مقدمة

هذا كتاب صغير في بحث جديد، تنبَّهْنا له ونحن ننشر الطبعة الثانية من كتابنا «الفلسفة اللغوية»، لأن موضوعه تابع لموضوعها، أو هي خطوة ثانية في تاريخ اللغة باعتبار مَنشَئِها وتكوُّنها ونموِّها. فالفلسفة اللغوية تبحث في كيف نطق الإنسان الأول، وكيف نشأت اللغة وتولدت الألفاظ من حكاية الأصوات الخارجية كقصف الرعد، وهبوب الريح، والقطع، والكسر، وحكاية التف، والنفخ، والصفير … ونحوها، ومن المقاطع الطبيعية التي ينطق بها الإنسان غريزيًّا كالتأوُّه، والزفير. وكيف تنوَّعت تلك الأصوات لفظًا ومعنًى بالنحت، والإبدال، والقلب، حتى صارت ألفاظًا مستقلة وتكوَّنت الأفعال والأسماء والحروف، وصارت اللغة على نحو ما هي عليه.

وأما تاريخ اللغة فيتناول النظر في ألفاظها وتراكيبها بعد تمام تكوُّنها، فيبحث فيما طرأ عليهما من التغيير بالتجدُّد أو الدثور، فيبيِّن الألفاظ والتراكيب التي دثرت من اللغة بالاستعمال، وما قام مقامها من الألفاظ الجديدة والتراكيب الجديدة، بما تولَّد فيها أو اقتبستْه من سواها، مع بيان الأحوال التي قضت بدثور القديم وتولُّد الجديد، وأمثلة مما دثر أو أُهمِل أو تولَّد أو دخل. وهو بحث لغوي تاريخي فلسفي قسمنا الكلام فيه إلى ثمانية فصول باعتبار الأدوار التي مرت على اللغة، وهي:
  • (١)

    العصر الجاهلي: ويتناول تاريخ اللغة من أقدم أزمانها إلى ظهور الإسلام. أوردنا فيه أمثلة مما دخلها من الألفاظ الأعجمية من اللغات الحبشية، والفارسية، والسنسكريتية، والهيروغليفية، واليونانية وغيرها، وأسندنا ذلك إلى أسباب تاريخية. وذكرنا القاعدة في تعيين أصول تلك الألفاظ، وأمثلة مما تولَّد في اللغة نفسها من الألفاظ الجديدة، وأيَّدنا ذلك بمقابلة العربية بأخواتها، أو بالنظر إلى ألفاظها بحد ذاتها.

  • (٢)

    العصر الإسلامي: ونريد به ما حدث في اللغة بعد الإسلام من الألفاظ الإسلامية مما اقتضاه الشرع، والفقه، والعلوم اللغوية، ونحوها.

  • (٣)

    الألفاظ الإدارية في الدولة العربية: وتشمل ما دخل اللغة العربية من الألفاظ الإدارية التي اقتضاها التمدن الإسلامي عند إنشاء دولة العرب، وهي إما دخيلة وإما مُولَّدة. ويتخلَّل ذلك بحث في كيفية انتقال اللفظ من معنًى إلى آخر.

  • (٤)

    الألفاظ العلمية في الدولة العربية: ويدخل فيها الألفاظ والتراكيب التي اقتضاها نقل العلم والفلسفة من اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية في العصر العباسي.

  • (٥)

    الألفاظ العامة في الدولة العربية: وهي الألفاظ التي تولَّدت في اللغة، أو دخلتْها بغير طريق الشرع أو العلم، كالألفاظ الاجتماعية ونحوها.

  • (٦)

    الألفاظ النصرانية واليهودية: وهي ما دخل اللغة العربية من الألفاظ والتراكيب السريانية أو العبرانية، بنقل الكتب النصرانية إلى العربية.

  • (٧)

    الألفاظ الدخيلة في الدول الأعجمية: وتتناول ما اكتسبتْه اللغة من الألفاظ الأعجمية بعد زوال الدول العربية وتولِّي الدول التركية والكردية وغيرها.

  • (٨)

    النهضة الحديثة: وفيها ما اقتضاه التمدن الحديث من تولُّد الألفاظ الجديدة، واقتباس الألفاظ الإفرنجية للتعبير عما حدث من المعاني الجديدة في العلم، والصناعة، والتجارة، والإدارة، وغيرها.

وصدَّرنا الكتاب بتمهيد في نواميس الحياة وخضوع اللغة لها، وختمناه بفصل في لغة الدواوين، وخلاصة في مجمل ما تقدَّم.

على أننا نَعُدُّ ما كتبناه في هذا الموضوع الجديد خواطر سانحة، فتحنا بها باب البحث لأئمة الإنشاء وعلماء اللغة. فنتقدَّم إليهم أن يوفوا الموضوع حقه أو يزيدونا منه، لأنه يحتاج إلى بحث كثير ودرس طويل، وقد أصبحت اللغة بعد هذه النهضة في العلم والأدب والشعر في غاية الافتقار إليه، ليعلم حَمَلة الأقلام أن اللغة كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، تتجدد ألفاظها وتراكيبها على الدوام، فلا يتهيَّبون من استخدام لفظ جديد لم يستخدمه العرب له، وقد يكون تهيُّبهم مانعًا من استثمار قرائحهم، وربما ترتَّب على إطلاق سراح أقلامهم فوائد عظمى تعود على آداب اللغة العربية بالخير الجزيل. ولا بد من اعتبار القواعد العامة والروابط الأساسية مما أشرنا إليه في محلِّه، ناهيك بما ينجم عن معرفة أصل الكلمة وتاريخها من تفهُّم معناها الحقيقي.

جُرجي زيدان

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤