الفصل الثالث

عالم الخلق

يمثل العرش في نظر ابن عربي أول صورة ظهرت في الجسم الكل آخر عالم المعقولات الموجودة، أو آخر عالم الأمر. وهو يمثل في ذاته وسيطًا وبرزخًا بين عالم الموجودات المعقولة وعالم الموجودات الحسية أو عالم الكواكب. وعلى ذلك يجب التمييز — مع ابن عربي — بين جانبَي هذا العرش اللذين يقابل بأحدهما العوالم السابقة عليه، ويقابل بثانيهما العوالم التالية له، فيفصل بينهما كما يوحِّد بحكم طبيعته البرزخية.

يتوحد العرش — أولًا — بالخيال المطلق أو برزخ البرازخ؛ باعتباره أولَ صورة حسية نورانية لهذا البرزخ. وإذا كان الخيال المطلق يمثل البرزخ الفاصل بين الذات الإلهية والعالم، فإن العرش يمثل البرزخ الذي يفصل بين عالم الأمر وعالم الخلق، أو بين الحق والخلق. فهو يمثل برزخًا كونيًّا — من حيث طبيعته الجسمية — منه ينسب الفعل إلى الأكوان وإن كان الفعل في الحقيقة له. إنه — بهذا الفهم — يمثل علة فاعلة في الكون، وإن كان — في ذاته — علة غائية بالنسبة للموجودات العقلية السابقة عليه، «هو البحر الفاصل بين الحق والخلق، وهو حجاب العزة لنا وله. فمن أراد منا الوصول إليه وقع في هذا البحر فينسُب الفعل للكون، وما بيد الكون من الفعل شيء، بل الفعل كله للواحد القهَّار. وإذا أراد هو الوصول إلينا بما هو عليه — وقولنا إذا أراد، قولٌ مجازي للتوصيل، بل هي إشارة لتوصيل معنى يجب أن يُفهم — كان نزوله إلينا بنا، فقيل: ينزل واستوى، والله يفرح بتوبة عبده، ويضحك ربنا ويتعجب ويتبشبش، والله يستهزئ بهم، وما أشبه هذا كالمكر والمكيدة.»١ ومعنى ذلك أن العرش يمثل البرزخ الفاصل بين الحق والخلق، والذي من خلاله يتصف الحق بصفات الخلق؛ من حيث إنه ينزل إلى الخلق بهم، أو يتجلَّى لهم بصفاتهم لا من حيث إطلاقه الذاتي الذي لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء.
من هذه الزاوية يتوحد «العرش» بكل حقائق الخيال المطلق أو مراتبه المختلفة، فالعماء — بالمثل — يمثل البرزخ الذي يلتقي فيه الحق والخلق. ويكاد ابن عربي يكرر نفس العبارات السابقة حين يقول: «بحر العماء برزخ بين الحق والخلق. في هذا البرزخ اتصف الممكن بعالم وقادر وجميع الأسماء الإلهية التي بأيدينا. واتصف الحق بالتعجب والتبشبش والفرح والمعية وأكثرِ النعوت الكونية. فرُدَّ ما له وخذ ما لك، فله النزول ولنا المعراج.»٢ وكما يتوحَّد العرش بالعماء يتوحد كذلك بالحقيقة المحمدية من حيث إنه أولُ مظهر لنورها في عالم الصور والأجساد، «فلما علم الحق سبحانه وتعالى إرادته، وأجرى في إمضائها عادته، نظر إلى ما أوجده في قلبه من مكنون الأنوار، [و] رفع عنها ما اكتنفها من الأستار، فتجلَّى له من جهة القلب والعين، حق تكاثف النور من الجهتين، فخلق سبحانه وتعالى من ذلك النور المنفهِق عنه العرش، وجعله مستواه، وجعل الملأ الأعلى وغيره مما ذكره مما احتواه.»٣
ويتوحد العرش — من جانب آخر — بعالم المعقولات الأربعة السابقة عليه، ويتضمنها في باطنه ويُبرِزُها — أو يبرز حقائقها — في ظاهره. إن الأخير — من حيث المرتبة — يتضمن دائمًا كلَّ الحقائق السابقة عليه، وإن كان هو في نفسه مظهرًا لها، بل الأحرى القول إنه يتضمن حقائقها في باطنه من حيث هو مظهرها. والموجودات المعقولة التي حللناها في الفصل السابق هي ذاتها عُرُشٌ معقولة، فالعقل الأول هو العرش المجيد، واللوح أو النفس الكلية هي العرش العظيم. والعرش الذي نتحدث عنه الآن هو فلك الأفلاك وهو عرش الرحمانية. والكرسي — وهو الموجود التالي لهذا العرش — هو العرش الكريم. ويتجاوز ابن عربي عالم المعقولات إلى عالم الخيال المطلق، فيتحدث عن عرش الهوية أو عرش المشيئة أو عرش الحياة، وهو مستوى الذات الإلهية.٤ وهذا التوحيد في التسمية يؤكد ما نذهب إليه؛ هذا إلى جانب دلالتها — في هذه الحالة — على استيعاب الصفات المتعددة للعرش في القرآن، وإعطائها معنًى وجوديًّا. وإدراك ابن عربي للعرش — من جانب آخر — بأنه يقوم على قوائمَ أربع تحملها أرواح أربعة في هذه الحياة الدنيا، تصبح ثمانية في الحياة الأخرى؛ يؤكد ما يذهب إليه من تضمن العرش لحقائق الوجود السابقة عليه؛ معقولةً كانت أم خيالية.

(١) العرش

العرش — من حيث مرتبته الوجودية — هو فلك الأفلاك المحيط بكل ما يليه من موجودات عالم الخلق؛ ولذلك فله من الأسماء الإلهية الاسم «المحيط»، ويقابله من حروف اللغة حرف القاف.٥ وهو «أعني هذا الجسم الكري على هيئة السرير. وخلق له حَمَلةً أربعة بالفعل ما دامت الدنيا، وأربعةً أُخر بالقوة. يجمع بين هؤلاء الأربعة والأربعة الأُخَر يوم القيامة، فيكون المجموع ثمانية. وسمَّاه العرش وجعله معدن الرحمة، فاستوى عليه باسمه الرحمن. وجعله محيطًا بجميع ما يحوي عليه من المُلْك، متميزًا، يقبل الاتصال والانفصال، وعمر الأينية الظرفية المكانية. وكان مرتبة ما فوقه بينه وبين العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء، وهو للاسم الرب — والله هو الاسم الجامع المهيمن على جميع الأسماء الإلهية فصفته المهيمنية — وتوحدت الكلمة في العرش، [فهو] أول الموجودات التي قبلها عالم الأجسام.»٦ فالعرش يمثل — من حيث المرتبة — كل ما فوقه، ويحتوي — أيضًا — على كل ما يليه ويحيط به، ولهذا فهو مركز الكلمة الإلهية المتوحدة. وإذا كان الاسم «الله» هو الاسم الإلهي الجامع، والاسم الإلهي «الرب» هو الذي في مستوى العماء، فإن العرش هو مستوى الاسم الإلهي «الرحمن».
والاسم الإلهي «الرحمن» مشتق من صفة الرحمة، وهي أساس التمثل الإلهي في صور أعيان الممكنات، ومن هذه الصفة كان التنفُّس الذي نتج عنه العماءُ للراحة من البطون، وفك قيد الأسماء الإلهية. فالنفَس الإلهي، أو نَفَس الرحمن، هو «عين رحمته بنفسه، فما خرج منه تعالى إلا الرحمة التي وسعت كل شيء، فانسحبت على جميع العالم؛ ما كان منه وما لا يكون (كذا) إلى ما لا يتناهى. فأول صورة قبل نفس الرحمن فهو (كذا) بخار رحماني فيه الرحمة، بل هو عين الرحمة، فكان ذلك أول ظرف قبل وجود الحق … ثم إن جوهر ذلك العماء قبل صور الأرواح من الراحة والاسترواح إليها، وهي الأرواح المهيَّمة، فلم تعرف غير الجوهر الذي ظهرت فيه وبه، وهو أصلها، وهو باطن الحق وغيبه، ظهر فظهر فيه وبه العالم، فإنه من المحال أن يظهر العالم من حكم الباطن، فلا بد من ظهور خلق به يكون ظهور صور العالم. فلم يكن غير العماء، فهو الاسم الظاهر الرحمن.»٧ ومعنى ذلك أن الاسم «الرحمن»، وصفة الرحمة تنتظم كلَّ شيء في الوجود؛ بحكم أن العماء — وهو أصل العالم وجوهره — ظهر عنها. واختصاص الاسم الرحمن بمستوى العرش له معنًى مختلف عن تجلِّي هذا الاسم في كل موجودات العالم؛ بحكم هذا الأصل — العماء — الذي ظهر عنه العالم. هذا المعنى كامن في أن العرش هو أصل كل أجسام العالم؛ لأنه يمثِّل آخر تجليات وحدة الكلمة الإلهية. هذه الوحدة التي ستبدأ — بعد ذلك — في التعدد والتكثُّر، والانقسام والازدواج في فلك الكرسي. ولذلك كله يختص العرش بمستوى الاسم «الرحمن» في هذا التجلي خاصة، وإن كان الاسم ساريًا في كل الأشياء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العرش يجمع بين اسمين إلهيَّين، فهو مستوى الاسم «الرحمن»، والاسم الذي توجه على إيجاده هو الاسم «المحيط». وهذان الاسمان يمكن أن يعكسا جانبَي المرتبة الوجودية للعرش كما أسلفنا، فهو «يحيط» بكل ما يليه من موجودات، وهو من جانب آخر يمثل مستوى — أو مرتبة — كل ما فوقه، وما بينه وبين العماء. ويتسق هذا مع كون العماء هو مستوى الاسم «الرب»، وإن كانت حقيقته ناتجةً عن النفَس الإلهي من الاسم «الرحمن». وتتعدد الأسماء الإلهية في حقيقة الشيء الواحد — عند ابن عربي — لتعكس جانبَي هذه الحقيقة، ولكنها لا تؤدي إلى أي كثرة في الشيء ذاته، فالأسماء نسب وإضافات لا أعيان لها. ومن جهة أخرى فابن عربي حين ينسُب كونًا من الأكوان في سلم الموجودات إلى اسم إلهي خاص، إنما يفعل ذلك بحكم التغليب، مع التسليم بأن كل الأسماء الإلهية لها أثر في كل كون من الأكوان؛ «لكن بعضها أقوى من بعض في ذلك الممكن المعين، وأكثرُ حكمًا فيه، فلهذا ننسبه إليه.»٨
وإذا كان الخيال المطلق يتضمن حقائقَ أربعًا، وعالم المعقولات — أو عالم الأمر — يتضمن مراتبَ أربعًا، فإن للعرش — كما سبقت الإشارة — أربعَ قوائم يشترك في حملها الملائكةُ وأرواح بعض الأنبياء. هذه القوائم الأربع تمثل أربع حقائق يعدِّدها ابن عربي — نقلًا عن ابن مسرَّة الجبلي — وهي: الصور والأرواح والأرزاق والوعيد،٩ «فإسرافيل وآدم للصور، وجبرائيل ومحمد للأرواح. وميكائيل وإبراهيم للأرزاق، ورضوان ومالك للوعد والوعيد.»١٠ هذه الحقائق الأربع تتصل بعالم الكون، عالم الكثرة والتعدد والانقسام، كما أنها تنتمي في نفس الوقت إلى العالم الروحي السابق؛ مما يؤكد الوحدة الذاتية التي يتضمنها العرش. ويرمز ابن عربي للصور بإسرافيل وآدم. وإذا كان الجسد الآدمي هو أصل كل الأجسام الإنسانية من حيث تكوينُه الترابي، فإسرافيل هو الملَك الموكَّل بالنفخ في الصور يوم القيامة ليبعث هذه الأجساد من رَقدتها. وكثيرًا ما يخلِط ابن عربي — عن وعي — بين كلمة «الصُّور» و«الصُّوَر» جمع صورة.١١ أما الأرواح فيرمز لها ابن عربي بجبريل ومحمد؛ من حيث إن جبريل هو الملَك الموكَّل بالنفخ في الأرحام، كما نفخ في رحم مريم فولدت عيسى من غير أب. ومحمد هو الحقيقة الروحية التي هي أصل كل الأرواح في العالم، والتي توجد كل أرواح العالم في حقيقته بالقوة. ويرمز ابن عربي للأرزاق بميكائيل وإبراهيم، ورغم ما في هذا الرمز من صعوبة أشار إليها أسين بلاسيوس،١٢ وسكت عن شرحها ابن عربي كما سكت عن شرح الرموز الأخرى، فإن ما ورد في القرآن من تقديم إبراهيم الطعامَ للملائكة ما يمكن أن يضيء مثل هذا الرمز،١٣ ويمكن أن يكون ميكائيل — في هذه الحالة — رمزًا للغذاء الروحي أو المعنوي «غذاء العلوم والتجليات والأحوال.»١٤ والرمز الأخير واضح في حقيقة الوعد والوعيد؛ فرضوان هو الملَك الذي يفتح أبواب الجنة التي بها يتحقق وعد الله للمؤمن، ومالك هو خازن النار التي يتحقق بها وعيد الله للكافر.
إن هذه الحقائق الأربع بجانبَيها تمثل ثماني حقائق تتماثل مع النسب الثماني «التي يوصف بها الحق؛ وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر وإدراك المطعوم والمشموم والملموس بالصفة اللائقة به، فإن لهذا الإدراك بها تعلقًا كإدراك السمع بالمسموعات والبصر بالمبصرات (كذا).»١٥ وهذه الحقائق الأربع من جانب آخر تتوازى مع الحقائق الأربع الطبيعية الكامنة في الطبيعة الكلية؛ وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. ورغم هذا التعدد الكامن في طبيعة العرش من حيث قوائمه الأربع، وما يعبر عنه من حقائق أربع — هي في حقيقتها ثمانٍ — تتصل بعالم الكون، فإنه في ذاته واحدٌ غير منقسمٍ، محيطٌ بما يليه من الموجودات. وهذا التعدد والانقسام الكامن فيه سيظهر في المراتب التالية وأوَّلها فَلك الكرسي.

(٢) الكرسي

يمثل الكرسي — على المستوى الوجودي — عالم التعدد، ولكن في حدود الاثنينية، التي تؤدي بدورها إلى التكثُّر في عالم الفلك الأطلس — وهو فلك البروج — وفلك الأفلاك الثابتة، وانتهاءً إلى الأرض، مرورًا بالأفلاك السبعة المعروفة من السماء الأولى حتى السماء السابعة. والاثنينية التي يمثلها الكرسي نابعة من أنه موضع القدمين الإلهيتين، حيث انقسم الأمر الإلهي إلى خبر وحُكم، وانقسم الحكم إلى أمر ونهي، وانقسم الأمر إلى وجوب ونَدْب وإباحة، وانقسم النهي إلى حظر وكراهة. أما الخبر الإلهي فقد انقسم إلى أقسام كثيرة متعددة.١٦
وإذا كان الكرسي يمثل انقسام الكلمة الإلهية على المستوى الوجودي، فإن هذا الانقسام يرجع في حقيقته إلى ثنائيات سابقة — موجودة بالقوة لا بالفعل — في العقل الأول واللوح المحفوظ أو النفس والطبيعة الكلية. وهذا الانقسام الباطني الذي ظهر في الكرسي موجود أيضًا في الكلمة الإلهية التي توجهت على إيجاد أعيان الممكنات، وهي كلمة «كن»، فهذه الكلمة على وحدتها — كأمر إلهي — تتكون من حرفين؛ هما الكاف والنون. يقول ابن عربي: «ومن فعل هاتين القدمين في هذا الفلك ظهر في العالم من كلِّ زوجين اثنين بتقدير العزيز؛ لوجود حكم الفاعلَين من الطبيعة (يعني الحرارة والبرودة)، والقوتين من النفس (يعني القوة العلمية والقوة العملية)، والوجهين من العقل (يعني النور والظل)، والحرفين من الكلمة الإلهية «كن» من الصفتين الإلهيتين في «ليس كمثله شيء»، وهي الصفة الواحدة «وهو السميع البصير» وهي الصفة الأخرى.»١٧
ولأن الكرسي يمثل الانقسام الموجود باطنًا في العوالم السابقة عليه، فهو لا يمثل — في حقيقته — وجودًا مغايرًا لما سبقه، بل الأحرى القول إنه يمثل ظهور هذه الحقائق من حالة البطون. وليس معنى كونه فَلكًا داخل فلك العرش استقلالَه عنه، فهو — مثله مثل العرش — صورة في الجوهر الهبائي. «فإن جوهر هذا الهباء هو الذي عمَّر الخلاء، فكلُّ ما ظهر من الصورة المتحيزة الجسمية والجسمانية، فهذا الجوهر هو القابل لها. وإنما قلنا هذا لئلا يُتخيَّل أن الكرسي صورة في العرش، وليس كذلك. وإنما هو صورة أخرى في الهباء قَبِلها كما قَبِل صورة العرش على حد واحد، ولكن بنسب مختلفة. فسُمي هذا الموجود الآخر كرسيًّا، ودلَّى إليه القدمين، فانفلقت الرحمة انفلاق الحَب، فتنوعت الرحمة في الصفة إلى إطلاق وتقييد. فظهرت الرحمة المقيدة؛ وهي القَدم الواحدة. وتميزت الرحمة المطلقة لظهور هذه القدم الأخرى. فظهر في هذه انقسام الكلمة الواحدة العرشية التي لم يظهر لها انقسام في العرش.»١٨ ومثل هذا التوحيد بين الكرسي والعرش باعتبارهما نسبتين في الجوهر الهبائي؛ يجعلنا نتعامل مع هذه القسمة في عالم الكرسي باعتبارها قسمة ظاهرة لباطن موحَّد في حقيقته. وهذا ما يعبر عنه ابن عربي بقوله: إن الأمر الإلهي انقسم إلى خبر وحُكم، وهو في حقيقته واحد لا يقبل الانقسام إلا بالنظر والاعتبار. والانقسام إلى حكم وخبر، وما يتبعه من انقسامات داخلية داخل حدود كل منهما، هو انقسام بالنظر إلى عالم الكون أو إلى عالم الكثرة الظاهرة المشاهَدة المحسوسة، عالم الكواكب التي نسبتها إلى الكرسي «كنسبة الكرسي إلى العرش كحلقة مُلقاةٍ في فَلاة.»١٩
والانقسام الذي يمثِّله الكرسي أو القدمان يمتد — عند ابن عربي — ليشمل كل العوالم، ويضُمَّ كل الثنائيات. فهاتان القدمان يمثلان في عالم الألوهة «تقابل الأسماء الإلهية مثل الأول والآخر والظاهر والباطن»،٢٠ وفي عالم الخلق يمثلان كل الصفات الإلهية والأفعال الإلهية التي تبدو متعارضةً، «فبالقدمين أغنى وأفقَر، وبهما أمات وأحيا، وبهما أهلَّ وأقفر، وبهما خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبهما أعزَّ وأعطى، ومنع وأضر. ولولاهما ما وقع في العالم شيء مما وقع.»٢١ وليست هذه كلها إلا آثار صفات الأفعال الإلهية؛ «مِن المحيي والمميت والضار والنافع وما أشبه ذلك».٢٢
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الانقسام الوجودي — الواحد في باطنه — إلى انقسام معرفي تختلط فيه حدود التشبيه والتنزيه. ويكون هذا الانقسام هو الحاكم على ما نراه في معرفة الكون من اضطرابات في إدراك الحقيقة المطلقة الشاملة، وتعدُّدٍ في فَهمها. والعارف وحده هو الذي يصل إلى تجاوز هذا الاضطراب والخلط والتشويش، فيدرِك الانقسام على أنه — في أصله وباطنه — وحدة، ويدرك تعدد المعتقدات وتغايُرَها على أنها تَنصبُّ على جوانب من هذه الحقيقة الواحدة، «فمن نزَّه فمن «ليس كمثله شيء»، ومن شبَّه فمن «وهو السميع البصير»، فغيب وشهادة: غيب تنزيه، وشهادة تشبيه، فافهمْ إن كنت تفهم واعلم ما الحقيقةُ التي حكمت على الثنوية حتى أشركوا، وهم المانية، مع استيفائهم النظرَ وبذل الاستطاعة فيه، فلم يقدروا على الخروج من هذه الاثنينية إلى العين الواحدة. وما ثَم إلا الله وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، فلم يُعْذَر لأنه نزل عن هذه الدرجة فقَلَّد. فنجا صاحب النظر وهلك المقلد، فإنه استند إلى أمر محقق في الصفة والكلمة، فَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ فلم يسمع وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وختم على قلبه فلم يعلم أنه إله واحد؛ لأنه لم يشاهد تقليب قلبه. وجعل على بصره غشاوة فلم يدرك فردية الكلمة بالواو التي بين الكاف والنون، فمنعته الغِشاوة من إدراكه، فلم يشاهد إلا اثنين، كاف ونون، لفظًا وخطًّا.»٢٣
وإذا كان العارف وحده هو القادر على إدراك وحدة الحقيقة مع تنوعها، فليس معنى ذلك أن هذا الانقسام ينتفي عن إدراكه وتصوره، بل الأحرى القول إنه يأخذ مجرًى آخرَ يتمثل في الأحوال والمقامات التي يتنوع بها قلب العارف مع وحدته الذاتية، فيدرك الحقيقة في تنوعها. وهذا التنوع في قلب العارف مَردُّه إلى هذه الثنائية في الكرسي، فتتنوع أحواله بين «الغيب والشهادة، والجلال والجمال، والقرب والبعد، والهيبة والأنس، والجمع والفرق، والسَّتر والتجلي، والغيبة والحضور، والقبض والبسط.»٢٤

هذا الانقسام على المستويين الوجودي والمعرفي، سيتحول إلى كثرة فيما يلي ذلك من مراتب الوجود، وأولها الفَلك الأطلس أو فلك البروج، وهو الذي سنتناوله في الفقرة التالية. ونشير قبل ذلك إلى أن الكرسيَّ قد توجه على إيجاده الاسم الشكور، ويقابله من حروف اللغة حرف الكاف.

(٣) الفلك الأطلس

تتحول الثنائية التي ظهرت في فلك الكرسي إلى كثرة تظهر في الفلك الأطلس أو فلك البروج الاثني عشر. هذه الكثرة — هنا — ليست طارئة، ولكنها ظهورٌ لكثرة متضمَّنة في العوالم السابقة، كما كانت الثنائية في الكرسي ظهورًا لكثرة باطنة في العوالم السابقة عليه. ومعنى ذلك أن الفلك الأطلس ينتمي لكل العوالم السابقة؛ يفصِّل ما أُجمِلَ فيها، ويُظهر ما بطَن فيها. وهذا الفلك الأطلس — من جهة أخرى — يُعَد علة لكل التغيرات التي تحدث في عالم الكون والاستحالة على المستويين الطبيعي والروحي على السواء. وهذا كله يؤكد الطبيعة الوسطية لهذا البرزخ من برازخ عالم الخلق.

وقد سبقت الإشارة إلى الموازاة التي يقيمها ابن عربي بين الأسماء الإلهية الأربعة التي توجهت على إيجاد العالم، وهي الحياة والعلم والإرادة والقول، وبين مثيلتها من العناصر الطبيعية؛ وهي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. وإذا كانت الطبيعة الكلية — ثالث مراتب عالم العقول — تتضمن هذه الحقائق الطبيعية الأربع في ذاتها، فإن القلم قد توازى مع الحياة والحرارة، واللوح المحفوظ (النفس الكلية) قد توازت مع العلم والبرودة، والهباء قد توازى مع القول والرطوبة، وكذلك الجسم الكل قد توازى مع الإرادة واليبوسة. ومعنى ذلك أن هذه الحقائق كلها باطنة في عالم العقول الكلية. وهذه الحقائق تتجلى بشكل ظاهر في هذا الفلك؛ الفلك الأطلس، أو فلك البروج الاثني عشر. وإذا كانت هذه الحقائق السابقة تنقسم في حقيقتها إلى حقائق فاعلة وحقائق منفعلة، كما سبق أن أشرنا، فمن الطبيعي أن يؤتي هذا التفاعل ثمرتَه في هذا الفلك الذي يمثل الكثرة. فتفاعل الحرارة مع اليبوسة يؤدي إلى ظهور عنصر النار البسيطة. وهذا العنصر يوجد في ثلاثة بروج من بروج هذا الفلك الأطلس: وهي الحمل والأسد والقوس. وتفاعل البرودة واليبوسة يؤدي إلى ظهور عنصر التراب البسيط الذي يوجد في بروج ثلاثة أخرى؛ هي الثور والسنبلة والجَدْي. أما تفاعل الحرارة والبرودة فيُنتج الهواء الذي يوجد في الجوزاء والميزان والدلو. وعنصر الماء الناتج عن امتزاج البرودة والرطوبة يوجد في أبراج السرطان والعقرب والحوت.٢٥
ومعنى ذلك أن هذه البروج الاثني عشر تنقسم — من الناحية الطبيعية — إلى أربعة أقسام ما بين مائية وهوائية وترابية ونارية؛ «ولهذا ظهر عنها الكون والفساد والتغير والاستحالات … وعن هذا الفلك يتكون جميع ما في الجنة، وعنه يكون الشهوة لأهلها. وهو عرش التكوين.»٢٦
ولكن إذا كانت الحقائق الطبيعية أربعًا، والعناصر التي تنتُج عنها — بدورها — أربعة، فكيف تأتَّى أن ينقسم هذا الفلك إلى اثني عشر برجًا؟ تؤكد إجابة ابن عربي على مثل هذا السؤال الطبيعة الثابتة الدائمة لهذا الفلك، فهو ليس فلكًا طبيعيًّا فانيًا، ولكنه فَلكٌ ثابت باقٍ ينصبُّ تأثيره — التكويني — على عالم الدنيا وعالم الآخرة وعالم البرزخ. وناتج ضرب الحقائق الطبيعية الأربع — أو العناصر الأربعة — في هذه المنازل الثلاثة يؤدي إلى وجود الأبراج الاثني عشر. ولكل برج من هذه الأبراج مدة معلومة ووظيفة محددة في التأثير التكويني الذي يمارسه، يتحول الأمر بعدها والتأثير إلى برج آخر،٢٧ فإذا انتهى الأجل المعلوم لهذه الحياة الدنيا تحوَّل التأثير إلى التكوينات التي تحدُث في عالم النار؛ بحكم هذا التحول. وتحول التأثير الذي تمارسه هذه الأبراج في عالم البرزخ — وهو الصور — إلى التأثير على برزخ الجنة.٢٨ ومعنى ذلك أن انقسام هذا الفلك إلى اثني عشر برجًا يعود إلى العناصر الأربعة، والعوالمِ الثلاثة التي تمارس فيها هذه العناصرُ تأثيرها، «وما ثَم رابع. ولكل منزل من هذه المنازل أربعة لا بدَّ منهم لهم الحكم في أهل هذه المنازل. فإذا ضربت ثلاثة في أربعة، كان الخارج من هذا الضرب اثني عشر، فلذلك كانوا اثني عشر برجًا. ولمَّا كانت الدار الدنيا تعود نارًا في الآخرة، بقيَ حكم الأربعة عليها التي لها. والبرزخ في سوق الجنة ولا بدَّ فيه من حكم الأربعة. والجنة لا بد فيها من حكم الأربع، فلا بد من البروج.»٢٩ والفارق بين الاستحالات التكوينية التي تسبِّبها هذه الأبراج في الدنيا ومثيلتها في الآخرة — خاصة في الجنة — أن ما يحدث في الجنة من استحالات ليس فسادًا على الحقيقة؛ «أعني ينفسد نظامه إلى أمر آخر ما هو الفساد المذموم المستخبث، فهذا معنًى يفسد فلا تتوهم.»٣٠
إن الفلك الأطلس — في ظل هذا الفهم — فلك ثابت مثل الكرسي والعرش. وإذا كان العرش يمثل مستوى الوحدة الرحمانية، والكرسي يمثل مستوى الانقسام المعبر عنه بالقدمين، فإن فلك الأطلس يمثل الأصل الذي تنتُج عنه التكوينات والاستحالات والتغييرات في المنازل الثلاثة: الدنيا والآخرة والبرزخ، وهذا هو جانبه الطبيعي. أما الجانب الروحي لهذا الفلك فيتمثل في أن هذه البروج المقدَّرة التي ينقسم إليها ليست إلا ملائكة يتلقَّون علومهم مباشرةً عن اللوح المحفوظ (النفس الكلية). وهذا اللوح — كما أسلفنا — يتلقى علمه عن القلم أو العقل الأول. ومعنى ذلك أن هذه البروج الملائكة تقوم — إلى جانب وظيفتها الطبيعية الوجودية — بوظيفة علمية معرفية تنقُل بها المعلومات والمعارف من عالم الأمر إلى ما يليها من عالم الخلق. وإذا كان العقل الأول واللوح المحفوظ يمثلان خواصَّ الملائكة الكروبيين الموجودين في العماء، فإن ملائكة الأبراج تمثل ولاة هؤلاء الخواص الذين يتلقَّون عنهم العلوم، وينقلونها — بدورهم — إلى نوَّابهم في الفلك التالي؛ فَلكِ الكواكب الثابتة، «ثم إن الله سبحانه وتعالى أمر أن يُوَلَّى على عالم الخلق اثنى عشر واليًا يكون مقرهم في الفلك الأقصى منا في بروج. فقسَّم الفلك الأقصى اثني عشر قسمًا، جعل كل قسم منها برجًا لسُكنى هؤلاء الولاة، مثل أبراج سور المدينة، فأنزلهم الله فيها، فنزلوا فيها كل والٍ على تخت في برجه. ورفع الله الحجاب الذي بينهم وبين اللوح المحفوظ، فرأوا فيه — مسطَّرًا — أسماءهم ومراتبهم، وما شاء الله أن يُجريَه على أيديهم في عالم الخلق إلى يوم القيامة، فارتقم ذلك كله في نفوسهم وعلِموه علمًا لا يتبدل ولا يتغير.»٣١ ومعنى ذلك أن الفلك الأطلس أو الفلك الأقصى — من جانبه الروحي — يمثل أحد مراتب العلم الإلهي، وهي مرتبة ما يحدث في العالم بمنازله الثلاثة من تكوين وتغيُّر واستحالة. وهذه المرتبة تمثل كثرة وتفصيلًا في هذا العلم الإلهي، كما كانت — في جانبها الطبيعي — تمثل أصل كل التفاعلات في عالم الكون والتغيُّر.٣٢ ويطلِق ابن عربي على هؤلاء الملائكة الاثني عشر اسمَ الملائكة المقسمات.٣٣
وإذا كان انقسام الكلمة الإلهية في فلك الكرسي قد أدى إلى الثنائية في العالم وفي المعتقدات، فإن الكثرة الاثني عشرية في الفلك الأطلس قد أدت — بدورها — إلى اعتقاد الشيعة الإمامية في الأئمة الاثني عشر، «ومن هنا قالت الإمامية بالاثني عشر إمامًا. فإن هؤلاء الملائكة أئمة العالم الذي تحت إحاطتهم. ومن كون هؤلاء الاثني عشر لا يتغيرون عن منازلهم، لذلك قالت الإمامية بعصمة الأئمة، لكنهم لا يشعرون أن الإمداد يأتي إليهم من هذا المكان. وإذا سعدوا سرَتْ أرواحهم في هذه المعارج بعد الفصل والقضاء النافذ بهم، إلى هذا الفلك تنتهي لا تتعداه، فإنها لم تعتقد سواه.»٣٤ ومعنى ذلك أن هذا الفلك — معرفيًّا — يمثل ببروجه الملائكة الاثني عشر فلكًا للإمداد المعرفي. وهو الفلك الذي استمد منه هذا الفريق من الشيعة معرفتَهم بالأئمة الاثني عشر المعصومين. وإلى هذا الفلك — معرفيًّا — ينتهي هذا الفريق من المسلمين إذا سعدوا بعد الفصل والقضاء؛ وذلك لأن معرفتهم — وبالتالي عقيدتهم — لم تتجاوز إطار هذا الفلك. ويرتد هذا الفهم عند ابن عربي إلى إيمانه بأن لكل معتقد ديني — أيًّا كان — أصلًا في التجليات الإلهية، وأن المعتقِد — أيًّا كانت عقيدتُه — يموت على صورة اعتقاده ومعرفته. ولا تتجاوز رؤيته يوم القيامة للحق إطارَ الصورة التي مات عليها معتقِدًا إيَّاها. ولذلك حين يتجلَّى الحق للخلق يوم القيامة ينكره قوم لأنه تجلى لهم في غير الصورة التي يعرفونها. فإذا تجلى لهم على صورة معتقَدهم عرَفوه ولم ينكروه. والعارف وحده هو القادر على معرفة الحق في أيِّ صورة يتجلى فيها؛ لأنه قد كُشِفَ له عن تنوع الحق في الصور المختلفة، فلا تمنعه الصورة — أيًّا كانت — عن معرفته. والسبب وراء ذلك أن قلب العارف يتنوع بتنوع تجليات الحق في الصور المختلفة، ومِن ثَم تتجاوز معرفته بالحق حدود أي صورة خاصة، ويتجاوز المعتقَداتِ المختلفةَ وصولًا إلى العقيدة الكلية الشاملة.

(٤) فلك الكواكب الثابتة

وإذا كان الفلك الأطلس أو الفلك الأقصى قد توجه على إيجاده الاسمَ الإلهي «الغني»، وله من الحروف اللغوية حرف «الجيم»،٣٥ فقد توجه على إيجاد كوكب المنازل أو فلك الكواكب الثابتة الاسمُ الإلهي «المُقَدِّر»، وله من الحروف حرف «الشين».٣٦ وللأسماء والحروف هنا دلالتها دون شك، فالاسم «المُقَدِّر» يعني فعالية هي تقدير الأمور تقديرًا فعليًّا في إطار التنفيذ الكلي أو التصميم لأمر من الأمور، وهذه — كما سنرى — هي مهمة فلك الكواكب الثابتة. ويمثل حرف «الشين» على المستوى الصوتي تفشِّيًا وخروجًا واضحًا للهواء في النفَس أوسع من خروج حرف «الجيم»؛ حيث درجة الاحتكاك في الأول أقلُّ منها في الثاني. والعلاقة بين هذا الفلك — فلك الكواكب — والفلك الأطلس هي علاقة المنفعل بالفاعل. وعلاقته بما يليه من العوالم والكواكب هي علاقة الفاعل بالمنفعل. ومعنى ذلك أن لهذا الفلك — أيضًا — جانبين: جانبًا منهما يتصل فيه بما فوقه ويعبر عن حقائقه، وهذا هو جانبه المنفعل. أما الجانب الآخر الفاعل فهو تأثيره فيما يليه من الكواكب، فهو بذلك برزخٌ فاصل بين ما فوقه وما يليه، يفصِل بينهما ويوحِّد على المستويين الوجودي والمعرفي، والطبيعي والروحي، على السواء.
يتبدَّى وجهه إلى ما قبله في أنه يجمع في حقيقته قوة العرش والكرسي والفلك الأطلس جميعًا؛ باعتباره آخرها من حيث المرتبة؛ وذلك بناءً على تصور ابن عربي أن الآخر دائمًا يجمع حقائق كل ما سبقه. وإذا كانت الكلمة الإلهية قد توحَّدت في العرش، وانقسمت في الكرسي، وتكثَّرت في الفلك الأطلس، فإن فلك الكواكب الثابتة يجمع كل حقائق الوحدة والانقسام والتعدد. فمن قوة هذا الفلك يقول أهل الجنة للشيء: كن؛ فيكون؛ بمعنى أن الهُوَّة الفاصلة بين الحق والخلق تتلاشى؛ لأن التكوين — عن الأمر — قوة إلهية لا إنسانية. ويستمد الفَلك الثابت هذه القوة التي توحِّد بين الحق والخلق من الوحدة الموجودة في حقيقة العرش. ويمثل هذا الكوكب أيضًا الانقسامَ الموجود في حقيقة الكرسي؛ وذلك بما يَهَبه لأهل الجنة — سكان هذا الكوكب — من زوجتين لكل إنسان. أما الكثرة التي يستمدها من الفلك الأطلس، فتتمثل فيما يهبه لأهل الجنة أيضًا مِن تلذُّذ وتنعُّم بالأكل والشرب والنكاح؛ حيث تغيب الربوبية في الإنسانية كما غابت الإنسانية في الربوبية في القدرة الخلاقة الإلهية التي يهبها لهم في الحالة الأولى، وهي القوة المستمدة من العرش: «حمل فلك الكواكب قوة الأطلس والكرسي والعرش. والكرسي هو الوجه الجامع بين المقدمتين؛ لأنه الوسط بين العرش والأطلس، فله وجه إلى كل منهما. فمن قوة العرش اتحدت، أو توحَّدت، فيه الكلمة الإلهية، فكان أهل الجنة — وهم أهل هذا الفلك المكوكب — يقولون للشيء: «كُنْ»؛ فيكونْ. ومن قوة الكرسي كان لكل إنسان فيه زوجتان؛ لأنه موضع القدمين. ومن قوة الفلك الأطلس غابت إنسانيته في ربه فتكونت عنه الأشياء، ولا تتكون إلا عن الله. وغابت الربوبية في إنسانيته، فالْتذَّ وتنعَّم وأكل وشرِب ونكَح، فهو خلق حق؛ فجُهِل كما أن الفلك الأطلس مجهول. فلهذا قلنا إن هذا الفلك قد حصَّل قوة ما فوقه؛ لأنه مولَّد٣٧ عنه. وهكذا كل ما تحته أبدًا؛ الولد يجمع حقائق ما فوقه حتى ينتهي إلى الإنسان، وهو آخر مولود، فتُجمع فيه قوى جميع العالم والأسماء الإلهية بكمالها.»٣٨
وإذا كان الفلك المكوكب، أو فلك المنازل، يجمع حقائق كل ما قبله، وهو منفعل بالنسبة لها، فإنه من حيث علاقته بما يليه من الكواكب يكون أبًا وفاعلًا بهذه الحقائق كلها. وإذا كان الفلك الأطلس — كما أشرنا — يمثل العلة الفاعلة الطبيعية في البرزخ والدنيا والآخرة، فإن هذا الفلك المكوكب يتضمن — مكانيًّا — الجنة والنار، فسطحه أرض الجنة، ومَقعَره فيما يلي السماءَ السابعة سقفُ النار.٣٩ وهذا الفلك — من جانب آخر — يحيط بما يليه من كواكب وأفلاك، فيؤثر فيها طبيعيًّا وروحيًّا: «ولمَّا أنشأ الله أجرام العالم كلِّه القابل للتكوين فيه، جعل من حد ما يلي مقعر السماء الدنيا إلى باطن الأرض عالمَ الطبيعة والاستحالات، وظهور الأعيان التي تحدُث عنها الاستحالات، وجعلها بمنزلة الأم، وجعل من مقعر فلك السماء الدنيا إلى آخر الأفلاك بمنزلة الأب، وقدَّر فيها منازل، وزيَّنها بالأنوار الثابتة والسابحة. فالسابحة تقطع في الثابتة، والثابتة والسابحة تقطع في الفلك المحيط.»٤٠ فالعلاقة — إذنْ — بين الفلك الأطلس وفلك الأفلاك الثابتة من جهة، والأفلاك المتحركة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا من جهة أخرى؛ هي علاقة فاعل بمنفعل. وعلاقة هذه كلها بما يلي السماء الدنيا إلى عالم الأركان — أو عالم الكون والاستحالة — هي بدورها علاقة فاعل بمنفعل. والفارق بين الفلك الأطلس والفلك المكوكب من جهة، وغيرهما من الأفلاك السابحة من جهة أخرى، أن الفلكين الأوَّلين ليسا عُرضةً للفناء والتغير والاستحالة؛ لأن تأثيرهما دائم على الجنة والنار، وما يحدث فيهما من تغيرات. فهما فلكان ثابتان بهذا المعنى؛ أي: أزليَّان غير فانيين. وهذه تفرقة هامة بينهما وبين الأفلاك المتحركة المعرَّضة للتغير والفساد.٤١ وليس معنى الثبات هو عدم الحركة، فالسابحة تقطع في الثابتة، والثابتة والسابحة تقطع في الفلك المحيط، كما يقول ابن عربي في النص السابق.
وإذا كنا — فيما سبق — رأينا ابن عربي يتعامل مع الفلك الأطلس، وفلك الكواكب — أو فلك المنازل — والكرسي والعرش باعتبارها أفلاكًا حقيقية، وإن كانت ثابتةً أزلية غير فانية،٤٢ فإنه — أحيانًا — يوحِّد بين هذين الفلكين — الأطلس والمنازل — من جهة، والعرش والكرسي من جهة أخرى؛٤٣ الأمر الذي دفع القاشاني إلى اعتبار أن العرش والكرسي ليسا أفلاكًا على الحقيقة، وإنما هي أفلاك بالمعنى المجازي، «كما سمى كرة التراب فلكًا مجازًا، فإنها لم تتحرك، ولم تُحِط بشيء حتى تسمى فلكًا بالحقيقة.»٤٤ وذهب إلى أن المراد بهما — فلك العرش وفلك الكرسي — النفس الكلية والعقل الكلي. والذي لا شك فيه أن ابن عربي يتعامل مع الفلك الأطلس وفلك المنازل باعتبارهما فلكين حقيقيين مع ثباتهما وأزليَّتهما؛ خلافًا لما ذهب إليه أبو العلا عفيفي؛٤٥ وذلك لأنه يسند إليهما حركةً في فلك الكرسي أو العرش. وعن حركة الفلك الأطلس وُجدت الأيام مجملةً غير منفصلة، ثم تعينت الأيام بحركة الفلك الثاني؛ فلكِ المنازل. والمقصود بالأيام الناتجة عن حركة هذين الفلكين هي أيام الزمان المعروفة لنا لا الأيام الإلهية، وهي الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. يقول: «ولمَّا أدار الله هذه الأفلاك العلوية، وأوجد الأيام بالفلك الأول (يعني الفلك الأطلس)، وعيَّنه بالفلك الثاني (يعني فلك المنازل) الذي فيه الكواكب الثابتة للأبصار، ثم أوجد الأركان ترابًا وماءً وهواءً ونارًا، ثم سوَّى السموات سبعًا طباقًا وفتَقها؛ أي: فصَل كل سماء على حِدَة بعدما كانت رَتْقًا؛ إذ كانت دخانًا، وفتَق الأرض إلى سبع أرَضين، سماءٌ أولى لأرض أولى، وثانية لثانية؛ إلى سبع، وخلق الجواري الخُنَّس خمسةً، في كل سماء كوكب، وخلق القمر، وخلق أيضًا الشمس، فحدث الليل والنهار بخلق الشمس في اليوم. وقد كان اليوم موجودًا، فحصل النصف من هذا اليوم لأهل الأرض نهارًا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وجعل النصف الآخر منه ليلًا، وهو من غروب الشمس إلى طلوعها. واليوم عبارة عن هذا المجموع؛ ولهذا خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فإن الأيام كانت موجودة بوجود حركة البروج، وهي الأيام المعروفة عندنا لا غير، فما قال الله: خلق العرش والكرسي، وإنما قال: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. فإذا أدار فلك البروج دورةً واحدة، فذلك هو اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض. ثم أحدث الله الليل والنهار عند وجود الشمس لا الأيام.»٤٦
الفلك الأطلس وفلك المنازل إذن فلكان حقيقيان من وجهة نظر ابن عربي على الأقل؛ بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع غيره من الفلكيين والفلاسفة في التراث. والمهم عند ابن عربي — كما سنرى وكما هو واضح في النص السابق — هو أن يجد لتصوراته سندًا من النصوص الدينية، أو ألا تتصادم تصوراته — على الأقل — مع هذه النصوص. وإذا كان الفلك الأطلس ينقسم إلى اثني عشر برجًا تضم ملائكةً أطلق عليها ابن عربي اسم «المقسمات»،٤٧ فإن فلك المنازل ينقسم — بدوره — إلى ثمانية وعشرين منزلًا، يمثل كلٌّ منهم منزلةً من منازل القمر الطبيعية الثمانية والعشرين.٤٨ يسكنها ملائكة بعددهم هم الملائكة التاليات،٤٩ حجاب الملائكة المقسمات الولاةُ في الفلك الأطلسي. ومهمة هؤلاء الحُجَّاب نقل أوامر أولئك الولاة إلى نواب هؤلاء الولاة في عالم الأفلاك السابحة. «ثم جعل الله لكل واحد من هؤلاء الولاة (الذين يسكنون الفلك الأقصى) حاجبين يُنْفذان أوامرهم إلى نوابهم (ملائكة الأفلاك السابحة السبعة)، وجعل بين كل حاجبين سفيرًا يمشي بينهما بما يُلقي إليه كلُّ واحد منهما. وعيَّن الله لهؤلاء الذين جعلهم حُجابًا لهؤلاء الولاة في الفلك الثاني منازلَ يسكنونها، وأنزلهم إليها، وهم الثمانية والعشرون منزلةً التي تسمى المنازل التي ذكرها الله في كتابه فقال: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ؛ يعني: في سيره، ينزل كلَّ ليلة منزلةً منها إلى أن ينتهي إلى آخرها. ثم يدور دورةً أخرى، «لتعلموا» بسيره وسير الشمس فيها والخُنَّس «عدد السنين والحساب»، وكل شيء فصَّله الحق لنا تفصيلًا، فأسكن هذه المنازلَ هذه الملائكة، وهم حُجَّاب أولئك الولاة الذين في الفلك الأقصى.»٥٠
نحن إذن أمام تصور فلكي وروحي معًا، وأمام مملكة تتكون من خواص وولاة وحُجَّاب ونوَّاب. أما خواص المملكة فهما القلم واللوح المحفوظ. والولاة هم الملائكة التي تسكن الفلك الأقصى ببروجه الاثني عشر. ويمثل ملائكة فلك المنازل الثمانية والعشرون الحُجَّاب الذين يتوسطون بين ولاة الفلك الأقصى، والنواب وهم أرواح الأفلاك السابحة السبعة الذين يدبرون أمور العالم. وهذه الأفلاك السبعة مقدرة في الفلك الثابت أو فلك المنازل، كما أن هذا الفلك — بدوره — في جوف الفلك الأطلس «كحلقة ملقاة في فلاة فيحاء.»٥١ ويتفق هذا التصور مع طبيعة المرتبة الوسيطة التي يمثلها هذا الفلك، «ثم إن الله تعالى أمر هؤلاء الولاة (ملائكة الفلك الأقصى) أن يجعلوا نوابًا لهم ونُقَباء في السموات السبع، في كل سماء نقيبًا كالحاجب لهم، ينظر في مصالح العالم العنصري بما يلقون إليهم هؤلاء الولاة ويأمرونهم؛ وهو قوله: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، فجعل الله أجسام هذه الكواكب النقباء أجسامًا نيِّرة مستديرة. ونفخ فيها أرواحًا وأنزلها في السموات السبع، في كل سماء واحد منهم، وقال لهم: قد جعلتكم تستخرجون ما عند هؤلاء الاثني عشر واليًا بوساطة الحُجَّاب الذين هم ثمانية وعشرون، كما يأخذ الولاة عن اللوح المحفوظ. ثم جعل الله لكل نقيب من هؤلاء السبعة النقباء فلكًا يَسبح فيه، هو له كالجواد للراكب. وهكذا الحُجاب لهم أفلاك يسبحون فيها؛ إذ كان لهم التصرف في حوادث العالم والاستشراف عليه، ولهم سَدَنة وأعوان يزيدون على الألف. وأعطاهم الله مراكب سمَّاها أفلاكًا يسبحون فيها، وهي تدور بهم على المملكة في كل يوم، فلا يفوتهم من المملكة شيء أصلًا من ملك السموات والأرض، فيدور الولاة وهؤلاء الحُجاب والنقباء والسَّدَنة كلهم في خدمة هؤلاء الولاة.»٥٢

وننتهي من ذلك إلى أن الأفلاك السبعة المعروفة، أو السموات السبع، تمثل — في حقيقتها الروحية — نواب الولاة الذين يسكنون الفلك الأقصى، ويتلقَّون علومهم عنهم بوساطة حُجَّاب فلك المنازل الثمانية والعشرين. وهذا الدور الوسيط الذي تقوم به ملائكة الأفلاك السابحة بين ما يسبقها من أفلاك وعوالم الكون والاستحالة؛ هو موضوع تحليلنا في الصفحات القادمة.

١  عقلة المستوفز  ٥٧.
٢  الفتوحات ١ / ٤١.
٣  عنقاء مغرب  ٤١.
٤  انظر: عقلة المستوفز  ٥٢-٥٣.
٥  انظر: الفتوحات ٢ / ٤٣٦.
٦  الفتوحات ٢ / ٦٧٦. والكلمة التي بين قوسين هي في الأصل: فهي.
٧  الفتوحات ٣ / ٤٢٩-٤٣٠.
٨  الفتوحات ٢ / ٤٦٨.
٩  انظر: الفتوحات ٣ / ٤٣١. وابن عربي يجعل من نفسه أحد حملة العرش، يقول: «فإن الله وإنْ خلَق ملائكةً يحملون العرش، فإن له من الصنف الإنساني أيضًا صورًا تحمل العرش الذي هو مستوى الرحمن، وأنا منهم، والقائمة التي هي أفضل قوائمه هي لنا، وهي خزانة الرحمة، فجعلني رحيمًا مطلقًا مع علمي بالشدائد.»
١٠  عقلة المستوفز  ٥٨.
١١  انظر: الفتوحات ١ / ٣٠٥.
١٢  انظر: The Mystical Philosophy of Ibn Masarra and His Followers, pp. 79-80.
١٣  سورة الذاريات  ٢٤–٢٨، وانظر: تفسير الزمخشري ٤ / ١٨.
١٤  الفتوحات ١ / ١٤٩. وانظر: فصوص الحكم  ٨٤ حيث يشير ابن عربي لهذا الترابط.
١٥  الفتوحات ١ / ١٤٩.
١٦  انظر: الفتوحات ٢ / ٦٧٦.
١٧  الفتوحات ٢ / ٤٣٩.
١٨  الفتوحات ٢ / ٦٧٦.
١٩  عقلة المستوفز  ٦٠.
٢٠  الفتوحات ٣ / ٤٦٣.
٢١  الفتوحات ٣ / ٤٦٣.
٢٢  الفتوحات ٣ / ٤٦٤.
٢٣  الفتوحات ٢ / ٤٣٩.
٢٤  الفتوحات ٣ / ٤٦٣.
٢٥  الفتوحات ١ / ٢٩٣.
٢٦  الفتوحات ٢ / ٦٧٦.
٢٧  انظر: عقلة المستوفز  ٦١–٦٤.
٢٨  ليس المقصود بالبرزخ هنا الخيال المطلق، بل هو الصُّور الذي تأخذ فيه الأرواح أيَّ الأشكال شاءت. وبرزخ الجنة هو السوق الذي يستطيع فيه أهلُ الجنة التشكُّلَ في أي صورة أرادوا. انظر: الفتوحات ١ / ٣٠٥–٣٠٧، ٣ / ٦٥، ٥٢٠، ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ٤٧١، وانظر كذلك: محمود قاسم، الخيال في مذهب محيي الدين بن عربي  ١٩–٢١.
٢٩  الفتوحات ٣ / ٤٣٣.
٣٠  الفتوحات ٣ / ٤٣٣.
٣١  الفتوحات ١ / ٢٩٥.
٣٢  لمزيد من التفاصيل عن هذه الجوانب انظر: عقلة المستوفز  ٦١–٦٤، والفتوحات: ٢ / ٢٩٥، ٣ / ٤٣٣ وما بعدها.
٣٣  انظر: عقلة المستوفز  ٦١.
٣٤  الفتوحات ٣ / ٤٣٣.
٣٥  انظر: الفتوحات ٢ / ٤٣٧.
٣٦  انظر: الفتوحات ٢ / ٤٤٠.
٣٧  في الأصل: مواد، وهو بيِّن الخطأ.
٣٨  الفتوحات: ٢ / ٤٤٠-٤٤١.
٣٩  انظر: عقلة المستوفز  ٦٥، الفتوحات ٢ / ٤٤١، ٣ / ٤٣٥.
٤٠  الفتوحات ١ / ٤٤١.
٤١  انظر: Burchardt; Mystical Astrology According to Ibn Arabi, p. 16.
٤٢  انظر: الفصوص  ٧٥.
٤٣  انظر: الفتوحات ١ / ٥٤.
٤٤  شرح فصوص الحكم  ٧٥.
٤٥  التعليقات على الفصوص  ٤٨-٤٩.
٤٦  الفتوحات: ١ / ١٤٠.
٤٧  انظر: عقلة المستوفز  ٦١.
٤٨  انظر: الفتوحات ٢ / ٦٧٦.
٤٩  انظر: عقلة المستوفز  ٦٦.
٥٠  الفتوحات ١ / ٢٩٥. ومن الصعب — بحساب ابن عربي — إدراك كيف وصل الحجاب إلى هذا العدد إذا كان لكل والٍ حاجبان = ٢٤، وبين كل حاجبين سفير يمشي بينهما.
٥١  الفتوحات ٣ / ٤٣٦.
٥٢  الفتوحات ١ / ٢٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤