الفصل السادس

تقنية الزراعة

القرى الدائمة وتراكم الثروة

الانتقال من البحث عن الغذاء إلى الزراعة كان أعمق ثورة في تاريخ البشر.

جرايم باركر، «الثورة الزراعية في عصور ما قبل التاريخ»

منذ ثمانية عشر ألف عام كان العصر الجليدي الأخير في ذروته؛ فقد كان يُغطي الدوائرَ الشمالية لأوروبا وآسيا وأمريكا طبقاتٌ هائلة من الجليد بلغ سُمْكها مئات الأقدام. وكان مستوى سطح البحر أقل مما هو عليه اليوم بمقدار ثلاثمائة قدم. وامتدت صحراواتٌ شاسعة عبر أفريقيا وآسيا، وكانت الغابات المطيرة لا تزيد عن نسبةٍ ضئيلة من حجمها الحالي. لكن كان ثمة تغييراتٌ كبرى في المستقبل؛ فمع انحسار العصور الجليدية وارتفاع درجة حرارة الأرض، كانت البشرية على وشك الشُّروع في تحولها الأكبر التالي.

كلٌّ من التحولات الأربعة التي جرَت من قبلُ غيَّرت الطبيعة البيولوجية لأسلافنا إلى حدٍّ كبير؛ فقد حوَّلتنا تقنية الرماح وعِصيِّ الحفر من حيواناتٍ رباعية الأرجل إلى ثنائية الأرجل. ونتج عن تقنية النار والطهو أن فقدنا شعر أجسادنا، وحدثت زيادةٌ ضخمة في حجم أدمغتنا، كما حدث تحوُّل في بِنيتنا التي كانت مهيَّأةً لتسلُّق الأشجار. أيضًا مكَّنتنا تقنية الملابس والمأوى من الهجرة من المناطق المدارية، وجعلت من الممكن لمواليدنا «المبتسَرين» البقاء على قيد الحياة في المناخ البارد. واشتملت تقنية التواصل بالرموز على تغييراتٍ مهمة في أدمغتنا، فحرَّرتنا من وتيرة التطور البيولوجي البطيئة، ومكَّنتنا من الاستفادة من سرعة التطور الثقافي ومرونته.

لكن طوال ملايين السنين التي استغرقتها كل هذه التغيرات البيولوجية المهمَّة، لم تتبدل طبيعة مجتمع أشباه البشر ولا علاقة أشباه البشر ببيئتهم الطبيعية تبدلًا ملحوظًا؛ فخلال النهار ظلَّ الذكور البالغون يسلكون نمط حياة يعتمد على الصيد بالاقتناص، في حين ظلَّت الإناث البالغات يبحثن عن نباتاتٍ قابلة للأكل. وفي الليل ظلَّت مجموعاتٌ صغيرة من الأقارب تجتمع في مقرات سكنهم للاحتماء من الضواري. ومن حين لآخر كانت الجماعة من أشباه البشر تهجر مقرَّ سكنها وتنتقل لموقعٍ جديد؛ بحثًا عن موارد أكثر وفرة للغذاء.

لكن حين اقترب العصر الحجري القديم من نهايته مع تراجع العصر الجليدي الأخير، حرَّرت البشرية نفسها من الحاجة للانهماك الدائم في البحث عن شيء لتناوله، التي تحدُّ حياة كل الحيوانات الأخرى وتُقيدها؛ فحين جعلت تقنية الزراعة بإمكان البشر إنتاج غذائهم وتخزينه للمستقبل، ألقى نوعنا عن كاهله العبء الذي كان يحمله، مع كل الحيوانات الأخرى، منذ نشأته.

متحرِّرين من البحث اليومي عن الغذاء، استقرَّ أسلافنا في مستوطنات دائمة ضمَّت المئات بل الآلاف من الناس، وتعلَّموا الاشتغال بالفنون والحِرف، وبدءوا يتضاعفون. ومكَّنتنا تقنيات النقل والاتصالات الجديدة والقوية من بناء المدن والتضاعف أكثر لنبنيَ حضاراتٍ هائلةً مكوَّنة من مئات آلاف الأشخاص. وأتاحت لنا تقنية الآلات الدقيقة إمكانية إنشاء دول قومية صناعية حديثة تضمُّ ملايين الأشخاص؛ ونتيجةً لذلك تضاعَفْنا سريعًا حتى بات مستقبلنا البعيد في خطر الآن. وبفضل التطور الحديث للتقنية الرقمية — التي منحتنا القدرة على التجارة مع كل أفراد النوع البشري وزيارتهم والتواصل معهم — أصبح بإمكان البشرية الاندماج في مجتمع عالمي واحد، لأول مرة في تاريخنا.

ما كان لأي من هذه التحولات في المجتمع أن يحدث مطلقًا لو كان البشر استمروا في حياة الصيد وجمع الثمار التي بدأها نوعنا، إلا أن مسبِّبات هذا الظهور المفاجئ للزراعة، التي جعلت بإمكان المجتمع البشري أن يخطو أولى خطواته على الطريق لتحوُّل اجتماعي بالغ، ما زالت واحدًا من الألغاز الكبرى التي تكتنف قصة البشر.

لغز الزراعة

في الفترة ما بين ١٢٠٠٠ و٤٠٠٠ عام مضت، أقدم عددٌ من المجتمعات البشرية المختلفة، التي كانت تعيش في مواقع متباعدة جدًّا، على هجر أسلوب حياتها السابق الذي اعتمد على الصيد وجمع الثمار، وبدءوا يزرعون غذاءهم. قدَّم العلماء العديد من النظريات المختلفة والمتناقضة في كثير من الأحيان لتفسير هذه المصادفة الجديرة بالملاحظة، لكن بعد عقود من النقاش ما زال هناك عدم اتفاق حول الأسباب المحددة التي جعلت البشر حول العالم يُقدمون على هذا التحول الكلي من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة في هذا الوقت.

لاحقًا في هذا الفصل، سوف أشرح لماذا قد يكون اكتساب اللغة — وخاصةً ملكة الحكي — هو ما مكَّن البشرية من الإقدام على هذا الانتقال من البحث عن الغذاء إلى الزراعة في هذه المحطة بالذات من تاريخها، لكن أولًا لا بد أن نرى بعين الاعتبار النظريات التي قُدمت في السنوات الأخيرة لتفسير تقنية إنتاج الغذاء الحديثة. ورغم أن العلماء قد يختلفون بشأن المسببات، فإنهم متَّفقون على أن الزراعة بدأت في الشرق الأوسط منذ نحو أحد عشر ألف عام، في قطاع من الأرض وفير المياه يُسمَّى «الهلال الخصيب». وهذا هو المكان الذي ستبدأ فيه قصتنا.

تبلغ مساحة الهلال الخصيب نحو مائة ميل عرضًا وقرابة ألف ميل طولًا. ويبدأ من مصر، في الطرف الشرقي من البحر المتوسط، وينتهي عند العراق في الطرف الشمالي للخليج الفارسي. ولما كان الهلال الخصيب واقعًا على الممر بين أفريقيا وأوراسيا مباشرةً، ولما كان موطنًا لأولى الحضارات القديمة، فقد لعب دورًا هائلًا في تاريخ البشرية منذ هاجر البشر الناشئون إلى أوروبا وآسيا، وذلك منذ أكثر من مليون عام ونصف.

إحدى النظريات الأولى التي فسَّرت نشوء الزراعة زعمت أن الفِلاحة نشأت في الهلال الخصيب لأن بيئة تلك المنطقة كانت في مرحلة جفاف؛ مما جعل العدد المُتناقص من الناس والحيوانات ينتقلون إلى الواحات، حيث اضطرُّوا للعيش على مقربةٍ شديدةٍ بعضهم من بعض، وحيث بدأ البشر يُربُّون هذه الحيوانات من أجل الحصول على الغذاء، لكن افترضت نظريةٌ لاحقة أن إنتاج الغذاء لم يبدأ في الواحات، وإنما في الخاصرة الجبلية للهلال الخصيب؛ لأنها كانت منطقةً تعيش فيها الأسلاف البرية لبعض من أولى النباتات والحيوانات التي استُؤنست، ومنها القمح والشعير والكتان والبازلاء والعدس والماشية والماعز والخراف والخنازير.

fig23
شكل ٦-١: الهلال الخصيب، الممتد من نهر النيل في الغرب حتى الخليج الفارسي في الشرق، هو المكان الذي ظهرت فيه أقدم أدلة على الزراعة.
لكن جاءت نظريةٌ بعدها افترضت أن الزراعة بدأت حينما بدأت لأن الهلال الخصيب أخذ يكتظُّ بالسكان، وأخذ الغذاء يندر. وبعد زمن قصير، زعمت نظريةٌ أخرى أن البشر صاروا يعتمدون على أنواع معيَّنة من النباتات والحيوانات، التي كانت بدورها تتطور لأشكال كانت مُفيدة جدًّا، حتى إن البشر شرعوا يحمونها وينشرونها. تلا هذه النظريةَ أخرى قائلة بأن مجتمعات ما قبل الصيد كانت قد أنتجت بالفعل فائضًا من الغذاء؛ مما أباح للأفراد المُهيمنين التنافس على الحظوة والنفوذ بإقامة مآدب مُتزايدة البذخ، وأن الحاجة لإنتاج هذا الفائض من الغذاء من أجل تلك المآدب هو الذي حثَّ على نشوء الزراعة. وأخيرًا ارتأت نظريةٌ جديدة أنه بعد نهاية العصور الجليدية صار مناخ الدوائر الشمالية أكثر مُلائمة للنباتات، وهذا شجَّع الناس على الإعراض عن أنماط حياة الترحال السابقة، لما وجدوا أن زراعة غذائهم ببساطةٍ أسهل من صيده وجمعه.1
وليست هذه إلا ستًّا من أشهر النظريات وأكثر ما خضع منها للمناقشة الجادة. أدرج عالم الآثار جرايم باركر في دراسته المُستفيضة عن أصول الزراعة ما لا يقل عن تسعة وثلاثين سببًا طُرح على مدار سنوات لتفسير الانتقال من البحث عن الطعام إلى الزراعة، ومنها الرجال الضِّخام الجثة، وتغيُّر المناخ، والتنافس، والتصحر، والتغلغل، وعلوم الطاقة، واستهلاك الدهون، والولائم، والهرمونات، والذكاء، والحدائق المنزلية، وملكية الأراضي، والبيئات الهامشية، والانتقاء الطبيعي، والإجهاد الناتج عن نقص الغذاء، والواحات، وهجرة النباتات، والضغط السكاني، والطفرات الجينية العشوائية، وتركز الموارد، والبيئات الغنية، والطقوس، والتحول من الترحال إلى الاستقرار، والتخزين، والتحديث التقني، وتوفر الماء، والخوف من الغرباء، والتنوع الحيواني.2

ثَمة مشكلتان رئيسيتان تتعلَّقان بهذه النظريات. المشكلة الأولى هي أن بعض هذه التفسيرات تبدو فعلًا متناقِضة بعضها مع بعض؛ فعلى سبيل المثال تفترض إحدى النظريات أن إنتاج الغذاء نشأ بسبب نقص الغذاء، بينما تفترض نظريةٌ أخرى أنه نشأ بناءً على وفرة الغذاء. المشكلة الثانية هي أن الأحداث والظروف التي يُعتقد أنها أنذرت ببداية إنتاج الغذاء كانت قد وقعت كلها من قبل في تاريخ أشباه البشر. وحين تكون الأحداث والظروف نفسها قد وقعت بالفعل دون أن تُسفر عن النتائج نفسها، يبدو بديهيًّا أن أيًّا من هذه الظروف لم يكن كافيًا وحده ليأتي بالتحول العظيم الذي وقع حين اخترع البشر الزراعة، لكن خلال بضعة آلاف من السنين اختُرعت الزراعة في أحد عشر موقعًا مختلفًا على الأقل في أنحاء العالم.

ظهرت أقدم الأدلة على الزراعة في الفترة ما بين أحد عشر ألف عام وثمانية آلاف عام مضت، مع استئناس القمح والشعير والكتان والبازلاء والعدس والماشية والماعز والخراف والخنازير في الهلال الخصيب، لكن بعد ذلك بوقتٍ قصير — قبل تسعة إلى ثمانية آلاف عام — استُؤنس الأرز والدجاج والخنازير والماشية وجاموس الماء في أحواض أنهار شرق الصين، كما استُؤنس الدخن في شمال الصين.

fig24
شكل ٦-٢: بدأ استئناس النباتات والحيوانات في أحد عشر موقعًا مختلفًا على الأقل في الفترة منذ أحد عشر ألف عام وأربعة آلاف عام في كل القارات الرئيسية ما عدا أوروبا: (أ) الهلال الخصيب. (ب) وسط الصين. (ﺟ) شمال الصين. (د) غينيا الجديدة. (ﻫ) وادي المكسيك. (و) جبال الأنديز. (ز) شمال شرق أمريكا. (ﺣ) أمريكا الجنوبية الاستوائية. (ط) غرب حوض الأمازون. (ي) أفريقيا جنوب الصحراء. (ك) شمال الهند.
واستُؤنس الذرة3 والقرع في وادي المكسيك قبل فترة تتراوح بين ثمانية وستة آلاف عام مضت، بينما استُؤنس اليام والقلقاس والموز في مرتفعات غينيا الجديدة منذ نحو سبعة آلاف عام. في الوقت نفسه تقريبًا، كان اليام والقطن والبطاطا الحلوة تُستأنس في المنطقة الاستوائية المعروفة الآن بالإكوادور وكولومبيا، بينما كان الفول السوداني والفلفل الحار والبفرة (يُعرَف أيضًا باسم الكاسافا وجذور التابيوكا) تُستأنَس في الأراضي المنخفضة المدارية من حوض الأمازون.
واستؤنست البطاطا والكينوا في مرتفعات ما صار يُعرَف الآن ببيرو وبوليفيا قبل سبعة إلى خمسة آلاف عام. واستُؤنس عباد الشمس واليقطين والقرع في شرق أمريكا الشمالية قبل خمسة إلى أربعة آلاف عام، بينما في الوقت نفسه تقريبًا كان الدخن والذرة البيضاء واليام والبن تُستأنس في أفريقيا جنوب الصحراء، وكان الخيل يُستأنس في وسط آسيا.4

لماذا جرى مثل هذا التغيير الجوهري في العلاقة بين البشرية والبيئة الطبيعية في جميع أرجاء العالم في الفترة ما بين قبل أحد عشر ألف وأربعة آلاف عام؟ لماذا ظهرت الزراعة في الوقت نفسه تقريبًا في العديد من الأماكن المختلفة في أنحاء العالم؟ ولماذا بدأت الزراعة في كل منطقة بخليط من النباتات والحيوانات مختلف عن تلك التي استُؤنست في الهلال الخصيب، بدلًا من الانتشار من نقطة انطلاق واحدة في الشرق الأوسط؟ إذن يظلُّ السؤال هو: ما الشيء الجديد أو المختلف الذي اتَّسم به بشر العصر الحجري الحديث؟ وماذا كان لديهم من قدرات تُمكِّنهم من ابتكار أسلوب حياة مختلف جذريًّا؛ قدرات لم تكن لدى فصيلة أشباه البشر في الفترات السابقة؟

هل اللغة المنطوقة هي الحلقة المفقودة؟

كتب عالم الآثار البارز أندرو شيرات عام ١٩٩٧م قائلًا: «يبدو أن نزعة التدخل في البيئة بطرقٍ غير مسبوقة كانت سمةً متأصِّلة لدى الإنسان الحديث؛ من هذا المنطلق ترتبط «نشأة الزراعة» بظهور اللغة والأنظمة الرمزية بقدر ما ترتبط بالتغير المناخي.»5

هل كانت تقنية التواصل الرمزي هي العنصر الحاسم الذي كان مفقودًا في الثقافات البشرية خلال فترات أقدم من عصور ما قبل التاريخ في حياة البشر؟ هل كان «ظهور اللغة والأنظمة الرمزية» جنبًا إلى جنب مع ارتفاع درجة حرارة الأرض، هما العاملان المُتضافران اللذان مكَّنا البشرية من إنتاج غذائها أخيرًا؟

الأدلة الباقية من ثقافات العصر الحجري القديم العلوي في أوروبا توحي بأن التواصل الرمزي لم يتعدَّ المرحلة البدائية حتى لدى الإنسان الحديث تشريحيًّا قبل ثلاثين أو أربعين ألف سنة مضت، وهي الفترة التي تتزايد بعدها الأدلة على الموسيقى والفنون والرسم واستخدام الرموز باطراد من حيث الكم والتنوع، لكن طوال العصر الحجري القديم العلوي كله طغت آثار العصر الجليدي الأخير على مناخ الأرض، والموائل التي عاشت فيها شعوب ما قبل التاريخ تلك كانت بوجهٍ عام شديدةَ البرودة وشديدة الجفاف بما يجعلها بيئةً غير مُواتية لإنبات المحاصيل.

ذروة العصر الجليدي الأخير — المعروفة أيضًا باسم الذروة الجليدية الأخيرة — وقعت قبل ثمانية عشر ألف عام تقريبًا، بعدها ارتفعت درجة حرارة الأرض عامةً، وصار هطول الأمطار أغزر، وأصبحت ظروف زراعة الطعام مُواتية أكثر. حدثت الذروة الجليدية السابقة لتلك منذ نحو ١٤٠ ألف عام، واستمرَّت الفترة الدافئة الفاصلة بين عصرين جليديين التي تلتها نحو عشرة آلاف عام، لكن هذا كان قبل ظهور الإنسان الحديث تشريحيًّا في أوروبا بزمنٍ طويل، وربما قبل أن يتطوَّر لدى أي من أشباه البشر اللغات المنطوقة بحق التي يتحدث بها كل البشر الآن. فإذا كانت اللغة ضرورية لنمو الزراعة، فهذا سيُفسِّر لماذا لم تبدأ الزراعة خلال الفترة الفاصلة بين عصرين جليديين التي وقعت تقريبًا قبل ما بين ١٣٠ ألف و١٢٠ ألف عام مضى.

لكن مع حلول آخر ذروة جليدية، كانت ثقافات العصر الحجري القديم العلوي قد صارت ثرية باللغة واستخدام الرموز، وهو التطور الذي يمكن رؤيته بوضوح في البقايا الوفيرة من الرسومات والمنحوتات والنقوش الحجرية التي تركتها شعوب العصر الحجري القديم العلوي. فلا يدلُّ التعقيد والتفصيل المُتزايدان في اللغة المنطوقة على أن هؤلاء الناس قد تطوَّرت لديهم القدرة على تقاسُم كمية هائلة من المعلومات المعقَّدة وتناقُلها فحسب — مع تطور الحكي الذي يصف الأحداث التي كانت تقع بمرور الزمن — ولكن أيضًا على أنهم كانوا قادرين على التعبير عن كيفية توالي الأحداث في تسلسلات متوقَّعة.

كل المعلومات المفصَّلة حول دورات حياة النباتات والحيوانات وسلوكها في بيئة المجتمع — التي كانت من قبلُ مقتصرة على المعلومات التي يستطيع فردٌ واحد تحصيلها في عمرٍ واحد — صارت هي الحكمة المُتراكمة لثقافات بأسرها، حين ابتكر البشر لغاتٍ وافيةَ التفاصيل. وعندما أُدمجت هذه المعلومات المعقدة في التراث الشفهي لمجتمعات العصر الحجري القديم، صارت تُشكِّل الحكمة الجماعية لآلاف الأشخاص، التي تراكمت على مر أجيال عدة.

ببساطة ربما كان المقدار الضخم للمعلومات الضرورية من أجل النجاح في زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات المستأنَسة يفوق مقدرة أي فرد على الاكتساب والتذكر؛ لذلك فمن المحتمل أن جمع معرفة آلاف الأفراد وخبراتهم كلها في شكل تراث شفهي، بالإضافة إلى المناخات الأكثر دفئًا ورطوبة التي ظهرت منذ أحد عشر ألف عام، كان هو مزيج العوامل المصيري الذي جعل الانتقال من البحث عن الطعام إلى فلاحة الأرض أمرًا مُمكنًا.

إلا أنه ثَمة عنصرٌ أساسي آخر كان يجب إضافته إلى هذا المزيج قبل إمكان التحوُّل التام إلى نمط الحياة الزراعي: كان يجب على الناس في هذه العصور التوقف عن حياة التجوال وبدء العيش بشكلٍ دائم في موقعٍ واحد. رغم أنه من المنطقي افتراض أن الناس لم تبدأ العيش في مكان واحد إلا حين بدءوا زراعة غذائهم، فإن الدليل الأثري في منطقة الهلال الخصيب يدلُّ على العكس تمامًا: جاء العيش في مكانٍ واحد أولًا ثم جاءت ممارَسة الزراعة. في الواقع لا تظهر مجتمعات العصر الحجري الحديث الزراعية في السجل الأثري إلا بعد أن بدأ الناس العيش في مكانٍ واحد بنحو ألف عام.

العيش في مكان واحد

قبل حدوث تحول الزراعة، حين وجد مجموعة من الصيادين وجامعي الثمار الرحَّالة أنفسهم في ظروف معيشية مُواتية، وبدأ عددهم يزيد بحيث لم يعُد مجرد بضع عشرات، كان الأخذ بأنماط التقاسم والتعاون العادية سيصير غير عملي أكثر فأكثر، وكان الناس سينزعون للانقسام إلى فصائل، وكان النزاع بين الفصائل المختلفة سيصبح أكثر تشعبًا وتكرارًا. في نهاية المطاف، مالت هذه الجماعات البدوية العظيمة الحجم للانقسام إلى مجموعتين أو أكثر، وذهبت كلٌّ منها في سبيلها. وهذا مثال على عملية «الانقسام» التي تقع من وقت لآخر في المجتمع الانقسامي الاندماجي المعهود لدى البشر وغيرهم من الرئيسيات. كان نمط الحياة البدوي يجعل الانتقال إلى أراضٍ جديدة أمرًا سهلًا وطبيعيًّا بالنسبة إلى الجماعات، وكانت عملية الانقسام تجعل حجم جماعات الصيد وجمع الثمار صغيرًا نسبيًّا؛ مما سهَّل الحفاظ على التضامن ويسَّر التعاون بين أفراد الجماعة.

لكن المجتمعات الزراعية ليس لديها هذه الرفاهية؛ إذ إنه مع الاعتماد على محاصيل معيَّنة تنمو سنويًّا في أماكن محدَّدة، تُحتِّم المصالح الشخصية على الشعب الزراعي البقاء في مكان واحد. فبعد قضاء ساعات لا تُحصى في بناء منازلهم الكبيرة الدائمة، لا يُمكنهم ببساطة شد الرحال والانتقال إلى أماكن أفضل للصيد؛ لذلك ظلَّت مستوطناتهم راسخة في مكانها، وكلما يصير الغذاء وفيرًا يزيد حجم جماعاتهم الاجتماعية أكثر ولا تستطيع الانقسام بسهولة.

منذ ١٧ ألف عام، كانت تعيش جماعاتٌ قليلة منعزلة من البشر الحديثين يُسمَّون النتوفيِّين — يعيش أغلبهم في الهلال الخصيب أو بالقرب منه — وقد أخذت تحصد كميات كبيرة من الحبوب البرية وتُخزِّن هذه الحبوب لفتراتٍ طويلة. ولا تُشبه البقايا الأثرية التي تركوها وراءهم أيًّا من البقايا التي تركتها الجماعات البشرية السابقة عليهم.

كانت منازل النتوفيِّين أبنيةً راسخة من الطوب اللبن، أرضها مُغطَّاة بمادَّة شبيهة بالملاط مصنوعة من الجير، جرى سحقُها حتى صارت مستوية وملساء. وكانوا يصنعون مناجل من حصواتٍ دقيقة صغيرة حادَّة — شظايا حجرية صغيرة للغاية بالكاد تزيد عن حجم الطوابع البريدية — كانوا يُثبتونها في مقابض خشبية، واستخدموا هذه المناجل في حصد نوعَي القمح البري الثنائي الحبة والوحيد الحبة الذي كان ينمو بكمياتٍ بوفيرة في تلال الهلال الخصيب. وكذلك صنعوا هاونات ثقيلة من أحجار بركانية ضخمة، واستخدموا هذه الهاونات في طحن الحبوب البرية لتصير دقيقًا. وأقاموا أبنيةً خاصة ليستخدموها كمخازن غلال لتخزين كميات كبيرة من الحبوب، ذات أرضيات من الألواح الخشبية مرتفعة عن الأرض لحماية مخزونهم الثمين من الحشرات والقوارض.

تُشير كل هذه الأدلة إلى أن النتوفيِّين بدءوا يعيشون في مكانٍ واحد طوال العام؛ نمط المعيشة الذي يصفه اختصاصيو علم الإنسان بأنه «مستقر». وبالتخلِّي عن حياة الترحال — حتى مع الاستمرار في الصيد وجمع الثمار — أخذ النتوفيون أول خطوة حاسمة على طريق إنتاج الغذاء، غير أنهم ظلُّوا باحثين عن الطعام؛ فالحبوب التي كانوا يحصدونها كانت تنمو بريًّا؛ لا يوجد دليل على أنهم كانوا يُعدون الأرض أو يزرعون البذور من أجل محاصيلها من الحبوب، كذلك الحيوانات التي كانوا يذبحونها ويتغذَّون عليها كانت أنواعًا برية؛ إذ لا يوجد دليل على أنهم كانوا يحتفظون بالحيوانات في حظائر أو مرابط ويعلفونها من أجل ذبحها فيما بعد.

لكن حين استقرَّ النتوفيون، وبدءوا يعيشون في منازل دائمة، واحتفظوا بغذائهم في مخازن دائمة، وعالجوا طعامهم بأدوات كانت ثقيلة جدًّا على النقل من مكان لآخر، وأقاموا قرًى دائمة ظلَّت في مكان واحد طيلة أجيال، بدءوا نمط معيشة جعل بدايات الزراعة ممكنة. وحين انتقل نسل النتوفيِّين إلى إنتاج الطعام بدلًا من صيده وجمعه فحسب، لم يكن أمامهم خيارٌ سوى المكوث في مكانٍ واحد.

بمجرد أن ساد نمط الحياة الزراعي، كان من الضروري إعداد الأرض للزراعة، ثم غرس البذور، ثم إزالة الحشائش، وري الشتلات النابتة (في بعض الحالات)، وحصد المحاصيل الناضجة في النهاية. بعد الحصاد، كان من الضروري تخزين كميات كافية من الغذاء للبقاء على قيد الحياة حتى موسم الزراعة التالي، والبقاء في مكانٍ واحد لحماية مخزون الغذاء من طمع كل من الحيوانات والبشر الآخرين.

قبل أحد عشر ألف عام، كان قد بدأ يظهر دليلٌ جلي على أن بعض المجتمعات التي كانت تسكن الهلال الخصيب كانت تزرع محصولاتها وترعاها عن قصد، والحبوب البرية التي كانت تُجنى كان يُستعاض عنها تدريجيًّا بأنواعٍ مستأنَسة؛ فقد كانت الغلال المستأنَسة تحمل حبوبًا أكثر على كل جذع وتُنتج محاصيل أكبر. كذلك لم تكن سنابل الحبوب المستأنَسة تتفتَّت أثناء الحصاد بالسهولة نفسها التي تتفتَّت بها سنابل الحبوب البرية. هكذا استطاع هؤلاء المُزارعون القدامى حصد السنابل الناضجة دون الخوف من تبعثر الحبوب على الأرض قبل أن يستطيعوا الرجوع بها إلى القرية من أجل درسها.

السعي وراء الثروة المادية

ثَمة حد لكمية الحاجيات المادية التي يستطيع البدو الرحَّل تكديسها؛ لأن الناس الدائمي الحركة لا يستطيعون الاحتفاظ بحاجياتٍ مادية أكثر مما يُمكنهم حمله معهم من مكان لآخر. وحيث إنه من دأب أعضاء الجماعات الرحالة التعاون في العديد من جوانب الصيد وجمع الثمار — ولديهم فرصٌ محدودة لتخزين الغذاء لفتراتٍ طويلة — فإنهم يميلون لاقتسام أغلب غذائهم مع أقاربهم بصفةٍ يومية.

أما الجماعات المستقرَّة التي لا تُضطرُّ إلى تغيير أماكن إقامتها عدة مرات سنويًّا فلا تُقيِّدها هذه الحدود؛ فحيث إن لديها عدة خيارات لتخزين الطعام من أجل المستقبل فهي لا تضطر لاقتسامه مع أشخاص خارج أسرها المباشرة، ولأنها تعيش في مكانٍ واحد فباستطاعتها أن تحشد من الثروة المادية بقدر ما يُمكنها بدرجةٍ معقولة تخزينه وحمايته من أن يسرقه أشخاصٌ آخرون. وهكذا، بمجرد أن بدأ الناس يعيشون في مكانٍ واحد، اكتسب السعي وراء الثروة أهميةً لم يتمتَّع بها من قبل قط. ويُمكن رؤية الأهمية المُتزايدة للثروة والمكانة في الدليل الذي بقي في منطقة الهلال الخصيب من العصر الحجري الحديث، حين بدأ النتوفيون عادة حصد حبوبهم البرية وتخزينها في مخازن غلال.

في البداية، حين شيَّد النتوفيون مستوطناتٍ دائمة، أنشئوا مخازن غلالهم منفصلةً عن منازل الأُسر المستقلة. وهذا يُوحي بأن مئونة النتوفيين من الحبوب كانت ملكيةً مشتركة للجماعة ككلٍّ. وعلى كل حال، عادة اقتسام مئونة الغذاء التي تعيش عليها المجموعة ككلٍّ كانت إرثًا فطريًّا من تاريخ النتوفيين الطويل كصيادين وجامعي ثمار.

لكن بعد مرور نحو ألف عام، اختفت مخازن غلال النتوفيين القائمة بذاتها، وحل مكانَها مساحاتٌ تخزينية داخل المنازل المستقلة. من ذلك الوقت فصاعدًا، ظلَّت مخازن غلال العصر الحجري الحديث تُلحق بالمنازل التي تسكنها أسرٌ مستقلة. يدلُّ هذا على أن رؤية هذه المجتمعات للعالم ومنظومة قيمها كانت تتغير، وأنه بدلًا من اعتبار خير الطبيعة شيئًا يُمكن اقتسامه بين كل أفراد المجموعة، بدأ النتوفيون اعتبار الغذاء ملكية خاصة يحتفظ بها الأفراد والأسر التي أنتجتها في الأصل.

على المنوال نفسه، فإن الأرض التي كانت كل جماعة من الصيادين وجامعي الثمار الرحَّل يدَّعون ملكيتها — الأرض التي كانت تُماثل «مواطن» جماعات القردة والسعادين التي جاء وصفها في الفصل الأول — بدأت تفقد وضعها الأصلي باعتبارها المورد المشترك للجماعة الاجتماعية بأسرها. ورغم أن المناطق التي ظلَّ من الممكن صيد الحيوانات البرية فيها وظل من الممكن جمع النباتات منها احتفظت على الأرجح بوضعها الأصلي كملكية مُشتركة، فإن المساحات الأصغر من الأراضي الخصبة التي كانت مناسبة للزراعة صارت تدريجيًّا ملكية خاصة لأسر مستقلة. وفي النهاية، ورث الأبناء من الآباء أفضل مساحات الأراضي القابلة للزراعة ضمن ميراث ممتلكات الأسرة.

تُوضح الأدلة المُستقاة من العديد من مجتمعات ما قبل الصناعة أنه بمجرَّد أن يبدأ أحد المجتمعات العيش في مكانٍ واحد — حتى إن ظلَّ يعيش على الصيد وجمع الثمار ولم يتطور لنمط الحياة الزراعية — فإنه يبدأ في السعي وراء جمع الثروة المادية بطرقٍ تتشابه تشابهًا ملحوظًا مع عادات الشعوب الزراعية. وتتَّضح أوجه التشابه هذه بجلاء في ثقافات شعوب الصيد وجمع الثمار المستقرة في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية.

قبائل النوتكا: صيادون وجامعون يعيشون في قرًى دائمة

قبائل النوتكا في مقاطعة بريتيش كولومبيا خير مثال على قبائل الأمريكيين الأصليين الذين سكنوا الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية، والذين كانوا جميعهم صيادين وجامعين ولم يُمارس أيٌّ منهم الزراعة قط. اصطادت قبائل النوتكا الحيتان والفقمات والقضاعات في مياهها الإقليمية، وكذلك الدِّببة والغزلان وحيوانات الإلكة في الغابات الداخلية. وكانت تلك القبائل تصطاد أسماك الهلبوت والرنكة والقد، وتجمع القشريات من البحر والجذور والثمار العنبية التي كانت تنمو بوفرة في الوديان والغابات القريبة المتشبِّعة بمياه الأمطار. وبجانب كل هذا الرخاء الطبيعي، كانوا يصطادون أعدادًا هائلة من السلمون الذي كان يُهاجر سنويًّا لوضع البيض إلى منابع الأنهار العديدة التي تصبُّ في البحر. كان السلمون يُصطاد بالشباك والمصائد والسدود ثم يُجفَّف ويُدخَّن بكمياتٍ كبيرة، بحيث يوفر لقبائل النوتكا مخزونًا من السمك يكفيهم طوال العام حتى يُهاجِر السلمون مرةً أخرى.

ونظرًا لأن الساحل الشمالي الغربي ثري جدًّا بأشكالٍ برية من الغذاء — ولأن الحياة البحرية الزاخرة كانت تتجدَّد باستمرار بعمليات طبيعية — لم تكن قبائل النوتكا بحاجة لاتباع سبل الترحال في العيش؛ نمط الحياة المعهود في أغلب مجتمعات الصيد وجمع الثمار؛ فقد استقرَّت النوتكا منذ زمن طويل في قرًى دائمة واقعة في مناطق مميَّزة على امتداد المنافذ المنحدرة في اتجاه البحر من الجبال الساحلية.

وحيث إن قبائل النوتكا كانت تُقيم في مكانٍ واحد، فهي لم تقتصر على سُكنى الأكواخ البسيطة المؤقَّتة للشعوب الرحَّالة، التي كانت دائمًا ما تُبنى في ساعات أو أيام وتُهجَر عادةً بعد الإقامة فيها لبضعة أسابيع أو شهور، وإنما بنت قبائل النوتكا «مساكن جماعية» ضخمة، بلغ بعضها أربعين قدمًا عرضًا ومائة قدم طولًا، من جذوع أشجار الأرز والتنوب والشوكران التي كانت تنمو بوفرة في الغابات الباردة الرطبة في شمال غرب المحيط الهادئ. ورغم أن مساكن النوتكا الجماعية كانت تُفكَّك وتُنقَل عدة أميال مرتين سنويًّا من المخيمات الصيفية على شاطئ البحر إلى المخيمات الشتوية في الداخل وتعود مرة أخرى، فإنها كانت مساكن دائمة تسكنها جماعة الأسر المتقاربة نفسها لسنوات.

ونظرًا لأن موارد الغذاء النباتي والحيواني الغنية كانت دائمًا موجودة في المواقع نفسها، فقد كان عُرفًا بين قبائل النوتكا أن يرث الذكر الأكبر من الأبناء حقوق الإشراف على مناطق محدَّدة لصيد الحيوانات والأسماك، وعلى المناطق التي ينمو فيها الغذاء النباتي بوفرة. وحين كان أحد الأقارب يُمارس حقوقه في الصيد أو جمع الغذاء في هذه المناطق، كان لا بد أن يذهب جزء من الغنائم إلى الفرد الذي «يملك» هذه الموارد. وحيث إن الابن الأكبر كان يرث هذه الحقوق من الأب فقد نتج عنها «نظام طبقي»، حيث كان الأبناء الكبار يتمتَّعون بثروةٍ طائلة، في حين كان الأبناء الصغار — الذين كانوا غالبًا أفرادًا في العائلة نفسها — يعيشون في فقرٍ نسبي.

كان لنظام المكانة والهيبة المعقَّد أهميةٌ فائقة في ثقافة قبائل النوتكا، والقبائل المستقرة الأخرى في الساحل الشمالي الغربي، وكانت زعامة القبيلة التي يتسلمها الابن الأكبر من الأب لا تنطوي على مزايا اقتصادية فحسب، وإنما على عدد من الحقوق والامتيازات الرمزية كذلك. شمل هذا ألقابًا شرفية، والحق في إنشاد أغانٍ شعائرية معيَّنة وأداء رقصات طقسية محدَّدة، والحق في ارتداء أنواع معيَّنة من الملابس، والحق في ارتداء أشكال خاصة من الحلي الشخصي، والحق في الجلوس على مقاعد محدَّدة (أُعدَّت بعناية وفقًا للمرتبة أو المكانة) كانت تقتضي التقاليد استخدامها أثناء المآدب الاحتفالية، والحق في العيش في أفضل مناطق في المسكن الجماعي.

في هذه المجتمعات المهتمَّة بالمقام، كان الأفراد الرفيعو المقام يتنافسون منافسةً حامية بعضهم مع بعض على إقامة مآدب حافلة، كان يُستهلَك فيها كمياتٌ هائلة من الطعام والمنسوجات والأدوات والأسلحة أو تُمنَح أو تُدمَّر في بعض الحالات من قِبل أصحابها في نوبات من الانغماس في الاستهلاك بغرض التباهي. ولم تكن حيازة المُمتلكات مقتصِرة على السِّلع المادية فقط؛ فقد مارست قبائل النوتكا، مثل أغلب قبائل الساحل الشمالي الغربي، نوعًا من الاستعباد، وهو من الأشياء التي دائمًا ما نربطها بحضاراتٍ أكثر «تقدمًا». فكان حين يُؤسَر أفراد القبائل المُعادية في الحروب، يصبحون مِلكًا للمُحارِبين الذين أسروهم، ويظلون جزءًا من أهل بيت مالكيهم، حيث كان يُفرَض عليهم أداء أحقر المهام في حياة قبائل النوتكا.

كل هذه السلوكيات كانت ستلقى الاستهجان التام في مجتمع الصيادين وجامعي الثمار الرحل التقليدي؛ حيث كان بلوغ المرتبة العالية يُكتسب بالسلوك المثالي وإتيان أعمال الشجاعة والجود. فلم تُظهِر مجتمعات الصيد وجمع الثمار اهتمامًا كبيرًا بتكديس السلع المادية، وإنما كانوا ينأون بأنفسهم عن استعراض الثروة المادية في تباهٍ، ويمنحون المكانة فقط للرجال الذين يفلحون في الصيد والحرب وتوفير الغذاء، وللنساء اللائي كنَّ جامعات مُنتجات وزوجات وأمهات مثاليات.

وراثة المرتبة والمكانة

عندما أصبحت وراثة الثروة والأملاك جزءًا تقليديًّا راسخًا من ثقافات الشعوب الزراعية، لم يكن هناك مناصٌ من أن يستهل أبناء أثرى الأفراد والأسر حياتهم بأملاك وامتيازات أكثر من الأشخاص الذين كان أسلافهم أقل حظًّا. هكذا صارت الاختلافات بين الأغنياء والفقراء، التي كانت قد نشأت بين الصيادين وجامعي الثمار المستقرِّين مثل قبائل نوتكا، أكثر حدة في مجتمعات الزراعيين المستقرِّين بمرور الأجيال.

فبدلًا من أن تقوم الفوارق في الثروة على الفرق بين الأخ الأكبر والأخ الأصغر — كما كان معهودًا في شعوب الساحل الشمالي الغربي — صارت الفروق في الثروة لدى المجتمعات الزراعية تدريجيًّا امتيازًا لأسرة كاملة ويورث من الآباء للأبناء. في النهاية أدَّت هذه الفروق المتوارَثة في الثروة والمركز إلى تكوُّن طبقات اجتماعية دائمة، وإلى نشأة المجتمعات «الطبقية» التي تتميَّز بأنظمة طبقية تقليدية تتَّسم بانعدام المساواة في الثروة والمكانة والامتيازات استمرَّت لأجيال.

عُثر على أدلةٍ واضحة على أن انتشار الزراعة أدَّى إلى نشأة الطبقات الاجتماعية وتكريس التفاوت في الثروة والمكانة في الأطلال الأثرية الخاصة بأقدم شعوب العصر الحجري الحديث في أوروبا. هذه الشعوب المسمَّاة شعوب «ثقافة الخزف الخطي» ظهرت في شرق أوروبا قبل نحو ٧٥٠٠ عام، وانتشرت سريعًا خلال الخمسمائة سنة التالية حتى أقامت مستوطناتها الزراعية في وديان الأنهار الخصبة في أنحاء أوروبا.

كان شعب الخزف الخطي يدفن كل موتاه، لكن في حين كان نصف الرجال يُدفنون مع قدائم (جمع قدوم، وهو أداة للنحت وللقطع تُشبه الفأس، كانت تُستخدم لتنعيم أو نحت الخشب) حجرية مصقولة لم يكن النصف الآخر كذلك. كانت شعوب العصر الحجري الحديث تستخدم القدوم في أعمال النجارة الهامة، وكان أداةً قيِّمة، حتى إن وضعه في قبر أحد الأشخاص كان يعني أن المتوفَّى تمتَّع بمنزلة عالية في الحياة. في عام ٢٠١٢م نشر فريق من علماء الآثار نتائج دراسة لمينا الأسنان المأخوذة من ٣٠٠ هيكل عظمي كانوا في مدافن شعب الخزف الخطي المنتشرة في أنحاء أوروبا من فرنسا إلى المجر.6 بتحليل النسب النوعية لنوعين أو نظيرين لعنصر الاسترونشيوم الذي يدخل في مينا الأسنان في مرحلة الطفولة، استطاع العلماء أن يُحددوا بهذه «البصمات النظائرية» ما إذا كان الشخص قد ترعرع في وديان الأنهار الخصبة، حيث وفَّرت التربة الغنية بالرواسب الطميية مستوى معيشة مرتفعًا نسبيًّا، أم نشأ في التلال الأقل خصوبة التي أحاطت بوديان الأنهار، حيث كانت الحياة أصعب ومستوى المعيشة أكثر تقشفًا.

ومما لا يدعو للدهشة، أن الرجال الذين دُفنوا مع قدائم حجرية كان لديهم بصماتٌ نظائرية تدلُّ على أنهم نشئوا في وديان الأنهار الغنية، في حين أشارت البصمات النظائرية لأولئك الذين دُفنوا دون قدائم حجرية إلى نشأتهم في مناطق التلال الأكثر فقرًا. صارت هذه الفروق في الثروة والمنزلة أبرز وأوضح مع مرور الزمن، مع زيادة حجم القرى الزراعية، ومع تكديس الأسر المزارعة كميات أكبر من الثروة والأملاك.

سنُطالع لاحقًا في هذا الفصل الدليل على أن شعب الخزف الخطي لم يجلب الزراعة فقط إلى أوروبا في العصر الحجري الحديث، وإنما كان أيضًا هو من بدأ فيها الحروب، لكن من المهم أولًا أن نُضيف شيئين آخرين إلى القائمة الطويلة للتغييرات التي أسفر عنها تبنِّي الزراعة في المجتمع. الشيء الأول هو أن الأطفال صاروا أصولًا اقتصادية لعائلاتهم. والثاني هو أن الجانب الجنسي للنساء صار بمثابة تهديد لاستقرار المجتمع.

الأطفال كملكية خاصة

كان لأطفال الصيادين وجامعي الثمار في العادة فرصٌ قليلة للمُساهمة بطريقة مُفيدة في إعالة أسرهم وأقاربهم؛ لأن كل أنشطة الحصول على الطعام تقريبًا لدى الصيادين وجامعي الثمار كانت تتطلَّب قوة البالغين وجلَدهم ومعرفتهم وخبراتهم. أما أطفال المُزارعين والرعاة، على الجانب الآخر، فكان باستطاعتهم أن يصيروا بسهولةٍ مواردَ قيمة من أجل ثروة الأسرة واستقرارها وطول أجلها.

كانت عملية صيد الحيوانات البرية مهمةً خطيرة ومعقَّدة، وتحتاج انضباطًا ومهارة في استخدام الأسلحة وبأس البالغين. ورغم أن أطفال الصيادين وجامعي الثمار كانوا كثيرًا ما يلعبون أدوار الصيادين مُستخدِمين لُعبًا على هيئة أسلحة، فإنهم لم يكونوا قادرين على مطاردة وقتل أي شيء أكبر حجمًا من حشرة كبيرة أو حيوان صغير من الزواحف أو فرخ. في الواقع، كان الأمر يستغرق أعوامًا من الفرد كي يكتسب الخبرة والمهارة الكافيتين من الصيادين البالغين قبل أن يصير صيادًا مُنتجًا؛ فقد كان يتعين عليه تعلم عادات كل نوع من أنواع حيوانات الصيد العديدة، وكان عليه أن يتعلم كيف يقتفي أثرها ويُحاصرها ويقتلها دون أن يُجرَح، وكيف يذبحها ويُدافع عن صيده من أطماع الضواري الأخرى، وكيف ينقل الأجزاء القابلة للأكل والاستخدام عائدًا إلى المخيَّم حيث يمكن طهو اللحم وتناوله، وحيث يمكن معالجة الجلود الخام والعظام والأوتار لاستخدامها كمنتجاتٍ جلدية وأدوات وحبال.

على النحو نفسه، كانت مهمة جمع الخضروات تحتاج معرفةً مفصَّلة بأماكن العثور على نباتات قابلة للأكل وجذورها ودرناتها وثمارها وبذورها؛ فقد كانت تتطلَّب القدرة على التعرف على العلامات التي تقود إلى كل هذا وسط أراضي الغابات الشاسعة وفي أجمة الأدغال المتشابكة. وكان على المرأة أن تعرف في أي وقت من السنة تتوفر كلٌّ من هذه الأطعمة وتصير قابلة للأكل، وكيف تنقلها إلى موقع المخيَّم، وكيف تُعالجها — بالطحن والهرس والنقع والشي والسلق — حتى يمكن تناولها وهضمها في أمان. كذلك في حالة الجذور والدرنات القابلة للأكل — التي شكَّلت جزءًا كبيرًا من موارد أكل الصيادين وجامعي الثمار — كان لا بد من قوة بدنية شديدة لحمل عصًا طويلة وثقيلة وانتزاع الغذاء النباتي الذي كان كثيرًا ما ينمو عميقًا تحت سطح الأرض.

وعلى النقيض من ذلك، كان أطفال المُزارعين يستطيعون بسهولةٍ إنجاز العديد من المهام الأساسية التي اشتملت عليها زراعة المحاصيل ورعاية الحيوانات؛ فالأمر لا يحتاج قدرًا كبيرًا من المهارة أو سنوات الخبرة أو قوة البالغين وجلَدهم لرعي قطيع من الماعز، أو إطعام خنازير مستأنسة في مرابطها، أو انتزاع الحشائش من الحدائق القريبة، أو حتى حصد بعض المحاصيل التي يزرعها المُزارعون. كما يستطيع الأطفال في الأُسر الزراعية رعاية أشقائهم الصغار بسهولة؛ مما يسمح للأم بحريةٍ أكبر للعمل في الحقول، بل وإنجاب الأطفال في تواترٍ أكثر من النساء في مجتمعات الصيد وجمع الثمار. هكذا، مع تطوُّر جامعي الثمار تدريجيًّا إلى مُزارعين، ازدادت قدرة الأطفال على المُساهمة في إعالة المجتمع ككلٍّ، وأثناء ذلك ازدادت قيمتهم لأسرهم.

زاد من دعم الأهمية الاقتصادية للأطفال أن الأفراد في المجتمعات الزراعية أصبحوا يعيشون حتى يبلغوا الخمسينات والستينات من أعمارهم بمعدَّلات تفوق كثيرًا نُظراءهم في مجتمعات الصيد وجمع الثمار؛ فالأنشطة اليومية المُتعلقة برعاية المحاصيل وتربية الحيوانات لا تُعادل في درجة خطورتها بوجهٍ عام الأنشطةَ التي تُهدد الحياة فيما يتصل بصيد الحيوانات وقتلها، أو خوض رحلات طويلة في البرية المأهولة بالضواري لجمع النباتات القابلة للأكل ونقلها إلى مقر السكن. لهذه الأسباب، مع زيادة الانتشار الواسع لزراعة المحاصيل وتربية الحيوانات، بدأت المجتمعات الزراعية ترى أطفالها كأنها نوع من بوليصة التأمين — وسيلة للإعالة حين يبلغون سنًّا يصعب معها أن يُنتجوا طعامهم — وصارت مهمة توفير الدعم المادي للكبار واجب الأبناء نحو آبائهم بصورةٍ مُتزايدة.

لكل هذه الأسباب، مالت المجتمعات الزراعية إلى تنمية روابط قوية وفي أحوالٍ كثيرة حصرية بين الآباء والأبناء؛ فقد كانت تسعى لأن تغرس في أطفالها الإحساس بالواجب تجاه آبائهم، وكانت باستثناء حالات قليلة تُولي أهميةً كبيرة للإخلاص بين الأزواج — خاصة من ناحية النساء — لضمان ألا يكون نسب الطفل لأبيه موضع شك قط. بهذه الطريقة، أدَّت أهمية الأبناء لآبائهم في المجتمعات الزراعية مع الوقت إلى ثقافةٍ غلب عليها حسُّ الاستحواذ الشديد تجاه الأطفال، وإلى فرض قيود صارمة على الحرية الجنسية لدى النساء. في الواقع، صارت هاتان السِّمتان الثقافيتان مُتأصلتين لدرجةٍ عميقة في ثقافات أسلافنا الزراعيين، حتى إن كلتيهما استمرَّتا حتى وصلتا إلى العصر الحديث.

متى أصبح النشاط الجنسي للمرأة مصدر تهديد؟

في أغلب مجتمعات الصيد وجمع الثمار، كان الزواج عادةً علاقة عابرة جدًّا، بل في الواقع كان الزواج لا ينطوي عادةً على أكثر من قرار رجل وامرأة بالغَين تناوُل الطعام والمبيت معًا بانتظام. ورغم أن النضج الجسدي للفِتيان والفتيات عند بلوغ الحُلُم كثيرًا ما كان يُحتفَل به في مجتمعات الصيد وجمع الثمار بطقوسٍ احتفائية كبيرة، فإنه كان من النادر أن يلقى زواجهم اهتمامًا بأي نوع من المراسم الكبرى. وكان من النادر بالدرجة نفسها أيضًا أن يحتاج الثنائي الحديث «الزواج» — أو حتى يطلب — موافقة الوالدين، وإنما كان فقط من الضروري دائمًا ألا تصل القرابة بين الرجل والمرأة للدرجة التي توصف معها العلاقات الجنسية بينهما بسفاح المحارم.

وإذا حدث ولم ينسجم رجل وامرأة — بعد أن عاشا معًا لفترة — وصارا مُتجافيَين، أو اتخذا أحباء آخرين، أو ببساطةٍ سئم كلٌّ منهما من الآخر، كان الطلاق يحدث بيُسْر وسريعًا وبقليل من المراسم. في الواقع، لم يكن الطلاق عادةً يعدو مجرد قرار أحد الشريكين الانتقال من المنزل الذي كان الاثنان يتقاسمانه. وتعود البساطة الملحوظة لكلٍّ من الزواج والطلاق في مجتمعات الصيد وجمع الثمار بدرجةٍ كبيرة إلى حقيقة أن أهم العلاقات الاجتماعية لم تكن قائمة على الزواج، وإنما بالأحرى على الانتماء للعشيرة أو النَّسب الذي وُلد فيه كل شخص. ولما كان هذا الانتماء حقًّا مكتسبًا منذ الولادة، فلم يكن الزواج أو الطلاق ليُغيره أو يؤثر فيه.

كانت التجارب الجنسية تبدأ في الطفولة، وعند بلوغ النضج الجنسي كانت تشيع العلاقات الجنسية بين المراهقين، ونادرًا ما كانت هذه العلاقات تُثمر عن حمل.7 وفي العادة كانت تستمر من كلا الجنسين لسنواتٍ عديدة قبل أن يظهر تدريجيًّا شريكٌ مفضَّل. ورغم أنه كان ثَمة اختلافات بين مجتمعات الصيد وجمع الثمار فيما يُحيط بالزواج وتنشئة الأسرة، فإنه كان من المألوف في أغلب هذه المجتمعات أن يتمتَّع الأطفال والمُراهقون، وخاصةً الفتيات بدرجةٍ مُذهلة من الحرية الجنسية، على الأقل استنادًا إلى معاييرنا.
درس اختصاصيُّو علم الإنسان الثقافي عددًا من مجتمعات الصيد وجمع الثمار القليلة التي ظلَّت باقية في القرن الحادي والعشرين دراسةً متعمِّقة. وقد لاحظ اختصاصي علم الإنسان، ملفين جيه كونر، في دراسة مقارنة بين الثقافات لسنِّ الرضاع والطفولة في ستة من مجتمعات الصيد وجمع الثمار الباقية أن الحرية الجنسية لدى الأطفال والمُراهقين مقبولة اجتماعيًّا، وتُمارس بوجه عام باعتبارها سلوكًا طبيعيًّا بين الجنسين.8

وقد وصف كونر التجارب الجنسية في قبائل البوشمان في جنوب أفريقيا بأنها تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وتستمر طوال مرحلة الطفولة المتوسطة والمراهقة. ورغم أن الكبار لا يبوحون بقبولهم المُداعبة الجنسية ويصدُّون عنها حين تصير صارخة، فإنهم يعدون الغريزة الجنسية لدى الأطفال والمراهقين أمرًا عاديًّا، والأطفال الذين ينغمسون في سلوكٍ جنسي على الملأ يوبَّخون، ولكن لا يُعاقَبون، بل في واقع الأمر يعتبر البوشمان النشاط الجنسي شيئًا ضروريًّا من أجل سلامة الصحة العقلية، ويعتقدون أن الحرمان الجنسي في مرحلة المراهقة هو السبب الأرجح وراء الاعتلال العقلي.

كذلك أشار كونر إلى أن كلا الجنسين يُمارسان الجنس علانيةً قبل الزواج لدى أقزام قبائل الإفيه والآكا في أفريقيا الاستوائية، حتى إنه في قبائل الإفيه يُعَد أول حيض للفتاة مناسبة للاحتفال العام، ولا يُقدم أحد جديًّا على وضع قيود على النشاط الجنسي في فترة المراهقة. وقد صرَّح أحد فِتية قبائل الإفيه بأن «الشباب يتغازلون ويجتمعون في حفلات الرقص من أجل ممارسة الجنس، وأن الفتاة من الممكن أن تُعاشِر عدة فِتيان في اليوم نفسه بالتناوب بينهم.»

أما بين قبائل الهادزا في تنزانيا، فإن التجارب الجنسية تُمارَس علنًا أثناء الطفولة أيضًا، وممارسة الجنس قبل الزواج هو أمرٌ روتيني وجزء متوقَّع من حياة المراهقين. وبين قبائل الأتشيه في باراجواي، يبدأ الفِتيان والفتيات تجربة الجنس قرب سن الثانية عشرة، ويُحتفل بالحيض الأول للفتيات في طقوس علنية للعبور والتطهير تضمُّ كل الرجال الذين كانوا قد جامعوها. وأخيرًا، بين قبائل الأجتا في الفليبين، لا يُتوقع من الفتيات العفة قبل الزواج؛ إذ يستطعن ممارسة الجنس بيُسرٍ نسبي.

ولاحظ اختصاصيون آخرون في علم الإنسان نمطًا مُشابهًا من الحرية الجنسية قبل الزواج بين إسكيمو القطب الشمالي، حيث تتمتَّع الفتيات الصغار بحرية اختيار عشاقهن حسب رغبتهن، وحيث يشتهر الرجال المتزوِّجون بعرض زوجاتهم وبناتهم على الزوار والضيوف لممارسة الجنس معهن.

وأخيرًا، كانت الفتيات بين السكان الأصليين الأستراليين يُخطَبن حتى قبل ولادتهن، ولكنهن كن يتمتعن بحرية جنسية لا بأس بها قبل وبعد الزواج.9 وبالرغم من أن الرجال في هذه المجتمعات كان يُتوقَّع منهم دائمًا أن يكونوا بالنضج الكافي لتوفير مصدر ثابت للغذاء قبل أن يتزوجوا، فإنهم كانوا يظلون أحرارًا في مُزاولة علاقات جنسية بقدر ما يستطيعون حتى ذلك الوقت، لكن مع وصول المُستوطنين الأوروبيين إلى أستراليا حلَّ النموذج الغربي بدرجةٍ كبيرة محلَّ الأنماط التقليدية من خطوبة في الطفولة وزواج قبل النُّضج الجنسي، حيث زاد رفض الفتيات للزواج من الرجال الذين «خُصِّصن» لهن، ونادرًا ما صِرن يتزوَّجن قبل نهاية سن المراهقة؛ كي يُصبحن قادرات على اختيار شركائهن.

غير أن الحرية الجنسية التي تمتَّع بها الشباب، رغم أنها ربما كانت مألوفة طوال حياة البشر في عصور ما قبل التاريخ، فإنها كانت مُمكنة فقط في المجتمعات التي كان للنساء فيها حرية اختيار عشاقهن وأزواجهن. أما في المجتمعات التي مارست الزراعة لمدة طويلة — لا سيما المجتمعات التي كانت لوراثة الأرض فيها أهمية — كان اختيار الشريك ودوام الزواج مسألة لها أهميتها البالغة بالتأكيد.

السماح بعلاقات جنسية قبل الزواج في المجتمعات الزراعية كان سيضع على المحك الخطط التي وضعها جيل الآباء بحرص؛ حيث إن الرجال والنساء بطبيعتِهم يصبحون متعلِّقين بشركائهم الجنسيِّين. فإن تبيَّن أن أولئك الرفاق ليسوا الأزواج المثاليِّين أو الزوجات المثاليات من ناحية وراثة الأملاك، والحفاظ على المزرعة، وإعالة الآباء، فقد يصير من الصعب جدًّا على الوالدَين إقناع الأبناء أو البنات بالزواج من شخصٍ آخر. بالإضافة إلى ذلك، إذا قرَّر رجل وامرأة فيما بعدُ الانفصالَ وإنجاب أطفال من أشخاص آخرين، فإن كيفية توريث أملاكهما ستكون مسألة معقَّدة ومُثيرة للخلاف، ومن الممكن بسهولةٍ أن تتفاقم فتصير نزاعًا علنيًّا وسخطًا طويل الأجل.

من ثَم في أقدم المجتمعات الزراعية، حيث ظلَّت الأسر لأجيال تعيش في القرى نفسها، وأورثت قِطع الأراض نفسها لأبنائها وأحفادها لقرون، تُشكِّل الاهتمامات الجنسية لدى النساء — بوجهٍ خاص — خطرًا بارزًا على انسجام الحياة في القرية واستقرار المجتمع بأسره؛ لذا ليس من المستغرب أن التزام العفَّة قبل الزواج — خاصة لدى النساء — كان يُعَد فضيلةً كبرى لدى المجتمعات الزراعية التقليدية في الصين والهند وأوروبا، وكان جيل الآباء يفرضها دون توانٍ.

هكذا أخمدت هذه الثقافات تمامًا الميل الطبيعي لدى الأطفال والمُراهقين إلى الانغماس في التجارب الجنسية، حتى إنه كثيرًا ما كان يفصل الفِتية والفتيات بعضهم عن بعض من سن مبكِّرة، وكثيرًا ما كانت عُذرية المرأة في هذه الثقافات تُعَد ضرورةً مقدسة، ولم يكن يُسمح للمراهقين غير المتزوِّجين قط بقضاء وقتهم معًا إلا تحت رقابة يقظة من أحد المُرافقين، بل وكان من المألوف في العديد من القرى الزراعية التقليدية في أوروبا منذ العصور الوسطى وحتى أواخر القرن التاسع عشر أن تُعرض ملاءات فراش الزوجية على الملأ في صباح اليوم التالي لليلة العرس؛ حتى يتسنَّى للجميع أن يروا بقع الدماء الناتجة عن تمزُّق غشاء بكارة العروس العذراء بواسطة العريس خلال أول لقاء معاشرة جنسية بينهما.

لكن لم تكن كل مجتمعات الصيد وجمع الثمار مُتساهلة مع الغرائز الجنسية؛ فقد كان أكثر أسباب الخلافات الخطيرة بين الذكور البالغين شيوعًا في أغلب المجتمعات البشرية هو الغيرة من الحظوة الجنسية لدى النساء، وقد ذُكر كذلك الصراع بينهم على العلاقات الجنسية مع الإناث بصفته أكثر أسباب المعارك المُميتة شيوعًا بين ذكور الشمبانزي. وفي حين أن الصراعات بين الذكور من أجل الحصول على اهتمام جنسي من الإناث قد ينتج عنها مناقشات عالية الصوت واتهامات على الملأ في مجتمعات الصيد وجمع الثمار الأكثر سلمية، فإن مثل هذه الصراعات بين المجتمعات المُولَعة بالحروب كثيرًا ما تؤدي إلى موت صياد أو مُحارب مُنتج في ربيع حياته؛ لهذا السبب كان يحثُّ على عفة المرأة في العديد من ثقافات الصيد وجمع الثمار المستعدة للتحارب، وكانت عفتها موضع تقدير كبير.

حين درس اختصاصيُّو علم الإنسان في أوائل القرن العشرين قبائل الشايان النزَّاعة للدخول في حروبٍ طاحنة، على سبيل المثال، وجدوا أنها كان لديها ثقافة كابتة للجنس؛ فقد كانت قبائل الشايان تعتقد أن الجنس يسلب من الرجل قوَّته عند الحرب والصيد، وقد عُرِف عن بعض الرجال الامتناع عن الجنس لسنوات في بعض الأحيان، مُعتقِدين أنهم بذلك سيُنجبون في النهاية أبناءً أقوياءَ مؤهَّلين للقتال. ولا عجب أن نساء الشايان كان يُذاع عنهم «السيرة العفيفة»، وهو ما كان مُتناقضًا تناقضًا صارخًا مع ما كانت تتسم به نساء قبائل أمريكية أصلية أخرى من سلوكٍ لَعوب.

تتجلَّى قيمة هذا النوع من الكبت الجنسي حين نتأمَّل المشكلات التي يُسبِّبها الجنس بين قبائل اليانومامي في غابات الأمازون المطيرة التي تميل للقتال ولكنها أكثر إباحة للجنس، حيث كانت العلاقات الجنسية سببًا لكثير من العنف الذكوري، وحيث الصراعات على النساء قد تتفاقم إلى حروب خطيرة بين جماعات اليانومامي.10

لكن في أغلب الحالات دائمًا ما تصير الحرية الجنسية عاملًا يُهدِّد استقرار المجتمعات الإنسانية حين يصير الرجال والنساء ورثة لثروات وأملاك؛ لهذا السبب فضَّلت كل المجتمعات الزراعية تقريبًا زيجات مستقرَّة تستمرُّ مدى الحياة — دائمًا ما يُرتِّبها والدا العريس والعروس — والتي كانت تُعَد للوصول بالأسرة المصغَّرة لأقصى درجة من الاستقرار والاستمرارية. هكذا، على مدار آلاف السنوات التي كان يظلُّ خلالها الناس مستقرِّين في مكان واحد ويُنتجون غذاءهم، كان الكبت الجنسي العام — المفروض بقسوة بين الأطفال والإناث بوجه خاص — يصير تدريجيًّا هو القاعدة.

نشأة الحروب المنظَّمة

مع تحوُّل جامعي الطعام إلى مُزارعين تدريجيًّا، صار الطعام والسِّلع المادية المُتراكمة في شُون القرى الزراعية ومخازنها أهدافًا مُغْرية حتمًا لغزوات قبائل مُعادية. وغرائز الذكور البالغين العدوانية التي تطوَّرت على مدار ملايين السنين التي اصطاد فيها الرجال الحيوانات البرية، صارت موجَّهة بصورةٍ مُتزايدة إلى أنشطة عدوانية ضد مجموعات بشرية أخرى.

مع تضاؤل أهمية صيد مجموعات الذكور للحيوانات الكبيرة بصفته ضرورةً اقتصادية، صارت الحروب المنظَّمة التي يشنُّها الذكور من أجل أرض القرى الزراعية والقبائل المُنافسة الأخرى وثروتها المادية ونسائها استراتيجيةً جذَّابة لاكتساب الثروة والأملاك والنَّسل بصورةٍ مُتزايدة. وهكذا مع توسُّع قرى العصر الحجري الحديث المستقرَّة في أنحاء أوروبا، أشار ظهور تحصينات مُتزايدة الضخامة إلى بداية الحروب الممتدَّة المنظَّمة.

انتشرت تقنيات الزراعة في شرق أوروبا وغربها مع ثقافة الخزف الخطي التي ظهرت في وديان أنهار الدانوب وإلبه والراين في ألمانيا الحالية منذ حوالَي ٧٥٠٠ عام من منشئها في المجر وصربيا. وطوال الخمسمائة سنة التالية، ظلَّ أفراد ثقافة الخزف الخطي يُهاجرون على عجلٍ عبر وديان الأنهار وعبر أوروبا حتى فرنسا وبلجيكا غربًا وأوكرانيا شرقًا، طاردين — وفي بعض الحالات مُبيدين — شعوب الصيد وجمع الثمار الأصلية التي كانت تعيش هناك؛ فقد كانوا يجدون الرواسب الغنية لتربة اللويس — التي كانت وفيرة بصفة خاصة في وديان الأنهار — مثالية لزراعة محاصيلهم من القمح والشعير والدخن والشوفان والبازلاء والعدس والفاصوليا. وبجانب اصطياد الغزلان والحلاليف في الغابات المفتوحة، كان شعب الخزف الخطي يُربي الماشية والماعز والخنازير المستأنسة.

ورغم أنه كان يُعتقَد في الماضي أن هذا الشعب المُزارع القديم كان مُسالمًا، فقد عُثر مؤخرًا على أدلة على حالات قتل عنيف في العديد من مواقع شعب الخزف الخطي، منها أدلة على حوادث إعدام جماعي حيث أُبيدت قرًى تعود إلى العصر الحجري الحديث بأكملها. وقد وجد علماء آثار مقبرة جماعية في تالهايم في وادي نهر الراين بها أربعة وثلاثون شخصًا — نِصفهم تقريبًا رُضَّع وأطفال — قُتلوا بالضرب على رءوسهم بآلة ثقيلة، أغلب الظن مِطرقة حجرية من العصر الحجري الحديث.

وقد أسفر التنقيب الجزئي لمقبرةٍ مُشابهة قرب فيينَّا عن بقايا ستة وستين شخصًا قُتلوا بطريقةٍ مُماثلة. وخمَّن علماء الآثار أن المقبرة ككلٍّ ربما كانت تحتوي على ثلاثمائة شخص على الأقل. وفي هيركسهايم، في وادي الراين أيضًا، عُثر على بقايا أكثر من ثلاثمائة شخص مبعثرة في أنحاء مستوطنة واحدة؛ إذ لم يُدفَن أيٌّ منهم بالطريقة اللائقة في قبور، وكان من بين تلك الأشلاء ١٧٣ جمجمةً لضحايا قُطعت رءوسهم وأُلقيت في عجالة في خنادق.

ربما ألقى شعب الخزف الخطي جثث الأعداء الذين ذبحوهم في قبور جماعية، لكنهم كانوا يدفنون موتاهم بعناية في قبور؛ فعند التنقيب في هذه القبور وفحص الهياكل العظمية، وجد علماء الآثار أدلة على إصابات رضية في نحو ثلث الرجال البالغين؛ مما يُشير إلى أن العنف بين هذه الشعوب كان بالغًا كما كان بين أكثر المجتمعات التي درسها اختصاصيُّو علم الإنسان عنفًا وميلًا للقتال.

علاوة على ذلك، تزيد معدلات الموت جرَّاء العنف كثيرًا مع الانتقال من الشرق للغرب؛ مما يوحي بأن حروب العصر الحجري الحديث كانت أكثر شيوعًا حيث انتقل شعب الخزف الخطي إلى أراضٍ يسكنها صيادون وجامعو ثمار، في حين كان العنف أقل شيوعًا في المناطق التي استُوطنت لفتراتٍ زمنيةٍ أطول. وأخيرًا، كانت قرى شعب الخزف الخطي في العادة محصَّنة بسياج من أوتاد خشبية، وكثيرًا ما كان يحوطها خنادق مائية أو قنوات كانت أحيانًا تطوق مستوطناتهم تمامًا. هذا يشير إلى أنه مع انتقال هذا الشعب الزراعي شمال وديان الأنهار في أوروبا عصور ما قبل التاريخ، كانوا يستولون على أراضٍ كان يسكنها من قبلُ شعوبٌ أصلية من الصيادين وجامعي الثمار، فكانوا يشتبكون معهم، وفي حالاتٍ عديدة يُبيدونهم.

ليس المقصود بهذا أن الرحَّالة الصيادين وجامعي الثمار كانوا دائمًا مُسالِمين ولم يخوضوا الحروب قط؛ فقد كان الشايان مُحاربين ماهرين ومنظَّمين يفتخرون كثيرًا بانتصاراتهم، ويتباهون طيلة حياتهم بالأعداء الذين أزهقوا أرواحهم، لكن «حروب» الصيادين وجامعي الثمار كانت في مجملها عبارةً عن مجموعات مُهاجمة، لا تختلف عن الغارات التي كانت تشنُّها قردة شمبانزي نجوجو في أوغندا التي جاء وصفها في الفصل الأول.

كانت الإغارة النموذجية للصيادين وجامعي الثمار هي أن يُقدم مجموعة من الذكور على التوغل خلسةً في أرض جماعة مُجاورة، وعند مقابلة عضو من الجماعة المعادية كان يُقضى عليه في الحال، وكان المُعتدون يتراجعون سريعًا إلى أرضهم، حتى حين كانت مجموعة كبيرة من المُغِيرين يُهاجمون قرية أو معسكرًا مُعاديًا بأعداد كبيرة، نادرًا ما كان المُعتدون يقدمون على إبادة الشعب كله، أو مصادَرة أرضه بأكملها، أو سرقة كل أغراضه، رغم أنه كان من المألوف أن تؤسَر الإناث في سن الحمل ويُعاد بهن كغنائم حرب.

لكن حين بدأ البشر العيش بشكلٍ دائم في مكانٍ واحد وتكديس الثروة، صارت الحروب تدريجيًّا أكثر فتكًا؛ فقبائل النوتكا التي عاشت في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية — التي كانت تتباهى بسلوكها الهادئ وطبيعتها المُتزنة — كانت لا تأخذها الشفقة في الحرب؛ فكان من دأبها حين تُهاجم مستوطنةً أخرى أن تُبيد كل السكان — ما عدا القليل من الأفراد الذين كانت تأسرهم ليصيروا عبيدًا — وتفرَّ بكل ما تستطيع حمله.

كقاعدةٍ عامة، كلما زاد حجم المستوطَنات الزراعية وزاد استقرارها كانت حروبها أكثر تخريبًا ودمارًا. وحين نشأت أولى الحضارات المدنية في وديان أنهار دجلة والفرات والنيل والسند واليانجتسي والأصفر — ومع استخلاص المعادن في العصرَين البرونزي والحديدي التي زادت كثيرًا من فاعلية الأسلحة الفتَّاكة — نشأ دور الجندي الدائم المُحترف؛ فقد نظَّمت كل الحضارات المدنية القديمة جيوشًا دائمة، وصارت الحروب استراتيجية غزو، تندلع على نطاق كبير، من أجل السيطرة على مساحات مُتزايدة من الأرض وأعداد متصاعِدة من الناس وتملك زمام أمرهم. وما كان أيٌّ من هذا ليصير ممكنًا لولا الانتقال من البحث عن الطعام إلى زراعته.

بذور الحضارة

مع تضاعُف أعداد القرى الزراعية، بدأت القرى المُتجاورة تُكوِّن تحالفات لصد المُغِيرين والغازين الذين يأتون من مناطق أخرى. ومع الوقت، بدأت كل قرية على حدة تتخصَّص في إنتاج محاصيل معيَّنة أو تصنيع أنواع معينة من السِّلع المادية. وبعد قليل بدأ يظهر مواقع للتجارة في مواقع مُلائمة جغرافيًّا، حيث كان باستطاعة الناس اللقاء بانتظام للتقايض على السلع التي يحتاجونها ومبادَلة ما كان ينقصهم في قريتهم بما يفيض لديهم من منتجات. وفي كثير من الأحيان، كانت هذه الأسواق تُقام في قرًى مركزية الموقع، تطوَّرت مع الوقت إلى بلداتٍ تجارية.

كل هذه الأحداث صارت مُمكِنة بعملية الاندماج الاجتماعي، التي مكَّنت المجتمعات من النمو لدرجة لم تعهدها المجتمعات الإنسانية من قبل؛ فقد خلق انتشار القرى الزراعية مناطق كثيفة السكان حيث كان الكل يتحدَّث اللغة نفسها، ويعبد الآلهة نفسها، ويتناول الطعام نفسه، ويعيش في أنوع المنازل نفسها، ويرتدي أنواع الملابس والحلي نفسها، ويلتزم بالأعراف والمحظورات نفسها. خلال هذا، صار الناس ينتمون لا إلى عشرات الأقارب، وإنما إلى آلاف الأشخاص الآخرين الذين يُشاركونهم هويتَهم الثقافية والإثنية.

•••

وبمرور الوقت، بدأت مجتمعات هذه المناطق تبتكر تقنيات جديدة للاتصال وتستخدمها؛ السفن الشراعية، والمركبات ذات العجلات، والخيل المستأنَسة، وأنظمة الكتابة التي مكَّنت الناس والمجتمعات من التواصل رغم حدود الزمان والمكان. نتيجةً لهذا، تطوَّرت البلدات التجارية والمراكز الدينية ومجتمعات الأسر الثرية وذات النفوذ تدريجيًّا حتى صارت مراكز حضرية بدأت تُهيمِن على البلدات المُجاورة الأصغر حجمًا والأقل قوة. وأخيرًا، مع ارتفاع تعقيد تقنيات التواصل وفاعليتها، ربطت هذه المراكز الحضرية المتوسِّعة بين مستوطَنات مناطق كاملة في شبكة من المجتمعات المُتحالفة، وفي النهاية صارت هذه المجتمعات بذور الحضارات المدنية التي نبتت، واحدةً تلو الأخرى، في مهود الحضارة المُتناثرة في أرجاء الأرض.

في نهاية المطاف، كانت تقنية الزراعة هي التي حرَّرت نوعنا من بحثٍ لا ينتهي عن شيء ليأكله، وجعلت من الممكن للبشر الاستقرار في مكانٍ واحد وبناء منازل وقصور ومعابد وأنصاب راسخة يستطيعون توريثها لأجيال مُستقبلية. في الفصل التالي سنرى كيف حين جعلت الزراعة الحياة في مكانٍ واحد مُمكنةً، تبدَّل حال المجتمع البشري تمامًا مرةً أخرى، وكيف صار أخيرًا قوة لها من الحجم والبأس ما يكفي لتغيير العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤