الألفاظ العلمية

(١) العصر العباسي

نريد بالألفاظ العلمية ما اقتضاه نقل كتب العلم والفلسفة إلى اللغة العربية في العصر العباسي من الألفاظ الجديدة، لتأدية ما جَدَّ من المعاني مما لم يكن له مثيل في لسان العرب، كالمصطلحات الطبية والكيماوية والفلسفية والطبيعية والرياضية والفلكية والمنطقية، وما أُلْحِق بذلك من مصطلحات علم الكلام والتصوف ونحوهما. وشأن أهل العصر العباسي في نقل تلك العلوم من اليونانية والفارسية والهندية وغيرها، مثل شأننا في نقل علوم هذا العصر من الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها، بل هم كانوا أحوج منا إلى اقتباس الألفاظ الأعجمية وتنويع المعاني العربية، لاستغنائنا عن كثير من ذلك بما وصل إلينا مما اقتبسوه ونوَّعوه من تلك الألفاظ.

ولم تقتصر تلك النهضة العلمية على تنويع الألفاظ وتبديلها، ولكنها أحدثت تنويعًا في التعبير يسهل علينا تصوره لكثرته في نهضتنا هذه مما سنذكره في حينه. فالتغيير الذي أصاب اللغة العربية بنقل كتب العلم والفلسفة قسمان؛ أحدهما في المفردات والآخر في التراكيب، والتغيير اللفظي إما بتنوع الألفاظ العربية أو باقتباس ألفاظ أعجمية.

(١-١) الألفاظ العلمية العربية

هي ألفاظ عربية تنوعت معانيها للدلالة على ما حدث من المعاني الجديدة العلمية والفلسفية، التي تنوعت من قبل للدلالة على المعاني الشرعية واللغوية والأدبية في صدر الإسلام.

وأول تلك الألفاظ أسماء العلوم التي نُقِلت إلى لساننا أو حدثت فيه على أثر ذلك، كالطبيعيات والإلهيات والرياضيات والمنطق والهيئة والجبر والمقابلة ونحو ذلك، مع ما في كل علم من الاصطلاحات الخاصة به وهي كثيرة جدًّا. إليك أمثلة منها:

الألفاظ الطبية

فالألفاظ الطبية العربية لم يكن منها في الجاهلية إلَّا مفردات قليلة كالحجامة والكي ونحوهما، فحدث منها ما يدل على فنون الطب كالكحالة والصيدلة والتشريح والجراحة والتوليد. ومنها ما يختص باصطلاحات كل فن كأسماء الرطوبات والأمزجة، والاختلاط من الحار والبارد والجاف واليابس، والسوداء، والصفراء، والبلغم، والنبض، والتخمة، والإنذار، والهضم، والبُحْران، والمشاركات.

وأسماء الأدوية: كالمسخنات، والمبردات، والمرطبات، والمجفِّفات، والمسهِّلات، والتطولات، والمخدرات، والاستفراغات، والسعوطات، والأدهان، والمراهم، والأطلية.

والكلمات الدالة على أثر تلك الأدوية، مثل: مُلطِّف، ومحلِّل، ومنضِج، ومخشِّن، وهاضم، وكاسر الرياح، ومخمِّر، ومحكك، ومقرِّح، وأكَّال، ولاذع، ومفتِّت، ومعفِّن، وكاوٍ، ومبرِّد، ومقوٍّ، ومخدِّر، ومرطِّب، وعاصر، وقابض، ومسهِّل، ومدِرٌّ، ومعرِّق، ومُزْلِق، ومملِّس، وترياق، وغير ذلك.

ومن الألفاظ الجراحية: الفسخ، والهتك، والوَثْي، والرَّضُّ، والخلع، والفتق، وتفرق الاتصال، ومفارقة الوضع، والجبار وغيره.

ناهيك بأسماء الأمراض أو أعراضها: كالصداع، والكابوس، والصرع، والتشنج، واللَّقْوَة، والرعشة، والاختلاج، والسرطان، والسُّلَاق، والشَّتَرة، والشرناق، والخانوق، والذبحة، والربو، وذات الجنب، وذات الرئة، والجهر، والضمور، والخفقان، والغثيان، واليرقان، والاستسقاء، والدبيلة، والإسهال، والزحير، والسحج، والسدد، والهَيْضَة، والبواسير، ونحو ذلك مما لا يمكن حصره.

ومن أوصاف الأمراض: أنواع الحميات كالمزمنة، والحادة، والمختلطة، والغب، والمطبقة، والربع، والدق، وغيرها. غير الألفاظ التشريحية: كأسماء الأوعية الدموية، ورطوبات العين، وسائر الأعضاء الباطنة التي لم يكن العرب يعرفونها.

ولأكثر الألفاظ الطبية العربية معانٍ لغوية عرفها العرب قبل عصر العلم، فلما احتاجوا إلى المعاني الجديدة استعملوا من تلك الألفاظ ما يقرب معناه من المعنى المقصود.

الألفاظ الرياضية

ويقال نحو ذلك في الألفاظ الكيماوية، والرياضية، والفلكية، وسائر العلوم الطبيعية مما يضيق هذا المقام عن استيفائه، وقد يلزم لاصطلاحات كل علم كتاب بذاته.

فمن أمثلة الألفاظ الفلكية أكثر أسماء الأبراج، والأفلاك، والمصطلحات الفلكية، والأزياج، وما يحلق ذلك كالرصد، والتعديل، والتقويم، والخسوف، والكسوف.

ومن الألفاظ الرياضية في الهندسة والحساب والجبر ما لا يُحصَى كالمماس، والمخروط، والمثلث، والمربع، وغير ذلك.

الألفاظ الفلسفية والمنطقية والكلامية

وأما الفلسفة والمنطق فاصطلاحاتهما تفوق الحصر. ومن العلوم التي اقتضاها التمدن الإسلامي بعد نقل الفلسفة والمنطق إلى لسان العرب، علم الكلام والتصوف مع التوسع في الفقه والأصول، وقد كان لهذه العلوم تأثير كبير في اللغة العربية فنوعت ألفاظها وأحدثت فيها ألفاظًا جديدة، وذلك كقولهم: الكون، والظهور، والقدم، والحدوث، والإثبات، والنفي، والحركة، والسكون، والمماسة، والمباينة، والوجود، والعدم، والطفرة، والأجسام، والأعراض، والتعديل، والتحرير، والمصاف … من اصطلاحات علم الكلام. والهاجس، والمريد، والمراد، والسالك، والمسافر، والسطح، والقطب، والهيبة، والأنس، والبقاء، والعناء، والشاهد، والفترة، والمجاهدة … من اصطلاحات التصوف.

وقد تكاثرت الاصطلاحات الكلامية والصوفية والفقهية والأصولية حتى صارت تُعَدُّ بالألوف، فاضطُرُّوا إلى وضع المعجمات الخاصة لتفسيرها وشرح ما اكتسبته من المعاني المختلفة باختلاف تلك العلوم. ومن أشهر تلك المعجمات كتاب «التعريفات» للجرجاني في نيف ومائة صفحة، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي في نحو ألفَي صفحة كبيرة، و«كليات أبي البقاء» في أربعمائة صفحة، و«اصطلاحات الصوفية» الواردة في الفتوحات المكية، وغيرها. فإذا ذكروا لفظًا أوردوا معناه اللغوي ثم معناه الاصطلاحي في الفقه أو الكلام أو التصوف أو الأصول، مع ما يناسب ذلك من المعاني الرياضية أو الطبيعية أو النحوية، وقد يغفلون المعنى اللغوي على الإطلاق.

فيقول الجرجاني في لفظ «القياس» مثلًا: «القياس في اللغة عبارة عن التقدير، يقال: «قِسْت النعل بالنعل» إذا قدرته وسويته، وهو عبارة عن رد الشيء إلى نظيره. وفي الشريعة عبارة عن المعنى المستنبَط من النص لتعدية الحكم من المنصوص عليه إلى غيره، وهو الجمع بين الأصل والفرع في الحكم. وفي المنطق: قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، كقولنا: «العالم متغير وكل متغير حادث»، فإنه قول مركب من قضيتَين إذا سلمتا لزم عنهما لذاتهما: «العالم حادث»، هذا عند المنطقيين. وعند أهل الأصول القياس إبانة مثل حكم المذكورين بمثل علته في الآخر، واختيار لفظ الإبانة دون الإثبات لأن القياس مظهر للحكم لا مثبت، وذكر مثل الحكم ومثل العلة احتراز عن لزوم القول بانتقال الأوصاف واختيار لفظ المذكورين، ليشمل القياس بين الموجودين وبين المعدومين.» ثم ميز الجرجاني بين أنواع القياس بألفاظ تلحق به، كالقياس الجلي والخفي والاستثنائي والاقترابي وقياس المساواة، ولكل منها معنًى اصطلاحي خاص.

وفي الاصطلاحات الصوفية: «الهاجس» يعبرون به عن الخاطر الأول وهو الخاطر الرباني، وهو لا يخطئ أبدًا. وقد يسميه سهل «السبب الأول» و«نقر الخاطر»، فإذا تحقق في النفس سموه «إرادة»، فإذا تردد الثالثة سموه «همة»، وفي الرابعة سموه «عزمًا»، وعند التوجه إلى القلب إن كان خاطر فعل سموه «قصدًا»، ومع الشروع في الفعل سموه «نية».

و«المريد» هو المتجرد عن إرادته، وقال أبو حامد: «هو الذي فُتِح له باب الأسماء ودخل في جملة المتوصلين إلى الله بالاسم.» و«المراد» عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم كلها والمقامات من غير مكابدة. و«السالك» هو الذي مشى على المقامات بحاله لا بعلمه فكان العلم له عينًا. و«المسافر» هو الذي سافره بفكره في المعقولات والاعتبارات، فعبر عن عدوة الدنيا إلى عدوة القصوى. و«السفر» عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى بالذكر. وقس على ذلك.

(١-٢) الألفاظ العلمية الأعجمية

حينما قام العرب بتعريب العلوم نقلوا من اصطلاحاتها إلى لسانهم ما استطاعوا نقله، ونوَّعوا الألفاظ على مقتضى المراد كما تقدم. وما لم يستطيعوا تعريبه نقلوه بلفظه إلى لسانهم. وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير، والأمراض، أو الأدوات، أو المصنوعات التي لم يكن لها شبيه في بلادهم.

فمما اقتبسوه من أسماء العقاقير: الأَفْسَنْتِين، والبقدونس، والزيزفون، والسقمونيا، والقنطاريون، والمُصْطَكى من اللغة اليونانية. والبابونج، والبورق، والبنج، وخيار شمبر، والراتينج، والزرجون، والزرنيخ، والزاج، والسرقين، والإسفيداج، والشاهترج، والشيرج، والمرداسنج من اللغة الفارسية.

ومن أسماء الأمراض ونحوها من الاستعمالات الطبية: القولنج، والترياق، والكيموس، والكيلوس، وقيفال، ولومان، وملنخوليا من اليونانية. وسرسام، ومارَستان من الفارسية.

ومن المصنوعات والأدوات: الأصطرلاب، والقيراط، والأنبيق، والصابون من اليونانية. والبركار، والبوتقة، والجنزار، والدَّسْكَرَة، والأسطوانة من الفارسية.

ومن الاصطلاحات الفلسفية ونحوها: الهيولى، والأسطقس، والفلسفة، والطلسم، والمغنطيس، والإقليم، والقاموس، والقانون من اليونانية. غير ما اقتبسوه من اللغة الهندية وأكثره من أسماء العقاقير ونحوها.

فترى مما تقدم أن أهل تلك النهضة لم يكونوا يستنكفون من اقتباس الألفاظ الأعجمية، ولم يتعبوا أنفسهم في وضع ألفاظ عربية لتأدية المعاني التي نقلوها عن الأعاجم، بل كانوا كثيرًا ما يستخدمون للمعنى الواحد لفظين من لغتين أعجميتين، فالسرسام مثلًا اسم فارسي لورم حجاب الدماغ استعمله العرب للدلالة على هذا المرض، ولما ترجموا الطب من لغة اليونان استخدموا اسمه اليوناني وهو «قرانيطس»، ولو استنكفوا من استخدام الألفاظ الأعجمية لاستغنوا عن اللفظين جميعًا.

(١-٣) التراكيب الأعجمية في اللغة العربية

هذا مطلب بعيد الأطراف يستغرق درسًا طويلًا وبحثًا عميقًا لا يأذن بهما المقام، فنكتفي بالتنبيه إليه ونأتي ببعض الأمثلة لتأييد قولنا. لكننا بالقياس على ما دخل اللغة العربية من التراكيب الأجنبية في أثناء نهضتنا الأخيرة بما نقلناه من علوم الإفرنج إلى لساننا، نقطع بحدوث مثل ذلك في النهضة العباسية ونقلة العلم يومئذٍ من غير أهل اللسان العربي.

على أننا لو فحصنا لغة ذلك العصر وقابلنا بين عبارة كتب الطب والفلسفة وعبارة كتب الأدب لرأينا الفرق بينهما واضحًا، وإذا دققنا النظر في سبب ذلك الفرق رأينا عبارة أصحاب الفلسفة تمتاز بأمور هي سبب ضعفها وركاكتها، منها:
  • (١)

    استخدام فعل الكون بكثرة على نحو ما يستعمله أهل اللغات الإفرنجية.

  • (٢)

    كثرة الجمل المعترضة الشائعة عندهم.

  • (٣)

    الإكثار من استعمال الفعل المجهول.

  • (٤)

    استعمال ضمير الغائب «هو» بين المبتدأ والخبر حيث يمكن الاستغناء عنه.

  • (٥)

    إدخال الألف والنون قبل ياء المتكلم في بعض الصفات، كقولهم: روحاني، ونفساني، وباقلاني ونحو ذلك، مما هو مألوف في اللغات الآرية ولا يُستحسَن في اللسان العربي.

ومن التعبيرات التي اقتبسها العرب من اللغة اليونانية ما لم يكن لهم مندوحة عنها ولا بأس منها:
  • (١)

    تركيب الألفاظ مع لا النافية وإدخال أل التعريف عليها، كقولهم: اللانهاية، واللاأدرية، واللاضرورة.

  • (٢)

    صوغ الاسم من الحروف أو الضمير، مثل قولهم: اللمية، والكيفية، والكمية، والهوية.

  • (٣)

    نقل الألفاظ من الوصفية إلى الاسمية، كقولهم: المائية، والمنضجة، والخاصة.

ومن هذا القبيل اقتباسهم بعض التعبيرات الفارسية الإدارية، مثل قولهم: «صاحب الشرطة» و«صاحب الستار» وهو تعبير فارسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤