الفصل الثاني

مظاهر الانحلال وأسباب السقوط في الدولة

فسدت أمور الدولة العباسية في هذه الفترة فسادًا بارزًا، وبخاصة في الفترة الأخيرة منها؛ فقد كان الخلفاء منصرفين إلى توافه الأمور، أما تقوية كيان الدولة والتيقُّظ لما قد يصيبها من بلاءٍ فقد كانوا في معزلٍ عنه، وكان السلاطين السلاجقة هم المفكرون بشئون الدولة والبلاد، وقد عاشت البلاد فترات رخاء وأمن، حين كان السلاجقة أقوياء منصفين، فلما ضعفوا وظلموا فسدت الحالة وعمَّ البلاء إلى أن كانت الكارثة العظمى. ويمكننا إجمال مظاهر الانحلال في الدولة العباسية حين سقوطها بالنقاط الأربع عشرة الآتية:
  • (١)

    سقطت مكانة الخليفة في هذه الفترة، وذُلت الخلافة ذلًّا واضحًا في أواخر عهد بني بويه، وتسلَّط على الخلفاء مماليكهم، وعلى رأسهم البساسيري مملوك بهاء الدولة بن عضد الدولة. وقد صوَّر لنا ابن العميد (في كتابه: تاريخ المسلمين، ص٢٧١) نفوذ البساسيري وضعف الخليفة بقوله: «كان قد عظم قدره بالعراق واستفحل، فطار اسمه، وعظمت هيبته، وخافته أمراء العجم، وخُطب له على منابر العراق، ولم يبقَ للملك الرحيم بن بويه، إلَّا مجرد الاسم، ثم بلغ الخليفة القائم بأمر الله أن البساسيري قصد دار الخلافة للقضاء عليه … وقد استطاع أن يقضي عليه ويسجنه في قلعة الحديثة، ثم استنجد الخليفة بطغرل بك السلجوقي لطرد البساسيري، فكان له ما أراد، وقد ظن أن سيطرة السلاجقة ستعيد له مكانته، وللخلافة سلطانها، ولكن ظنه خاب؛ فإنهم أعادوا له مظاهر الاحترام، واستبدُّوا بالأمر دونه، وأقطعوه بعض الأراضي ليستغلها.

  • (٢)

    لأن السلطان الأجنبي الذي كان يضفي عليها شيئًا من المهابة، قد ضعف هو نفسه، وصار الأجناد من ديالمة وكرد لا يسمعون للسلطان البويهي، وقد رأينا أنهم لما أفسدوا بعض قرى الخلافة شكا الخليفة ذلك إلى السلطان جلال الدولة فلم يقدر أن يصنع شيئًا لضعفه، ولما سقطت الدولة البويهية وخلفتها السلجوقية استعاد الخلفاء بعض هيبتهم، حين كان السلاجقة أقوياء، فلما ضعفوا عادت الخلافة من جديدٍ إلى الانحطاط والضعف، وهذا شأن كل من لا يعتمد على نفسه في حماية بلاده، بل ينتظر من الغريب أن يحميها عنه.

    ولما ضعف السلاجقة وكان الخلفاء قد لاقَوا من المهانة والمذلة ألوانًا، عزم أحدهم أن يثور لكرامته ويعيد للخلافة مكانتها بعد ما رآه من تعسف السلاجقة وظلمهم حتى قال المسترشد:١ «فوضنا أمورنا إلى آل سلجوق فبغوا علينا، فطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون.» وقد أعلن هذا الخليفة عداءه للسلطان محمد السلجوقي في سنة ٥٢٠ﻫ، وأخذ الخليفة يقوِّي نفسه ويعمل على إقصاء السلاجقة من بغداد، وقطع في سنة ٥٢٩ﻫ الخطبة لمسعود،٢ فتحاربا وكان الفوز لمسعود، وأُسر الخليفة.
  • (٣)
    كان من جرَّاء سقوط الهيبة العباسية أن انزوى الخلفاء في قصورهم يعيشون عيشة ترف ودعة، وبالغوا في الاحتجاب عن الناس. ويذكر المستشرق لسترنج٣ نقلًا عن الرحالة اليهودي توديلا الذي زار بغداد حوالي سنة ٥٥٥ﻫ، وكان ذلك في عهد المقتفي أو المستنجد، أن الخليفة كان لا يخرج من قصره إلا مرة واحدة؛ أي ليؤم الناس في صلاة عيد الفطر.
  • (٤)
    كان الخلفاء لا يستطيعون الوقوف أمام رغبات السلاجقة أو وزرائهم؛ فالسلطان البويهي يعزل وزير الخليفة على الرغم منه، لا لشيءٍ إلا تنفيذًا لرغبة عميد الدولة البويهي، كما أنه عزل وزيره أبا شجاع تنفيذًا لرغبة ملكشاه؛٤ بل إن ملكشاه صمَّم على طرد هذا الخليفة نفسه من بغداد سنة ٤٨٥ﻫ لأنه رأى منه ميلًا إلى التدخل في أمور الدخل، فبعث إليه من يقول له: «لا بد أن تترك لي بغداد، وتذهب إلى أي بلدٍ شئت، فانزعج الخليفة وقال: أمهلني ولو شهرًا. فقال: ولا ساعة واحدة. فأرسل الخليفة إلى وزير السلطان يطلب المهلة إلى عشرة أيام، فاتفق أن مرض السلطان ومات، وعُد ذلك كرامة للخليفة.»٥
  • (٥)

    كان انحلال الدولة السلجوقية مؤذنًا بسقوط الخلافة العباسية؛ لأن ضعف السلاطين، جعل الدولة العباسية مطمعًا للأجانب من شرقيين وغربيين، فاستطاع الصليبيون أن يسيطروا على الشام، ويوطدوا أقدامهم فيه، واستطاع التركستانيون (الخطا) أن يسيطروا على الممالك الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، وقد حسب الخلفاء أن زوال سلطة السلاجقة يعيد إليهم سلطانهم، فلما زالوا لم تَعُد سلطتهم وتسلَّط عليهم الخوارزميون الذين ورثوا أملاك السلاجقة في المشرق، ولا شك في أن الناصر العباسي قد أخطأ خطأً كبيرًا حينما استنجد بخوارزمشاه تكش للقضاء على عدوِّه طغرل بك السلجوقي، ووقع الخلفاء من جديد تحت سلطان الخوارزمية، فعاد الخصام والتنافس من جديد بين الخلفاء والخوارزمية، ولم ينتهِ ذلك التنافس إلا بهلاك الطرفين على يد التتر.

  • (٦)

    كان من نتائج ضعف الخلافة والسلطنة أن قويت جهود الإسماعيلية والباطنية عمومًا في فرض سلطانهم والعمل على تقويض أركان الخلافة العباسية، ولقد لعب الخلفاء الفاطميون في مصر دورًا كبيرًا في نشر الإسماعيلية، كما سنرى ذلك، وقد كان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة.

  • (٧)

    كان من نتائج ضعف الخلافة والسلطنة أن تقوَّى الصليبيون وسيطروا على بلاد الشام وعلى جزءٍ من بلاد مصر، ووطدوا أقدامهم في تلك البلاد حتى مكَّن الله لصلاح الدين الأيوبي أن يقضي عليهم ويقضي على الفاطميين ويعيد للخلافة الإسلامية بعض هيبتها.

  • (٨)
    كان من نتائج انخذال العرب وبُعدهم عن الدولة، وانحلال العصبية العربية، وسيطرة الأعاجم أن سارت في طريق السقوط. يقول ابن خلدون (في المقدمة، ص١٨٣): «وهذا ما وقع لبني العباس؛ فإن عصبية العرب كانت فسدت بعد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك، إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم، ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة، فلم تكن تعدو أعمال بغداد، حتى زحف إليها الديلم وملكوها، ثم صار حكمهم ثم انقرض أمرهم، وزحف أخيرًا التتر، فقتلوا الخليفة ومحوا اسم الدولة.» وهذه نظرة صادقة؛ فإن تخلي الخلفاء عن عصبيتهم واعتمادهم على هؤلاء الدخلاء، قد أفسد دولتهم ثم قضى عليها. وإذا قارنَّا هذا الوضع المخزي للعرب يوم سقوط بغداد بالوضع الذي كانوا عليه حينما سار الرسول وخلفاؤه من راشدين وأمويين إلى غزو العالم وفتحه، تبينَّا أي ذل حاق بهم، وأي سقوط خلقي واجتماعي وصلوا إليه، إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وصدق الله فإن الأرض لله يرثها عباده الصالحون.
  • (٩)

    كان لجهل المستعصم وسوء إدارته وتقريبه الجهال والفسقة أثر فعَّال في سقوط الدولة، وقد وصف لنا صاحب الفخري أحوال سقوط بغداد، وتحذير ابن العلقمي للمستعصم من الاستمرار في غيِّه، فقال: «كان المستعصم رجلًا خيِّرًا متدينًا، ليِّن الجانب ليِّن العريكة عفيف اللسان … إلا أنه كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة، مطموعًا فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطَّلع على حقائق الأمور، وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرج على المساخر، وبعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسًا ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولية عليه، وكلهم جهَّال من أرذال القوم إلا وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي فإنه كان من أعيان الناس وعقلاء الرجال، وكان مكتوف اليد مردود القول يترقب العزل صباح مساء … وفي أواخر أيامه، قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة هولاكو فلم يحرك منه عزمًا، ولم ينبِّه منه همَّة، ولا أحدث عنده همًّا، وكان كلما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء، ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدولة.» فإذا كان هذا وضع الخليفة ورجاله، فالسقوط أمر طبيعي جدًّا ومفهوم.

  • (١٠)

    كان لانقسام الأمة وتجزيء سكانها واختلاف وجهة نظر كل من سكانها من عرب وترك وديلم وروم وأحباش وفرس ونصارى ويهود، قد كان كالسوس ينخر في جسم الإمبراطورية حتى انهارت وهوت هذا الهوى الفظيع.

  • (١١)

    كان سوء إدارة الخلفاء العباسيين المالية والإدارية وضياع العدل، وسيطرة الظالمين والأشرار والأوباش وسوء معاملة أهل الذمة، وفقدان الوازع الخلقي والديني سببًا قويًّا في الانحلال، فالسقوط.

  • (١٢)

    كان لتقوِّي الفرق العقائدية الهدامة، من قرامطة وباطنية، وغلاة من كل قبيل، وتقاتل هؤلاء الفرقاء بالأقلام والسيوف، وعمل كل واحد على تهديم خصمه بكل الطرق، ولو بالاستعانة بالأجنبي، تأثير قوي في ضعضعة الدولة وسقوطها.

  • (١٣)

    كان لفساد الأسرة والبيت العربيين، بانتشار الجواري والسُّريَّات والغلمان والخصيان، أثر قوي في تقويض معنويات الأمة الخلقية، ومقوماتها الاجتماعية، وتقويض هذه المعنويات والمقومات من أجلِّ أسباب السقوط.

  • (١٤)

    كان لاضطراب الأحوال الاقتصادية وفساد أمور الزراعة، وكثرة الضرائب، وكثرة المصادرات، وانتشار الفقر والبؤس يدٌ قوية في تهديم الدولة والعمل على سقوطها.

١  جهار مقالة للعروضي السمرقندي، ترجمة عزام والخشاب، ص٣١.
٢  ابن الأثير: «تاريخ الدولة الأتابكية»، ص٨٥.
٣  لسترنج: «بغداد في العصر العباسي»، ص٣٣٢.
٤  انظر: تاريخ الفخري، ص٢٥٩–٢٦١.
٥  تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص١٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤