الفصل السادس

الوضع العلمي والثقافي

كان هذا العهد — على الرغم من اضطراب السياسة فيه — عهدًا زاهيًا بالعلم والثقافة والعرفان؛ فقد بلغت مرو وشيراز وبغداد والموصل وحلب ودمشق والقدس والقاهرة درجات رفيعة من العلم في القرنين الخامس والسادس، وكان الخلفاء والسلاطين والأمراء يشجعون أهل العلم ويكرمونهم ويقتنون الكتب ويحسنون إلى مؤلفيها، ويغدقون العطاء عليهم، ولم يكن هذا الإحسان وتلك العناية خاصة بعلماء الدين والعربية والحكمة، بل كان يشمل أهل الفنون والصناعات، وقد رووا أن المعتضد العباسي لما أراد بناء قصره ببغداد استزاد فيه في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد فسُئل عن ذلك، فذكر أنه يريده ليبني فيه دُورًا ومساكن ومقاصير، يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كلُّ مَن اختار علمًا أو صناعة رئيسَ ما يختاره، فيأخذ عنه.»١ ولا شك أن في ذلك عناية ما بعدها عناية لأهل الفنون والصنائع من نظريةٍ وعملية، وقد كانت للمعتضد أعمال كثيرة تدل على حسن رعايته لأهل الفنون والعلم.
أما دُور العلم ومراكز الثقافة التي وُجدت في هذين العنصرين فأجلُّ من أن تُحصى في أية بقعةٍ من بقاع الإسلام، ويُقال إن أول مَن حُفظ عنه أنه أسَّس مدرسة في الإسلام هم أهل نيسابور، حيث بُنيت «المدرسة البيهقية» ثم «مدرسة الأمير نصر بن سبكتكين»، وكان السلاجقة ووزراؤهم منذ عهد ألب أرسلان من أكثر الناس عناية ببناء المدارس، ومعاهد العلم، لتخريج الفقهاء والعلماء والحكماء والمتكلمين، وقد كانت للوزير العالم الأجل نظام الملك الطوسي تلك المسيرة التي زيَّن بها تاريخ السلجوقية، وهي تأسيس المدارس النظامية في إيران والعراق.٢ وقد زوَّد تلك المدارس بكل ما تحتاج إليه لتخريج الأئمة والعلماء في الدين والأدب والحكمة، ثم تتابع على ذلك أولاده وخلفاؤه من الوزراء حتى عمَّت إيران والعراق المدارس ودُور الكتب. ويقول المستشرق روبن ليفي: «إن المدارس والجامعات الأوروبية الأولى اقتبست بعض تراتيبها التعليمية عن المدرسة النظامية.»٣ وقد كان لهذه المدرسة مدرِّس كبير واحد يُختار من كبار أئمة العلم في العصر، ويُعينه مدرسان آخران يُطلق عليهما اسم «معيد» لتلاوة المحاضرات بعد انتهاء الدرس، وقد وصف لنا الرحالة ابن جبير درسًا من دروس النظامية حضره حين زار بغداد سنة ٥٨٠،٤ فممن درس فيها: الإمام أبو إسحاق الشيرازي إمام الشافعية في عصره، والإمام الغزالي، وابن شداد المؤرخ، وقد نجت النظامية من نكبة هولاكو واستمرت تؤدي رسالتها إلى القرن التاسع، ولم نَعُد بعد هذا الوقت نسمع بأخبارها.٥

أما الشام فيظهر أن طرابلس كانت أقدم بلد فيه أسَّست المدارس؛ فقد رووا أن الأمير القاضي علي بن محمد بن عمار صاحب طرابلس في النصف الثاني من القرن الخامس سنة ٤٧٢، أسَّس أول دار حكمة لبث الفقه الشيعي، وكانت البلدة في عهده كعبة العلماء في العصر.

وقالوا إن نور الدين محمود بن زنكي لما استولى على الشام أسَّس المدارس لأهل السنة والجماعة، وأخذ يستدعي الفقهاء والصوفية ويقيم لهم المدارس والرُّبُط في دمشق، وأنه بنى المدرسة العصرونية في حلب لشرف الدين بن أبي عصرون عالم سنجار في سنة ٥٤٥ﻫ/١١٢٧م، وبنى له مدارس أخرى في دمشق ومنبج وحمص وبعلبك، كما بنى لقطب الدين النيسابوري الحكيم الرياضي المفسِّر، المدرسة العادلية بدمشق٦ ويذكر ابن جبير الذي زار دمشق سنة ٥٨٠ﻫ/١١٨٤م أنه كان بها نحو من عشرين مدرسة تقوم بالإنفاق على مَن يدخل فيها طلبًا للعلم، كما ذكر أن مارستاناتها ورباطاتها كانت من مفاخر الإسلام، ويقول إن بها مدرسة للهندسة وثلاث مدارس للطب،٧ وبلغت حجرات المدرسة الفخرية بها ٣٦٠ حجرة، كما يذكر أن عدد مدارس بغداد كان نحوًا من «٣٠» مدرسة لشتى أنواع العلم والأدب.
وقد نبغ في الدولة الإسلامية في هذه الفترة طوائف من الأئمة في علوم الدين والدنيا كانوا وما زالوا مفاخر الإسلام، ممن أنتجتهم هذه المدارس أمثال:
  • الإمام الغزالي: الذي تعلَّم في نظامية نيسابور، ثم قدِم بغداد فعكف على التعلم والتعليم في نظامية بغداد نحوًا من خمس سنوات، ولما قتل الباطنيون نظام الملك عكف الغزالي على دراسة أحوال هؤلاء القوم وانتقد عقائدهم، وطاف العالم الإسلامي يحاربهم، ثم رجع إلى نيسابور مدرِّسًا في نظاميتها فترة، تلبيةً لرجاء الوزير فخر الملك بن نظام الملك، ثم اعتزل التدريس قاصدًا مسقط رأسه طوس، منصرفًا إلى العبادة والتأليف إلى أن مات سنة ٥٠٥ﻫ.
  • الرئيس ابن سينا: الحسين بن عبد الله سنة ٤٢٨ﻫ/١٠٣٧م، الإمام الفيلسوف صاحب التآليف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، وأشهرها القانون والشفاء والإشارات.
  • الحكيم الخيام: الرياضي الفلكي الشاعر الذي عهد إليه ملكشاه جلال الدين أن يُصلِح التقويم، فوضع التقويم الجلالي، وله في الفقه والفلسفة والرياضيات آثار جليلة، فضلًا عن رباعياته.
  • الإمام الرازي: فخر الدين محمد بن عمر سنة ٦٠٦ﻫ/١٢١٠م إمام المفسرين الفيلسوف، وهو عربي قرشي، وُلد بالري ورحل إلى خوارزم وألَّف في التفسير والرياضيات والحكمة والأدب والتصوف.
  • العالم البيروني: محمد بن أحمد، أبو الريحان الخوارزمي سنة ٤٤٠ﻫ/١٠٤٨م الفيلسوف الرياضي المؤرخ أقام في الهند واطلع على فلسفتها وفلسفة اليونان، وله «الآثار الباقية» و«الجماهر» و«تحقيق ما للهند من مقولة» وغيرها.
  • أبو العلاء المعري: أحمد بن عبد الله التنوخي ٤٤٩ﻫ/١٠٥٧م الشاعر الفيلسوف الأديب الأشهر صاحب الآثار والدواوين الكثيرة الموجود منها: «السقط» و«اللزوم» و«الغفران» و«الملائكة» و«عبث الوليد» و«شرح ديوان ابن أبي حصينة».
  • الأمير ابن أبي حصينة: الحسن بن عبد الله ٤٥٧ﻫ/١٠٦٥م الأمير الشاعر الأديب المعري شاعر بني مرداس، وقد جمع أبو العلاء ديوانه وشرحه.
  • الأديب الحريري: القاسم بن علي أبو محمد ٥١٦ﻫ/١١٢٢م وهو الأديب الكبير، والإمام اللغوي، صاحب «المقامات» المشهورة، له «درة الغواص» و«ملحة الإعراب» وغيرهما.
  • الكاتب عبد الرحيم: بن علي بن السعيد المشهور بالقاضي الفاضل ٥٩٦ﻫ/١٢٠٠م وزير صلاح الدين وكاتبه ومترجمه، له رسائل عديدة وإنشاءات سياسية وتاريخية لا تزال مخطوطة.
  • المؤرخ حمزة بن أسيد: بن علي التميمي ابن القلانسي ٥٥٥ﻫ/١١٦٠م مؤرخ الشام الثقة، كان أديبًا كاتبًا شاعرًا محدثًا، طُبع له «ذيل تاريخ دمشق».
  • المؤرخ غريغوريوس: بن هارون بن العبري ٦٨٥ﻫ/١٢٨٦م مؤرخ سرياني تعلَّم في أنطاكية، واشتغل بالفلاسفة واللاهوت، وتولَّى أسقفية حلب، وله «تاريخ الدول»، وكتب في الطب وتفسير الكتاب المقدس.
  • القاضي يوسف بن رافع: بن تميم بن شداد الأسدي ٦٣٢ﻫ/١٢٣٤م القاضي المؤرخ الأديب، ولَّاه صلاح الدين قضاء القدس والعسكر وحلب، ومن آثاره النوادر السلطانية في سيرة صلاح الدين. وغيرهم كثير ممن خرجوا من هذه المدارس أو درسوا فيها، وقد كانت هذه المدارس على أنواع، منها للفقه على مذهبٍ واحد من المذاهب الأربعة أو على مذهبين، ومن مدارس المذهبين، وهي في الغالب، الحنفي والشافعي كالمدرسة الأسدية التي بناها في دمشق أسد الدين شيركوه، والمدرسة العذراوية التي بنتها السيدة عذراء بنت صلاح الدين، هناك مدارس للمذاهب الأربعة: كالمستنصرية الكبرى ببغداد والصالحية بمصر.٨

ولم تخلُ حركة من الحركات الفكرية في الإسلام، ولا مذهب من المذاهب العقائدية من وجود مدارس تروِّج له، وتغذي حركته؛ فقد كانت للقرامطة مدارس وحلقات، كما كانت للباطنية مدارس، ومكاتب ومراصد.

يقول المستشرق «بارتولد» (في تاريخ الحضارة الإسلامية، ص٨٧): «لم تكن حصون الإسماعيليين لتدبير الاغتيالات السياسية فحسب، بل دُبِّرت فيها أمور حضرية، فكانت لمكتبة «آلموت» ومرصدها شهرة واسعة، ونشأ من هذه القلعة عدة علماء قاموا بخدماتٍ جليلة في إيران في العهد المغولي، ومن هؤلاء العلماء نصير الدين الطوسي، صاحب المؤلفات في الفلسفة والهيئة والرياضة، وفي العقائد الشيعية، ورشيد الدين المؤرخ اليهودي الأصل.»٩ وكتاب رشيد الدين: «جامع التواريخ» قد ألَّفه بأمر السلطان غياث الدين خدا بنده محمد، وطلب إليه أن يجمع فيه الروايات والأخبار التاريخية الخاصة بجميع الأمم من الصينيين إلى الإفرنج، وكان يعاونه في عمله هذا رجل مغولي مؤرخ واثنان صينيان عالمان، وراهب بوذي من كشمير، وعدة إيرانيين وراهب فرنسي، وقد حاول رشيد الدين تسجيل الروايات التاريخية كما سمعها بدون تحريف.١٠
وأما دُور الكتب فقد كانت موجودة قديمًا، ولم يكن مسجد من المساجد الجامعة منذ القرن الثاني للهجرة (القرن الثامن للميلاد) في العواصم الإسلامية يخلو من خزائن كتب العلم والدين والحكمة، وكان كثير من أهل العلم يوقِفون كتبهم على الجوامع كالخطيب البغدادي وأبي نصر المنازي١١ وغيرهما، وقد كانت هذه الجوامع تحتوي آلاف الكتب، ولا بأس أن نقف ها هنا وقفةً لنقارن بين دُور الكتب في الجامع الإسلامي في القرن الثامن للميلاد، وبين خزانة الكتب في الكتدرائية الغربية في أوروبة؛ فقد روى المستشرق متز أنه كان في مكتبة الكاتدرائية بمدينة «كنستانزا» في القرن التاسع «٣٥٦» كتابًا، وفي مكتبة دير «البندكتين» سنة ١٠٣٢م ما يزيد على «١٠٠» كتاب بقليل، وفي خزانة كتب الكاتدرائية في مدينة «بامبرخ» سنة ١١٣٠ﻫ «٩٦» كتابًا فقط.١٢ أما في العهد الذي نؤرِّخه فقد كثُرت خزائن الكتب كثرةً مدهشة في الجوامع والمدارس والزوايا والرُّبُط والبيوت، ويُروى أن شرف الملك أبا سعيد محمد بن منصور الخوارزمي بنى خزانة كتب في مدرسة أبي حنيفة سنة ٤٥٩ﻫ وكانت تحتوي على كتب كثيرة من آثار الجاحظ، وأن الخليفة الناصر نقل إلى المدرسة النظامية سنة ٥٨٩ﻫ قسمًا من خزانة كتبه ووضعها تحت تصرُّف الطلاب، كما أن المؤرخَين ابن الساعي وابن النجار وقفا كتبهما على هذه المدرسة.

ولم تكن هذه الحركات الثقافية خاصة بدولة السلاجقة؛ فإن الدول الأخرى كالخوارزمية والأتابكية كانت كثيرة العناية بالنواحي الثقافية، على الرغم من انشغالها بالحروب، وقد نبغ تحت رعاية هاتين الدولتين جمهرة من الأدباء والعلماء والشعراء، نذكر منهم: زين الدين أبا إبراهيم إسماعيل بن حسن الجرجاني الذي قصد خوارزم سنة ٥٠٤ﻫ/١١١٠م إثر الدعوة الكريمة التي وجَّهها إليه قطب الدين خوارزمشاه، وظل هناك إلى أن مات، ومن آثاره كتاب «ذخيرة خوارزمشاه» وهو من كتب الطب والسموم. ومنهم رشيد الدين محمد عبد الجليل البلخي المعروف بالوطواط الأديب الكاتب باللغتين، وقد خدم الخوارزميين أيام أتسز خوارزمشاه سنة ٥٢١، وكان يؤلِّف القصائد والرسائل في هجو السلاجقة خصوم الخوارزمية، كما كان أوحد الدين محمد الأنوري العالم الفلكي والشاعر الأديب، يَردُّ على هذه القصائد والرسائل ويكيل المدح للسلطان سنجر السلجوقي ويهجو أتسز.

وفي عهد علاء الدين خوارزمشاه سنة ٥٩٦–٦١٧ﻫ نبغ جمهرة من العلماء والأدباء، نذكر منهم: محمد بن قبيس مؤلِّف «المعجم في معايير أشعار العجم» كتبه بالعربية، ثم ترجمه إلى الفارسية، وكان ابن قبيس من أهالي الري، وقد خدم الدولة الخوارزمية، ثم انتقل إلى خدمة الأتابك سعد بن زنكي سنة ٦٣٢ﻫ/١٢٢٥م، ثم إلى ابنه أبي بكر من بعده،١٣ ثم في عهد جلال الدين منكوبرتي اللذين كانا يشجعان العلم وأهله، على الرغم من اضطراب الوضع السياسي.
ومن هؤلاء العلماء نصرة الدين حمزة بن محمد العالم الأديب الذي ارتقى إلى ولاية تسا، وأسرة الجويني التي نبغ منها بهاء الدين متولي الإدارة المالية في عهد مانجوخان، وعلاء الدين بن بهاء الدين المعروف بعطا ملك، الكاتب العالم الأديب المؤرخ المشهور مؤلف «جهان كشا»، وشمس الدين بن بهاء الدين، وكلهم عالم أديب ومؤرخ أريب.١٤

ومما تجب الإشارة إليه أن الفنون الجميلة من تزيين المباني والنقش والرسم والنحت والتصوير والخط والموسيقى، قد ارتقت في هذا العصر رقيًّا ملموسًا، وقد ألَّف المقريزي المؤرخ المشهور كتابًا أرَّخ فيه مصوري المسلمين، ولكن كتابه فُقد مع الأسف، ولقد عُني المسلمون في هذا العصر بالفنون الجميلة، نظرًا لميل أمراء هذا العصر من سلاجقة وخوارزمية وأتابكية إلى هذه الفنون، وممن نبغ في الخط ياقوت المستعصمي، وإليه يُنسب الخط الياقوتي، ومن آثاره بعض المصاحف والكتب الرائعة في خطها.

١  خطط الشام ٦: ٦٧.
٢  انظر كتابينا عن «نظام الملك الطوسي» و«التربية عند العرب».
٣  Reuben Levy. A Baghdad Chronicle p. 193.
٤  انظر: الرحلة، ص١٩٦.
٥  انظر كتابنا عن «المدرسة النظامية»، طبع باريس ١٩٤٩.
٦  انظر: «الدارس في تاريخ المدارس» للنعيمي، طبعة المجمع العلمي العربي بدمشق بعناية الأمير جعفر الحسني؛ وتاريخ الصالحية طبعة الشيخ دهمان؛ وثمار المقاصد لابن عبد الهادي، طبعة الدكتور أسعد طلس.
٧  انظر: الرحلة.
٨  انظر كتابنا عن نظام الملك؛ ومقالة «مسجد» في دائرة المعارف الإسلامية.
٩  انظر كتاب: «الحضارة» لبارتولد، ترجمة حمزة طاهر، طبع دار المعارف بمصر، ص٨٧.
١٠  انظر كتاب: «الحضارة» لبارتولد، ترجمة حمزة طاهر، طبع دار المعارف بمصر، ص٩٩، وقد طُبع كتاب رشيد الدين الجزء الثاني الخاص بتاريخ المغول بلندن، كما طُبعت بباريز قطعة متعلقة بهولاكو، وطبع أخيرًا المستشرق كارل يوحنا الجزء الخامس بقازان في مجموعة حبيب سنة ١٩٤٣.
١١  انظر: ابن خلكان ١: ٥٥، في ترجمة أبي نصر المنازي.
١٢  الحضارة الإسلامية في القرن الرابع، الترجمة ١: ٢٨٨.
١٣  انظر: تاريخ الأدب الفارسي للدكتور رضا شفق زاده، ص١٩٥.
١٤  انظر كتاب: D’hassacn: Hist. Des Mongols 1, 13–20.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤