الفصل الأول

الإنسان والعالم

(١) الإنسان والعالم (مقارنة عامة)

يطول بنا تتبُّع الموازاة الدقيقة والتفصيلية التي يقيمها ابن عربي بين الإنسان والعالم،١ ويكفينا هنا إبرازُ جوانب التشابه العامة. فالإنسان آخِر مراتب الوجود وأرقاها من حيث المجلى في نفس الوقت. وليست الآخِرية هنا آخرية بالزمان؛ إذ لا مدخل للزمان في تصور ابن عربي الدائري للكون. والمقصود بالآخرية اجتماع كل حقائق الكون في هذا الموجود، واكتمالُ دائرة الوجود. وإذا كان العقل الأول (القلم) يمثل المبدع الأول في العماء وأولَ مراتب الوجود، فالإنسان يمثل آخر هذه المراتب من الناحية الوجودية، وبوجود الإنسان اكتملت مراتب الوجود واكتملت الدائرة؛ «أول ما خلق الله العقل، فهو أول الأجناس. وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فكملت الدائرة، وما بين طرفي الدائرة جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضًا وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر.»٢
إن هذا التصور الدائري للوجود يجب أن ينفي عن أذهاننا مفهومَ الآخرية الزمانية، فالإنسان والعقل يمثلان طرفي دائرة الوجود. ويجب أن تُفهَم الآخريةُ هنا على أساس الزاوية التي ننظر من خلالها إلى الإنسان، وهي زاوية الكون أو العالم في هذه الحالة. وعلى العكس من ذلك إذا نظرنا للإنسان من زاوية الألوهة يمكن لنا أن نصفه مع ابن عربي بأنه أول في الوجود؛ «فهو الأول بالمرتبة والآخِر بالوجود، فالإنسان من حيث رتبته أقدم (منه) من حيث جسميته.»٣ إن الْتقاء طرفي الوجود — الإنسان والقلم — في دائرة يسمح لنا أن نغيِّر صفة أي نقطة على الدائرة بناءً على النقطة التي نبدأ منها تتبُّعَ سائر النقاط على المحيط.
وكما أمكن وصف الإنسان بالأولية والآخرية، يمكن لنا كذلك وصفه بالظاهر والباطن، وهما كذلك صفتان متعارضتان. ترتبط صفة الباطن بأولية الإنسان الروحية، وترتبط صفة الظاهر بآخريته الكونية، فهو باطن من حيث إن الأسماء الإلهية توجهت على إيجاده، فهي باطنة فيه، وهو ظاهر من حيث ظهور حقائق الكون في صورته العنصرية الظاهرة. وإذا كانت كل حقيقة كونية لها ظاهر وباطن كما أسلفنا، فمن الطبيعي أن يكون للإنسان ظاهر وباطن كذلك. والفارق بين الإنسان وبين الحقائق الكونية هو فارق كيفي لا كَمي، حيث اجتمعت فيه كل حقائق الكون كما اجتمعت فيه كل حقائق الأسماء الإلهية، «والآخر من حيث الصورة الكونية، والظاهر بالصورتين، والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية.»٤

إن مثل هذه الأوصاف المتعارضة التي تُطلَق على الإنسان، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن، يمكن أن تُطلَق أيضًا على العالم مع بعض التعديل الذي لا يغير كثيرًا من مدلولاتها، فالعالم كما سبقت الإشارة يمكن أن يوصف بالقِدَم كما يوصف بالحدوث، ويوصف بالبطون كما يوصف بالظهور. فإذا نظرنا إلى العالم في مرتبة الوجود العلمي في العلم الإلهي، وصفناه بالقدم وبالبطون، وإذا نظرنا إليه في مرتبة التعيُّن الحسي أو الوجود العيني، وصفناه بالظهور والحدوث.

ومثل هذه الأوصاف أيضًا مع بعض التعديل غير الضار؛ يمكن أن تُطلَق على الألوهة كما تطلق على المستويات الثلاثة الأخرى لمرتبة الخيال المطلق، فهي كلها لا موجودة ولا معدومة ولا قديمة ولا محدَثة. هي كلها غير موجودة وجودًا عينيًّا في حالة بطونها في العلم الإلهي، ولكنها موجودة في أعيان صور الممكنات الظاهرة. ومعنى ذلك أن رباعية الأول والآخر والظاهر والباطن يمكن أن تنطبق على العالم والإنسان، كما تنطبق بنفس الدرجة على مرتبة الخيال المطلق بمستوياته الأربعة. وليس معنى ذلك التسويةَ بين هذه المراتب، فكل وصف من هذه الأوصاف الأربعة يكتسب معنًى خاصًّا به في كل مرتبة على حِدَة، وهذا المعنى الخاص نابع من طبيعة المرتبة ومن دورها الوظيفي الوجودي والمعرفي، ويمكن القول إن التطابق بين هذه المراتب قائمٌ على الموازاة وليس قائمًا على التسوية الكاملة، وهذا يقودنا إلى البُعد الخلافي بين العالم والإنسان.

إن العالم إنسان كبير، والإنسان عالم صغير، العالم إنسان متفرق الأجزاء، والإنسان عالم مجتمع الأجزاء. وإذا كان العالم والإنسان كلاهما يمثلان ظهور الألوهة من حالة البطون، فالعالم يمثل الأسماء الإلهية الكثيرة، بينما يمثل الإنسان الألوهة في جمعيتها كما تتجلى في الاسم «الله». إن العالم بتفاصيله لا يمكن أن يحيط به نظر الإنسان، والإنسان على العكس من ذلك يمكن أن يحيط به النظر والإدراك، «والعالم ما في قوة إنسان حصره في الإدراك لكِبَره وعِظَمه، والإنسان صغير الحجم يحيط به الإدراكُ من حيث صورته وتشريحه، وبما يحمله من القوى الروحانية، فرتَّب الله فيه جميع ما سوى الله، فارتبطت بكل جزء منه حقيقةُ الاسم الإلهي الذي أبرزته وظهر عنها، فارتبطت به الأسماءُ الإلهية كلها، لم يشِذَّ عنه منها شيء، فخرج آدم على صورة الاسم الله؛ إذ كان هذا الاسم يتضمن جميع الأسماء الإلهية، كذلك الإنسان وإنْ صغُر جِرمه فإنه يتضمن جميع المعاني، ولو كان أصغر مما هو، فإنه لا يزول عنه اسمُ الإنسان.»٥
إن العلاقة بين الإنسان والعالم تقوم على نوع من التماثل كما تقوم على نوع من الاختلاف. والاختلاف في هذه الحالة كيفي لا كَمي؛ فحقائق العالم توجد بكاملها في الإنسان، والفارق أنها في الإنسان في حالة اجتماع، بينما هي في العالم في حالة افتراق وتشتُّت. والموازاة التي يقيمها ابن عربي بين الإنسان والعالم لا تنفي أن الإنسان نفسه جزء من العالم، ولكنه جزء أصيل وهام؛ بحيث يمكن القول إنه بمثابة الروح للجسد. إن وجود العالم دون الإنسان كان «وجود شبح لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوَّة … فاقتضى الأمر جِلاء مرآة العالم، فكان آدم جِلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة.»٦
ويمكن أن توضَّح العلاقة بين الإنسان والعالم من خلال ثنائيات الروح والجسد، والمركز والدائرة،٧ والجمع والفرق، والصِّغر والكِبَر، وإن كان هذا لا ينفي أن كلًّا منهما موازٍ للآخر من حيث إنهما معًا يمثلان الصورة الإلهية، أو صورة حقائق الألوهة. وإذا شئنا أن نضع الموازاة في شكل معادلة رياضية، فلا بد أن تكون على الصورة التالية:

الله / / الإنسان  / /  العالم.

بمعنى أن الإنسان لا بد أن يتوسط طرفي المعادلة؛ لأنه يُعَد «برزخًا جامعًا للطرفين.»٨ ولا تصحُّ هذه الموازاة بنفس الدرجة إذا توسط العالم بين الله والإنسان، فالإنسان موازٍ لله أو هو على صورته، ولا يكون العالم موازيًا لله أو على صورته إلا بوجود الإنسان، «فالعالم بالإنسان على صورة الحق، والإنسان دون العالم على صورة الحق، والعالم دون الإنسان ليس على الكمال في صورة الحق.»٩
ويعبر ابن عربي عن ثنائية العلاقة بين العالم والإنسان من خلال ثنائية الوجود والعدم في بعض الأحيان؛ بمعنى أن الإنسان وُجد من عناصرَ موجودة في الكون، بينما وُجدت عناصر الكون نفسها من عدم. وهذه الفكرة تعكس آخِرية الوجود الإنساني من جهة، كما تعكس أفضلية الإنسان من جهة أخرى؛ لأنها تنتهي إلى أن الإنسان وإن استمدَّ وجوده من الكون، فهو متميز عنه بكماله الذاتي وعدم مماثلته لأي جزء من أجزاء العالم على حِدة، «فجميع العالم برز من عدم إلى وجود إلا الإنسان وحده؛ فإنه ظهر من وجود إلى وجود، من وجود فرق إلى وجود جمع، فتغير الحال عليه من افتراق إلى اجتماع، والعالم تغير عليه الحال من عدم إلى وجود، فبين الإنسان والعالم ما بين الوجود والعدم؛ ولهذا ليس كمِثل الإنسان من العالم شيء.»١٠
ويمكن القول إذن إن الموازاة التي يقيمها ابن عربي بين الإنسان والعالم وبينهما وبين الله؛ لا تقوم على المساواة والتطابق، بل تقوم على نوع من التشابه الذي لا ينفي التغاير. إن العالم والإنسان صور للحقيقة الإلهية. وتعدد الصور قائم على تعدد المرايا، واختلاف طبائع المرايا لا بد أن يؤدي إلى اختلاف في طبيعة الصورة، والصورة — أيًّا كانت طبيعتها — ليست هي الأصل، بل هي غيره. وعلى ذلك فالإنسان وإن جمع بين الصورة الإلهية والصورة الكونية،١١ فليس هو الله، وليس هو الكون، «ولا يقال في الشيء إنه على صورة كذا حتى يكون هو من وجوهه إلا الذي لا يمكن أن يقال فيه هو … ولكن قد تميز كل واحد بأمر ليس هو عين الآخر … كذلك الحق حق والإنسان إنسان والعالم عالم. وقد بان ذلك بالتساوي، فإنه إن لم تكن ثَم حقيقة يقع بها تميُّزُ الأعيان لم يصح أن تقول كذا مساوٍ لكذا، بل تقول عين كذا بلا تجوُّز.»١٢

فالإنسان مساوٍ للعالم ومساوٍ لله، ولكن هذه المساواة، أو الموازاة، لا تنفي التغاير بين الله والإنسان من جهة، وبين العالم والإنسان من جهة أخرى. وإذا كان الإنسان هو روح العالم، فمن الواجب علينا حين يوازي ابن عربي بين حقائق الألوهة وحقائق العالم: أن نفهم العالم في هذه الموازاة على أساس أنه يتضمن الإنسان، لا على أساس خلوِّه منه. وعلينا أيضًا أن نلاحظ أن الإنسان الذي يوازيه ابن عربي بالعالم من جهة، وبحقائق الألوهة من جهة أخرى؛ هو الإنسان الكامل الذي تمثَّلت فيه الصورتان الإلهية والكونية على التمام والكمال. وهو الإنسان الذي يُعَد آدمُ المجلى الأول له، ويعد الرسل والأنبياء والعارفون الوارثون تجلياتٍ مختلفةً لحقيقته الروحية.

وما دام هذا الإنسان هو روح العالم فلا يخلو العالم أبدًا من ممثِّل لهذه الروح وخليفةٍ لها، عليه يكون مدار العالم، وبه يكون دوامُه واستمراره. وهذا الخليفة هو الذي يطلق عليه ابن عربي «القطب»، وهو «معلوم غير معيَّن، وهو خليفة الزمان ومحلُّ النظر والتجلي. ومنه تصدُر الآثار على ظاهر العالم وباطنه، وبه يرحم الله من يرحم ويعذِّب من يعذب. وله صفات إن اجتمعت في خليفة عصر، فهو القطب وعليه مدار الأمر الإلهي. وإن لم تجتمع فهو غيره، ومنه تكون المادة لملك ذلك العصر. وهذا كله في الإنسان موجود.»١٣

وهذا الإنسان الكامل — أو القطب — يُعَد خليفة لآدم، كما يعد آدم بدوره خليفة للحقيقة المحمدية ومجلاها الأول. أما باقي البشر من نسل آدم فهم يمثلون مراتبَ مختلفةً قد تقترب أو تبتعد عن محاذاة الأصل الذي تمثلت فيه الصورةُ بكاملها وتمامها وتفاصيلها، ويتوقف الابتعاد والاقتراب على ما سبق أن أشرنا إليه من حل التعارض القائم بين جانبي الإنسان الإلهي والكوني، والتحلي بالمعرفة الحقة. وعلى قدر هذه المعرفة تكون مرتبة الإنسان في دولة المعرفة.

إن رباعية الوجود الإنساني لا تقوم فقط على التشابه العام بينه وبين العالم، ولكنها تمتد إلى الحقائق البسيطة التي يقوم عليها جانبا الإنسان، نعني ظاهره وباطنه. والمقصود بظاهره هنا حقيقته الجسدية العنصرية، والمقصود بباطنه هو قواه الداخلية. وهذان الجانبان يتوازيان مع حقائق عالم الأمر، وهذه الموازاة تحتاج لمزيد من الكشف والإيضاح.

(٢) الإنسان وعالم الأمر

يتكون عالم الأمر من أربع مراتب أو مستويات تمثل كلها الحقائق الكلية التي توجهت بالإيجاد على عالم الخلق. تبدأ هذه المراتب بالعقل الأول أو القلم الذي هو المبدَع الأول، ثم ينبعث عنه اللوح المحفوظ (النفس الكلية)، وهذه النفس تتضمن القوتين العلمية والعملية؛ العلمية من جانبها الذي يلي القلم، والعملية من جانبها الذي يلي الطبيعة. وتمتد الطبيعة عن النفس الكلية ويمتد معها الهباء. ومن خلال علاقة التفاعل بين هذه العقول الأربعة ينتُج أول عالم الأجسام النورانية وهو العرش.

وقد شبَّه ابن عربي العلاقة بين هذه المراتب التي تشكل عالم الأمر بعلاقة آدم وحواء؛ فآدم هو الموجود الأول على المستوى الإنساني، ثم خُلقت حواء من جزء منه، فتناكحا فأولدها توءمين فتناكحا بدورهما لتستمر دورة الحياة. ومثل هذا التشبيه عند ابن عربي لا يخلو من دلالة، بل هو شديد الدلالة على علاقة التفاعل القائمة بين مراتب عالم الأمر، فآدم يمكن أن يكون موازيًا للقلم، واللوح المحفوظ (النفس الكلية) يمكن أن تكون موازية لحوَّاء، وقد انبعثت النفس عن القلم كما خُلقت حواءُ من آدم. والعلاقة بين القلم واللوح المحفوظ (العقل والنفس) هي علاقة تَدَلٍّ وكتابة وتسطير يمكن أن تتوازى مع علاقة النكاح بين آدم وحواء. وكان نتيجة هذا التدلِّي والتسطير وجود الطبيعة والهباء اللذين أنتجا أول موجودات عالم الخلق؛ وهو العرش أو الجسم الكل.

إن هذه الرباعية — رباعية عالم الأمر — وما يوازيها وما يشبهها من علاقات تتجلى في حقائق الإنسان، أيَّ إنسان كان، الظاهرة والباطنة. فالإنسان مكون من روح وعقل ونفس وجسم، فهو يقوم على التربيع. يستمد الإنسان روحه من الروح الكلي الساري في الوجود بأسره، ونعني بها روح الحقيقة المحمدية، ولكن بواسطة روح الإنسان الكامل والمجلى الأول لهذه الروح. ويستمد الإنسان عقله من العقل الأول الذي هو المبدع الأول في العماء. والعلاقة بين الروح والعقل الإنسانيَّين تتوازى مع العلاقة التي أسهبنا في تحليلها بين الحقيقة المحمدية والعقل الأول؛ من حيث إن كليهما وجهان لحقيقة واحدة تنقسم بالنظر والاعتبار. إذا نظرنا إلى هذه الحقيقة من جانب الإطلاق الكامل في مرتبة الخيال المطلق قلنا: الحقيقة المحمدية، وهي من هذا الجانب تتساوى بكل مراتب الخيال المطلق ومستوياته؛ وهي الألوهة والعماء وحقيقة الحقائق. وإذا نظرنا لهذه الحقيقة من جانب العالم — عالم الأمر — قلنا: العقل الأول أو القلم.

إن الروح الإنساني هو خليفة الله في أرض البدن،١٤ وهو يوازي الروح المحمدي الذي «ظهر فيه الحق بذاته وصفاته المعنوية لا النفسية.»١٥ وهذا الخليفة يحتل الوسط من الجسم البشري وهو القلب. ويقصد ابن عربي بالقلب الذي هو مسكن الروح الإنساني العضو الفيزيقي المعروف، وإن كان يرى أن «لا فائدة له إلا من حيث هو مكان لهذا السر المطلوب.»١٦ وإذا كان الروح الإنساني مستمدًّا من الروح الكلي، فالعقل الإنساني مستمد من العقل الأول. والعلاقة بين العقل والروح الإنسانيين تتوازى مع العلاقة التي أشرنا إليها بين الروح الكلي (الحقيقة المحمدية) والعقل الأول؛ وهي علاقة الإطلاق من جانب والتقييد من جانب آخر، أو علاقة الإمداد من جانب والاستمداد من جانب آخر. ولذلك يعتبر ابن عربي العقل الإنسانيَّ وزير الروح، «أوجده الباري في ثاني مقام من الإمام، وأنزله من الخليفة منزلةَ القمر من الشمس؛ على مذهب مَنْ يقول بالاستمداد.»١٧
وليس العقل الذي يتحدث عنه ابن عربي هو العقل الاستدلالي عند الفلاسفة أو القوة المفكرة، ولكنه العقل القابل لما يستمده من علوم الروح، «وإنما سُمي عقلًا؛ لأنه يعقِل عن الله تعالى كلَّ ما يلقى إليه وهو على المملكة كالعِقال على الدابة يحفظها حِذارَ الحِرَان.»١٨ والعلاقة بين العقل والروح تستدعي إلى أذهاننا أصداء العلاقة بين جانبي الحقيقة المحمدية، فهذا العقل يستمد علومه من الروح، «مع أنه لا يدري أين يصرفها ولا الحالات التي يصرفها فيها؛ وذلك حكمة منه تعالى ليكون مضطرًا إلى هذا الخليفة.»١٩ ولا يستقل العقل وحده بالمعرفة وإنما هو مضطر دائمًا للاستمداد من الروح (القلب). ومن الطبيعي أن يكون مسكن العقل الدماغ؛ «ليشرف على أقطار المملكة، وأن يكون قريبًا من خزانة الخيال والحفظ؛ حتى يقرب عليه النظر في جميع مهماته.»٢٠
ويتوازى تصور ابن عربي للنفس الإنسانية مع تصوره للنفس الكلية. ولقد أشرنا فيما قبلُ إلى أن العقل الأول هو مصدر العقول الجزئية، وكذلك إلى أن النفس الكلية هي مصدر النفوس الجزئية. ولكن المهم هنا أن علاقة النفس الإنسانية بالروح الإنساني تتوازى مع علاقة النفس الكلية بالعقل الأول، فإذا كانت النفس الكلية صدرت عن العقل الأول بالانبعاث، كخلق حواء من جسم آدم، فالنفس الإنسانية هي «كريمة هذا الخليفة وحَرْثه»؛٢١ بمعنى أن علاقتها بالروح الكلي توازي علاقة البنت بالأب. ولكي يؤكد ابن عربي هذه العلاقة يقول: «إن النفس بعض الروح كما كانت حواء بعض آدم.»٢٢ ويقصد ابن عربي بالنفس التي هي كريمة الروح وحرثه «النفس الناطقة» دون النفس النباتية أو النفس الحيوانية. والنفس الناطقة هي التي بها ينفصل الإنسان عن غيره من النبات والحيوان، «ويصحُّ عليه اسم الإنسانية وبها يتميز في الملكوت.»٢٣
وكما كانت النفس الكلية هي علة الكثرة، وذلك لاحتوائها على القوتين العلمية والعملية من جهة، ولصدور الطبيعة المظلمة عنها من جهة أخرى، فكذلك النفس الإنسانية «محل التغيير والتطهير ومقر الأمر والنهي.»٢٤ ومن الطبيعي، والحالة هذه، أن يوازي ابن عربي بين النفس والكرسي وبين الروح والعرش٢٥ على أساس أن العرش هو مستوى الاسم الرحمن والكلمة الإلهية الواحدة، أما الكرسي فهو علة الانقسام في الكلمة الإلهية إلى أقسام كثيرة. النفس الإنسانية إذن مثلها مثل النفس الكلية أو الكرسي؛ هي محل الانقسام والتغيير. وسبب ذلك أنها بين طرفي نقيض: بين الروح والعقل من جهة، والهوى والشهوة من جهة أخرى. ويمكن أن تمثِّل الهوى والشهوة قوى النفس الكلية الباطنة التي تمتد عنها فتكون الطبيعة، وهما القوتان العلمية والعملية.
إن النفس وإن انبعثت عن الروح فهي قابلة للفساد، ولذلك اصطلح المتصوفة — فيما يقول ابن عربي على التفرقة بين فعل النفس وفعل الروح، واصطلحوا «على أن كل فعل فيه حَظ لكون من الأكوان أنه نَفْس، يعني أنه عن أمر النفس، سواء كان ذلك الفعل محمودًا أو مذمومًا. وكل ما ليس فيه حظ إلا لله تعالى فهو روح.»٢٦ فالروح أو فِعلها إنما يكون عن أمر الله، أما فعل النفس فهو متعلق بالكون، وليس الهوى والشهوة اللذان تقع النفس بينهما وبين الروح والعقل إلا مطالب الجسد الإنساني التي يعبر عنها ابن عربي بأفعال الأكوان. ومعنى ذلك أن النفس واقعة بين نقيضين؛ ظاهرِ الإنسان متمثلًا في الجسد الطبيعي ومطالبه، وباطنِه متمثلًا في الروح والعقل. فإذا مالت إلى جانب الظاهر وأطاعت الهوى والشهوة «كان التغيير، وحصل لها اسم الأمَّارة بالسوء، وإن أجابت العقل كان التطهير، وصحَّ لها اسم المطمئنة.»٢٧

إن مثل هذا الموقع الوسَطي للنفس الإنسانية يمثل موازاةً على المستوى الوجودي مع النفس الكلية، ولكنه يمثل على المستوى الإنساني معضلةً معرفية سنتعرض لها بالتفصيل بعد ذلك. والذي يهمنا الآن هو أن نتابع الموازاة بين الإنسان والعالم. وإذا تركنا النفس وانتقلنا إلى الجسد الإنساني، فإن الموازاة تصبح بالضرورة موازاةً كلية بين أجزاء الجسد وقواه الطبيعية وبين كافة عناصر الوجود الحسي. وسنكتفي هنا بالموازاة على مستوى الحقائق الطبيعية الأربع التي يقوم عليها الجسد الإنساني كما تقوم عليها الطبيعة الكلية.

ولقد سبقت الإشارة إلى أن الطبيعة الكلية مجرد مفهوم عقلي لا موجودٌ كلي يتضمن العناصر الأربعة؛ وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وهذه العناصر الأربعة تتفاعل مولِّدةً الأُسطُقسات الأربعة؛ وهي النار والهواء والماء والتراب. وتجد هذه الأسطُقسات مجالًا لعملها في عالم الكون والاستحالة حتى تصل إلى الجسد الإنساني المولَّد عما قبله من أكوان. ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن يقوم الجسد الإنساني «على أربعة أعمدة وهي الأسطقسات والعناصر.»٢٨ «وكما أن في العالم ترابًا وماءً وهواءً ونارًا ففي الإنسان ذلك بعينه، ومنها خُلق جسمه، وقد نبَّه عليها الحكيم سبحانه في الكتاب العزيز؛ وهو قوله تعالى: ُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثم قال: مِنْ طِينٍ، وهو امتزاج الماء والتراب، ثم قال جلَّ اسمُه: مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ؛ وهو المتغير الريح، وهو الجزء الهواء الذي فيه، ثم قال: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وهو الجزء الناري.»٢٩

وهكذا ننتهي إلى أن حقائق عالم الأمر الرباعية قد تجلَّت في الإنسان من حيث ظاهره وباطنه، تجلَّت في باطنه حقائقُ الروح والعقل والنفس، وتجلَّت في ظاهره حقائقُ الطبيعة الأربع، فقام ظاهره على التربيع كما قام باطنه على التربيع. ولعلنا لسنا بحاجة إلى تذكُّر أن كل هذه الموازاة بين الإنسان والوجود لا تعني أنهما شيء واحد، بل هما حقيقتان متغايرتان وإن تشابهتا في كثير من جزئياتهما. ومن الضروري هنا الإشارة أيضًا إلى أن حقائق عالم الأمر التي تتوازى مع حقائق الإنسان هي مجرد حقائق كلية، بينما هذه الحقائق في الإنسان حقائق عينية متفاعلة.

الإنسان والعالم إذن يمكن أن يكونا وجهين لحقيقة واحدة، ولكنهما وجهان متغايران لا يغني أحدهما عن الآخر. وكلا هذين الوجهين يقوم على حقائقَ رباعية، وهذه الحقائق تستلزم منا البحث عن أصولها عند ابن عربي على مستوى العالم ومستوى الإنسان معًا. وهذا هو ما سنعالجه في الفقرة التالية.

(٣) رباعية العالم والإنسان

يحتاج الأساس الرباعي الذي يتصور ابن عربي العالم والإنسان عليه إلى محاولة للتعليل، ومن الممكن أن تردَّنا هذه المحاولة إلى محور له قدر من الثبات يضيء لنا كثيرًا من جوانب فكر ابن عربي على المستوى الوجودي والمعرفي، كما يضيء لنا تصوره لمستويات النص القرآني التي تقوم على الرباعية أيضًا. وقد تعرضنا فيما سبق لتحليل مراتب الوجود ومستويات كل مرتبة، فوجدناها جميعًا تقوم على أساس رباعي، كما وجدنا الإنسان كذلك يقوم في تصور ابن عربي على أساس رباعي. غير أن تصور ابن عربي لرباعية الحقائق الإنسانية يقوم على تفرقة بين ظاهر وباطن. يمثل الظاهر الإنساني أحد مستويات هذا التصور الرباعي، وإن كان هذا المستوى في نفسه يقوم على أساس رباعي تتوازى حقائقه مع الأسطقسات والعناصر الطبيعية الأربعة. أما المستوى الباطن في الإنسان فيقوم على أساس ثلاثي عناصره هي الروح والعقل والنفس. وتمثِّل النفس في مثل هذا التصور برزخًا وسطيًّا بين الظاهر والباطن، يجسِّد بدوره المعضلةَ المعرفية في الإنسان.

ومن السهل أن نقيم من جانبنا موازاةً بين ثلاثية المستويات الفاعلة والصورية والهيولانية في مرتبة الخيال المطلق (وهي الألوهة والعماء وحقيقة الحقائق) وبين الإنسان بمستوياته الثلاثة. وقد أقمنا بالفعل مثل هذه الموازاة بين عالم الأمر بمستوياته الثلاثة وبين باطن الإنسان. ويمكن أن يوازي الجسد الإنساني في هذه الحالة الأخيرة الجسم الكل أو العرش، كما يوازي الحقيقة المحمدية في رباعية مرتبة الخيال المطلق. وقيام الرباعية في كل مراتبها على أساس ثلاثة مستويات متفاعلة ومستوًى منفعل؛ أمرٌ يحتاج منا إلى وقفة ومحاولة للتفسير بعد محاولة تفسير الأساس الرباعي نفسه؛ سواء على مستوى العالم أو مستوى الإنسان.

وقد سبق إخوان الصفا ابن عربي في مثل هذا التصور الرباعي للوجود والعالم؛ متأثرين دون شك بالفلسفة الفيثاغورثية٣٠ التي اتخذت من الأعداد رموزًا ودلالاتٍ لتصورات فلسفية عن الوجود والكون. وقد ذهبت هذه الفلسفة إلى أن الواحد ليس عددًا وإن كان يمثل أصل الأعداد، فمنه ينشأ أيُّ عدد، وإليه يمكن أن ينحلَّ أيُّ عدد؛ سواء كان عددًا صحيحًا أو غير صحيح. وتنتهي مراتب الأعداد عند أربعة هي الآحاد والعشرات والمئات والألوف، وأيُّ عدد من الأعداد لا يخرج بأي حال عن هذه المراتب الأربع. ومن هذا المنطلق في تحديد ماهية العدد وتحديد مراتبه أمكن لإخوان الصفا الربطُ بين مراتب العدد ومراتب الوجود المختلفة؛ بدءًا من عالم العناصر وانتهاءً إلى عالم العقول الروحانية الجوهرية البسيطة. ويؤكد إخوان الصفا أن مراتب الوجود هي الأصل في تحديد مراتب العدد، والعكس ليس صحيحًا. «واعلم بأن كون العدد على أربع مراتب التي هي الآحاد والعشرات والمئات والألوف؛ ليس أمرًا ضروريًّا لازمًا لطبيعة العدد مثل كونه أزواجًا وأفرادًا صحيحًا وكسورًا، بعضها تحت بعض، لكنه أمر وضعي رتبته الحكماء باختيار منهم، وإنما فعلوا ذلك لتكون الأمور العددية مطابِقةً لمراتب الأمور الطبيعية.»٣١
الأصل إذن في تحديد مراتب الأعداد هو قيام الأمور الطبيعية والكونية على أساس رباعي، وإلا فالعدد يمكن أن ينقسم إلى أكثر من هذه المراتب الأربع؛ إذا نظرنا إليه من زوايا مختلفة كالصحة والكسر، أو الزوجية والفردية، أو المضاعفات العددية التي لا نهاية لها. أما لماذا قام الوجود على أساس رباعي؟ فالإجابة على مثل هذا السؤال تردُّنا إلى الحكمة الإلهية التي لا يستطيع العقل أحيانًا الوصول إليها. «إن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري، جلَّ ثناؤه، مربعاتٍ مثل الطبائع الأربع، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ ومثل الأركان الأربعة، التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ ومثل الأخلاط الأربعة، التي هي الدمُ والبلغم والمرَّتان؛ المِرَّة الصفراء والمرة السوداء؛ ومثل الأزمان الأربعة، التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع، والرياح الأربع: الصَّبا والدَّبور والجنوب والشمال … والمكونات الأربع التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنس، وعلى هذا المثال وُجد أكثر الأمور الطبيعية مربعات. واعلم بأن هذه الأمور الطبيعية إنما صارت أكثرها مربعات بعناية الباري، جلَّ ثناؤه، واقتضاء حكمته؛ لتكون مراتب الأمور الطبيعية مطابِقةً للأمور الروحانية التي هي فوق الأمور الطبيعية، وهي التي ليست بأجسام؛ وذلك أن الأشياء التي فوق الطبيعة على أربع مراتب، أولها الباري جلَّ جلاله، ثم دونه العقل الكلي الفعَّال، ثم دونه النفس الكلية، ثم دونه الهيولى الأوَّلي، وكل هذه ليست بأجسام.»٣٢

إن مثل هذا التصور للعدد ومراتبه الأربع، وقيام مراتب الوجود في مستوياته المختلفة على التربيع، لم يكن بالطبع بعيدًا عن متناول ابن عربي وثقافة عصره. ولكنه لم يكن ليقنع بقناعة إخوان الصفا التي تردُّ هذا الأساس للحكمة الإلهية، فالحكمة الإلهية يمكن أن تكشف عن نفسها لقلب الصوفي، ومن ثَم يصبح قادرًا على تعليلها وتفسيرها بوضوح لا تستطيعه الفلسفة العقلية. وهناك — من جانب آخر — فروقٌ دقيقة بين تصوُّر ابن عربي وبين تصور سابقيه، فروق في التفاصيل، إن شئنا الدقة، تكشف عن الكيفية التي استطاع بها ابن عربي أن يوظف عناصر ثقافية مختلفة في نسيج له قدْرٌ من الجِدَّة والطرافة.

يسلِّم ابن عربي مع سابقيه بأن الواحد ليس عددًا، وإن كانت الأعداد تنشأ منه وتنحلُّ إليه. وإذا كان ابن عربي يفرِّق تفرقةً حاسمة بين الذات الإلهية في مرتبة الأحدية المطلقة، وبين مرتبة الألوهة، وإن كانتا متلازمتين لا تنفصلان، فهو يوازي بين مرتبة الألوهة ومرتبة الواحد. إن الألوهة وحقائقها هي أصل العالم وحقائقه، ولكنها نفسها ليست من العالم، كما أن الواحد هو أصل العدد وإن كان هو نفسه ليس عددًا. «إن الواحد ليس بعدد، وإن كان العدد منه ينشأ، ألَا ترى أن العالم وإن استند إلى الله ولم يلزم أن يكون الله من العالم، كذلك الواحد وإن نشأ منه العدد، فإنه لا يكون بهذا من العدد، فالوحدة للواحد نعت نفسي لا يقبل العدد وإن أُضيف إليه.»٣٣
وإذا كانت الألوهة هي أصل العالم، والواحد أصل الأعداد، فمن الطبيعي أن خلوَّ العالم من حقائق الألوهة يعني انعدامه، كما أن الواحد لو نقص من أي عدد لانعدمت حقيقةُ هذا العدد. ومعنى ذلك أن الحقائق الإلهية تصاحب العالم مصاحبةً دائمة تحفظ عليه استمراره وبقاءه، كما أن وجود الواحد في أي عدد كان يحفظ عليه حقيقته الذاتيةَ التي ينفصل بها عن غيره من الأعداد. إن التجلياتِ الإلهيةَ الدائمة — إذا شئنا استخدام المصطلح الصوفي — هي التي تحفظ على العالم وجوده، ولو توقفت هذه التجليات لحظةً واحدة لانعدم العالم وارتفع من الوجود. إن حقائق الألوهة هي الواحد، والتجليات الإلهية هي المصاحِبة الدائمة للواحد للمراتب المختلفة في الوجود، كمصاحبة الواحد لكل مراتب العدد؛ لأن «الاثنين لا توجد أبدًا ما لم تُضِف إلى الواحد مثله وهو الاثنين، ولا تصح الثلاثة ما لم تزد واحدًا على الاثنين؛ وهكذا إلى ما لا يتناهى. فالواحد ليس العدد وهو عين العدد؛ أي: به ظهر العدد، فالعدد كله واحد، لو نقص من الألف واحد انعدم اسم الألف وحقيقته، وبقيت حقيقةٌ أخرى وهي تسعمائة وتسعة وتسعون، لو نقص منها واحد لذهب عينها، فمتى انعدم الواحد من شيء عُدِم، ومتى ثبت وُجد ذلك الشيء؛ هكذا التوحيد إن حققته. وهو معكم أينما كنتم.»٣٤

ولا شك أن الربط بين الواحد وحقائق الألوهة، ومصاحبة الواحد لكل مراتب العدد؛ يتسق تمامًا مع تصور ابن عربي أن بين كل موجود وبين حقائق الألوهة علاقةً غير مباشرة تتجاوز علاقة هذا الموجود بعلته المباشرة. وهذه العلاقة هي التي تحفظ على هذا الموجود استمراره فلا ينعدم، فالألوهة هي العلة الأصلية وراء العلل والأسباب المباشرة. وبالمثل فإن الواحد الأصلي هو علة وجود العدد وراء العلل المباشرة في التدرج العددي مهما كان العدد نفسه. ولا شك — أيضًا — أن مثل هذا التصور للعدد قد وُظِّف في فلسفة ابن عربي توظيفًا متميزًا يربِط بين الألوهة بالعالم؛ كما يميزها عنه في نفس الوقت. ومن الطبيعي بعد ذلك أن يحاول ابن عربي — من خلال هذا التصور — أن يبلور العلاقة بين الذات الإلهية في مرتبة الأحدية المطلقة وبين مرتبة الألوهة، أو بعبارة أخرى يبلور العلاقة بين الأحدية والواحد كمرتبتين متميزتين ومتداخلتين في نفس الوقت.

إن الفصل بين الذات الإلهية وحقائق الألوهة، أو بين الأحدية والوحدانية، لا يقوم على تمايز كامل على الأقل من الناحية الوجودية، إنه فصل معرفي، إن شئنا الدقة، فلا يُتصور وجوديًّا تعرِّي الذات عن أسمائها وصفاتها، وإن أمكن — ذهنيًّا — الفصلُ بينهما والتمييز، «إن الأحدية لها الغنى على الإطلاق … فالوحدانية لا تقْوى قوةَ الأحدية، فكذلك الواحد لا يناهض الأحدية؛ لأن الأحدية ذاتيةٌ للذات والهوية، والوحدانية اسم لها سمَّتها بها التثنية، ولهذا جاء الأحد في نسب الرب ولم يجئ الواحد، وجاءت معه أوصافُ التنزيه فقال اليهود لمحمد عليه السلام: انسُبْ لنا ربك، فأنزل الله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فجاء بالنسب، ولم يقولوا: صِف ولا انعَتْ … فالأحد عزيز الحِمى، لم يزل في العمى، لا يصحُّ به تجلٍّ أبدًا؛ فإن الحقيقة تمنع.»٣٥
ويجب علينا أن نحذر أي تصور ثنائي للعلاقة بين الذات والألوهة، وأن نتصورهما كينونتَين منفصلتين، فالألوهة — كما سبقت الإشارة — مجرد مجموعة من النِّسب والعلاقات ليس لها وجود عيني متميز، إنها برزخ فاصل وموحِّد في نفس الوقت. وهذا هو ما يعبر عنه ابن عربي في النص السابق بالنسَب والوصف، فالأحدية هي نَسَب الذات الإلهية، والوحدانية وصف. والوصف لا يؤدي إلى أي تعدد في الذات. وإذا كان ابن عربي في النص السابق يذهب إلى أن الوحدانية اسم للذات «سمتها بها التثنية»، فلا يجب أن نُخدع ونتصور الألوهة وجودًا ثانيًا زائدًا على الذات، وإلا دخلنا في الكثرة التي ينكرها ابن عربي في هذه المرتبة، «ولا أقول بشَفْعية الذات، وإنما أقول باستحالة تعريها عن الصفات، فإن العدد في الأحد لا يذهب بحقيقته ولا يخلُّ بطريقته.»٣٦ وقد كان يمكن لابن عربي أن يحلَّ المعضلة حلًّا أسهل من ذلك لو قال إن الاثنين هي أولُ العدد ما دام الواحد نفسه ليس عددًا، وإن الاثنين لا تمثل كثرةً حقيقية كما ذهب إلى ذلك فيثاغورث فيما يحكيه الشهرستاني عنه؛ من أن العدد «ينقسم إلى زوج وفرد، فالعدد البسيط الأول اثنان، والزوج البسيط الأول أربعة، وهو المنقسم بمتساويين، ولم يجعل الاثنين زوجًا، فإنه لو انقسم لكان إلى واحدين، وكان الواحد داخلًا في العدد، ونحن ابتدأنا في العدد من اثنين، والزوج قسم من أقسامه، فكيف يكون نفسه؟»٣٧ ويكاد ابن عربي يقترب من هذا الحل فعلًا حين يقول: «إن الأحد لا يكون عنه شيء البتة، وإن أول الأعداد إنما هو الاثنان.»٣٨
ويبقى بعد ذلك السؤال: كيف صدر العالم عن الواحد؟ أو كيف يصدر العدد عن الواحد الذي هو أصل الأعداد؟ في الإجابة عن هذا السؤال يبدو الفارق الهام بين ابن عربي وبين إخوان الصفا والفيثاغورثيين الذين تصوروا أن الكثرة تصدر عن الواحد بالإضافة، وأن الموجودات تصدر عن الله بنفس الطريقة: «واعلمْ يا أخي أن الباري، جلَّ ثناؤه، أول شيء اخترعه وأبدعه من نور وحدانيته جوهر بسيط يقال له العقل الفعَّال، كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من نور العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين. ثم أنشأ الهيولى الأولى من حركة النفس، كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولى، ورتبها بتوسُّط العقل والنفس، كما أنشأ سائر الأعداد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها.»٣٩
يقيم ابن عربي الوجود على أساس التفاعل لا الإضافة، وقد سبقت الإشارة إلى أن المبدع الأول (العقل أو القلم) قد وُجد في العماء من تجلي الألوهة لحقيقة الحقائق. وقد وُجد الجسم الكل (العرش) من انبعاث النفس الكلية عن العقل الأول ونكاحهما الذي أنتج الطبيعة الكلية والهباء، فوُجد العرش صورةً في الهباء. ومعنى ذلك أن كل موجود، سواء في ذلك المبدع الأول (العقل) أو الجسم الأول (العرش) قد وُجد من تفاعل ثلاثة عناصرَ سابقة عليه. ويتسق مثل هذا التصور مع تفرقة ابن عربي — متابعًا إخوان الصفا والفيثاغورثيين — في مراتب العدد بين العدد الزوجي والعدد الفردي أو الشفع والوتر؛ حيث يرى أن الاثنين هي أول مراتب العدد في الشفع، والثلاثة هي أول مراتب العدد في الوتر.٤٠ وإذا كان الواحد هو أصل العدد ولكنه ليس عددًا، فإن الاثنين هي أول مراتب العدد. ولكن الاثنين — وحدها — لا تُنتج أي كثرة. وتبدأ الكثرة الحقيقية مع العدد ثلاثة الذي هو أول مراتب العدد الوتري. والثلاثة هي التي تَنتُج عنها الكثرة لا في العدد وحده، بل في كل حقائق الوجود؛ ابتداءً من الأسماء الإلهية وانتهاءً إلى عالم الأكوان الحسية. إن الكثرة إنما توجد عن ثلاثة: فاعل ومنفعل وانفعال، أو ذكر وأنثى ونكاح، أو مقدمتين وواسطة تؤدي إلى نتيجة. إن الكثرة لا توجد عن الثنائية، فهي مرتبة بسيطة، ولكنها توجد عن الثلاثية المركبة: «وإن أول الأعداد إنما هو الاثنان، ولا يكون عن الاثنين شيء أصلًا ما لم يكن ثالثٌ يزوِّجهما ويربِط بعضهما ببعض، ويكون هو الجامع لهما؛ فحينئذٍ يتكون عنهما ما يتكون بحسَب ما يكون هذان الاثنان عليه؛ إما أن يكونا من الأسماء الإلهية، وإما من الأكوان المعنوية أو المحسوسة، أيَّ شيء كان، فلا بد أن يكون الأمر على ما ذكرناه. وهذا هو حكم الاسم الفرد، فالثلاثة أول الأفراد، وعن هذا الاسم ظهر ما ظهر من أعيان الممكنات، فما وُجد ممكن من واحد وإنما وُجد من جمع، وأقل الجمع الثلاثة، وهو الفرد، فافتقر كل ممكن إلى الاسم الفرد.»٤١
إن فكرة الثلاثة التي عنها تظهر الموجودات في كل مراتب الوجود؛ ابتداءً من عالم البرزخ الأعلى، مرورًا بعالم الأمر وانتهاءً إلى عالم الطبيعة، لها ظهور واضح في فكر ابن عربي؛ سواء في الأسماء الإلهية التي تتحول إلى أسماء فاعلة وأسماء منفعلة، أو في عناصر الطبيعة التي تنقسم نفس القسمة، أو في الكلمة الإلهية «كنْ» التي تختفي فيها الواو فتزاوج بين الكاف والنون، أو في القضايا المنطقية التي تحتاج لمقدمتين يتوسط بينهما حد، أو في علاقة الذكر بالأنثى والنكاح الذي يزوج بينهما.٤٢
ويمكن القول إن الناتج عن ثلاثية التكوين ينتهي إلى التربيع، ومن ثَم فقد قام الوجود كله على التربيع، يستوي في ذلك العالم والإنسان في حقائقهما الكلية أو في تفاصيلهما. ومن هنا يصدق القول بأن «الله سبحانه قد شاء أن يبرز العالم في الشفعية؛ لينفرد سبحانه بالوترية فيصحَّ اسم الواحد الفرد، ويتميزَ السيد من العبد.»٤٣ على أن تُفهَم الشفعية هنا على أساس رباعي لا ثنائي، فالشفع هو «تثنية الجمع»،٤٤ والاثنان كما سبقت الإشارة أول الجمع. وسواء تحدث ابن عربي عن العالم أو الإنسان، فالتربيع هو أصل الوجود، فالعالم — كما أشرنا من قبل — يتضمن وجود الإنسان ولا يكون على الصورة الإلهية إلا بوجوده.
إن مفهوم خلق الله الإنسانَ على صورته، وخلق العالم على صورته؛ قد يوهم بأن الشفعية في النص السابق شفعية ثنائية لا رباعية. ولكن هذا الوهم يزول إذا تذكرنا ثنائية الظاهر والباطن التي يقوم عليها كل من العالم والإنسان. وإذا كنا في الباب السابق قد حللنا بالتفصيل ثنائية العالم الظاهرةَ والباطنة في جميع مراتب الوجود ومستوياته، فإننا هنا لا نحتاج لمثل هذا التفصيل في الحديث عن ثنائية الظاهر والباطن في آدم، وتكفي الإشارة لبعض الأمثلة إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه في هذا الفصل. وإذا كان آدم — أو الإنسان الكامل — هو المجلى الأول لروح الحقيقة المحمدية، فهو يتوازى معها، ويصبح وجوده نفْسُه تجسيدًا لرباعية الوجود في مرتبة البرزخ الأعلى. وإذا صحَّ لنا أن نوازي بين الحقيقة المحمدية والقلم (العقل الأول) — كما يفعل ابن عربي — فإن حقيقة آدم الروحية توازي اللوح المحفوظ (النفس الكلية) الذي تمثلت فيه القوتان العلمية والعملية كما سبقت الإشارة. وإذا صحَّ لنا أن نوازي بين الحقيقة المحمدية والعرش مستوى الاسم الرحمن والكلمة الإلهية الواحدة — كما يفعل ابن عربي أيضًا — فإن حقيقة آدم الروحية توازي الكرسي الذي انقسمت فيه الكلمة الإلهية إلى أمر وحُكم، وانقسم كل منهما إلى أقسام سبقت الإشارة إليها. فآدم نفسه قائم على وجود قوتين متعارضتين فيه؛ ولذلك خلَقه الله باليدين، وهداه النَّجدين، وانقسم العالم من حقيقته قسمين: قسم للسعادة، وقسم للشقاء، كما انقسمت الدار الواحدة — بوجوده — إلى دارين: الدنيا والآخرة.٤٥
وإذا كان آدم يمثل في ذاته شفعية ثنائية، وقد خلقه الله على صورته، فمن الطبيعي أن تكون الشفعية التي ظهرت بوجود آدم والعالم شفعيةً رباعية لا ثنائية.٤٦ «إن الحقيقة الإلهية تعطي أمرين، ولهذا صحَّت الصورة للإنسان وحده من دون غيره، فأوجده نشأتين باليدين [يعني نشأة ظاهرة، هي جسدُه، وأخرى باطنةً؛ هي روحه] … ولظهور الصورة المثلية مع الحقيقة الإلهية كانت مراتب الوجود أربعة، فصار التربيع أصل هذه الأشكال المرصَّعة.»٤٧

وإذا كنا في الفقرة السابقة قد تناولنا ظاهر الإنسان، وحاولنا في هذه الفقرة أن نجد تعليلًا وتفسيرًا لفكرة التربيع التي يقوم على أساسها وجود العالم والإنسان، فمن المنطقي أن نتناول في الفصل الثاني الجانبَ الثاني للإنسان؛ وهو جانبه الإلهي الباطن.

١  يمكن الرجوع في هذه الموازاة بالتفصيل إلى: الفتوحات ١ / ١٢٠-١٢١، ٢ / ٧٠، ٤٤٦-٤٤٧، عقلة المستوفز ٣٢-٣٣، إنشاء الدوائر  ٢١–٣٢، التدبيرات الإلهية  ١٠٨-١٠٩، ٢١٠ وما بعدها.
٢  الفتوحات ١ / ١٢٥.
٣  الفتوحات ٣ / ٣٤٣.
٤  الفتوحات ٢ / ٤٦٨.
٥  الفتوحات ٢ / ١٢٤، وانظر: عقلة المستوفز  ٤٥–٤٧، عنقاء مغرب ٣٨.
٦  فصوص الحكم  ٤٩، وانظر: الفتوحات ١ / ٤٣٩.
٧  انظر الفتوحات ٢ / ٤٤٦-٤٤٧.
٨  عقلة المستوفز  ٤٢.
٩  الفتوحات ٣ / ٣٤٣.
١٠  الفتوحات ٣ / ٣٩٠.
١١  الفتوحات ٢ / ٤٦٨.
١٢  الفتوحات ٣ / ٣٤٣-٣٤٤.
١٣  التدبيرات الإلهية  ١١٢.
١٤  التدبيرات الإلهية  ١٢٠.
١٥  التدبيرات الإلهية  ١٢٥.
١٦  التدبيرات الإلهية  ١٣٢.
١٧  التدبيرات الإلهية  ١٥٨.
١٨  التدبيرات الإلهية  ١٥٧.
١٩  التدبيرات الإلهية  ١٥٩.
٢٠  التدبيرات الإلهية  ١٦٠.
٢١  التدبيرات الإلهية  ١٣٤.
٢٢  التدبيرات الإلهية  ١٣٧.
٢٣  التدبيرات الإلهية  ١٣٤.
٢٤  التدبيرات الإلهية  ١٣٣-١٣٤.
٢٥  التدبيرات الإلهية  ١٣٤.
٢٦  التدبيرات الإلهية  ١٣٤.
٢٧  التدبيرات الإلهية  ١٣٥.
٢٨  التدبيرات الإلهية  ١٣١.
٢٩  التدبيرات الإلهية  ١٠٨. وانظر: الفتوحات ١ / ١٥٢-١٥٣.
٣٠  انظر: الرسائل ١ / ٤٨.
٣١  انظر: الرسائل ١ / ٥٢.
٣٢  الرسائل ١ / ٥٢-٥٣.
٣٣  الفتوحات ١ / ٢٥٣.
٣٤  الفتوحات ١ / ٣، وانظر: كتاب الألف  ٥.
٣٥  كتاب الألف  ٦.
٣٦  تنزل الأملاك  ٤٣.
٣٧  الملل والنحل ٢ / ٧٦.
٣٨  الفتوحات ٣ / ١٢٦.
٣٩  الرسائل ١ / ٥٤.
٤٠  انظر: الفتوحات ٢ / ٢١٥. ومن الطريف أن ابن عربي يعتبر هذه التفرقة علمًا كشفيًّا أخذه عن الرسول في رؤيا.
٤١  الفتوحات ٣ / ١٢٦. وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ١٧٠-١٧١.
٤٢  انظر: الفتوحات ١ / ١٧١، ٢٦٣، ٣ / ١٢٦، وكتاب الألف  ١١-١٢، وانظر: تعليقات أبي العلا عفيفي على فصوص الحكم  ٣٢٢-٣٢٣.
٤٣  التدبيرات الإلهية  ١٠٧.
٤٤  الفتوحات ٣ / ٢٨٦.
٤٥  انظر: تنزل الأملاك  ٤٢.
٤٦  شفعية الله هي ثنائية الذات والألوهة التي أشرنا إليها من قبل.
٤٧  تنزل الأملاك  ٤٢. وانظر تجليات هذه الرباعية: الفتوحات ١ / ٩٣، ١٢٠-١٢١، ١١٨-١١٩، ٢ / ٤٠٦، ٦٦٨، ٣ / ١٩٧-١٩٨، ١٩٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤