الفصل الرابع

عالم الشهادة

(الكون والاستحالة)

(١) الأفلاك المتحركة

أشرنا إلى أن هذه الأفلاك السبعة مقدَّرة في فلك المنازل. وهذا الفلك بدوره داخل الفلك الأقصى الذي يمثل دائرة أضيقَ داخل دائرة الكرسي. وهذا الأخير بدوره كالحلقة الملقاة في الفلاة داخل فلك العرش. وهذا التصور الفلكي — أو الدائري — للوجود يمكِّن ابنَ عربي من الاحتفاظ بالثنائية الأساسية التي يحرص عليها بين الذات الإلهية والعالم. وهذا التصور يسمح له — في نفس الوقت — بالاحتفاظ بالدور الوسطي أو البرزخي بين العوالم المختلفة؛ بدءًا من عالم الخيال المطلق أو الهباء الذي يمثل الدائرة الأوسع، وانتهاءً إلى عالم الكون والاستحالة الذي يمثل الدائرة الأضيق. وهذه الدوائر أو الأفلاك يحيط بعضها ببعض، ويتسع بعضها ويضيق البعض الآخر. وكلما اتسع الفلك، اقترب من النور والصفاء؛ لأنه — من حيث المرتبة — أقرب إلى الإطلاق، وأبعدُ عن التقييد، أو أقرب من النقطة التي هي العنصر الأعظم المخزون في غيب الغيب.١ وينبغي أن ننفي عن أذهاننا أيَّ تصور للقرب أو البعد بالمعنى المكاني المحسوس، وإنما البعد والقرب مراتبُ ذهنية عقلية لا حسية عينية؛ «إن العالم موجود ما بين المحيط والنقطة على مراتبهم وصِغَر أفلاكهم وعِظَمها. وإن الأقرب إلى المحيط أوسع من الذي في جوفه، فيومه أكبر ومكانه أفسح ولسانه أفصح، وهو إلى التحقق بالقوة والصفاء أقرب. وما انحط إلى عالم العناصر نزل عن هذه الدرجة حتى إلى كرة الأرض. وكل جزء في كل محيط يقابل ما فوقه وما تحته بذاته لا يزيد واحد عن الآخر شيئًا … والكل ينظر إلى النقطة بذواتهم، والنقطة مع صغرها تنظر إلى كل جزء من المحيط بذاتها. فالمختصر المحيط والمختصر منه النقطة وبالعكس.»٢
وإذا كانت الأفلاك السبعة المتحركة توجد كلُّها في محيط فلك المنازل، وتتلقى علومها بوساطة ملائكته الحجاب عن الولاة الموجودين في الفلك الأقصى، فإن هذه الأفلاك المتحركة تمثل دوائرَ أو أفلاكًا متداخلة تتحرك حول محور فلك الشمس. يحيط بهذا الفلك مما يليه من ناحية الأرض الزهرةُ وعطارد والقمر. والأفلاك التي تحيط بالشمس مما يليها من ناحية فلك المنازل المريخُ والمشتري وزحل. وهذا التصور لمركزية موقع الشمس يتفق فيه ابن عربي مع بطليموس وكل فلكيِّي العصور الوسطى تقريبًا.٣ ولكن هذا الموقع الوسيط للشمس — عند ابن عربي — ليس مجرد تصور فلكي؛ فهي من وجهة نظره تمثل قلب العالم ومحلَّ قطب الأرواح الإنسانية. وهي من زاوية أخرى مصدرُ النور الذي ينعكس منها على الكواكب الأخرى، ويأتي إليها من تجلِّي الله من اسمه «النور» الذي توجه على إيجادها. ومعنى ذلك أن الشمس تمثل موقعًا وسيطًا يقسم عالم الأفلاك السبعة، كما يمثل العرش وسيطًا بين عالم الأمر وعالم الخلق، وكما يمثل العقل الأول وسيطًا بين عالم الخيال المطلق وعالم الأمر. وإذا كانت الأفلاك الأربعة السابقة على عالم الكواكب السابحة — وهي الكرسي والعرش والفلك الأطلس وفلك المنازل — يمكن أن تقابل أفلاك الأثير (النار) والهواء والماء والتراب (الأرض) التالية للكواكب السابحة، فمعنى ذلك أن الأفلاك السبعة السابحة تتوسطها بدورها بين عالم الأفلاك الثابتة وعالم العناصر الطبيعية. ومركزية الشمس أو وسطيتها لهذه الأفلاك المتحركة تسمح لنا بتأكيدِ حِرصِ ابن عربي على فكرة رباعية المراتب في كل عالم من هذه العوالم مع التداخل القائم بينها؛ فالشمس من حيث علاقتها بما يسبقها من الأفلاك المتحركة الثلاثة تمثل من هذا الوجه المرتبةَ الرابعة لها. ومن حيث علاقتها بما يليها من الكواكب من جهة عالم العناصر — وهي الزهرة وعطارد (أو الكاتب) والقمر — تمثل المرتبة الأولى. وتمثل هذه الكواكب المراتبَ الثلاثة، ومجموعها كلها أربعة. ومعنى ذلك أن هذه الكواكب السبعة — من حيث مجموعها — تمثل وحدة وسطية بين الكواكب الثابتة — أو الأفلاك — الأربعة وبين العناصر الأربعة. وهي من حيث تفاصيلها تمثل وحدتين، تمثل الشمس واسطتهما ومركزهما من حيث وظيفتها الطبيعية والروحية معًا. وتمثل باقي الكواكب حولها وظائف طبيعية وروحية مختلفة؛ طبقًا لتباعدها أو قربها عن هذا المركز من جهة، وطبقًا لقربها أو بعدها من عالم الأفلاك الثابتة أو عالم العناصر الطبيعية من جهة أخرى.

١

تمثل الشمس من حيث طبيعتها الروحية قلبَ العالم ومسكن قطب الأرواح الإنسانية. وتمثل من حيث وظيفتها الطبيعية مصدرَ النور لكل الكواكب المحيطة بها، ذلك النور الذي تستمده من تجلي الله لها من اسمه «النور» الذي توجه على إيجادها. وإذا كانت الكواكب الأخرى تمثل طبائعَ مختلفة، فإن «النور الذي فيها وفي سائر السيارة من نور الشمس، وهو الكوكب الأعظم. ونور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجلٍّ دائم لها من اسمه «النور»، فما ثَم نورٌ إلا نور الله الذي هو نور السموات والأرض. فالناس يُضيفون ذلك النور إلى جِرْم الشمس، ولا فرق بين الشمس والكواكب في ذلك إلا أن التجلي للشمس على الدوام. فلهذا لا يذهب نورها إلى زمان تكويرها، فإن ذلك التجلي المثالي النوري يُستتَر عنه في أعين الناظرين بالحجاب الذي بينها وبين أعينهم.»٤
وقد سبقت الإشارة إلى أن اليوم قد وُجِد بحركة الفلك الأطلس، وتعيَّن بحركة الفلك الثابت أو فلك المنازل، وانقسم اليوم إلى ليل ونهار بإيجاد الشمس وحركتها. وعلى هذا يسند ابن عربي إلى الشمس كلَّ ما يحدث في الكون من مولدات ليلًا أو نهارًا، كما يعتبِر أن هذا التقسيم الذي أحدثته حركة الشمس لليوم يمثل تقسيمًا للحكم الإلهي في العالم. وهذا التقسيم يمكن أن يتوازى مع التقسيم الذي حدث للكلمات الإلهية في الكرسي. وإذا كانت الكلمة الإلهية قد انقسمت في الكرسي إلى أمر وحُكم كما سبقت الإشارة، فالحكم هو الذي انقسم عن طريق حركة الشمس، فصار الليل والنهار يتبادلان التأثير فيما يحدث في العالم عن طريق الأركان أو العناصر الأربعة، «وأظهر بحركة كوكبها (الشمس) الليل والنهار، فقسم اليوم، فتقسَّم فيه الحكم الإلهي في العالم، فجعل كل واحد منها أنثى والآخر ذكرًا؛ لإنتاج ما يظهر في الأركان من المولدات. فكل ما ولد وظهر من الآثار عمومًا في الأيام كلها بالنهار، فأمه النهار وأبوه الليل. وما ظهر من ذلك بالليل فأمه الليل وأبوه النهار، فيولج الليل في النهار إذا كان النهار أنثى، ويولج النهار في الليل إذا كان الليل أنثى.»٥ ومعنى ذلك أن الشمس هي علة لكل ما يحدث في عالم الكون من مولدات، وهي علة فاعلة كلية عن طريق العناصر الأربعة التي تمثل العلة الطبيعية. أما باقي الكواكب المحيطة بها فينصبُّ تأثيرها على أفعال خاصة وتأثيرات جزئية كما سنرى.
وتمثل الشمس من الناحية الروحية مكانةً عالية؛ لأنها بمثابة القلب من الأعضاء، ولأنها — من جانب آخر — مسكن قطب الأرواح الإنسانية، إلى جانب كونها أول موجود في عالم الكواكب المتحركة، فهي «قلب العالم وقلب السموات، فأظهر عينها يوم الأحد، وأسكن فيها قطبَ الأرواح الإنسانية، وهو إدريس عليه السلام، وسمى الله هذه الأسماء مكانًا عليًّا لكونها قلبًا، فإن التي فوقها أعلى منها، فأراد علو مكانة المكان، فلهذا المكان رتبةُ العلو.»٦ هذه المكانة الروحية العالية لفلك الشمس ترتدُّ — في جانب منها — إلى طبيعتها النورية التي تمثل مصدر الأنوار للكواكب السيارة الأخرى. وترتدُّ — في جانب وآخر — إلى طبيعة الروح التي تسكنها؛ وهي روح إدريس أو إلياس حيث يخلط ابن عربي بينهما.٧ وإذا كانت الطبيعة النورية للشمس — كما أسلفنا — ليست طبيعة ذاتية كالقلم مثلًا، فمن الطبيعي أن يكون ما تتضمنه طبيعتُها الروحيةُ من علوم ومعارفَ قاصرًا على العلوم والمعارف العقلية دون علوم التجليات والكشف. ويتسق هذا التصور مع تصور ابن عربي لروحانية إدريس أو إلياس.
وتصوُّر ابن عربي — والمتصوفة عامةً — لهذه الشخصية من الوجهة الروحية نابع من تأثيرات غنُّوصية لا شك فيها، أسهب أبو العلا عفيفي في تتبُّع مصادرها وتجلياتها المختلفة في التراث الإسلامي.٨ وتمثل روحانية هذا النبي عند ابن عربي العقلَ الخالص من الشهوات، والمتجردَ من العلائق المادية والأغراض النفسية، «فكان الحق فيه منزَّهًا، فكان على النصف من المعرفة بالله، فإن العقل إذا تجرَّد لنفسه من حيث أخْذُه العلوم عن نظره، كانت معرفته بالله على التنزيه لا على التشبيه.»٩ ومعنى ذلك أن إدريس يمثل نصف المعرفة العقلية لا المعرفة الكلية الشاملة الناتجة عن الكشف. وهذه المعرفة النظرية العقلية لا تصل إلى أكثرَ من التنزيه، أما المعرفة الكاملة فتصل إلى التنزيه في التشبيه والتشبيه في التنزيه دون الوقوف عند أحد الجانبين. وهذه المعرفة الكاملة لا يصل إليها العقل من حيث نظره، وإنما يصل إليها بالتجلي الإلهي، حيث يتحول العقل إلى مجرد قابل سلبي، «وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله، فنزَّه في موضع وشبَّه في موضع، ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عيني الحق عينها. وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله.»١٠ ويتسق هذا التصور لنصف المعرفة التي تمثلها روحانيةُ إدريس مع الطبيعة النورية — غير الذاتية والدائمة — للشمس بحكم موقعها الوجودي. وإذا كان العقل الأول يمثل العلوم والمعرفة الكلية بحكم موقعه الوجودي، فإن هذه لمعرفة الكلية هي المعرفة المحمدية التي تتجلى على قلب العارفين المحمديين. ولذلك فمن الطبيعي أن يقرن ابن عربي بين فلك الشمس والنظر العقلي؛١١ لأن إدريس لم يصل «إلى التوحيد الذاتي المحمدي بالانسلاخ عن جميع صفات الغيرية، والانطماس في عين الذات الأحدية.»١٢

٢

إذا كان فلك الشمس يمثل — من الوجهة الطبيعية — الفلك المؤثر في عالم العناصر والمولدات، فإن الأفلاك الأخرى تتحدد وظيفتها الطبيعية — وكذلك الروحية — طبقًا لقربها أو بُعدها عن هذا المركز الوسيط من جهة، وقربها أو بُعدها من عالم الكواكب الثابتة أو عالم العناصر من جهة أخرى. وبين الشمس والأفلاك الثابتة نجد على الترتيب بدءًا من الشمس كوكب المريخ وكوكب المشتري وكوكب زحل، أو السموات الثالثة والثانية والأولى. وسنحلل هنا الجوانب الطبيعية والروحية على الترتيب حسَب قُربها من مركز الشمس.

وأقرب هذه الكواكب إلى الشمس هو كوكب المريخ أو السماء الثالثة الذي توجه على إيجاده الاسمُ الإلهي «القاهر». ومن هذا الاسم يكتسب هذا الكوكبُ طبيعةَ التأثيرات التي يسببها في عالم المولدات. ومن الناحية الروحية فهو مسكن هارون، فالاسم الإلهي «القاهر» «توجه على إيجاد السماء الثالثة فأظهر عينها وكوكبها وفلكه، وجعلها مسكن هارون عليه السلام. وبهذا الاسم أوحى فيها أمرها، وكان كوكبها حركة فلكه في … يوم الثلاثاء.

فمن الأمر الموحى فيها إهراقُ الدماء والحميات. وعن حركة هذا الفلك ظهر حرف اللام من الحروف اللفظية.»١٣ فطبيعة هذا الكوكب وتأثيراته في عالم المولدات من الأمور التي أوحاها الاسم الإلهي «القاهر». والعلوم التي ينسُبها ابن عربي لهذا الكوكب وإلى اليوم الذي وُجدت حركته فيه — يوم الثلاثاء — علوم تَنبَع أيضًا من طبيعة الاسم الإلهي والأمور التي يوحيها. هذه العلوم هي «علم تدبير الملك وسياسته، وعلم الحمية والحماية وترتيب الجيوش والقتال ومكايد الحرب، وعلم القرابين وذبح الحيوان، وعلم أسرار أيام النحر وسريانه في سائر البقاع، وعلم الهدى والضلال، وتميُّز الشبهة من الدليل.»١٤ ولكن ما علاقة هذا كله بروحانية هارون؟
يمثل هارون بين أنبياء بني إسرائيل ورسلهم نائبًا لموسى ومساعدًا له وعَضُدًا كما جاء في القرآن. وحين ترك موسى بني إسرائيل في رعايته حين ذهب لميقات ربه، استطاع السامري أن يُعيدهم إلى الوثنية، وجعلهم يقدِّمون القرابين إلى العجل الذي صنعه لهم. ويمثل هذا الحادث من جانب بني إسرائيل خروجًا على طاعة نائب نبيهم، كما يمثل — من جانب هارون — عدمَ قدرة على سياستهم وردِّهم إلى جادَّة الحق والصواب؛ بحكم لينه الناتج عن كِبَر سِنه وشيخوخته. ولعل ذلك ما يبرر — على الأقل في نظر ابن عربي — الربط بين روحانية هارون والعلوم التي يتضمنها الفلك الذي يسكن فيه، فقد أخذت الصاعقة بني إسرائيل، وأوشك الله أن يعذبهم بهذا الذنب عذابًا شديدًا لولا توبةُ موسى وتوبتهم. وإذا كان موسى استطاع أن يَسوس بني إسرائيل وأن يعيدهم إلى عبادة الله الحق، فإن هارون لم يكن قادرًا على ذلك بحكم لينه ورحمته.١٥ وهناك — في نظر ابن عربي — فارق آخر بين هارون وموسى غيرُ القدرة على سياسة القوم؛ هو نقص علم هارون عن علم موسى؛ خاصةً فيما يتصل بتوجه بني إسرائيل على عبادة العجل، فقد علم موسى «ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى ألا يُعْبَد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع. فكان عَتْب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه. فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء. فكان موسى يربِّي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن.»١٦ والعلة وراء جهل هارون وعلم موسى أن موسى عَلِم الحقيقة المطلقة الشاملة بتجلِّي الله في كل الصور، كما علم أن ما فعله قومه — في حقيقته — هو أنهم عبدوا الله في صورة من الصور؛ لأن الله حكم — أزلًا — ألا يُعبَد إلا إيَّاه. أما عدم علم هارون فهو راجع إلى «عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يديه. فلو نظر فيها نظرةَ تثبُّت لوجد فيها الهدى والرحمة. فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما هو — هارون — بريء منه.»١٧ ونتيجة لعدم التثبت هذا وما أنتجه من نقص العلم عند هارون، يقرن ابن عربي بين فلك الشمس والشك.١٨ ومن ناحية أخرى فهو يقرن بين موسى والعلم، ويجعل روح موسى هي التي تسكن الفلك التالي فلكَ المشتري، وهو الفلك الوسيط بين المريخ وزحل. ويربط بين فلك المشتري والعلم كما سنرى.

٣

توجه على إيجاد فلك المشتري — أو السماء الثانية — الإلهيُّ «العليم»، وله من الحروف حرف الضاد المعجمة، ومن الأيام يوم الخميس.١٩ ويقول ابن عربي عن وظيفة هذا الفلك الطبيعية والمعرفية: «وكلُّ أمر علمي يكون في يوم الخميس فمِن روحانية موسى عليه السلام، وكل أثر عُلوي في ركن النار والهواء فمن سباحة المشتري، وكل أثر سُفلي في عنصر الماء والتراب فمن حركة فلكه … ومما يحصل من العلوم في هذا اليوم وفي ساعاته من الأيام علمُ النبات والنواميس وعلم أسباب الخير ومكارم الأخلاق وعلم القربات وعلم قَبول الأعمال وأين ينتهي بصاحبها.»٢٠
وآخر هذه الأفلاك مما يلي فلكَ الكواكب الثابتة فلكُ زحل أو كيوان أو السماء الأولى، وهو الفلك الذي تسكن فيه روحانية إبراهيم عليه السلام. وقد توجه على إيجاد هذا الفلك الاسمُ الإلهي «الرب»، وله من حروف اللغة حرف الياء، «وما يكون فيه من أثر علوي في ركن النار والهواء فمن حركة كوكب كيوان في فلكه. وما كان من أثر في العالم السفلي في ركن الماء والأرض فمن حركة فلكه … ومما يحصل له من العلوم في هذا اليوم (السبت) وفي ساعاته من باقي الأيام ليلًا ونهارًا؛ علمُ الثبات والتمكين وعلم الدوام والبقاء.»٢١ وبسبب قرب هذا الفلك من فلك الكواكب الثابتة الذي توجد الجنة في سطحه، والنارُ في قعره، كما سبقت الإشارة، توجَّه الاسم الإلهي «الرب» أيضًا على إيجاد البيت المعمور والسِّدرة. والاسم الإلهي «الله» أعطى للسدرة خضرتها، كما أعطى الاسم «الرحمن» لهذه السدرة وللجنة رائحتها من النفَس الرحماني. أما النار وشجرة الزقُّوم فهما أيضًا من الاسم الإلهي «الله»، وابن عربي يعتبر أن السدرة هي الأصل والزقوم هي الثمر، ومن ثَم يتعامل معهما باعتبارهما جانبين لشجرة واحدة، فالاسم الله «أعطى السدرة نَبْعَتها وخضرتها نورها منه ومن الاسم الله. وأعطى الرحمن من نفَسه عَرْفها كما قال في الجنة «عَرَّفها لهم»؛ يعني: بالنفس، مِن العَرف وهي الرائحة. ومن الاسم الله أصولها وزقومها لأهل جهنم. وقد جلَّل الله هذه السدرة بنور الهوية، فلا تصل عين إلى مشاهدتها فتحدُّها أو تصفُها.»٢٢
وربما يرجع اختصاص هذا الفلك بعلوم الثبات والتمكين والدوام والبقاء إلى ما ينسُبه ابن عربي لشخصية إبراهيم من تصديق الرؤيا ذبْحَ ولده تصديقًا حرفيًّا، دون أن يكون قادرًا على تفسيرها وعبورها إلى حقيقتها التي ترمز إليها. ويرى ابن عربي أن الحلم الخيالي يُفسد الحقيقة؛ لأنه يعبر عنها بطريقة رمزية تحتاج إلى عبور الرمز إلى المرموز إليه. ويرى أن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده في الحلم في حقيقة معناها هي ذبح الكبش، ولكن الكبش — في الحلم — تمثَّل في صورة إسحق. وكان من الواجب على إبراهيم أن يؤول الحلم إلى حقيقته التي آل إليها بالفعل بعد ذلك. ولكن إبراهيم لم يؤول الحلم وأخذه على الظاهر، ولذلك ناداه الله: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، وما قاله له: صَدَقت في الرؤيا أنه ابنُك؛ لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير.»٢٣ ومن الطبيعي بعد ذلك أن يقرن ابن عربي بين فلك زحل أو كيوان والجهل،٢٤ والمقصود بالجهل — هنا — بالطبع الجهلُ بالحقائق الباطنية للأشياء ورموزها الخفية. والعلوم التي تنفي هذا الجهل هي علوم التمكين والثبات والدوام والبقاء، وهي علوم الكشف والتجلي التي تنفُذ من خلال الصور المتغيرة المتلونة الفانية إلى حقائقها الثابتة الدائمة الباقية.
وإذا انتقلنا إلى الأفلاك الثلاثة الأخرى التي تتوسَّط بين الشمس والأرض، وجدناها تترتب — أيضًا — ترتيبًا وجوديًّا ومعرفيًّا حسَبَ قربها من الشمس أو بعدها عنها. الفلك الأول من هذه الأفلاك هو الزهرة أو السماء الخامسة. وقد توجه على إيجاده الاسمُ الإلهي «المصوِّر»، وأوحى فيها إظهار صور الأرواح والأجسام والعلوم في العالم العنصري. واختصت بالأثر الكامل بطريق التولية بيوم الجمعة. وأسكن فيها يوسف عليه السلام، وعنها ظهر حرف الراء.٢٥ فهذا الفلك يختص من الناحية الطبيعية بإظهار الصور؛ صور الأرواح والأجسام معًا، بل وصور العلوم أيضًا في العالم العنصري، أي: إن وظيفته تقترب من الحسية بحكم أنه في الجانب الذي يلي الشمسَ من ناحية الأرض. وهذا التصور يتسق مع الاسم الإلهي الذي توجه على إيجاد هذا الكوكب. ومن الطبيعي أن تكون العلوم التي يهبها هذا الكوكب «علم التصوير في حضرة الجمال والأنس وعلم الأحوال».٢٦ وهذا يتسق — بدوره — مع الاسم الإلهي «المصوِّر» من جهة، ومع روحانية يوسف من جهة أخرى. والحق أن شخصية يوسف كما تُصورها سورتُه تكشف عن الجانبين: الجمال والقدرة على تأويل الأحلام والنفاذ إلى معناها الباطن. وكثيرًا ما يربط ابن عربي بين علوم الأحوال والأحلام والخيال. ويلعب الحلم — فوق ذلك — في قصة يوسف دورًا هامًّا؛ حيث تبدأ به القصة وتنتهي بتحققه؛ الأمر الذي يعطي ابن عربي الفرصة ليَصوغ نظريته في الخيال من خلال هذه القصة وقصة إبراهيم، كما سبقت الإشارة.٢٧
الفلك الثاني الذي يلي الشمس من جهة الأرض هو فلك عطارد أو الكاتب أو السماء السادسة. وقد توجه على إيجاد هذا الفلكِ الاسمُ الإلهي «المحصي» يوم الأربعاء، «وأسكن فيه عيسى عليه السلام. فكل ما ظهر في يوم الأربعاء في العالم العنصري من الآثار الحسية والمعنوية، وما يحصل للعارفين في قلوبهم من ذلك، فمِن وحي هذه السماء. ومنها ظهر حرف الطاء المهملة.»٢٨ وآثار هذا الفلك بالمقارنة بآثار الفلك الذي يسبقه تتسم بدرجة أكبرَ من الحسية. وعلى ذلك فالعلوم التي يتضمنها هذا الفلك — بدورها — تجمع علومًا عملية إلى جانب العلوم النظرية. هذه العلوم هي: «علم الأوهام والإلهام والوحي والآراء والأقيسة والرؤيا والعبارة والاختراع الصناعي والعطردة، وعلم الغلط الذي يَعلَق بعين الفهم، وعلم التعاليم، وعلم الكتابة والآداب، والزجر، والكهانة، والسحر، والطِّلَّسْمات والعزائم.»٢٩ والعلاقة بين هذا الفلك وروحانية عيسى أن الخلاف بين الناس حول عيسى راجع إلى الأوهام التي يتوهمها الناس فيه؛ فقد نسبه بعض الناس إلى الروحانية بسبب النفخة الجبريلية، ونسبه آخرون إلى الألوهة بحكم إحياء الموتى، ونسبه غيرهم إلى الإنسانية بحكم ولادته من مريم. فتعددت فيه الأوهام والأقيسة، ونزع الناس إلى الخطأ في تصوره؛ «فتارةً يكون الحق فيه متوهَّمًا — اسم مفعول — وتارةً يكون الملك فيه متوهمًا، وتارةً تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة، فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه، فهو كلمة الله وروح الله، وهو عبد الله، وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره.»٣٠ ومن الطبيعي — بعد ذلك — أن يقرن ابن عربي بين هذا الفلك والظن؛٣١ بحكم الظنون المختلفة التي ارتبطت بشخصية عيسى. وقد كان خطأ المسيحيين — فيما يرى ابن عربي — أنهم جمعوا بين نسبتين في قولهم: «إن الله هو المسيح ابن مريم.» ولو فرَّقوا بين هاتين النسبتين؛ نسبته إلى مريم من حيث الولادة، ونسبته إلى الله من حيث المجلى — كما يفرِّق ابن عربي — لَمَا كفروا؛ «والكفر في تمام الكلام كله؛ لأنه لا بقولهم: هو الله، ولا بقولهم: ابن مريم.»٣٢
أمَّا الفلك الأخير، فلك القمر أو السماء السابعة، فهو الذي يلي الأرض مباشرة. وقد توجه على إيجاد هذا الفلك الاسمُ الإلهي «المبين» يوم الاثنين، ويقابله من حروف اللغة حرف الدال المهملة، «وله كل حكم يظهر في العالم يوم الاثنين روحًا وجسمًا.»٣٣ وإذا كانت الأفلاك السابقة قد تدرَّجت من الصوَر إلى الحسية في تأثيرها في عالم الأركان، فإن هذا الفلك يتجاوز الحسية إلى الجسمية. وإذا كان آدم يمثل — كما أشرنا — من حيث طبيعته العنصريةُ أصلَ الأجسام الإنسانية، فمن الطبيعي أن تسكن هذا الفلك روحانيةُ آدم عليه السلام. ومن الطبيعي كذلك أن تكون العلوم التي يهبها هذا الكوكب «علم السعادة والشقاء وعلم الأسماء وما لها من خواص، وعلم المد والجزر والربو والنقص.»٣٤ والإشارة إلى علم الأسماء وخواصها ترجع إلى جمعية آدم للأسماء الإلهية من جهة، وعِلمِه الذي أخذه عن الله بهذه الأسماء من جهة أخرى. أما علوم السعادة والشقاء فترجع إلى مرتبة آدم باعتباره خليفةً حمَل الأمانة التي أشفقت منها السمواتُ والأرض والجبال؛ وهي أمانة التكاليف الشرعية التي تؤدي بالمكلَّف إمَّا إلى السعادة بالطاعة أو إلى الشقاء بالمخالفة. ويمكن أن نرد علوم المد والجزر والزيادة والنقص إلى القابلية الإنسانية — التي يمثلها آدم — للزيادة من العلم أو النقص منه حسَب علوِّ نفسه وهمَّته التي قد تصل به إلى الكمال؛ فيحقق الصورة الإلهية على الكمال، أو قد تصل به إلى الخسة والدُّونية فيصير إنسانًا حيوانًا. ومن الطبيعي — بعد ذلك — أن يربط ابن عربي بين هذا الفلك والإيمان.٣٥

٤

وليست حركة هذه الأفلاك السبعة جميعها بكل ما تنتجه من آثار طبيعية وعلمية، وما يسكن فيها من أرواح الأنبياء، وما نتج عن حركتها من أيام الأسبوع السبعة؛ إلا تجلياتٍ وآثارًا للأسماء الإلهية أو الصفات السبع؛ وهي الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام، «والصفات سبع لا تزيد على ذلك، فلم يتمكن أن يَزيد الدهرَ على سبعة أيام يومًا، فإنه ما ثَم ما يوجبه، فعاد الحكم إلى الصفة الأولى فأدارته ومشى عليه الاسم الأحد، وكان الأَولى بالنظر إلى الدورات أن تكون ثامنة، لكن لمَّا كان وجودها عن الصفة الأولى عينِها لم يتغير عليه اسمها. وهكذا الدورة التي تليها؛ إلى سبع دورات، ثم يبتدئ الحكم كما كان أول مرة عن تلك الصفة، ويتبعها ذلك الاسم أبدَ الآبدين دنيَا وآخرةً بحكم العزيز العليم. فيوم الأحد عن صفة السمع؛ فلهذا ما في العالم إلا من يسمع الأمر الإلهي في حال عدمه بقوله: «كن.» ويوم الاثنين وُجدت حركته عن صفة الحياة، وبه كانت الحياة في العالم، فما في العالم جزء إلا وهو حي. ويوم الثلاثاء وُجدت حركته عن صفة البصر، فما في العالم جزء إلا وهو يشاهد خالقَه من حيث عينُه لا من حيث عين خالقه. ويوم الأربعاء وُجدت حركته عن صفة الإرادة، فما في العالم جزء إلا وهو يقصد تعظيم موجِده. ويوم الخميس وُجدت حركته عن صفة القدرة، فما في الوجود جزء إلا وهو متمكن من الثناء على موجِده. ويوم الجمعة وُجدت حركته عن صفة العلم، فما في العالم جزء إلا وهو يعلم موجِدَه من حيث ذاته لا من حيث ذات موجده. وقيل إنما وجد عن صفة العلم يوم الأربعاء، وهو صحيح، فإنه أراد علم العين وهو علم المشاهدة، والذي أردناه نحن إنما هو العلم الإلهي مطلقًا لا العلم المستفاد. وهذا القول الذي حكيناه أنه قيل ما قاله لي أحد من البشر، بل قاله لي روح من الأرواح، فأجبته بهذا الجواب فتوقف. فأُلقي عليه الأمر كما ذكرناه. ويوم السبت وجدت حركته عن صفة الكلام، فما في الوجود جزء إلا ويسبِّح بحمد خالقه، ولكن لا نفقه تسبيحه.»٣٦ وهذا التوازي بين الصفات السبع والأيام السبع وما تنتجه حركة الأفلاك السبعة من تأثيرات طبيعية وعلمية؛ لا يتناقض مع كون كل كوكب من هذه الكواكب قد توجه به اسمٌ إلهي خاص، فالتداخل في توجهات الأسماء على كون واحد أو ظاهرة واحدة أمرٌ طبيعي في فكر ابن عربي، طالما أن للشيء الواحد نسبًا متعددة وإضافاتٍ مختلفةً وجوانبَ متكثرة.

وهذا التوازي — من جانب آخر — يؤكد أن هذه التدرجات الكونية الوجودية، ليست تدرُّجاتٍ زمانيةً أو مكانية. وترتيب هذه التدرجات — كما أشرنا سالفًا — هو مجرد ترتيب عقلي ذهني محض. وفيما يرتبط بترتيب الكواكب السبعة السيارة وما يسبقها من الأفلاك الثابتة، نرى ابن عربي — في كتابه الفتوحات — يرتبها ترتيبًا تنازليًّا؛ بدءًا من العرش والكرسي والفلك الأطلس وفلك الكواكب الثابتة، مرورًا بالسماء الأولى، وانتهاءً بالسماء السابعة، ولكنه في كتاب «عقلة المستوفز» يرتبها ترتيبًا عكسيًّا؛ بادئًا بكرة الأرض، وهي التراب، ثم كرة الماء والهواء والأثير. ويُتبع ذلك بفلك القمر معتبرًا إياه السماءَ الأولى، ومنتهيًا بفلك زحل معتبرًا إياه السماءَ السابعة. ويعلل ابن عربي هذا الترتيب الأخير على أساسين:

  • الأساس الأول: أن الأرض هي «المقصودة من بين سائر الأركان، وفيها ينزل الخليفة، وعليها ينزل الأمر الإلهي.»٣٧ وعلى هذا الأساس يُخطِّئ الفلاسفةَ لتخيُّلهم «أن الأفلاك السماوية مخلوقة قبل الأرض، وأنه يتنزل الخلق إلى أن ينتهي إلى الأرض، فأخطئوا في ذلك غاية الخطأ.»٣٨ ولا يعني ابن عربي بذلك أنه يذهب إلى أن الأرض خُلقت قبل الأفلاك، فابن عربي يفكر الخلق بمعنى الإيجاد من العدم في مراحلَ زمانيةٍ متتالية. والخلق عنده تمثُّل خيالي في صور أعيان الممكنات، ناتجٌ عن التجليات الإلهية كما أسلفنا. ومعنى ذلك أن خلق الكواكب عنده معناه «أن الله هيَّأ فيها مراتب خلقها، وكوَّن فيها أجسامها النورانية وأعدَّها لقَبول الأرواح والحياة. وأسرار هذه الاستعدادات كلها في حركات الأفلاك الأربعة الثابتة.»٣٩
  • والأساس الثاني: هو أن العناصر الأربعة، وهي التراب والماء والهواء والنار، هي الطبائع الأصلية التي تشكَّلت منها أجسام هذه الكواكب — لا أرواحها — باعتبار وجودها العنصري المادي. ولذلك يسهب في وصف الطبائع العنصرية لهذه الأفلاك السبعة، وتنافُر كل فلك — من حيث هذه الطبيعة العنصرية — مع ما يحيط به من الأفلاك؛ الأمر الذي يحفظ على كل منها استمرارَ الوجود والحركة.٤٠ ومعنى ذلك أن الترتيب أمر اعتباري لا وجودي حقيقي؛ إذ إن كل هذه المراتب تعيُّنات في النفَس الإلهي — العماء — يعطيها ترتيبًا خاصًّا. وهذا الترتيب — من جانب آخر — يمكن أن ينعكس طبقًا للأسباب الطبيعية أو الروحية التي تتوجه على إيجاد هذه المراتب. والأمر كله — في الحقيقة — واحد لا ترتيب فيه أو تدرُّج بالمعنى الزماني أو المكاني.

وإذا كان ابن عربي — على المستوى الروحي — يرتب الوجود في ثلاثة أقسام:

هي عالم الملكوت أو الغيب، وعالم الملك أو الشهادة، وعالم الجبروت أو البرزخ، فإن عالم الشهادة بدوره عالم — في حقيقته وباطنه — روحي. فالملائكة التي تسكن في كل مرتبة من مراتب عالم الشهادة، بدءًا من العرش وانتهاءً إلى كرة التراب، وهي الأرض، هي القوى المدبرة لمراتب هذا الوجود والفاعلةُ فيه على الحقيقة. هناك الخواص في عالم القلم واللوح، وهناك الولاة الاثنى عشر في الفلك الأطلس، وهناك الحُجَّاب الثمانية والعشرون في فلك المنازل، وهناك النواب أو النقباء في الأفلاك السبعة المتحركة. ولا يقتصر العالم الروحي عند ابن عربي على هؤلاء الخواص والولاة والحجاب والنواب، فالأرض تسكنها ملائكة تسمى «الناشرات». وكرة الماء تسكنها ملائكة يقال لها «الساريات»،٤١ وتسكن كرةَ الهواء ملائكةٌ تسمى «الزاجرات». وفي كرة النار تسكن الملائكة «السابقات». ولا تسكن الملائكة هذه الأفلاك فقط، بل بين كل فلك وفلك من الأفلاك العنصرية يسكن فريق من الملائكة لهم وظائفهم الخاصة؛ فبين فلك التراب — الأرض — وفلك الماء خلق الله العالم الملكيَّ الذي هو عالم الذكر، فلهم شركة في الماء والأرض. وبين الماء والهواء هناك ملائكة عالم الحياة. وبين كرة الأثير والسماء الدنيا أو فلك القمر عالم الخوف من الملائكة. ويستمر ابن عربي في تَعداد أصناف الملائكة التي تملأ السماء الأولى والثانية والثالثة حتى الفلك الأقصى؛ علاوةً على ما ذكرناه منهم من النواب والحجاب والولاة والخواص.٤٢

وهذا الوصف التفصيلي للأرواح والملائكة التي تملأ كل العوالم، من عالم الخيال المطلق إلى كرة الأرض، وما بين هذه العوالم أيضًا؛ هو الذي يمكِّن ابن عربي من الربط الروحي بين العوالم إلى جانب الرباط الطبيعي. وإذا كان العالم كله بتعيُّناته ومراتبه المختلفة، ليس إلا صورًا متعددة لحقيقة واحدة باطنة، فإن لكل صورة على انفرادها باطنَها الروحي الذي يمثل — بدوره — تجليًا لهذه الحقيقة. وإذا كان كل ما يحدث في العالم، مِن تغير واستحالة وتولُّد، يمكن رده إلى عوامل طبيعية مؤثرة فاعلة، فإن هذه العوامل الطبيعية — بدورها — ليست إلا ثمرة وانفعالًا لحقائق روحية. وهكذا يستطيع ابن عربي أن يجمع بين الظاهر والباطن في هذا العالم المحسوس، وبين هذا العالم بباطنه وظاهره وعالم الأمر أو عالم العقول الكلية، كما ربط بين عالم الأمر وعالم الخيال المطلق.

إن للمملكة الإلهية — إلى جوانب الخواص الولاة والحجاب والنواب — جيشها المسخر لخدمة هذه المملكة. وهم الملائكة الذين يملئون الكون كله من أعلاه إلى أدناه. إن الملائكة الكروبيين المهيَّمين السابحين في النفَس الإلهي — العماء — لا يدرون عن العالم شيئًا. أما الملائكة المسخَّرون فهم المسئولون عن إدارة شئون العالم تحت إمرة الخواص والولاة والحجاب والنقباء، «ولمَّا جعل الله زمام هذه الأمور بأيدي هؤلاء الجماعة من الملائكة، وأقعد منهم مَن في برجه ومسكنه الذي فيه تختُ مُلْكِه، وأنزل من أنزل من الحُجاب والنقباء إلى منازلهم في سمواتهم، وجعل في كل سماء ملائكةً مسخرة تحت أيدي هؤلاء الولاة، وجعل تسخيرهم على طبقات؛ فمنهم أهل العروج بالليل والنهار من الحق إلينا، ومنا إلى الحق، في كل صباح ومساء، وما يقولون إلا خيرًا في حقنا. ومنهم المستغفرون لمن في الأرض، ومنهم المستغفرون للمؤمنين لغلبة الغيرة الإلهية عليهم، كما غلبت الرحمة على المستغفرين لمن في الأرض، ومنهم الموكَّلون بالأرحام، ومنهم الموكلون بالأمطار؛ ولذلك قالوا: «وما منا إلا له مقام معلوم.» وما من حادث يُحدِث الله في العالم إلا وقد وكَّل بإجرائه ملائكة، ولكن بأمر هؤلاء الولاة من الملائكة. كما منهم أيضًا الصافَّات والزاجرات والتاليات والمقسِّمات والمرسَلات والناشرات والنازعات والناشطات والسابقات والسابحات والملقيات والمدبِّرات. ومع هذا فلا يزالون تحت سلطان هؤلاء الولاة، إلا الأرواح المهيَّمة فهم خصائص الله، ومن دونهم فإنهم يُنفِذون أوامر الله في خلقه.»٤٣

إن الغاية من وراء هذا التصور الروحي الحي للعالم وجوديةٌ ومعرفية معًا. تتمثل الغاية الوجودية في رغبة ابن عربي الدائمة في نفي أيِّ تعدد أو كثرة، ورغبتِه في نفس الوقت في التسليم بالكثرة المشهودة والمدرَكة بالحواس. ومع التسليم بهذه الكثرة، فإن هذا التصور الروحي الحي يردُّها لوحدة باطنة. أما الغاية المعرفية فهي الانتهاء إلى الإنسان آخِرِ الموجودات، والذي تجتمع فيه كلُّ حقائق الوجود ومراتبه؛ بدءًا من الألوهة لخلقه على الصورة، وانتهاءً بالعالم الطبيعي الذي تجتمع حقائقُه كلها في هذا الإنسان. ولذلك يطلق ابن عربي — والصوفية عامَّةً — على الإنسان اسم الجامع أو الكون الصغير، كما يطلقون على العالم اسم الإنسان الكبير. وإذا كان كل كون من الأكوان تتوقف معرفته على علته المباشرة، وعلى الاسم الإلهي الذي توجه على إيجاده من وراء حجاب السبب والعلة، فإن الإنسان بحُكم جمعيته الكونية وُجِد عن علل كثيرة، وبحكم صورته وُجد على الصورة الإلهية، وجمع بين حقائق الأسماء. وهذان الجانبان يمثلان وجهين متعارضين في طريق المعرفة الإنسانية، فالإنسان قادر — بحكم حقيقته — على الوصول للمعرفة الحقة، ولكنه عاجز — بحكم كونيته — عن الوصول لهذه الحقيقة بسبب الحُجُب الكثيرة. ولا يمكن حل هذا التعارض إلا باختراق هذه الحُجب حجابًا وراء حجاب، واختراق هذه الحجب يعني القيام برحلة شاقَّة — هي الطريقة أو المعراج الصوفي — للوصول إلى الحقيقة الكامنة الموجودة بالفعل داخل الإنسان.

وإذا كانت هذه الحجب — في حقيقتها — حُجبًا خيالية ناتجة عن التمثل الإلهي والتجليات المختلفة، فالإنسان وحده هو الذي يمتلك تلك الطاقة الخيالية، التي هي جزء من الخيال المطلق، القادرة بدورها على النفاذ من خلال هذه الحجب والاتصال بعالمها الأصلي. وإذا كانت الغاية من التمثل الإلهي في الخيال المطلق أن الحق أراد أن يُعرَف، والإرادة حب وشوق؛ فإن الباعث الأول للإنسان يجب أن يكون حبًّا للمعرفة. وحين ينجح الإنسان في اختراق هذه الحُجب الخيالية بخياله المتصل من خلال الجهد الشاق والمضني؛ للتخلص من الأكوان المتداخلة فيه، فإنه يصل إلى حقيقته الباطنة، ويعرف نفسه فيعرف الحق. وبذلك تتحقق الإرادة الإلهية من التمثل الإلهي في الخيال، وهي المعرفة، ويعود آخر الدائرة إلى أولها فيرتدُّ كل شيء إلى الحق.

والرحلة الخيالية التي يقوم بها الخيال المتصل الإنساني للوصول إلى الحقيقة؛ هي في حقيقتها رحلة تأويلية، تردُّ كل ظاهر إلى باطنه، وتنفُذ من الكثرة إلى وحدتها الحقيقية، وتخترق الصور إلى حقائقها الروحية. وحين يصل الصوفي إلى الحقيقة يفهم الشريعة فهمًا أعمق؛ لأنه يفهم باطنها الحقيقي، ويصبح من ثَم قادرًا على النفاذ إلى مستويات النص نفاذًا لا يستطيعه غيره. وستكون كل هذه القضايا محور اهتمامنا فيما يلي من فصول.

١  انظر: عقلة المستوفز  ٥٠، ٨٣.
٢  الفتوحات ١ / ١٥٤.
٣  انظر: تيتس بورخارت، الفلكية الصوفية عند ابن عربي  ١٦.
٤  الفتوحات ٣ / ٤٣٧.
٥  الفتوحات ٢ / ٤٤٥.
٦  الفتوحات ٢ / ٤٤٥. وانظر تفرقة ابن عربي بين علو المكان وعلو المكانة في: فصوص الحكم «الفص الإدريسي» ص٧٥–٨٠.
٧  انظر: الفصوص  ١٨١.
٨  انظر: التعليقات على الفصوص  ٤٤-٤٥، ٢٥٧-٢٥٨.
٩  الفصوص  ١٨١. وانظر أيضًا شرح القاشاني على النصوص ٧٣-٧٤، ٢٧٧.
١٠  فصوص الحكم  ١٨١.
١١  انظر: تنزل الأملاك  ٥٠.
١٢  القاشاني، شرح الفصوص  ٧٤.
١٣  الفتوحات ٢ / ٤٤٥.
١٤  الفتوحات ١ / ١٥٥.
١٥  انظر تفاصيل القصة في: القرآن الكريم، الأعراف  ١٤٨–١٥٥، وطه  ٨٣–٩٧.
١٦  فصوص الحكم  ١٩٢.
١٧  فصوص الحكم  ١٩١.
١٨  انظر: تنزل الأملاك  ٥٠.
١٩  انظر: الفتوحات ٢ / ٤٤٤.
٢٠  الفتوحات ١ / ١٥٥.
٢١  الفتوحات ١ / ١٥٦.
٢٢  الفتوحات ٢ / ٤٤٢.
٢٣  فصوص الحكم  ٨٥-٨٦.
٢٤  تنزل الأملاك  ٥٠.
٢٥  الفتوحات ٢ / ٤٤٥.
٢٦  الفتوحات ١ / ١٥٦.
٢٧  انظر: فصوص الحكم  ٩٩ وما بعدها.
٢٨  الفتوحات ٢ / ٤٤٥.
٢٩  الفتوحات ١ / ١٥٥.
٣٠  فصوص الحكم  ١٤٢.
٣١  انظر: تنزل الأملاك  ٥٠.
٣٢  فصوص الحكم  ١٤١.
٣٣  الفتوحات ٢ / ٤٤٥.
٣٤  الفتوحات ١ / ١٥٥.
٣٥  انظر: تنزل الأملاك  ٥٠.
٣٦  الفتوحات ٢ / ٤٣٨.
٣٧  عقلة المستوفز  ٧٦.
٣٨  عقلة المستوفز  ٧٦.
٣٩  عقلة المستوفز  ٧٦.
٤٠  انظر: السابق  ٧٨-٧٩.
٤١  انظر: عقلة المستوفز  ٧٢، ٧٦.
٤٢  عقلة المستوفز  ٧٦–٧٨.
٤٣  الفتوحات ١ / ٢٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤