الفصل الثالث

مجالي الانحلال في جسم الدولة

لم تتبدل أكثر الأوضاع العامة من إدارية واجتماعية وفكرية وسياسية في هذا العصر، عما كانت عليه في العصر العباسي الأول تبدلًا ذا معالم بارزة، ولكن هناك مجالي جديدة ظهرت في تلك الحقبة، ولا بد لنا من وقفة أمام بعض الأوضاع التي تبدلت لتبين حقيقة ما كانت عليه وما طرأ عليها من تطور، أو ما حدث ولم يكن من قبل، وإن من أبرز ما يلحظ المرء في هذه الفترة من مجالي انحلال الدولة وتبدُّلها عما كانت عليه، يمكن إجماله في النقاط السبع الآتية:

(١) ضعة شأن الخلافة وانحطاط مركز الخليفة انحطاطًا ملموسًا

لقد كان لتدخل القواد الأتراك، ثم الوزراء والكتاب، ثم النساء أثرٌ واضح في إيجاد تلك الضعة؛ فكثيرٌ من الخلفاء قُتل وأُهين، وكثيرٌ منهم سُملت عيناه وعُذِّب، وكثيرٌ منهم خُلع، حتى أصبح الخليفة شبحًا يُؤمر فيطيع، ويُطلَب إليه أن يولِّي من يريده القادة أو الوزراء، فيوليه دون أية مناقشة، ويأمرونه أن يعزل من لا يرضون عنه فيعزله، وقد يكون كارهًا لذلك. ويحفظ لنا التاريخ كلمة للخليفة الراضي تبيِّن سوء حال مركز الخليفة، قال: وكأني بالناس تقول: «رضي هذا الخليفة بأن يدبر أمره عبد تركي حتى يتحكم في المال، وينفرد بالتدبير، ولا يدرون أن هذا الأمر قد فسد قبلي، وأدخلني فيه قومٌ بغير شهوتي، فسُلِّمت إلى ساجيَّة وحجرية،١ يتسحبون عليَّ، ويجلسون في اليوم مرات، ويقصدونني ليلًا، ويريد كل واحد منهم أن أضعه دون صاحبه وأن يكون له بيت المال، وكنت أتوقَّى الدماء في تركي الحبلَ عليهم إلى أن كفاني الله أمرهم، ثم دبَّره ابن رائق فدبَّره أشد تسحبًا في باب المال وانفرد بشربه ولهوه.»

فإننا نرى أن الراضي كان ضاق ذرعًا مما صارت إليه منزلة الخلافة، وأنه يتبرأ أن يكون هو الذي تساهل فأوصل منزلة الخلافة إلى ذلك الدرك، فيقول: إن هذا أمرٌ كان منذ القديم، فهو لا يستطيع أن ينجي الخلافة منه.

(٢) ظهور منصب «إمارة الأمراء»

وهي وظيفة استخلصها لنفسه «زعيم القادة الأتراك»، وصار بموجبها أكبر رئيس في الدولة الإسلامية، يتولى أمورها فعلًا، ويترك المظاهر الشكلية للخليفة، وأول مَن تولَّى هذا المنصب هو ابن رائق آمر الجيش وقائده الأعلى؛ فقد اتفق هو والقواد الكبار سنة ٣٠٤ﻫ، على أن يتولى هو بنفسه إدارة الدولة ورئاسة الجيش، ويدير المملكة فكان له ذلك، وخُطب له مع الخليفة على جميع منابر الممالك التابعة للدولة، واستطاع أن يسيطر على أموال الدولة، بينما صار الخليفة شبه موظف يتسلم راتبه آخر الشهر، وينقش اسمه على السكة مع اسم أمير الأمراء، وقد استمر هذا الأمر حتى دخول بني بويه إلى بغداد سنة ٣٣٤ﻫ، كما سنرى تفصيل ذلك.

(٣) اضطراب شأن «ولاية العهد»

لم يبقَ لولاية العهد إلا شكلها الظاهري بعد أن استقر الأمر نهائيًّا على أن يكون الترشيح لمنصب الخلافة بيد المتنفذين من قادة الجيش وكبار الوزراء، يولون الأمر من يشاءون ويخلعون من يشاءون، ويسمُّون لولاية العهد من يشاءون، ثم يبدلونه حين يريدون، فهم أصحاب السلطة الحقيقية، وهم الذين يبدءون بمبايعة الخليفة (البيعة الخاصة)، فإذا انتهَوا من ذلك، أذنوا للناس أن تبايعه (البيعة العامة).

(٤) على الرغم من ضعة شأن الخلافة بقيت بعض المزايا للخليفة

يُلاحَظ أنه على الرغم من ضعة شأن الخلافة وظهور أمير الأمراء قد بقيت بعض المزايا الخاصة بالخليفة، مثل تمتعه باحترام جمهور المسلمين، وولائهم له، والنظر إليه على أنه مرجعهم الديني الأعلى، يلجئون إليه في الملمات ويتوسلون به إلى الله؛ ولذلك حرص أمير الأمراء، الذي استحوذ على السلطة الفعلية، على أن يحفظ للخليفة من المظاهر الشكلية بما لا يجرح شعور العامة أو يطعن عواطفهم تجاه هذا المنصب الديني الرفيع؛ ولهذا ظلت المراسيم والقوانين والمشاريع كلها تصدر باسم الخليفة. بينما كانت يداه مغلولتين، وهو مغلوب على أمره، وقد كان لهذا الأمر أثره في بقاء نوع من التماسك في كيان الدولة الإسلامية على تفكك أوصالها، كما أشرنا إليه فيما مضى؛ فقد ظل كل المسلمين في كافة أجزاء الدولة المتفككة، المستغلة أجزاؤها، ينظرون إلى الخليفة كأنه هو القوة الجامعة لهم جميعًا، الموحدة لآمالهم، وشعورهم الديني؛ لأنه إمامهم الديني وحامي حمى عقيدتهم.

(٥) قوة نفوذ منصب الوزارة

فقد كان الوزير في السابق كاتبًا، يتلقى أوامر الخليفة فيبلغها مَن يريد أو يستكتبه فيكتب له، أو يستشيره فيشير عليه، وحيثما كان يحس الخليفة بتعاظم نفوذ وزيره أو يشعر بأية ريبة منه يقصيه عن منصبه أو يصادره ويقتله، أما في هذه الفترة فقد صارت الوزارة إلى مكانةٍ سامية، وربما نافست صاحب السلطة العسكرية نفسه، أمير الأمراء، وخُصِّص لصاحبها دار ومقر إلى جانب دار الخلافة، إن لم يكن في دار الخلافة نفسها، يتصرف بما يريد، ويحكم بما يشاء، ووُجدت فترة أصبحت الوزارة فيها وراثيةً في بعض البيوتات أو كالوراثية، يتناقلها آل بيت واحد، كابرًا عن كابر، كآل الفرات، وبني وهب، وبني متلة، وغيرهم ممن سبق ذكرهم، وقد أُضفي على الوزارة في هذه الفترة كثير من ألقاب التضخيم والإطناب، ومُنح صاحبها أسمى الرتب، وأعلى الامتيازات والشارات، التي كان بعضها قبلئذٍ من خصائص الخليفة.

(٦) ظهور نوع من الدواوين الجديدة

ظهر نوع من الدواوين الجديدة التي اقتضتها تطورات الحالة العامة في البلاد مثل «ديوان الاستخراج»، شقيق «ديوان المصادرات» وهو الديوان الذي كان يتولى صاحبه التحقيق عن الأموال المصادرة للكتاب والوزراء والقادة، الذين يُفصلون عن أعمالهم، وقد عظُم شأن هذا الديوان في أخريات هذا العصر لكثرة المصادرات، واضطراب الأمور، وحاجة الدولة إلى الأموال لقلة الوارد وكثرة النفقات، وسوء الإدارة وكثرة ارتشاء العمال والقادة والوزراء ومن إليهم، ومثل «ديوان ضريبة الإرث» التي أُحدِثت في خلافة المعتمد فيما يظهر.

(٧) قوة شأن أصحاب العقائد والأفكار الدينية والاجتماعية والفلسفية

كانت الدولة في العصر الماضي تحمل على هذه الأفكار بقوة كالزنادقة والقرامطة والخوارج؛ فقد تنفَّس هؤلاء القوم الصعداء، لضعف شأن الخلافة وانصراف أهل الحل والعقد فيها عن الاهتمام بالأمور العقائدية والفكرية والدينية والاجتماعية، إلى مصالحهم الشخصية، وجمْع الأموال وبناء القصور، وتقوية النفوذ والسلطان، فإذا تعرَّض أصحاب العقائد والحركات إلى شيءٍ من مصالح أولي الحل والربط، قاموا عليهم وفتكوا بهم، وإلا ألقَوا حبلهم على غاربهم.

١  الساجية: فرقة من الجنود الأتراك. انظر فيما بعدُ الدولة الساجية، وكذلك الحجرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤