنفس الفرح النَّهِم. يُغلق أصحابُ المتاجر متاجرهم ويقفون مصطفِّين على جانب الطريق. وفي المتاجر الكُبرى التي تحتلُّ عدة طوابق تهبُّ الفتيات، والبائعات، والخياطات، وصانعات القبعات، بنفس الفضول الأبدي، والرغبة الأبدية في التسلية، وفرحة أطفال فيينا المولعين بالحلوى، فيفتحن جميع النوافذ. إنها عطلة لمدة نصف ساعة: الكسرى يمرُّ.

عندئذٍ يُسمع صوتُ عربته، الحصانان البُنيان الرشيقان بحوافرهما الحساسة يُداعبان بلاطَ الشارع بخفة ولطف. يجلس المعاونُ في زيٍّ رسمي شبه احتفالي بجانب الحوذي الذي يُشهر سوطه فقط كعلامة على وظيفته ورُتبته. فخيول الإمبراطور لا تحتاج إلى سوط. خيول الإمبراطور تعرف دائمًا ما الذي عليها أن تفعله، كما تعرف أيضًا من الشخص الذي تقوم على خدمته. يبدو الأمر كما لو أنها لا تحتاج حتى إلى ربطها بالعربات الإمبراطورية؛ فهي تضع السُّروج وتربط الأعنَّة بأنفسها. إنها هي التي تُحدِّد للحوذي الوجهة والإيقاع، وليس العكس.

في هذا اليوم، عندما انعطفت الخيول من الطريق الدائري بوسط فيينا إلى شارع ماريا هيلفر، اندفعت امرأةٌ من وسط الصف الكثيف للناس الذين يهتفون عاليًا ﺑ «يحيا الإمبراطور» و«يعيش الإمبراطوار»، وفي ثانية واحدة وصلت إلى سلَّم العربة وألقت برسالة سقطت في حجر الياور. كانت مثل هذه الحوادث كثيرًا ما تتكرَّر، والإمبراطور يعرفها جيدًا. كانت عرائض استرحام واستغاثات مكتوبة من رعيته. قرأ منها الكثير، استجاب إلى الكثير منها، ورفض الكثير. ولكن بقَدرِ ما يعتبر أن هذه الحوادث جزءًا عاديًّا وطبيعيًّا من مهام منصبه، فإن رجاله يعتبرون أن هذه الاستغاثات المفاجئة والالتماسات التي تُقدَّم إليه بهذا العنف هي أعراض خطيرة جدًّا لحرية فوضوية مهدِّدة. هُرعَ المخبرون السريون، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة؛ عدة رجال على امرأة واحدة. سقطت قبَّعتها عن رأسها، وحقيبتها الصغيرة من يدها، التقطهما شرطي. كان الإمبراطور قد مضى بعيدًا. أُخذت المرأة إلى قسم الشرطة في نويباو جاسِّه، حيث تمَّ استجوابها وفقًا للوائح، وسجَّلوا بياناتها الشخصية. كانت ميتسي شيناجل. ثم أخلَوا سبيلها. قيل لها إنها من الآن فصاعدًا ستكون تحت المراقبة الشرطية الخاصة، وعليها أن تتوقَّع استدعاءها في أي لحظة. كلُّ هذا لم يُقلق ميتسي. كانت تعرف، مثل كل الناس، أنها قد تُعاقَب بالحبس ليومين أو بغرامة خمسة جولدن. كرويتسر وترومر اللذان كانا قد ذهَبا معها لتشجيعها، اصطحباها بانتصار إلى براتر.

أمرها ترومر: «لا تُخبري البارون بالأمر!» كان البارون قد أصبح عدوًّا علنيًّا ومكشوفًا بلا حماية إذا جاز التعبير. لو عرفَ بعريضة ميتسي قبل الأوان سيكون بوسعه الامتناع عن دفع النقود لمتحف الشمع.

كانت ميتسي شيناجل تُعاني بعض المشاعر المحرِجة بسبب التفاصيل التي قدَّمتها في العريضة. لكنها قالت لنفسها إنها فعلت ذلك لتُنقذ ابنها، طفلها الوحيد، «كلُّ ما لها في الدنيا».

كانت تقول لنفسها إنها أمٌّ في النهاية. قرَّرت ألا تخبر تايتنجر بفعلتها إلا في وقت لاحق، ربما بعد يومين. ليس قبل ذلك؛ بمُجرَّد دفع ثمن متحف الشمع. من المفترض أن تتمَّ الصفقة في غضون يومين أو ثلاثة، في مقهى تسيرناجل، في مقهى الفنانين بشارع براتر؛ حسب تقليد قديم يتبعه أصحابُ الأكشاك.

٣٠

كان من المفترض أن يأتي تايتنجر إلى مقهى تسيرناجل في الخامسة مساءً. منذ الرابعة كانوا في انتظاره؛ شيناجل وكرويتسر وترومر. كان كلُّ واحدٍ من الثلاثة يتملَّكه الخوف من أن تايتنجر قد يُغيِّر رأيه في آخر لحظة ولا يأتي، أو الأسوأ من ذلك، أن يكون قد سافر بالفعل منذ الأمس. كان يجب أن نُحكِم قبضتنا عليه! هكذا فكَّرت كرويتسر.

لكن ها هو هناك قد جاء في عربة أجرة. كانت تعرف عادته. لم يكن يحب أن يصل بالعربة إلى حدِّ المكان الذي يُفترض أن ينزل فيه. كان لديها من الوقت ما يكفي لتَعبُر الشارع وتكون في استقباله.

قال تايتنجر: «آملُ ألا أكون قد تأخَّرت!». ثم نظر في ساعته وقال: «هل كنتِ تنتظرينني هنا؟» كان دقيقًا كالعادة. قالت ميتسي: «يجب أن أُخبرك بشيءٍ أولًا!». لم تعُد تخشى نفور البارون من مشاعرها الحامية. لقد شعرت في تلك اللحظة بأنه من بين كل الناس في العالم، الوحيد الذي تأنَس إليه. هو حبيبها. إنها تُحبه أكثر من ابنها ومن أبيها. هذا ما تأكَّدت منه الآن. سألها: «ما الأمر؟ ما الأمر؟». وانصاعَ لها وهي تقودُه إلى الحارة الجانبية.

بدأت كلامها وقد رفَعت الكُلفة بينهما: «لا أريدك أن تشتري متحف الشمع». خاطبته ﺑ «أنت»، بكلِّ تلقائية، كانت المرة الأولى التي تُخاطبه فيها هكذا، بالنهار، وقد كانت من قبل مقتصرةً على ظلام تلك الليالي الحميمة بينهما. لديها الآن من المال ما يكفيها، ولا تحتاج إلى أيِّ مساعدة منه. إنما كانت تتبع في ذلك نصائح كرويتسر فقط، لكنها ترى أن هذا سيئ. ولم تعُد تُريد أن تفعل شيئًا سيئًا بعد الآن. وفوق ذلك، فقد قدَّمت أيضًا عريضة استرحام، من أجل زاندل، نعم …

قال بصوتٍ لم تعرفه من قبل: «لا يا عزيزتي ميتسي». حرَّر ذراعه منها. كان صوته يأتي من بعيد، كلُّ مقطع كان مثل باب معدني يغلق. كلُّ جملة كانت كالمزلاج حين يُغلَق على باب الزنزانة من الخارج. قال: «لا، أنا أُسدِّد ديوني. بهذا سيكون لكِ دخلٌ آمن، والولد أيضًا حين يخرج! فلنمضِ!» وتبعته، متأخرةً عنه بنصف خطوة، كان يمشي بسرعة كبيرة. لم يعُد قلبها يدقُّ، رغم أنها كانت مضطرة إلى الإسراع خلفه، وشعرت برأسها فارغًا، مجوفًا وثقيلًا رغم ذلك. يستقرُّ فوق رقبتها مثل حِمل غريب.

قال تايتنجر لنفسه وهو يدخل مقهى تسيرناجل: «لنَنتهِ من الأمر بسرعة». كانوا جالسين هناك بالفعل، صاحب متحف الشمع والسمسار وشخص آخر لم يكن تايتنجر يعرفه بعد. كان المستشار القانوني بوليتسر الذي من المفترَض أن يتولى صياغة العقد. لم يبذُل تايتنجر أي جهد لمتابعة كلِّ النقاط التي يدور حولها الكلام. كلُّ ما كان يفعله هو محاولته السيطرة على الارتباك الذي لم يكن ينبع من داخله، بل يتدفَّق عليه مندفعًا من جميع الجهات، كمزيج من الريح والصقيع والغبار والمطر الجليدي في آنٍ واحد.

لم يكد يلمس قهوته، حتى كان بوليتسر يريد الذهاب. سأل تايتنجر عما إذا كانوا قد انتهوا أخيرًا. قال بوليتسر الذي كان صاحبَ الكلمة هنا، والجميع يخاطبه ﺑ «سيادة الدكتور»: «للأسف لا، يا سيادة البارون! علينا التحدُّث إلى العجوز بيركولي، إنه يسكن على بُعد منزلَين فقط من هنا. ربما يُفضِّل البارون أن ينتظرنا هنا؟» لا، شيءٌ ما بداخل تايتنجر كان ضدَّ هذا المقترح. لا يستطيع أن يبقى هنا بمُفرده، على الرغم من شعوره بعدم الارتياح من رابطة عنق بوليتسر التي تُشبه المنديل، ومن قبَّعته المتهدِّلة، وصدارته المخملية المزركشة والأوراق الكثيرة في جيب سُترته. مشى معهم إلى مسافة منزلَين. يتبع المجموعة، مطيعًا مثل حيوان أليف، وبنفاد صبر يتضاعف كلما حاول التغلب عليه. صعدَ درجات السُّلم الثلاث. تبع الآخرين مرورًا عبر مطبخ مظلِم إلى مشغل ذي سقف زجاجي مشرق. ظل العجوز الذي ينحدر من نابولي جالسًا ولم يقم لهم.

كان بوليتسر قد أحضر العقد معه، يتعهَّد فيه العجوزُ تينو بيركولي بتوريد مستجدات الشهور الماضية مقابل مقدم قدره مائة جولدن. لم يُسمَح له بتقديم نسخ مكررة من نفس النماذج داخل الإمبراطورية. قد يعرضها متحفُ الشمع في برلين بعد أسبوعين. لا يخضع متحف جريفن في باريس، وخارج البلاد بشكل عام، لمثل هذه القيود. قال بيركولي: «سأحتفظ بالعقد حتى الغد. غدًا بعد الظهر! أريد أن أقرأه بمفردي.»

قال بوليتسر: «ألتمس منك اللطف وأرجو التكرُّم بقراءة ما يخصُّ السيد البارون». كان على تايتنجر العودة إلى المقهى مرة أخرى.

تبين أن عليه دفع مبلغ سبعمائة جولدن نقدًا، وتعهَّد بسداد المبلغ المتبقي — حوالي ثمانمائة جولدن — لاحقًا. ناولوه الحبر والقلم. وقعَ بيدٍ حازمة وإن كانت مبتهجة. بدا له أنه قد تخلَّص من أعباء هائلة، وحرَّر ضميره، وأفلتَ من الهموم، ومن كل الارتباطات المعقَّدة والمحرجة. ودَّعهم جميعًا وداعًا حارًّا. ووعدهم بالحضور يوم الأحد في افتتاح المتحف الجديد. كان من المفترَض أن يكون له اسم جديد. وقد اقترح بوليتسر أن يكون اسمه: «بيوسكوب العالم» (جهاز عرض سينمائي). أعجبهم الاسم جميعًا. ذهبوا لتناول بعض الشراب. لم تصدُر عنهم أيُّ محاولة لدعوة البارون. أجهشت ميتسي شيناجل بالبكاء فجأة. سألوها: «لماذا تبكين؟». فأجابت: «أوه، من الفرحة».

تم افتتاح «مسرح بيوسكوب العالم» الجديد وسط إقبال كبير من جمهور المتعطشين للإثارة في العاصمة ومدينة الإقامة الإمبراطورية.

لم يجد المسكين تايتنجر أيَّ فرصة للبقاء بعيدًا. تحمَّل البرنامجَ بأكمله.

رُفع الستار مع صيحة هادئة، فأُصيبَ تايتنجر بصدمة كبيرة إذ رأى ميتسي جالسة على عرشٍ أحمر. في الواقع كان من المستحيل معرفة إن كانت هي بشحمها ولحمها أم نسخة مصنوعة من الشمع. كانت سلسلة ثلاثية تُزيِّن نحرها ومفرق صدرها الشمعي، محمَّلة بلآلئ كبيرة صفراء وفضية وزرقاء لامعة. كانت تتدلَّى من شحمتَي أذنَيها قطعٌ كبيرة من الألماس. وكانت الإضاءة السحرية تنبعث من مصباح غاز دائري كبير في السقف يتوارى خلف حجاب أزرق. وعلى رأسها، كانت «الزوجة المفضَّلة للشاه» تضع تاجًا على شكل هلال تركي، مثبت بسهمَين فضيين رفيعَين ينسدل شعرُها من بينهما بغزارة ذهبية. ميتسي — هل كانت هي حقًّا؟ — جالسة بلا حراك على عرشها الأحمر.

نعم، كانت ميتسي. وقد بدأت الآن تتحدَّث بصوتها المعتاد: «إن صاحب الجلالة شاه بلاد فارس طيب جدًّا معي، وقد كنت ذات يوم طفلة فقيرة من شعب فيينا. أما الآن فأنا سيدة على كل نساء الحريم، وأنا الأحبُّ إليه من بينهن. أتطلَّع إلى الحكم لسنواتٍ أخرى قادمة. تحيَّاتي إلى فيينا، مدينة فيينا، وشعب فيينا، وشتيفي العجوز!»

صفَّقَ الجميع. أُغلق الستار بصوت صلصلة خشنة سريعة. أعلن ترومر: «انتهى المشهد!».

اندفعَ الجميعُ إلى الأمام عند الستار. استغلَّ تايتنجر هذا الارتباك. مشى. هرب.

٣١

بتمهُّلٍ وحذَر في البداية، ثم بغزارة وجرأة ازدادت شيئًا فشيئًا، بدأت الصحفُ بعد سنواتٍ طويلة تتحدث مرة أخرى عن بلاد فارس، المملكة الصديقة في الشرق الأدنى، وعن جلالة الشاه الذي ما تزال زيارته الأخيرة إلى فيينا حَية في ذاكرة شعب النمسا، بل ذاكرة كل شعوب الإمبراطورية النمساوية المجرية. بينما كان المراسلون من سان بطرسبورج ولندن وباريس يرسلون تقارير عن تطلعاتٍ روسية وحيل دبلوماسية إنجليزية ودسائس فرنسية.

أرسلت صحيفة «فريمدن بلات» صحفيًّا إلى طهران. كتب عن العادات والتقاليد الفارسية، والمرأة الفارسية، والحدائق الفارسية، وعن الجيش الفارسي، وعن الفلاحين الفارسيين. بعد بضعة مقالاتٍ، بدأ القارئ العادي في فيينا يشعر وكأن طهران موطن له كما هو حاله مع أحياء دوبلِنج أو جرينسينج أو ليوبولدشتات أو آلزَرجروند في فيينا.

لا شيء يظهر في الصحف عن بلاد فارس عبثًا أو بلا معنى خاص أو بلا أهمية سياسية خاصة. هذا ما يعرفه الساسة والدبلوماسيون والصحفيون؛ شاه فارس سيأتي إلى فيينا مرة أخرى. في وزارة الخارجية بساحة «بالهاوس بلاتس»، راحوا يبحثون في البروتوكولات القديمة. في البلاط وديوان الحكومة، راحوا يبحثون ويُحقِّقون في كل واقعة وقعت خلال زيارة الشاه السابقة، مهما كانت صغيرة. كما تصفَّحوا أرشيفَ شرطة الأمن في فيينا.

في هذه الأيام كان لديَّ فكرة رائعة لا تُقدَّر بثمن، وهي توفير مادة جديدة تُثري البرنامج الجديد لمسرح «بيوسكوب العالم» في براتر. كان ما يزال يحتفظ بكل الرسومات والاسكتشات والصور الشخصية التي نُشرت في صحيفة «كرونه تسايتونج» من زيارة صاحب الجلالة الفارسي. دفعت ميتسي شيناجل عشرة جولدن مقابل هذه الفكرة.

لم يكن هناك شك: كانت عاصمة الإمبراطورية ومقر الحُكم تستعد لاستقبال صاحب الجلالة الفارسي. كلُّ المحرِّرين يعرفون ذلك. وسرعان ما عرفه كلُّ الموظفين الرسميِّين، وكلُّ خدم البلاط، وكلُّ الحوذيِّين وكلُّ الحراس. (وآخِر من علم بها، كالمعتاد، هم الدبلوماسيون الأجانب.)

في مقابل خمسين جولدن، أنتجَ تينو بيركولي «الخبر الساخن»: شاه بلاد فارس، والوزير الأعظم، وكبير الياوران، ورئيس الخصيان. أما الحريم فلم يكن ضروريًّا. (يمكنهم إذا لزم الأمر أن يأخذوا «حريم السلطان» الموجود بالفعل ويضعوه في «الغرفة الفارسية» التي تقرَّر إنشاؤها.) في البلاط وديوان الحكومة، في وزارة الداخلية ووزارة النقل والتجارة، في شرطة فيينا وشرطة تريستي، وفي ميناء تريستي، وفي إدارة السكك الحديدية الجنوبية: كان الجميع في كل مكان على أهبة الاستعداد. بدأ المسئولون الصغار — مثل تروس صغيرة غامضة في المؤسَّسات الكبيرة الغامضة للإمبراطورية ذات التنوع الكبير — يطنُّون كالنحل بحماس لا طائل من ورائه، يبحثون ويكتبون ويدورون، يُقدمون تقارير ويتسلَّمون تقارير. كانوا يذكرون أن حقائب صاحب الجلالة الفارسي قد تعرَّضت في المرة السابقة لتأخير لا يُغتفَر ولا يمكن تداركه. ثم تذكَّروا كل شيءٍ. استخرجوا كل المدفون: المراسم، والأسماء، وبرنامج الحفل الراقص، وبرنامج الاستقبال، وضباط الفرقة المكلَّفة آنذاك بتوفير حرس الشرف للترحيب بالشاه في محطة فرانتس يوزف، وزي العقيد الذي كانت ترتديه فرقة النخبة الفارسية، وكانت تابعة للحرس الإمبراطوري. كما تذكَّروا النقيب البارون آلويس فرانتس فون تايتنجر الذي كان في ذلك الوقت قد نُقل من كتيبتِه وأُلحق بما يُسمى «الخدمة الخاصة». لا بدَّ أن أحد الموظفين المتحمِّسين — وهو أداة من أدوات القدر كما يجب أن تكون ولكن دون أن يدري — تتبَّع بضمير يقظ كل الآثار التي ترتَّبت على أفعال تايتنجر وجرائره، وبمنتهى الأمانة أبلغ الشرطة عن كل ما توصَّل إليه. وكانوا هم أيضًا أدوات للقدر لا يُعوزها الحماس؛ إذ أرسلوا التقارير إلى وزارة الحربية.

في ذلك الوقت كان ملفُّ تايتنجر بين يدي مستشار وزارة الحربية زاكِنفيلد. وكان بالفعل بصدد تعيين لجنة الفحص وتحديد التاريخ الذي سيمثُل فيه النقيبُ تايتنجر أمامها، عندما تلقَّى التقرير وعليه تأشيرة: «سرِّي للغاية، بخصوص تايتنجر». فتوجه إلى الجناح الأيسر من المبنى حاملًا الملف والتقرير إلى المقدِّم كاليرجِي. كان واضحًا لكليهما أن الوقت الحالي غير مناسب تمامًا لإعادة فتح ملف تايتنجر والنظر في طلبه.

كان لا بدَّ من إخبار البارون. علَّق المقدم كاليرجي سيفَه حول خصره ومضى.

التقى تايتنجر في الفندق، ولكن تايتنجر الذي رآه كان متبدلًا؛ وكما بدا للمقدم كاليرجي، فقد أصبح هَرِمًا فجأة. كانت الطاولة الصغيرة المستديرة التي يجلس إليها في بهو الفندق مغطَّاة بملصق إعلاني مستطيل كبير، يعكف عليه البارون مهمومًا. نهض متثاقلًا. ورغم أن تايتنجر لم يكن يستعمل عصًا، فقد بدا للمُقدم كاليرجي أنه يعتمد على عصًا غير مرئية. جلس كاليرجي. أغفلَ تايتنجر السؤال المعتاد عن الأحوال والصحة والزوجة وما إلى ذلك.

بدأ مباشرةً: «أنت تعرف كل شيءٍ عن حياتي يا كاليرجي. تعرف حكايتي السخيفة مع شيناجل، ثم القصة إياها. كما حكيتُ لك عن ابني أيضًا. وها أنا الآن، قبل أسبوعين، قد سويتُ كل شيء. دفعتُ ثمن متحف الشمع، كما تعلَم، ومسرح «بيوسكوب العالم» الجديد. ولعلك تعرف أيضًا أن ابنها، أو ابني، زاندل قد قُبض عليه بتهمة سطو مسلح وشروع في قتل، على ما أظن.»

قال كاليرجي: «أوه، تلك القصة! لقد قرأتُ عنها.»

تابعَ تايتنجر: «حسنًا إذن! كنت قد قررتُ بالطبع قبل عودتي إلى الجيش، أن أُنهي كل هذه القصص السخيفة. لكن الآن، وقبل رُبع ساعة فقط، جاء ترومر — سنحتاج إلى وقتٍ طويل لأشرح لك من هو، لكن على العموم هو صديق لميتسي — وأحضرَ لي هذا الإعلان. وغدًا سيُنشَر في جميع الصحف، ويُلصَق على كل الجدران.» دفعَ تايتنجر الملصَق إلى المقدم كاليرجي ليقرأ:

«بمناسبة العودة المرتقَبة لصاحب الجلالة شاه فارس، يعرض مسرح «بيوسكوب العالم» الجديد هذه المشاهد التمثيلية بصورة طبيعية:

  • (١)

    وصول الشاه العظيم مع مساعديه إلى محطة فرانتس يوزِف (نموذج مصغَّر من القطار الإمبراطوري).

  • (٢)

    الحريم ورئيس الخصيان في طهران.

  • (٣)

    محظية فيينا، وهي من أبناء الشعب في سيفرينج، قدَّمتها إلى الشاه شخصيات عامة رفيعة، ومنذ ذلك أصبحت سيدة الحريم في بلاد فارس.

  • (٤)

    بقية الحاشية لشاه بلاد فارس.»

طوى المقدِّم كاليرجي الملصق الكبير بعناية، بتروٍّ شديد، دون أن يرفع نظره. كان خائفًا من أن يرى نظرة تايتنجر اليائسة. لكنه جاء ليُخبره بالحقيقة. أراد أن يبدأ. راحَ يُمسِّد بيده الملصقَ المطويَّ بينما يُفكِّر في الكلمات التي يبدأ بها.

قال تايتنجر: «لا صبرَ لديَّ. هل تفهم؟ كنت طوال حياتي أتصرَّف كالأحمق، هذا ما أراه الآن، لكن بعد فوات الأوان. انظر اليوم نظرت إلى نفسي في المرآة وأرى أنني صرتُ رجلًا عجوزًا. والآن، أدركتُ أمام هذا الملصق أنني لطالما كنت أبلهَ. ربما كان يجب أن أتزوَّج هيلينا. الآن لم يعُد لي سوى الجيش. ما الجديد لديك عن حالتي؟»

قال المقدِّم: «هذا ما أتيتُ من أجله».

«وبعد؟»

«أوه يا صديقي العزيز! القصة القديمة، القصة إياها كما تقول أنت! كنتُ للتوِّ أناقش الأمر مع زاكِنفيلد. عليكَ أن تنتظر. يقف هذا المغفَّل من طهران في طريقنا. الشرطة تنبش في الملفات القديمة، وها أنت تظهر من جديد. لا يسعُني إلا أن أقول: انتظر!»

«ألا يمكنني الآن إذن …»

قال كاليرجي: «لا. إن قصتك السخيفة قد عادت من جديد. من الأفضل أن تبقى بعيدًا.»

لم يقُل تايتنجر سوى: «هكذا» و«شكرًا!» ثم صمت لبعض الوقت. كان المساء قد حلَّ بالفعل، وأضيئت الأنوار في البهو. قال تايتنجر: «أنا شخصٌ ضائع». وصمتَ لفترة ثم سأل بحِدة، بصوتٍ بدا أنه لا يخرج منه هو: «إذن لا أملَ بخصوص الطلب؟»

أجاب كاليرجي: «ليس في الوقت الحالي! لننتظر حتى تنتهي القصة الفارسية.» ولكي يُعيد صديقه إلى الحياة الطبيعية، أضاف كاليرجي: «فلنذهب لتناول العشاء في مطعم آنكر!» ونظر في الساعة.

قال تايتنجر: «حسنًا، أحتاج أن أغسل وجهي فقط. انتظر لحظة! سأصعد إلى الغرفة.» ونهض.

بعد خمس دقائق سمع كاليرجي صوت طلقة. ظلَّ صداها يتردَّد طويلًا على السلالم وفي الممرات.

وجدوا البارون ميتًا بجانب المكتب. يبدو أنه حاول كتابة شيءٍ ما. كان المسدس ما يزال في يده اليمنى. الجمجمة مهشمة. وعيناه جاحظتان. أغمضهما المقدِّم كاليرجي بصعوبة.

دُفن تايتنجر بجنازة عسكرية مهيبة كما يقضي العُرف. أطلقت فصيلةٌ النارَ كتحية عسكرية. وشاركَ في تشييع الجنازة كلٌّ من: مدير فندق «الأمير يوجين»، وميتسي شيناجل، وماجدالينا كرويتسر، وإجناس ترومر، والمقدم كاليرجي، والمستشار بوزارة الحربية زاكِنفيلد.

في طريق العودة سأل المستشار الوزاري: «لماذا انتحر؟ لقد كنتَ هناك، كما سمعتُ؟»

قال كاليرجي: «هذا ما حصل! أعتقد أنه ضلَّ طريقه في الحياة. هذه الأشياء تحدث أحيانًا. يحدث أن يضلَّ المرءُ طريقه!» كان هذا هو النعي الوحيد للنقيب السابق بسلاح الفرسان، البارون آلويس فرانتس فون تايتنجر.

٣٢

في هذه المرة لم يكن أمام نيشفال قائد الفرقة الموسيقية العسكرية سوى ثلاثة أيام للتدريب بانتظام مع أعضاء فرقته على النشيد الوطني الفارسي. كانت الأوامر قد جاءت فجأة. فراحوا يتدرَّبون حتى في غير ساعات العمل الرسمية.

كان اليوم الذي وصل فيه صاحبُ الجلالة الفارسي يومًا ربيعيًّا معتدلًا صافيًا، واحد من أيام الربيع الفييناوية، التي يعتقد أصحاب العقول البسيطة من أهل المدينة أنها حكرٌ على مدينتهم وحدها. وقفت المجموعات الثلاث التي يتألَّف منها حرس الشرف، إحداها على الرصيف، والأخريان أمام محطة القطار في صفَّين متوازيَين يُشكِّلان حاجزًا أمام الحشود من الفضوليِّين والمتحمِّسين بالهتاف والتهليل، وقد بدت بزيها الرسمي الأزرق وكأنها جزءٌ لا يتجزَّأ من هذا الربيع الفييناوي الخالص. كان يومًا ربيعيًّا يشبه ذلك اليوم البعيد الذي قدِم فيه الشاه إلى فيينا للمرة الأولى، كما يُشبه أخٌ وُلد حديثًا أخاه الأكبر.

هذه المرة، لم يكن تشوُّق الشاه إلى الغرب هو ما أتى به إلى هنا، ولا الفضول، ولا أيُّ رغبة غامضة في التنويع. إنه يعيش منذ بضعة أشهر في نعيم تام مع هندية ذات أربعة عشر عامًا اشتراها حديثًا، تُدعَى يالمانا كاهينديري، مخلوقة من الرقَّة والمتعة، ظبية سمراء، حيوان جميل من ضفاف نهر الغانج البعيدة. إنها المرأة الوحيدة التي اصطحبها الشاه معه هذه المرة، ولأجلها وحدها أيضًا اصطحب رئيسَ الخصيان. وكان معه الوزير الأعظم الجديد (أما الأسبق فقد أُحيل منذ مدة إلى معاش تقاعدي متوسِّط بعد أن سخطَ عليه صاحبُ الجلالة فجأة). أما كبير الياوران، فكان كما هو؛ ما زال هو كيريليدا بايدجاني الخالي من الهمِّ، وقد أصبح بمرور السنين المفضَّل لدى الشاه؛ ورغم أنه لا يزال شابًّا نسبيًّا، فقد تمَّت ترقيته إلى رُتبة فريق أول مع حصوله على لقبٍ شرفيٍّ كقائدٍ عام لإسطبلات الشاه الملَكية.

كان تايتنجر المسكين راقدًا في قبره منذ عشرة أيام؛ تأكله الديدان. وبدلًا منه، كان هناك ضابطٌ آخر من سلاح الفرسان، هذه المرة من فرقة «الأولَنْ»، وقد انتُدِبَ إلى فيينا للالتحاق ﺑ «الخدمة الخاصة»، وهو بولندي الجنسية، اسمه ستانيسلاوس زابورسكي، وقد باشر مهام عمله بجدِّية أكبر، لا لشيءٍ إلا ليُثبت للقيادة أن فكرة كون البولنديِّين أناسًا لا يُعتمد عليهم، هي فكرة غير مبرَّرة على الإطلاق. لم يكن الملازم أول زابورسكي يقف منتظرًا عند البار في مطعم المحطة كما كان تايتنجر من قبل، وإنما على الرصيف بجوار قطار البضائع. وفي هذه المرة وصلت الحقائب والأمتعة على النحو اللائق. وعلى النحو اللائق أيضًا قدَّم نفسه إلى صاحب السعادة، مساعِد الوزير الأعظم، الجنرال كيريليدا بايدجاني. سأل بايدجاني، الذي تظهر على صدغَيه وفودَيه الرفيعَين لمعةٌ فضية شاحبة، عن النقيب المرِح تايتنجر، وسأل إنْ كان لا يزال في فيينا. أجابه الملازم أول زابورسكي: «يا صاحب السعادة، سيادة النقيب وافته المنية فجأةً قبل عشرة أيام!» كان بايدجاني ذا قلب لا يُبالي وطبيعة صلدة، لكنه أيضًا كان يخشى الموت، ولا سيما الموت المفاجئ. فقال: «لكن السيد النقيب كان ما يزال شابًّا!» وفي الوقت نفسه تذكَّر أنه هو نفسه ما يزال شابًّا. كرَّر زابورسكي: «كان موتًا مفاجئًا يا صاحب السعادة!» تابعَ بايدجاني مستفسِرًا: «أكانت نوبة قلبية؟» «لا يا صاحب السعادة!» فسأله: «انتحارٌ إذن؟» التزم زابورسكي الصمتَ. فتنفَّس بايِدجاني الصعداء.

منذ سنواتٍ يُحافظ بايدجاني على علاقة شبه أخوية مع رئيس الخصيان. لم يدَّخرا جهدًا للإطاحة بالوزير الأعظم. وقد نجحا، وصارا تبعًا لذلك حليفَين مدى الحياة. صحيحٌ أن بايدجاني لم يُصبح هو الوزير الأعظم، لكنه فريق أول (جنرال) على أيِّ حال. أصبح كيريليدا بايدجاني غير المؤذي محبَّبًا إلى رئيس الخصيان. كان رجلًا يُرضيه ويوافق قلبه. غير مؤذٍ، طيِّع، لا يُفكِّر كثيرًا، ساذج أحيانًا، وممتنٌّ لأي نصيحة؛ أداة طيِّعة في بعض الأحيان. صديقٌ ممتاز!

بعد يومين من وصولهما كانا يتجوَّلان بملابس مدنية أوروبية في شوارع الربيع المشرقة. يتأمَّلان المتاجر الحافلة بالألوان، ويشتريان أشياء لا معنى لها؛ عصِيًّا للمشي، نظارات للأوبرا، أحذية برقبة، صدارات وقبعات بنما، مظلات وحمالات للبناطيل، مسدسات، ذخيرة، سكاكين صيد، مَحافظ وحقائب جلدية. وأثناء سيرهما في شارع كيرتنر، توقَّف رئيسُ الخصيان مذهولًا مشدوهًا يكاد يكون مصدومًا، أمام نافذة العرض بمحلِّ صائغ البلاط جويندل. على وسادة مخملية عريضة زرقاء داكنة كانت تتلألأ برَّاقة مثل سحابة البرَد، بيضاء كالثلج على قمم جبال الألب، وفي الوقت نفسه زهرية مائلة إلى الزُّرقة مثل سماءٍ حُبلى بعاصفة رعدية: ثلاثة صفوف من اللآلئ الكبيرة الثَّقيلة، يعرفها رئيسُ الخصيان كما لو كانت أخواتٍ له. كانت له نظرة في الأحجار الكريمة لا تُضاهى. قِطَع الياقوت والزمرد والزفير واللؤلؤ، التي لمسها مرةً بيده، ولو حتى بعينَيه، لا يستطيع أبدًا أن ينساها. هذه اللآلئ يعرف أصلها. هذه اللآلئ كان قد أوصلها ذات يوم بأمرٍ من مولاه إلى بيتٍ بعينه. قال رئيس الخصيان للجنرال دون أن يرفع عينيه عن اللآلئ: «كنتَ قد أخبرتني بالأمس عن ضابط سلاح الفرسان الذي انتحر!». قال بايدجاني: «نعم!» قال رئيس الخصيان: «حسنًا إذن، جيد جدًّا! تعالَ معي! لكي تُترجِم! أريد أن أتحدَّث إلى التاجر بالداخل.»

دخلا إلى المحلِّ وطلبا مقابلة صاحب المحل. أخبرهم الجنرال بالأسماء والرُّتَب. نزلَ صائغ البلاط جويندل بوقار على درج شديد الانحدار.

قال رئيسُ الخصيان مخاطبًا إياه: «نحن من حاشية جلالة الشاه. من أين أتت اللآلئ التي في نافذة العرض لديكم؟» وترجم الجنرال.

أجاب جويندل، بصدق، أنه حصل عليها أولًا من بنك إفروسي، وباعها إلى أمستردام. وقد عادت إليه الآن ليبيعها مقابل عمولة. سأل رئيس الخصيان، وترجم بايدجاني «كم ثمنها؟». قال جويندل: «مائتا ألف جولدن!» قال رئيس الخصيان: «سأشتريها!» أخرج كيسًا جلديًّا ثقيلًا أزرق اللون وراحَ يفكُّ ببُطءٍ الرباط الغليظ الملفوف حول طرف الكيس، وصبَّ ما فيه على الطاولة، كثيرٌ من العملات الذهبية الكبيرة. كانت خمسين ألف جولدن. طلبَ أن تكون اللآلئ جاهزة له غدًا، وأن تُرفَع حالًا من نافذة العرض. لم يكن بحاجة إلى الإيصال الذي شرع جويندل في كتابته. نظرَ إلى الورقة لبرهة ثم مزَّقها وتركَ القصاصات البيضاء تسقط على الدوكات الذهبية الحمراء. قال رئيس الخصيان، وترجم بايدجاني: «غدًا في نفس الوقت سأكون هنا!»

سأل الجنرال: «لماذا فعلت هذا؟»

أجاب رئيس الخصيان: «إنني أحبُّ هذه اللآلئ!»

توقَّف بايدجاني عند ناصية شارع كيرتنر المطلة على ساحة «شتيفان بلاتس». كانت هناك لوحة إعلاناتٍ خشبية كبيرة. إعلان بحروف حمراء لافتة للنظر يحيط به إطارٌ من أعلام فارسية صغيرة على خلفية سوداء:

«صاحب الجلالة والسمو، شاه فارس، أمير المؤمنين الفُرس والأتراك، في مشاهد تمثيلية مثل الطبيعية تمامًا: حريم طهران … أسرار الشرق … كلُّ هذا في مسرح «بيوسكوب العالم» بشارع براتر الرئيسي!»

قال بايدجاني: «لنأخذ عربة إلى هناك فورًا!»

٣٣

كما جرت العادة، استدعى الشاهُ في الصباح رئيسَ الخصيان.

كان صاحبُ الجلالة يشرب شاي الكارلوما المعتاد. والشيشة مائلة على المنضدة، طويلة كعصا المشي؛ تبدو وكأنها تدخن من تلقاء نفسها.

بدأ الشاه حديثه قائلًا: «بالأمس خرجتَ وتجوَّلتَ في الأرجاء! ما رأيك، هل تغيَّرت منذ آخر مرة كنا هنا؟»

أجاب رئيس الخصيان: «كلُّ الأشياء تتغيَّر يا مولاي. ومع ذلك، تبقى كلُّ الأشياء كما هي. هذا رأيي!»

«هل رأيت معارف قُدامى من زيارتنا السابقة؟»

«شخصٌ واحد يا مولاي، امرأة.»

«أيُّ امرأة؟»

«مولاي، كانت حبيبتك لليلة واحدة. وكان لي عظيم الشرف أن أوصل لها هديتك.»

«أما تزال تُفكِّر فيَّ؟ هل تحدَّثت عني؟»

«لستُ أدري يا مولاي! لم تتحدَّث عنك.»

«ما الهدية التي حملتها إليها آنذاك؟»

«أجمل ما وجدتُ في صناديقنا من لآلئ. كانت هدية قيمة. لكن …»

«لكن ماذا؟»

«لم تحتفظ بها. لقد رأيتُ اللآلئ بالأمس في نافذة العرض بأحد المتاجر. فاشتريتُها من جديد.»

«وكيف حال المرأة؟»

«مولاي، إنها لا تستحق أن نتكلم عنها.»

«وآنذاك؟ هل كانت تستحق ما هو أكثر؟»

«آنذاك يا مولاي، كانت الأمر مختلفًا. كنتَ جلالتك ما تزال أصغر سنًّا، لكني حتى في ذلك الحين أدركتُ من تكون. فتاة فقيرة. في عُرف الغرب، سلعة تُباع.»

«لكنها كانت تُعجبني آنذاك!»

«مولاي، لم تكن هي نفسها؛ كانت مجرَّد واحدة تُشبهها.»

«إذن فأنا أعمى؟»

قال رئيس الخصيان: «كلنا عميان.»

شعر الشاه بعدم ارتياح. أزاحَ العسل والزبد والفاكهة جانبًا. راحَ يُفكِّر، أو بالأحرى تظاهر بأنه يُفكِّر، لكن رأسه كان فارغًا، مثل قرعة جوفاء.

«هكذا إذن، هكذا!» ثم أردفَ: «لكنها أسعدتني!»

أكد رئيس الخصيان: «طبعًا، طبعًا، هو ذاك!»

بدأ الشاه مرةً أخرى: «قل لي إذن. قل لي بصراحة: هل تعتقد أنني أخطئ … أخطئ أيضًا … في أشياء أخرى … أهم من ذلك؟»

«مولاي، لأُصارحك القول، نعم، بالطبع! تُخطئ لأنك إنسان!»

سأل الشاه: «وأين اليقين؟»

قال رئيس الخصيان: «في الآخرة! في الآخرة، بعد أن نموت.»

«هل تخشى الموت؟»

«إنني أتوقَّعه منذ فترة طويلة. أنا مندهشٌ لأنني ما زلتُ على قيد الحياة!»

قال الشاه: «انصرِف!» لكنه هتف في اللحظة التالية: «أعِد إليَّ اللآلئ!»

انحنى رئيس الخصيان، وانسحب إلى الخارج بظله العريض.

٣٤

بعد أسبوع غادر الشاه العاصمة الإمبراطورية ومقرَّ إقامته بها. كان نيشفال يقود الفرقة الموسيقية العسكرية على رصيف المحطة. قدَّمت فرقة حرس الشرف عرضًا بالسلاح. ودَّع الملازم أول زابورسكي الجنرال كيريليدا بايدجاني وداعًا حارًّا. تسلَّلت الصغيرة يالمانا كاهينديري إلى عربة ملحقة بصُحبة رجل عجوز ممتلئ الجسم لكنه ما يزال يبدو مفعَمًا بالحيوية. ودَّع سمو الإمبراطور العاهلَ الأجنبيَّ بلُطفٍ اعتادَ إظهاره. ومن نافذة مكتب ناظر المحطة كان رسام صحيفة «كرونه تسايتونج» يرسم مشهد الوداع، وهو موضوع محتمل للمايسترو تينو بيركولي أو أحد خلفائه.

أما بخصوص مسرح «بيوسكوب العالم»، فقد سُمِحَ له بفتح أبوابه مرةً أخرى في اليوم التالي لمُغادرة صاحب الجلالة الفارسي. كانت ميتسي شيناجل تجلس أحيانًا أمام درج النقدية تتدلى من عنقها اللآلئ. وأحيانًا تُفكِّر في المحاكمة المنتظرة لابنها زاندل. وكانت تذهب في بعض الأحيان إلى مقر الاحتجاز وتزوره في حبسه الاحتياطي وتُحضر له بعض الأشياء مثل الجُبن والسلامي لتُقيم أوده، وسجائر أيضًا. ولم يُعاودها إحساسها السابق ولو مرةً بأن زاندل ابنها وهي أمه.

نادرًا ما كانت تُفكِّر في حبيبها تايتنجر، لكن كلما فعلت صار الأمر أشدَّ وطأة، فيغشاها الحزن. ولكن نظرًا لأنه لم يكن من طبيعتها أن تبقى حزينة دائمًا، كانت تُرغم نفسها على التفكير في أمور مبهجة، مثل مبلغ الألفَي جولدن الذي يرقد بأمان في حساب التوفير البريدي، وعملها الرائج الذي حقَّقته بمسرح «بيوسكوب العالم». كانت بصحة جيدة، مفعمة بالحيوية، بل ومرحة أيضًا في بعض الأحيان. كانت واحدة من تلك النساء، التي بسبب بضاضتها الشهية، يُطلِق عليها المرءُ وصفَ «بطة». وفي بعض الأحيان تتطلَّع إلى رجل. اعتادَ العجوز تينو بيركولي الذي ما يزال يورِّد الشخصيات الشمعية إلى «بيوسكوب العالم» ويعرف قصة ميتسي شيناجل، أن يقول من وقتٍ لآخر: «ربما يكون بمقدوري أن أصنع دُمًى لها قلب وضمير وشغف وشعور وأخلاق. لكن لا أحدَ في العالم كله يطلب شيئًا كهذا. لا يريدون إلا النماذج الغريبة المشوَّهة؛ يريدون المسوخ. المسوخ هي ما يريدون!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤