الفصل الأول

كلمة عن حالة العميان في الزمنين الغابر والحاضر

ونظرة في حالة عميان أوروبا ومصر

كانت آراء الشعوب مُتَّفقة في العصور الخالية حتى أواخر القرن الثامن عشر على اعتبار العميان عالة على الهيئة الاجتماعية لا يمكن تثقيف عقولهم والانتفاع بمواهبهم العقلية وقواهم الجسدية. ولم يقتصر الأمرُ على ذلك بل قد حملت تلك العقيدة بعض الشعوب إِمَّا على إهلاكهم منذ إصابتهم بالعمى، وإما على جعلهم أضحوكة في المنتديات والأسواق. وكان الفقراء منهم يلجئون إلى التكفُّف للقيام بأَوَد معاشهم فيقضون عمرهم في ظلام البصيرة والبصر، ويموتون وبعضهم متشوِّق إلى العلم دون أن يجدوا إليه سبيلًا. وجُلُّ ما أتاه بعض الأمم الراقية في مدنية القرون الوسطى أنها آوت العميان إلى ملاجئ مخصصة بجميع الفقراء، فكان فيها بضع عشرات يسيرة بالنسبة للمجموع لا يجدون فيها غير الغذاء والكساء.

ولقد أتيح لشرف الإنسانية وحظ العميان أن ظهر في القرن الثامن عشر نابغة إفرنسي يُدعى فالنتين هواي Valentin Haüy تحرَّكت في قلبه عواطف الشفقة نحو أولئك البؤساء عندما لاحظ حالتهم المنكرة، وتحقق الانتفاع بقواهم العقلية وباقي حواسهم على الرغم من فَقْد بصرهم، فآلى على نفسه أن يعلِّم قليلين منهم بواسطة حروف بارزة استنبطها. ولما رأى نتائج سعيه كُلِّلَت بالنجاح شاد في باريس أول مدرسة للعميان ظهرت في العالم، فأَمَّها في البداءة عدد قليل منهم، ثم ازداد طلابها شيئًا فشيئًا حتى وصل عددهم إلى ١٢٠ تلميذًا تكوَّن منهم المعهد الوطني لعميان فرنسا Institution Nationale des Jeunes Aveugles. وكان ذلك سنة ١٧٨٤ وهو تاريخ رُقي العميان الأدبي والمادي.

ولما ظهرت الفوائد الجزيلة التي تُجنى من تعليم العميان أدبيًّا واقتصاديًّا دعا إمبراطور روسيا وملك بروسيا إلى بلادهما فالانتين هواي، فأسَّس في البلادين سنة ١٨٠٦ مدارس للعميان على نمط مدرسة باريس. ومنذ ذلك العهد أخذ الاهتمام بتحسين حال العميان ينتشر في أوروبا وأميركا شيئًا فشيئًا حتى رأيناهم اليوم في الغرب بفضل العلم والإحسان فئة راقية في الهيئة الاجتماعية يمكنها أن تتثقف وتتعلم وتجتني ثمرات جِدها ونشاطها.

وقد أُنشئت لهذا الغرض مدارس وملاجئ ومصانع لعميان الجنسين النشيط واللطيف وفيها آلاف منهم، وأُسست جمعيات خصوصية لحمايتهم ومساعدتهم اشترك فيها الملوك والأغنياء والفقراء، وانعقدت وتنعقد المؤتمرات في كل سنة من وطنية ودولية لمزيد تحسين أمورهم، فأصبح الأعمى اليوم في أوروبا كالمبصر قادرًا على أن يقف على أسرار الحياة الدنيا وأن يدرس العلوم والآداب، ويُتقن فنَّ الموسيقى إتقانًا يباري فيه المبصر، ويتدرَّب على بعض الصنائع والأشغال، فتمكَّن بهذه الوسائط من القيام بشئون نفسه وسدِّ عوزه، وتيسَّر لبعضهم أن يُعيل غيره من أفراد أسرته ويؤسس من ماله الخاص المكتسب محلات تجارية يزاول فيها حرفته.

أما القُطر المصري الذي يربو عدد عميانه على عميان أيِّ قُطْر بالنسبة إلى سكانه كما سيأتي ذكره، فلا يزال متأخرًا من قبيل مساعدة العميان على عكس ما يُرتجى من ثروته وكرم أبنائه الحاتمي في كل مشروع خيري. على أن تحسين حال العميان ليس أمرًا خيريًّا فقط بل اقتصاديًّا أيضًا ولا مجال للتوسع فيه هنا، فعمياننا يزيدون على ١٤٨٠٠٠ بموجب إحصائية مجلس الصحة المصرية لسنة ١٩٠٧، بينهم ثلاثون ألف أعمى يتراوح سنهم من الخامسة إلى الثلاثين، ولا مدارس وطنية تعلِّمهم، ولا ملاجئ تأويهم، ولا مصانع تشغلهم، ولا جمعية واحدة تهتم بأمرهم وتقيهم طوارق الحدثان. ولا يوجد في هذا القطر مع سَعته ورَحْبه غير معهدين من هذا القبيل أسستهما سيدتان أجنبيتان: أحد المعهدين في الزيتون (قرب القاهرة) يأوي إليه ٤٠ تلميذًا، وثانيهما في الإسكندرية يحوي ١٢ تلميذًا فقط، وزاوية مجاورة للأزهر فيها نحو ١٠٠ من العميان يستظهرون ما يدرسونه. وعدا ذلك فنرى أغلب عمياننا غارقين الآن كما كانوا في العصور الغابرة في بحار الظلام المادي والأدبي، لا مورد رزق حقيقيًّا لمعظمهم إلا التسوُّل بأبواب المساجد والمعابد أو تلاوة القرآن الشريف أمام الجنائز وفي المآتم، ويرتزق بعض أفراد قليلين منهم لا يتجاوزون عدد الأصابع بمزيد العناء من فن الموسيقى أو من صناعة تعلَّموها.

وهي حالة تعسٍ وشقاءٍ تُوجب الرحمة ومزيد الالتفات، وقد كان المُنبِّه الحقيقي عليها المؤتمر الدولي الرابع الذي انعقد في القاهرة الشتاء الماضي، والفضل في اجتماعه عائد — كما يعلم الجميع — إلى العالِم العامل والوطني الغيور سعادة الدكتور الفاضل محمد باشا علوي، ولنا الأمل في أن تنجم عن هذا المؤتمر فوائد حسيَّة ولو لعدد قليل من بؤسائنا.

أشرنا آنفًا إلى أننا سنذكر عدد العميان في بعض البلاد لنقارنه بعدد عميان مصر، وقد رأينا وجوب الاقتصار على ذكر البلاد التي زرنا مدارس عميانها ومصانعهم في الصيف الماضي، وهي: فرنسا وإنكلترا وبلجيكا وإيطاليا، تحاشيًا من ملل القارئ الكريم لتعداد أرقام جمَّة، وقد ذكرنا هذه بسيطة بلا كسور وأضفنا إليها عدد عميان ألمانيا لتقدُّمها كثيرًا في تحسين حالهم وإن لم نزرها، وكذا عدد عميان الولايات المتحدة الأميركية، وقد تلقيناه من حضرة المِس جيفن مندوبة الجمهورية المذكورة في مؤتمر القاهرة، فإنها حالما علمت بأننا شارعون في وضع تقرير عن حالة عميان مصر بعثت إلينا بكشفٍ وافٍ يختص بعميان بلادها:

إحصائية سنة البلاد عدد السكان عدد العميان النسبة بالتقريب على كل ١٠٠٠٠ ساكن
١٩١٠ الولايات المتحدة ٩١٢٠٠٠٠ ٦١٠٠٠ ٦
١٩٠٦ ألمانيا ٥٢٢٥٠٠٠٠ ٣٤٠٠٠ ٦
١٩٠١ بريطانيا العظمى ٤١٠٠٠٠٠٠ ٣٢٠٠٠ ٧
١٩٠١ فرنسا ٣٨٥٠٠٠٠٠ ٢٧٠٠ ٧
١٩٠١ إيطاليا ٣٢٥٠٠٠٠٠ ٢٨٠٠٠ ٨
١٩٠١ بلجيكا ٦٥٠٠٠٠٠ ٣٥٠٠ ٥
١٩٠٧ مصر ١١٢٠٠٠٠٠ ١٤٨٠٠٠ ١٣٢

ولا حاجة للإفاضة في شرح مصابنا بعد ذكر هذه الأرقام الرسمية الناطقة بأحسن بيان عن كثرة عدد عمياننا الهائل بالقياس إلى قلة عدد عميانهم، فالتأمل فيها برهة ليس يقضي علينا فقط بالتنبُّه إلى حالتهم، بل بالتشمير عن ساعد الجِدِّ الحقيقي لمعاضدتهم أو النزر اليسير منهم. وتأييدًا لهذا القول؛ ننظر ماذا صنعته البلاد المذكورة في هذا السبيل، وماذا صنعته مصر.

البلاد مدارس العميان مصانع ملاجئ جمعيات للحماية والمساعدة
الولايات المتحدة الأميركية ٥٧ ٢١ ٢١ ٢٧
ألمانيا ٣٥ ١٢ ١٦ ؟
إنكلترا ٣٤ ٥٢ ٢٠ ٦٢
فرنسا ٢٨ ١٠ ٢٠ ٤
إيطاليا ١٤ ١٤ ٢ ٢
بلجيكا ٩ ١ ٢ ٢
مصر ٢

فمن مطالعة هذا الجدول الأخير والمقارنة بين عدد مدارس وملاجئ ومصانع العميان في البلاد المذكورة وعددها في مصر يُرى الفرق العظيم بين ما صنعه الغربيون في هذا السبيل وأهملناه نحن، فإن كنا حقيقةً من الشعوب الراقية — ونحن في مصافِّها معدودون — وجب علينا أن نسعى بكلِّ الوسائط إلى تعليم عمياننا ومساعدتهم بكلِّ قوانا، وإلا فعلى الشفقة والحنان السلام. والآن نستميح القارئ فنَلفِت نظره إلى الفصل التالي من هذا التقرير، فعندما يزور بالخيال معنا المدارس التي قصدناها ويقف على نظامها، ويدرك هناء تلاميذها وغنى بعضها العظيم، ويطَّلع على نفقاتها من الآلاف الجنيهات، لا شكَّ العواطف الشريفة تتحرَّك في فؤاده شفقةً على إخوانه في الإنسانية، إخوانه في الجنسية والوطن: عميان مصر المساكين، فيسعى معنا إلى تحسين حالتهم، والله لا يُضيع أجر المحسنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤