الفصل الرابع

مساعدة العميان

تقلَّبت مساعدة العميان على أطوار شتى، واختلفت بانقلاب الدول والممالك، وتغيَّرت تبعًا لأحوال الزمان والمكان وأميال البشر ودرجات عقولهم. أما في العصور الوثنية إذ كانت الحروب قائمة على قدم وساق، والعضو العامل فيها أو الجنديُّ كلٌّ قادر على حمل السلاح، فقد كان يُعتبر الأعمى عضوًا أشلَّ ويُمحى اسمه من سجل الأحياء، هذا إذا لم نَقُل: إنه كان يُعدم في غالب الأحيان. ثم جاء الأنبياء وأوصوا في كُتبهم المقدسة بإزالة العثرات من سبيل العميان، وأمروا بالإحسان إليهم.١ ولما ظهر الإسلام تشدَّدت عزائم العميان وخفف عنهم الناس وطأَتهم وسوء معاملتهم لما عاتب الله به نبيه محمدًا على إِعراضه عن ابن مكتوم وحثه على الالتفات إليه وإمكان هدايته أكثر من البصير. حيث قال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، فهذه الآية أعظم دليل على العناية والرفق بالعميان أولًا، وإمكان الانتفاع بهم ثانيًا، ورجاء الخير منهم لأنفسهم ثالثًا. ولا يسعنا هنا إلا إلفات نظر القارئ إلى كتاب «نكت الهميان في نكت العميان» لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، الذي أبرزه من مكاتب القسطنطينية سعادة العالِم المحقق أحمد باشا زكي سكرتير مجلس النظار. وهو — كما كتب سعادته في مقدمته — الكتاب الناطق بنفسه بما كان لأهل الإسلام وملوكهم الكرام من الأيادي البيضاء في تحسين حال العميان.

غير أن هؤلاء استمرُّوا رغمًا عن الحث والتنبيه على العناية بهم عالة على المجتمع البشري. وكثيرون منهم كانوا يتخذون إضحاك الناس وسيلة للارتزاق وقلوبهم مملوءة حسرة وأسى، ولسان حالهم يقول:

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربًا
فالطير يرقص أَحيانًا من الألم
وأول من ساعد العميان مساعدة حقيقية فلمَّ شعثهم وجبر كسرهم لويس التاسع ملك فرنسا. إذ أنشأَ سنة ١٢٦٠ ميلادية في مدينة باريس معهد الكنزفين Les Quinze-Vingt وآوى إليه ٣٠٠ أعمى، وسيأتي الكلام عنه. أما المساعدة المبنية على التعليم والعمل فما ظهر عصرها الجديد، ولا ارتفع شأنها المجيد، إلا بمساعي فالانتين هواي في القرن الثامن عشر، وقد مرَّ ذكره. ثم سرت فكرة تعليم العميان والاهتمام بأمورهم من أوروبا إلى أميركا الشمالية وسائر البلدان حتى أصبحت موضوع اهتمام الجميع بفضل مساعي أهل النخوة والمروءة، وقد انتشرت في زماننا الحاضر مدارس العميان وملاجئهم ومصانعهم تضم تحت أجنحتها آلافًا منهم وتهذِّبُهم وتثقِّف عقولهم. وتنقسم المساعدة المتبعة اليوم لتحسين حالتهم إلى أربعة أقسام:
  • (١)
    جمعيات الكفالة Sociétés de patronage.
  • (٢)

    المدارس.

  • (٣)

    المصانع.

  • (٤)

    الملاجئ.

(١) جمعيات الكفالة

هذه الجمعيات عديدة الأنواع يضيق بنا المقام لو أفضنا في ذكر كلِّ واحدة منها فاكتفينا بذكر أهمها، وهي:

(١-١) جمعية فالانتين هواي لتحسين حال العميان في باريس

ASSOCIATION VALENTIN HAUY Pour le bien des Aveugles à Paris
وقد اخترناها دون غيرها لسببين رئيسين؛ أولهما: أن مؤسسها هو الأعمى الذائع الصيت في عالم العميان، الدائب في خدمتهم، الساعي في كل ما يئول إلى خيرهم، صاحب المؤلفات العديدة التي يرجع إليها كلُّ باحث في مسائل العميان؛ نعني به المسيو موريس دي لا سيزران Maurice de la Sizeranne، وقد اختاره المؤتمر المصري وعيَّنه عضو شرف فيه على أنه لم يحضره، وذلك إِقرارًا بفضله على عميان المعمورة فلم يكن بدٌّ من الرجوع إليه في مثل هذه الشئون. وثانيهما: أن النظام السائد على هذه الجمعية والفوائد الجلية التي تُجنى منها لم يختص بها عميان فرنسا فقط بل عميان الدنيا قاطبةً، فكانت نموذجًا نسجت على منواله الجمعيات الأخرى في نظامها الأساسي وإن حُوِّرت في بعض أمور طبقًا لعادات البلاد التي تؤسس فيها.

غرض الجمعية

لُقِّبت هذه الجمعية باسم فالانتين هواي تخليدًا لذكره. وغرضها درس كل الطرق الآئلة إلى تعليم وتحسين حال العميان من الوِجهتين الأدبية والمادية وتعميمها وبثها. وللوصول إلى هذا القصد النبيل لا تألو جهدًا في استمالة الرأي العام، تارةً باستنهاض من يهمهم أمر العميان، وطورًا بتعضيد الأعمال الخيرية المؤدية إلى نفعهم، وآخِرًا بإرشاد من تهزهم النخوة الإنسانية وتُميلهم إلى هؤلاء المعوزين فتهديهم إلى الطرق الحسنة لإعانتهم.

وللجمعية مركز عام في باريس في شارع الإنفاليد جمعت فيه سنة ١٩٠٧ شتات أعمالها المتنوعة بعدما كانت متفرقة لهذا التاريخ. قصدنا زيارته، وطلبنا إلى المسيو دي لا سيزران السكرتير العام أن يضرب موعدًا لمقابلتنا فتكرَّم بتعيين بعد ظهر يومٍ للتفرغ لنا خاصةً يوم الزيارة.

وقد كان ذلك، فتشرَّفنا بلقاء رجل الفضل المشار إليه وهو يناهز الأربعين وعليه سمات الهيبة والوقار، تراه يتَّقد حمية عند التكلم عن العميان، فقادنا بنفسه — ونحن نقوده — إلى أقسام المحل كافة، وهي: السكرتارية، وقسم المخابرات المختصة بالعميان، وقسم تحرير المجلات التي تبحث في شئونهم؛ ومنها ما هو بالحروف العادية للمبصرين، ومنها ما هو على طريقة برايل. وكتبخانة توزع كُتبها على سبيل العارية للعميان، وقد أسلف منها ٤٥ ألف كتاب في السنة الماضية. ومتحف جمع ما أمكن جمعه من أعمال واختراعات المشهورين منهم، ومخزن لبيع مصنوعاتهم، ومحل للأوراق القديمة تُعمل منها أكياس تُباع لصغار التجار بأثمان زهيدة، ومستودع للثياب والأثاث المنزلي مما يتبرَّع به المتبرعون لتوزيعه على فقراء العميان. وهناك أيضًا محلٌّ للاستشارات الطبية والقانونية المجانية، وغير ذلك من الأمور النافعة للعميان.

دامت زيارتنا في هذه الأقسام ساعة من الزمن سرد لنا بعدها المسيو دي لا سيزران معلومات لا غنى من ذكرها بالإيجاز.

نظام الجمعية

تستعين الجمعية أولًا بأعضاء عاملين يخصصون جزءًا من أوقاتهم لإنجاز حركة المراسلات الصادرة والواردة في مصلحة العميان ويبلغ عددها نحو ٢٠٠٠٠ سنويًّا.

ثانيًا: بمجلس إدارة نصفه مؤلف من أعضاء كفيفي البصر؛ ولهذا المجلس ثلاث لجان: الأولى للإدارة والسعي في توسيع نطاق الجمعية، والثانية لنشر أعمالها، والثالثة لاتخاذ الوسائط الناجعة في تحسين حال العميان وللإحصائيات ومقاومة أسباب العمى.

ثالثًا: بلجنة مؤلفة من كرائم السيدات تستحث غيرة الجمهور على مساعدة الجمعية وجمع الدخل من السيدات.

وقد صادقت الحكومة الإفرنسية على قانون الجمعية وعدَّتها من المنافع العمومية فحُق لها قبول الوقفيات.

أما دخلها فقد بلغ في السنة الحالية عشرين ألف جنيه، وهو ريع الهبات والوقفيات ومجموع ما تحصَّل من أعضائها. وهم على أربعة أنواع:
  • الأعضاء المنتمون إليها: ويدفعون فرنكًا واحدًا في السنة.
  • الأعضاء الدائمون: ويدفعون ٢٥ فرنكًا دفعة واحدة.
  • الأعضاء الواهبون: وهم الذين يهبون مبلغًا فوق ٢٥ فرنكًا.
  • الأعضاء المحسنون: وهم الذين يهبون مبلغًا فوق ٥٠٠ فرنك.

وبلغت النفقات مثل المبلغ المتقدم ذكره، أي عشرين ألف جنيه، ولا حاجة إلى تفصيله هنا.

وللجمعية عدة فروع محلية في مدن عديدة من فرنسا ما عدا مركزها العام في باريس.

العناية المبذولة من الجمعية وأعمالها

العناية هي غير المساعدة البسيطة فهي الأداة الفعالة والمحور الذي يدور عليه عمل جمعية فالانتين هواي وهي تشمل كل كفيف البصر يلتجئ إليها، فقد بلغ عدد من أسعفتهم ومنحتهم رعايتها ٨٠٠٠ أعمى لكلٍّ منهم سجل حاوٍ جميع الإيضاحات المتعلقة به؛ ولهذا الفرع Le Patronage لجنة مؤلفة من بعض أعضاء مجلس الإدارة ومعهم بعض السيدات، تجتمع كل شهر مرة للمداولة في الشئون العمومية؛ ولهذا الفرع أيضًا أربعة أقسام:
  • القسم الأول: مختص بالصبيان؛ أي إن لجنة تهتم بصغار العميان، فتنقذهم تارةً من أيدي والدين مجردين من عاطفة الحنان أو قوم يستخدمونهم لمآرب دنيئة، وطورًا تُدخلهم في مدارس ابتدائية فتمكِّنهم من الدخول في مدارس العميان. وتساعد كذلك أبناء فقراء العميان بإعطائهم الكُتب والأدوات الكتابية، وتضمن لهم تربية دينية أدبية صناعية، معتمدة على المجالس البلدية والإعانات الأهلية.
  • القسم الثاني: وهو مختص بالتلاميذ الذين تحت التمرين؛ أي إن الجمعية تسهِّل الطرق للعميان الراغبين في تعلُّم حرفة ومزاولتها، وتتوسَّط عند المجالس العمومية في تحصيل الإعانات اللازمة للقيام بالإنفاق عليهم.
  • القسم الثالث: مختص بالصنَّاع. لقد أدركت جمعية فالانتين هواي أن الصعوبة ليست في تعليم العميان حرفة للارتزاق، ولكن في تذليل العقبات وتسهيل الطرق التي تمكِّنهم من الانتفاع بحرفتهم، فهي لذلك لا تألو جهدًا في تدبير عمل لهم والتوسط لهم عند العملاء، وتزويدهم النصائح، وتشجيعهم في الأحوال الحرجة، وإمدادهم بالأدوات اللازمة لمعالجة صناعتهم.
  • القسم الرابع: مختص بالشيوخ والمقعدين العاجزين، فهؤلاء يزورهم أعضاء الجمعية ويسعفونهم بإعانات مادية كالخبز والفحم والثياب والأمتعة المنزلية، أو يضعونهم في ملاجئ على نفقة الجمعية.

وللجمعية فروع أُخر لا بأْس من ذكرها باختصار، منها:

مدرسة لكفيفات البصر المصابات بعاهات بدنية عقلية يمتنع بها قبولهنَّ في مدارس أو ملاجئ العميان، وأخرى لتعليم الدَّلك وفيها أستاذ ماهر في هذا الفن يلقِّنه العميان فيرتزقون منه. ومصنع للبرشِّ تشتغل فيه نساء طاعنات في السن لا يُقبلن في المدارس، وآخر لمن أُصيب بفقد البصر بعد سن الأربعين فيشتغل الأعمى فيه بصنع أكياس صغيرة من الأوراق القديمة التي تجمعها الجمعية من المصالح والدوائر دون مقابل. ومشغل تجد فيه النساء اللواتي أُصِبن بالعمى ولا يمكنهن ترك عيالهن فيتعيَّشن بأشغال الزركشة والتسنين (التنتنة) والخياطة.

وهناك أيضًا صندوق الإيجارات وقد خُص بإسعاف فقراء العميان تُدفع منه أجور منازلهم. والمشتركون منهم بهذا الصندوق يستمدون به روح الاقتصاد؛ لأن الجمعية تردُّ إليهم كل ثلاثة شهور عشرة في المائة من مجموع ما يكونون قد دفعوه إلى الصندوق.

ونادٍ يجتمعون فيه فيجدون كُتبًا وجرائد وألعابًا يروضون بها عقولهم وأبدانهم.

وفي مركز الجمعية عالِم قانوني يشاوره العميان مجانًا في المسائل القضائية والفقهية إِما بالكتابة وإما بالمخاطبة، وفيه كذلك طبيب يعالجهم ويعطيهم الأدوية مجانًا.

ومن أمعن النظر فيما ذُكِر يرى حقيقة أن جمعية فالانتين هواي لم تَدَعْ أمرًا كبيرًا أو صغيرًا فيه نفع للعميان إلا وأدخلته في أعمالها العديدة، فلا غرو إذا اشتهرت في العالم بإحسانها إلى فئة العميان، ولا عجب إذا قصدها الزوَّار والمستفيدون للاقتباس منها والسير على منوالها، وقد ودَّعنا المسيو دي لا سيزران ونحن نلهج بالثناء عليه مستغربين كيف تمكَّن وهو أعمى من القيام بهذه المبرات. ولكن هي النخوة والمروءة والعزيمة والهمة والإرادة من تحلَّى بها مكَّنته من تذليل المصاعب والمشقَّات، ونفع إخوانه في النوازل والملمَّات، فللإنسانية أن تفخر بذلك الرجل أكثر الله أمثاله في سائر الأقطار ووهب لنا مثله في قطرنا العزيز.

(٢) مدارس العميان

إن مدارس العميان لا تفي بالغرض المقصود منها إلا إذا توفَّرت فيها إدارة رشيدة، واشتملت على شروط أساسية تكفل لها البقاء، أما الإدارة فأهم ما يُطلب منها انتقاء أساتذة أكفاء جامعين بين الشفقة والحلم والعلم الصحيح بتربية العميان، ثم عليها ألا تفتأ مشرفة عليهم.

أما الشروط الأساسية لمدارس العميان فثلاثة؛ اقتصادية وفنية وصحية:
  • (١)

    الاقتصادية: لا حاجة بنا إلى بيان أن المال ضروري لإنشاء مدرسة العميان فهي كسائر المشاريع تحتاج إليه لشراء أرض وتشييد بناء عليها، والصعوبة إنما هي في تقدير النفقات السنوية اللازمة لحياة المدرسة، فهي تختلف باختلاف الأقطار والبلدان وعادات أهلها وغرض المدرسة وعدد تلاميذها إلى غير ذلك من الأمور والأوجه التي لا يمكن التوسع فيها هنا. وعلى كلٍّ يسهُل تقدير النفقات بالتقريب على الشكل الآتي وعلى احتمال قبول ١٠٠ تلميذ:

    جنيه مصري عدد ونوع النفقة
    ٣٦٠ ١ مدير
    ٥٤٠ ٣ أساتذة للدروس العقلية
    ٢٨٨ ٢ معلِّمان للموسيقى
    ٢٤٠ ٢ معلمان للأشغال اليدوية
    ١٥٠ ٢ ملاحِظتان
    ٢٥٠٠ نفقات سنوية على ١٠٠ تلميذ بمعدل ٢٥ جنيهًا على كلٍّ منهم
    ٤٠٧٨ المجموع

    هذا إذا كانت المدرسة مجانية تمامًا كما هو الحال في مدرسة الزيتون حتى الآن. والأفضل في رأينا أن يكون في أية مدرسة قسم مجانيٍّ، وقسم مأجور للعميان الذين يقدر أهلهم على دفع أجور عنهم كما هو الحال في أغلب مدارس أوروبا.

  • (٢)

    الفنية: معظم المدارس في أوروبا تقبل العميان من الجنسين دون تفريق لكنها تجعل لكلٍّ من الذكور والإناث فرقة خاصة تؤلف من:

    ٦ قاعات للتدريس منفصل بعضها عن بعض.

    ٣ قاعات للنوم.

    ٢ قاعتين للأشغال اليدوية.

    ١ محل لتدريس الموسيقى.

    ومطبخ وقاعتين للأكل وبستان للألعاب الرياضية.

    ولا بد لكل مدرسة للعميان من تعليم الآداب والعلوم على طريقة برايل، فيجب إعداد مكتبة لهذا الغرض.

  • (٣)

    الصحية: أما ما يتعلق بالأمور الصحية في بناء المدرسة فيجب أن يراعى فيه عدد الطلبة دون النظر إلى عاهتهم، فتُنشأُ المدرسة فسيحة الأرجاء، معرَّضة للشمس والهواء، واقعة في مكان بعيد عن الحركة.

    هذه هي الشروط اللازمة لتشييد مدارس العميان، ولم نتوسَّع فيها هنا لأنها تدعو إلى أبحاث طويلة دقيقة تبعدنا عن الغرض الذي نسعى إليه في كتابنا هذا.

(٣) مصانع العميان

ندرس في هذا القسم:
  • أولًا: تاريخ إنشاء مصانع العميان.
  • ثانيًا: الشروط الأساسية اللازمة لحياتها.
  • ثالثًا: إدارتها ونظامها والحرف التي تُعلَّم فيها.

(٣-١) تاريخ إنشاء المصانع

يرجع تاريخ إنشاء المصانع للعميان إلى القرن الثامن عشر لأن حكومة المواثقة La Convention سنة ١٧٩٥ حوَّلت المدرسة الوطنية التي أَسسها فالانتين هواي إلى مصنع، وجعلت رسم الدخول فيه ٥٠٠ فرنك بادئ بدء ثم خفضته إلى ٢٥٠ فرنكًا ثم جعلته مجانيًّا، فكانت تعطي كلَّ أعمى تخرَّج في هذا المصنع وبرع في حرفته مبلغًا من المال قدره ٣٠٠ فرنك على سبيل المكافأة، يستعين به على حاله عند خروجه من المصنع، وإذا فضَّل الإقامة فيه تُدفع له أجرة عمله. وفي سنة ١٨٤٣ أَسست «جمعية تشجيع صناع العميان» مصنعًا جاء بنتائج حسنة مدة سنوات عديدة.

(٣-٢) شروطها الأساسية

يجدُر بكل من يريد الشروع في إنشاء مصنع للعميان أن يُمعن النظر فيه قبل الإقدام عليه منعًا لحبوط المشروع بعد البداءة فيه إذ أول الفكر آخر العمل، فقد حبطت أعمال كثيرة وتلاشت مصانع عديدة بتسرُّع منشئيها في تشييدها قبل التدبر وإمعان النظر.

لا بدَّ أولًا من ملاحظة منطقة المصنع، فإن كانت مدينة حافلة بالسكان شُيِّد فيها كبيرًا وتعددت فيه أنواع الحرف، وإن كانت بلدة صغيرة أُعد فيها ما يلزمها حتى لا تزيد الحرَف عن مطالب البلدة التي يُنشأُ المصنع فيها.

ثم إن المصانع رغمًا عن كونها معاهد أُنشئت لحماية العميان من الفاقة وتعليمهم حرفة يرتزقون بها، هي أيضًا مشاريع اقتصادية فنية تتطلب أبحاثًا ودروسًا لا يستهان بها. ونحن لا ننكر أن في وسع كل مثرٍ إنشاء مصنع للعميان غير أن الغرض أن يقوم المصنع بحاجاته ويتكفل بشئونه ونفقاته ليعيش طويلًا. وعليه لا بد قبل تشييد البناء من درس حالة احتياج البلد لِما يراد صنعه في هذا المعمل، والنظر في الصنف المرغوب فيه وجعل العمل موقوفًا عليه، وانتقاء إدارة مسئولة ضليعة في فنها تبذل كل مرتخص وغالٍ في سبيل إنجاح المصنع وتنظر إلى الأمور من الوِجهة الفنية أيضًا؛ أي إنها تسعى لدى المعلمين والعمال في تحسين المصنوعات جهد الطاقة حتى تأمن على العميان مزاحمة المبصرين إياهم في العمل الذي يزاولونه.

وفضلًا عن هذا فلا بدَّ من ضمان راحتهم ومستقبلهم في المصنع الذي يشتغلون فيه. ولا غرو فقصَّاد المصانع إنما يكونون غالبًا فقراء فلا يسعهم الاقتصار على التعلم والتمرين والعمل بل يهمهم أمر معاشهم أيضًا؛ لذلك ترى المصانع الأوروبية كافة تدفع للعميان عندها أجورًا مدة تمرينهم لإمكان إعالتهم وسد احتياجاتهم. ولكل مصنع طريقة خاصة به.

فمن المصانع ما هو خارجي يعلِّم العامل ويدفع له أجرة عمله ولا يتكفَّل بنفقات طعامه ونومه. ومنها ما هو داخلي يقوم بنفقات العامل فتُقيَّد له أجرته ويُدفع ثلث منها لنفقات طعامه ونومه، ويسلَّم له الثلث الثاني لينفقه في حاجاته، ويُحفظ له الثلث الأخير في صندوق التوفير لينقده عند خروجه، وهذه الطريقة هي المثلى؛ لأن انتقال الأعمى صعب جدًّا ونفقاته كنفقات المبصر ولا تمكِّنه أجوره الضعيفة من سد عجز ميزانيته، وعليه فالمعيشة الداخلية في المصانع تلائم الأعمى ملائمة تامة؛ لأنها تقلل نفقاته وتُوليه سلوانًا يُنسيه عاهته بمباشرته قرناء مثله.

(٣-٣) إدارة المصانع ونظامها وأنواع الحرف التي تُعلَّم فيها

أشهر مصانع العمال العميان في أوروبا توجد في درسد «سكسونيا»، ومرسيليا «فرنسا»، وبرستول وجلاسكو وإدنبرج «إنكلترا»، وفيلادلفيا «أميركا»، وقد علمنا أن ساعات العمل فيها تسع، والأجرة اليومية تتراوح فيها بين ٥ و١٠ غروش صاغ، ومحادثة الأجانب مع العمال ممنوعة وكذلك البحث في الأمور السياسية والدينية. وفي كل المصانع عمال مبصرون خبراء في الحرفة التي تُعلَّم للعميان.

أما الصنائع فتختلف باختلاف البلدان والشائعة منها هي: عمل الكراسي، والسلال، والفُرش، والأقفاص، والمكانس، والأبسطة، والسجوف، والحبال، والجزم، وكراسي الجنائن، وأكاليل الخرز للموتى، وخرط الأخشاب، والتنجيد (الأفرشة والوسائد)، وتصليح البيانو، ولعب الأولاد، والأكياس، وأشغال الزركشة والتسنين للنساء.

وتختلف نفقات إنشاء المصانع باختلاف أحوال البلاد ونوع الحرف المراد تعليمها فيها واتساع المحال وعدد العمال، ولا مجال للبحث فيها هنا.

(٤) الملاجئ

لم يكتفِ الغربيون بتشييد المدارس والمصانع لإنارة بصائر العميان وتعليمهم حِرفًا في صغرهم وفي سن الشباب، ولا بتأسيس جمعيات الكفالة لحمايتهم ومعاونتهم بكل الطرق التي ذكرناها، بل فكَّروا أيضًا فيما يئول إليه أمرهم عند حلول الكبر وصعوبة الارتزاق إذ ذاك أو ترمل الكفيفات، فأنشئوا لهم دورًا أو ملاجئ تضم مئات منهم؛ فباتوا في مأْمن من التسول والموت جوعًا أو بردًا.

وقد اختلف الاختصاصيون بأمور العميان في مسأَلة الملاجئ وإنشائها لهم، ففريق منهم وأغلبهم ألمانيون يودُّون إنشاء كثير منها حتى تصبح كافية لجميع العميان عند الكبر في كل قُطر؛ ولذا ترى اليوم ٤٠ ملجأ في ألمانيا. وفريق زعيمهم الدكتور أرميتاج الإنكليزي (زوج مؤسسة مدرسة الزيتون) لا يرون توسيع نطاق الملاجئ للعمال بل يشيرون بجعلها خاصة بالنساء فقط وخصوصًا غير القادرات منهن على التكسب. والرأي الغالب وجوب الاعتدال في هذه المسأَلة كما يجب في سائر الأمور، فلا يُعتمد على قول القائلين بتعميم الملاجئ لجميع العميان ولا قول من يرفضها بتاتًا. بل يجب إنشاؤها لغير النبهاء من العميان وهم الذين لا عائل لهم ولا سند من ذوي قرباهم. كما أن الأفضل ترك النبهاء منهم أصحاب الإقدام وشأنهم لا سيما إن كان لهم من يساعدونهم عند الحاجة.

وأول ملجأ أُنشئ للعميان في العالم هو ملجأ الكنزفين Hospice National des Quinze-Vingt à Paris، أسَّسه في باريس سنة ١٢٦٠ ميلادية لويس التاسع ملك فرنسا لعميان عاصمة بلاده، وقد مرت الإشارة إليه ولا يزال حتى الآن. زرناه منذ عشر سنوات عند تردُّدنا على العيادة الرمدية الكبيرة التي أُلحقت به سنة ١٨٨٠ للتمرن على أمراض العين، وهي شبيهة بعيادة قلاوون، يقصدها يوميًّا نحو ٤٠٠ مريض، يتولى معالجتهم أربعة أساتذة رمديين وعدد من المساعدين ومن تلاميذ الطب.

ولما كان هذا الملجأ أقدم الملاجئ عهدًا وأكملها نظامًا رأينا من قبيل الفائدة ذكر شذور عنه فربما نفعت عند تأْسيس ملجأ لعميان بلادنا.

والكنزفين مؤلفة من كلمتين معناهما ١٥ × ٢٠؛ أي إن في هذا الملجأ ٣٠٠ أعمى، وهو لا يوجد فيه أكثر من هذا العدد. وهو منذ سنة ١٧٨٠ تابع لنظارة الداخلية ولا يجري فيه أمر إلا بإشارتها، ولا يُقبل فيه أعمى إلا بإذنها.

وهو مؤلف من بناء عظيم ذي أربع طبقات تُشرف على ساحة كبيرة تظللها أشجار باسقة أُقيمت على ستة صفوف. ومما يستلفت نظر الزائر اكتساء نوافذ الغرف كلها بأحواض الزهور وأقفاص العصافير المغردة، ولا عجب فالأعمى طروب بزقزقة الأطيار شديد الارتياح إلى استنشاق شذا الأزهار مرضاة لحاستي السمع والشم.

وتجد في مكتب الإدارة آثارًا شتى قديمة العهد، ومنها أختام أكثر ملوك فرنسا، وأختام بعض باباوات وأساقفة، ذُيلت بها منشورات وأوامر عالية تُثبت الامتيازات الممنوحة لملجأ الكنزفين.

وله مدير ووكيل إدارة يقوم بأعمال السكرتيرية والدفترخانة، ولجنة استشارية مؤلفة من أربعة أعضاء يخدمون الملجأ مجانًا. وله كذلك جابٍ لتحصيل النقود، وخمس ملاحِظات، وقس، وطبيب، ومهندس، مرتباتهم من ميزانية الملجأ.

أما أهله فعميان من الجنسين وعلى نوعين، فمنهم خارجيون لا يقيمون في الملجأ وهم على ثلاثة أقسام: الأول يُدفع له سنويًّا ١٠٠ فرنك، والثاني ١٥٠، والثالث ٢٠٠، وداخليون من رجال ونساء وأولاد لهم ويبلغ عددهم ٣٠٠ منهم ١٨٠ أعزب أو عزباء والبقية متزوجون. وفي البناء قسم خاص بالأرامل. ولا يقبل الملجأ عميانًا مرضى البتة.

ولا يُقبل فيه إلا من استوفى الشروط الآتية، وهي: (١) أن يكون إفرنسي الجنس. (٢) بالغًا من العمر ٢١ سنة على الأقل. (٣) حاملًا شهادة عمى كلي مستحيل الشفاء. (٤) فقيرًا كل الفقر.

ورغمًا عن ذلك لا تقبل الإدارة أعمى قد استوفى تلك الشروط إلا بعد أن تتحقق حالته وحُسن سيرته.

ومخادع الأعمى تختلف أثاثًا؛ لأن الملجأ لا يعطي الأعزب إلا غرفة، والمتزوج صاحب العيلة غرفتين أو ثلاثًا، وهم يفرشونها، وإنما تُلاحظ الإدارة نظافة الغرف فقط.

ولكل أعمى مقيم في الملجأ كل يوم فرنك ونصف، وكان يُعطى أيضًا نصف أقة خبز لكن استُعيض عن ذلك بإعطائه ٢٠ سنتيمًا ويضاف عليها في الشتاء ١٠ سنتيمات لكل أعمى، وإذا كان متزوجًا فتعطى زوجته ٣٠ سنتيمًا كل يوم، فإن كانت الزوجة العمياء ورجلها المبصر فلا يعطى شيئًا إلا عند بلوغه الستين فيساعَد بثلاثين سنتيمًا كل يوم. وبنات العميان يبقين في الدار حتى السن الحادية والعشرين. أما الصبيان فيُعلَّمون منذ الصغر في المدارس الابتدائية وعند بلوغهم الرابعة عشرة تتكفل إدارة الملجأ بتعليمهم حرفة على نفقتها.

ويعطى كل امرأة وضعت ولدًا في الملجأ ٢٥ فرنكًا، وكذلك يوزع ألف فرنك في كل سنة على أكثر العميان احتياجًا لتدفئتهم من برد الشتاء. وإذا مرض أحد المقيمين في الملجأ نُقل إلى مستشفى فيه وعولج مجانًا.

ويجتهد كثيرون من عميان الملجأ في التكسب من بيع الفاكهة وأصناف البدالة (البقالة)، والإدارة تساعدهم في ذلك.

ولهم غرفة ملأى بأصناف الألعاب يراد بها تسليتهم، وغرفة كذلك للقراءة حوت جرائد وكُتبًا تاريخية وروايات وغيرها.

وفي فصل الصيف ترسل نظارة الحربية الموسيقى العسكرية إلى الملجأ يومي الخميس الأول والثالث من كل شهر فتعزف في ساحته ويجتمع فيها العميان وغيرهم لسماعها، فأَنت ترى أن نزلاء هذا الملجأ حائزون أسباب الراحة والتسلية وقد يحسدهم عليها الفقراء المبصرون.

(٤-١) دخل الملجأ

دخْله من الهبات والوقفيات منذ ٦٥٠ سنة، وهي عديدة تُشرف عليها الحكومة الإفرنسية. ومنها أجور عمارات جمة ومنازل هي ملك الملجأ ومنها تياترو الفولي برجير ومن أبعاديتين كبيرتين، يضاف إلى ذلك كله عشرة آلاف جنيه ريع خمسة ملايين من الفرنكات وهو ثمن الأرض التي كان الملجأ مبنيًّا عليها في عهد المؤسس لويس التاسع.

وملجأ الكنزفين أغنى ملاجئ المعمورة وأوسعها. ويفضِّلون الآن إنشاء الملاجئ بعيدة عن المدن أو في ضواحيها حيثما يجد العميان الراحة والهناء والسكون. يسَّر الله لنا السبل لإنشاء واحد منها في هذا القطر العزيز.

١  سفر اللاويين ١٤ Le Lévitique XIV.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤