الفصل الأول

عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء منذ عهد المقتدر إلى نهاية عهد الطائع

وقف بنا الكلام في عرضنا لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء في الكتاب الأول عند مقتل الخليفة المقتدر، وقلنا إن مقتله كان بداية عهد الفوضى التي طغت على الدولة، وإن موجة الفتن والجِراح التي طغت على جسم الأمة لم يلتئم جرحها بعدئذٍ.

والحق أن مقتل المقتدر كان فاجعة ضعضعت شأن الخلافة وزلزلت أركانها، ولما قُتل المقتدر أُخرج أخوه أبو منصور محمد القاهر بالله من السجن واستُخلِف، فوجد الخزائن خاوية والخلافة مزعزعة الأركان، وكان مهيبًا مقدامًا على سفك الدماء، فأراد أن يجمع الأموال فصادر جماعة من رجال الدولة، وأمهات أولاد المقتدر وأم المقتدر، وعذَّبها عذابًا مؤلمًا حتى استخرج منها أموالها، وساءت سيرته في الناس حتى كرهوه، وولَّى وزارته إلى اثنين عُرفا بالبخلِ — مثله — وفسادِ السياسة وضعف الرأي، وقلة الخير، وحضِّ الخليفة على سفك الدماء، وهما أبو جعفر الكرخي، وأبو علي بن مقلة، فساءت أحوال الدولة، وعم فساد الأجناد، وعمَّت الفوضى حتى حرَّض ابن مقلة الأتراك على خلع الخليفة فخلعوه سنة ٣٢٢ وسملوا عيونه، ثم حُبس وأُفرج عنه، ثم أُعيد إلى الحبس إلى أن مات في سنة ٣٣٧ﻫ.

ولما خُلع القاهر سنة ٣٢٢ استُخلف أبو العباس محمد الراضي بالله بن المقتدر، وكان عالمًا أديبًا شاعرًا وسياسيًّا قادرًا وحازمًا، فأراد إعادة عز الخلافة، وأحسن انتقاء رجاله، ووصل العلماء والعقلاء، وهو آخر خليفة عباسي كان للخلافة في عهده شيء من السلطان، قال ابن طباطبا في تاريخ الفخري (ص٢٤٦): «ختم الخلفاء في أشياء، منها أنه آخر خليفة دُوِّن له شعر، وآخر خليفة انفرد بتدبير المُلك، وآخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الندماء، ووصل إليه العلماء، وآخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخَدَمه وحُجَّابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين.» وهذه كلها أعراض لا طائل تحتها، أما الجواهر فكانت بيد القادة والوزراء وهم الذين يديرون الأمور دونه «ولا يقدر هو لضعفه أن يغيِّره، فتقسمت البلاد، وظهر الفساد، واسترجع الروم عامة الثغور، ووَزَرَ له كلُّ فَجُور، وهم وزراء القاهر، فأفسدوا دولته وفرَّقوا كلمته.»١ والحق أن أمور الدولة قد فسدت في عهده إلى حد بعيد، ويتجلى هذا الفساد في أمورٍ، منها: أن ابن مقلة وزيره كتب إلى بجكم التركي يُطمِعه في الاستيلاء على بغداد، ولما علم الراضي بذلك قطع يده، ثم قطع لسانه حتى قرب بجكم من بغداد، ومنها أنه في سنة ٣٢٢ﻫ عظُم أمر مرداويج صاحب أصفهان فعزم على إزالة الدولة العباسية، وقد اضطرب الراضي لهذا، ولكن الله كفاه إياه بعد أن تآمر عليه غلمان له وقتلوه، ومنها أن أمراء الأقاليم قد قطعوا كل صلة لهم بالعاصمة، فبلاد فارس في يد علي بن بويه، وأخوه الحسن بن بويه يسيطر على بلاد الري وأصفهان والجبل، والموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر في أيدي الحمدانيين، ومصر والشام تحت سلطان ابن طغج، وبلاد خراسان والمشرق بيد نصر بن أحمد الساماني.

ولما مات الراضي سنة ٣٢٨ﻫ استخلف أخوه أبو إسحاق إبراهيم المتقي بالله، وكان عابدًا زاهدًا كثير الصوم والصلاة منزهًا عن النقائص حسن الخلق، إلا أنه لم يكن عارفًا بأساليب السياسة وإدارة الملك، فازدادت البلاد اضطرابًا في عهده، وقوي نفوذ الأتراك والديالمة والوزراء، واضطربت الأمور في العاصمة واستولى عليها توزون الديلمي، فهرب الخليفة إلى الموصل بأهله وأمواله، ونُهبت دار الخلافة، ثم كتب توزون إلى الخليفة يحلف له أغلظ الأيمان ويؤمِّنه على نفسه، وكان الأمير محمد بن طغج قدم إليه من حلب يقدِّم إليه الهدايا والأموال الجليلة، ويسأله أن يترك العراق إلى الشام ومصر، فأبى الخليفة ذلك، ثم قفل راجعًا إلى بغداد، فتلقاه توزون وأعلن خضوعه ظاهرًا، ثم إنه أوعز إلى طائفة من الديالمة أن يقبضوا عليه ويسملوا عينيه، ثم خلعه توزون سنة ٣٣٣، ومات المتقي سنة ٣٥٠ﻫ، وفي عهد المتقي سيطر الحمدانيون على الجزيرة والشام كله.

ولما خُلع المتقي استُخلف أبو القاسم عبد الله المستكفي بن المكتفي سنة ٣٣٣ﻫ، وكان الديالمة هم المسيطرون على الدولة، ولم يكد يستقر في دست الخلافة حتى وردت إليه الأخبار بأن ابن بويه قادم على بغداد، فاضطرب الخليفة جدًّا، وانهلعت قلوب البغداديين، ولما دخل أحمد بن بويه استقبله الخليفة وخلع عليه وسلَّمه الطوق والسوار وآلة السلطة وعقد له اللواء، ولقَّبه بمعز الدولة، ولقَّب أخاه عماد الدولة، وأمر أن تُضرب ألقابهم على السَّكة، ونزل الديالمة البويهيون في دُور الناس، ولقي البغداديون منهم أشد العنت والإرهاق، قال ابن دحية (في كتابه: النبراس في تاريخ بني العباس، ص١٢١): «صارت الخلافة بعد خلعه (أي المتقي) إلى ابن عمه المستكفي في الوقت الذي سُمِلت فيه عينا المتقي فاستولت الديلم على البلاد، وسُمِلت عيناه … وذلك على يد معز الدولة، بل مُذلِّها ابن بويه الديلمي.» ولما أن تملَّك البويهيون دخل رجلان منهم على الخليفة فجذباه من السرير، ووضعا عِمَّته في عنقه وسحباه على الأرض، ثم حُمِل إلى دار معز الدولة فاعتُقِل فيها وسُمِلت عيناه، وخُلع في سنة ٣٣٤، ومات في سنة ٣٣٨.

ولما خُلع استَخلف معزُّ الدولة ابنَ عمه المطيع، ولم يكن له من الخلافة إلا الاسم، والأمر كله لبني بويه، وقد أقام معز الدولة لنفقة الخليفة كلَّ يوم مائتي دينار، وكان المطيع يسير في ركاب معز الدولة أينما سافر، ذهب معه إلى البصرة ثم الأهواز، ثم إلى الموصل.

وقد انحصر عمل المطيع على الطاعة والعبادة والإحسان إلى أهل بيته الفقراء، وفي أيامه رد القرامطة الحجر الأسود إلى الكعبة، ففرح بذلك، وكان يُنفِذ إلى الكعبة كل سنة قناديل ذهبٍ وفضة، كما كان يُنفِذ إلى الحجرة النبوية طيبًا كثيرًا وخُدَّامًا.

وفي أيامه استقل كافور الإخشيدي بمصر والشام، ومنع عن الخليفة ما كان أنوجور الإخشيدي يقدِّمه إليه من الأموال، وظل المطيع لله في خلافته هذه إلى أن فُلِج، فخلع نفسه وعهد لابنه الطائع في سنة ٣٦٣ﻫ، ولم يلبث طويلًا حتى مات.

بُويع أبو بكر عبد الكريم الطائع لله سنة ٣٦٣ﻫ بعد أن استخلفه أبوه، وكان مثل أبيه خليفة صوريًّا، طال عهده في الخلافة، وزاد امتهان البويهيين للخليفة، فكان لا يحرِّك ساكنًا، ودخل عليه بهاء الدولة البويهي سنة ٣٨١ﻫ وجذبه عن السرير، ثم خلعه، وأقام معتقلًا فقيرًا إلى أن مات سنة ٣٩٣ﻫ، ورثاه الشريف الرضي بقصيدة من عيون شعره.

ولما خُلع سنة ٣٨١ﻫ استخلف البويهيون أبا العباس أحمد القادر بالله، وكان من أفاضل الخلفاء وعقلائهم، رأى أن الأمر بيد آل بويه، وأن من الحزم أن يُصهِر إليهم، فتزوج بنت بهاء الدولة بن عضد الدولة على صداقٍ قدره مائة ألف دينار، وبذلك رجع للخلافة العباسية شيء من رونقها وحاول أن يعيد قوَّتها، فتوصل إلى شيءٍ من ذلك، وظهر شأن العرب بعض الشيء، وأُعيدت الجزيرة والشام إلى الحظيرة العباسية، وفي عهده ارتفع قدْر العلم وأهله، واطمأن الناس على أموالهم وأولادهم، قال ابن دحية (في النبراس، ص١٢٧): «هو الخليفة الزاهد العابد القادر بالله، آخر خليفة من بني العباس، حكم وأسجل على نفسه وأشهد الشهود، وكان يجلس اثنين وخميس للناس، وصحب العلماء ورفض الدنيا ولم ينازع فيها، ولم يدخر دينارًا ولا درهمًا، ولم يَرُدَّ سائلًا، وأكرم الحديث وأهله، ومنحهم عطاءه وبذْله، وظهرت العرب، وقام الإسلام، وملكت الجزيرة والشام، وبيعت مصنفات الحديث بأغلى الأثمان، وملأ الدنا بالعدل والأمان.»

وفي أيامه فُتحت السند والهند — على يد آل سبكتكين — وقال ابن طباطبا (في الفخري، ص٢٥٤): «من أفاضل خلفائهم، حسن الطريقة والسمت، كثير الخير والدين والمعروف … وفي أيامه تراجع وقار الدولة العباسية ونما رونقها.» ومكث القادر في الخلافة إلى أن مات سنة ٤٢.

وقد كانت تلك الصحوة التي مُنِحتها الدولة العباسية في عهد القادر، هي صحوة النزاع إلى أن تغلَّب السلجوقيون على الخلافة، كما سنرى تفصيل ذلك بعد.

١  انظر كتاب النبراس لابن دحية، ص١١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤