الفصل الثاني

الإنسان والله

(١) الإنسان والصورة الإلهية

سبقت الإشارة إلى أن الروح الإنساني مستمد من روح الحقيقة المحمدية السارية في الوجود بأسره. ومعنى ذلك أن الحقيقة المحمدية هي الأصل الوجودي للعالم والإنسان، وما دامت الحقيقة المحمدية نفسها هي حقائق الألوهة ومتوحِّدة بها في عالم البرزخ، فمن الطبيعي أن يتماثل العالم والإنسان من حيث حقائقهما الكلية، وإن اختلفا من حيث إن هذه الحقائق مجتمعةٌ في الإنسان ومتفرقة في العالم. وعلى ذلك يصحُّ القول إن العالم والإنسان خُلِقا على صورة الله، كما يصحُّ القول إنهما خُلِقا على صورة الحقيقة المحمدية، فالله «اقتطع العالم كله تفصيلًا على تلك الصورة، وأقامه متفرقًا على غير تلك النشأة المذكورة إلا الصورة الآدمية الإنسانية، فإنها كانت ثوبًا على تلك الحقيقة المحمدية النورانية.»١ فالعلاقة بين الحقيقة المحمدية والصورة الآدمية الإنسانية هي علاقة الروح بالصورة، أو الباطن بالظاهر، أو الثوب والرداء بالمرتدي.
وإذا كانت الحقيقة المحمدية كما أسلفنا تمثل وسيطًا بين الذات الإلهية والعالم، فالصورة الإنسانية تمثل المجلى الأول والصورة الكاملة لهذا الوسيط، فالإنسان بهذا الفهم برزخ جامع بين الحقيقة المحمدية والعالم، «فلما كان له هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته، فصحَّت له الخلافة وتدبير العالم وتفصيله.»٢ والمقصود بهذا الإنسان الجامعِ الإنسانُ الكامل الخليفة أو القطب. وإذا كانت الحقيقة المحمدية مَرتبةً خياليةً برزخية في عالم البرزخ الأعلى، فالإنسان الكامل يمثل صورة هذه المرتبة، وهو بذلك يوازي الحقيقة المحمدية، كما يوازي حقائق الألوهة في نفس الوقت؛ لأنه يمثل جمعية الأسماء الإلهية. ويعتمد ابن عربي والمتصوفة عمومًا على حديث ينسُبونه إلى النبي يقول: «إن الله قد خلق آدم على صورته.» وليست الصورة التي خُلق عليها آدمُ صورةً بالمعنى الحسي الغليظ، بل ابن عربي يفهم الصورة على أساس أنها الحقائق الإلهية، أو الصورة الأزلية للإنسان في علم الله القديم. فإذا عاد الضمير في «صورته» على الله كان المقصود بالصورة حقائقَ الأسماء الإلهية، وإذا عاد الضمير على آدم كان المعنى صورة آدم في علم الله. والذي يهمنا هنا أن مفهوم الصورة نفسَه يؤكد التغاير بين أصل مفترض وصورة. وهذا المفهوم — من جانب آخر — يردُّنا إلى مفهوم التمثل الإلهي في صور العالم، ويرتدُّ بنا من ثَم إلى الخيال المطلق.
الصورة التي خُلق عليها آدم ليست سوى ما تصوره الله في الأزل — وتخيَّلَه إن صحَّت العبارة — لهذا الموجود الكلي الجامع. وليست الصورة بهذا المعنى — أو الخيال — إلا عين المتصوِّر أو المتخيِّل. والأساس — فيما يقول ابن عربي — أن «كل ما يتصوره المتصوِّر — فهو عينه، فإنه ليس بخارج عنه، ولا بد للعالم أن يكون متصورًا للحق على ما يظهر عينه. والإنسان الذي هو آدم عبارة عن مجموع العالم، فإنه الإنسان الصغير، وهو المختصر من العالم الكبير … فخرج آدم على صورة الاسم الله؛ إذ كان هذا الاسم يتضمن جميع الأسماء الإلهية … والعلم تصوُّرُ المعلوم، والعلم من صفات العالم الذاتية، فعلمه صورته، وعليها خُلق آدم، فآدم خلقه الله على صورته. وهذا المعنى لا يبطُل لو عاد الضمير على آدم، وتكون الصورة صورة آدم علمًا، والصورة الآدمية حسًّا مطابقةً للصورة. ولا يُقدر يُتصوَّر هذا إلا بضرب من الخيال يُحدِثه التخيُّل. وأما نحن وأمثالنا فنعلمه من غير تصور، ولكن لمَّا جاء في الحديث ذِكر الصور، علمنا أن الله إنما أراد خلقه على الصورة من حيث إنه يتصور لا من حيث ما يعلمه من غير تصوُّر، فاعتبر الله في هذه العبارة التخيل.»٣
وإذا كان آدم على صورة العلم الإلهي، والعلم هو تصور المعلوم على ما هو عليه وجودًا كان أم عدمًا، فمعنى ذلك أن آدم خلقه الله على صورته؛ أي: الصورة التي كانت في علمه السابق القديم. وإذا كانت الصورة عين المتصور، فآدم على صورة الله، أو على صورته في علم الله، لو رجع الضمير إلى آدم في الحديث. والمعنيان في النهاية لا يتعارضان. من هذه الزاوية يمكن القول بأن آدم نفسه برزخٌ بين الحق والخلق، كما يمكن وصفه بالقِدم والأولية والحدوث والآخرية وكلِّ الصفات المتعارضة. نَصِفه بالقدم والأولية إذا نظرنا إليه من حيث علاقته بالأصل الذي هو على صورته، ونَصِفه بالحدوث والآخرية إذا نظرنا إليه من حيث علاقته بالعالم الذي هو أصل له. «وهذا الإنسان الفرد يقابل بذاته الحضرة الإلهية. وقد خلقه الله من حيث شكله وأعضاؤه على جهات ست ظهرت فيه، فهو في العالم كالنقطة من المحيط. وهو من الحق كالباطن، ومن العالم كالظاهر، ومن القصد كالأول، ومن النشء كالآخر، فهو أول بالقصد، آخر بالنشء، وظاهر بالصورة، وباطن بالروح. كما أنه خلقه الله من حيث طبيعته وصورة جسمه في أربع، فله التربيع من طبيعته إذ كان مجموع الأربعة الأركان. وأنشأ جسده ذا أبعاد ثلاثة من طول وعرض وعمق، فأشبه الحضرة الإلهية ذاتًا وصفاتٍ وأفعالًا.»٤

ولا تعني كل هذه المقارنات بين الإنسان من جهة، واللهِ والعالم من جهة أخرى، التوحيدَ بين هذه الحقائق الثلاث، بقدر ما تعني الموازاة التي تردُّنا للعلاقة بين أصل وصورة، كما تؤكد ثنائية الجانبين اللذين يمثلهما الإنسان، وتؤكد من ثَم طبيعته الوسطية البرزخية الخيالية. ومن الضروري الإشارة إلى أن كل هذه الصفات تنطبق بالدرجة الأولى على آدم المجلى الأول للحقيقة المحمدية، كما تنطبق بنفس الدرجة على الإنسان الكامل، أو القطب، الذي لا يخلو العالم منه في كل زمان، والذي يحفظ على العالم وجوده واستمراره باعتباره روحه.

إن الفارق بين آدم والحقيقة المحمدية فارق بين الإطلاق الكامل والتقيد، بين الشيء وظله. ومن هذه الناحية يمثل آدم الروح الكلي الذي يتجلى في آحاد النوع الإنساني؛ سواء من حيث حقيقته الباطنة أو حقيقته الظاهرة. وإذا كان آدم يمثل الخليفة والنائب والبدل عن الله، فإن أتباعه من العارفين تتجلى فيهم هذه الخلافة والنيابة بالتبعية لا بالأصالة كما هو الأمر مع آدم، «فالإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية لم يعطه الله هذا الكمالَ إلا ليكون بدلًا من الحق؛ ولهذا سماه خليفهً وما بعده من أمثاله خلفاء له. فالأول وحده هو الخليفة الحق، وما ظهر عنه من أمثاله في عالم الأجسام، فهم خلفاء هذا الخليفة وبدلٌ منه في كل أمر يصح أن يكون له.»٥
وتردُّنا فكرة الخلافة والنيابة والصورة إلى ما سبق أن أشرنا إليه من نفي التوحيد بين الإنسان من جهة واللهِ والعالم من جهة أخرى. فإذا كان الإنسان على صورة الله، فإنه ليس الله. قد نقول إنه متوحِّد في الألوهة قبل ظهوره في الوجود العيني، ولكن انتقاله من حالة الوجود في العلم إلى حالة الوجود العيني؛ قد جعله مغايرًا وإن احتفظ بصورته التي كان عليها في العلم. إن المسألة مسألةُ موازَنة لا توحيد، إن آدم يوازن الحق، وقد تتكافأ حقائقهما في الميزان كما يتكافأ الذهب والحديد في الوزن، ولكن الذهب مغاير للحديد. وعلى ذلك يجب أن ننفي عن أذهاننا وَهْم الوحدة، ويجب أن «يعلم الإنسان ميزانه من الحضرة الإلهية في قوله: إن الله خلق آدم على صورته، فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان، فيوازَن بصورة حضرة موجِده ذاتًا وصفةً وفعلًا، ولا يلزم من الوزن الاشتراكُ في حقيقة الموزونين، فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد، فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده، فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحتوي عليه، بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيها، وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب من حدٍّ ولا حقيقة ولا صورة عين، كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته، فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة؛ إذ لا حدَّ لذاته، والإنسان محدود بحدٍّ ذاتيٍّ لا رسمي ولا لفظي. وكل مخلوق على هذا الحد، والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته. فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان، زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات، وأنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك. وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا، ولهذا جمع في سورة واحدة خلْقَ الإنسان ووضْعَ الميزان، وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران. وما له إقامة إلا على حدِّ ما ذكرت لك، فإن الله الخالق، وأنت العبد المخلوق، وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها، وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورةَ علمه بها لا صورةَ ذاته؟! وأنت صنعة خالقك، فصورتُك مطابِقة لصورة علمه بك، وهكذا كل مخلوق.»٦
إن التماثل بين الإنسان والله ليس تماثلًا ذاتيًّا، ولكنه تماثل مع صورة العلم الإلهي. ومثل هذا التصور لا يقيم التماثل بين الذات الإلهية والذات الإنسانية، بل يقيمه بين حقائق الإنسان وحقائق الألوهة. وفي هذا ما يؤكد الثنائية الأساسية في فكر ابن عربي، والتي يحاول جاهدًا التغلبَ عليها، تلك الثنائية التي ينكرها كثير من الباحثين لحساب وحدة الوجود الشاملة؛٧ ولذلك كله فقد شَفَع آدم وجود الحق، وأدت هذه الشفعية إلى الكثرة؛ سواء في العالم أو في البشر. وإذا كان آدم أو الإنسان الكامل قد تحققت فيه الصورة بكمالها، ولذلك عُلِّم الأسماء الإلهية، وفُضِّل بها على الملائكة،٨ فإن نسله من البشر تتحقق فيهم الصورة بالقوة لا بالفعل، ولكنهم من جانب آخر قابلون للتحقق الفعلي بالصورة؛ إذا حاولوا السعي لتجاوز ثنائية الظاهر والباطن فيهم، واستطاعوا الوصول إلى معرفة حقيقتهم الباطنية الأصلية.

وإذا كان وجود الإنسان على الصورة الإلهية لا يعني التطابق بين الحق والخلق، ولا يُلغي ثنائية الله والإنسان، فإنه يعني التماثل القائم على المغايرة والاختلاف. وفي هذه النقطة تتوازى العلاقة بين الإنسان والله بمثيلتها بين الإنسان والعالم، وتتأكَّد الطبيعة البرزخية للوسيط الإنساني. وإذا كانت المماثلة بين الإنسان والعالم قد قامت على أساس رباعي، فإن المماثلة بين الله والإنسان تقوم أيضًا على أساس رباعي يحتوي في باطنه جوانبَ المغايرة والاختلاف.

(٢) ثنائية الله والإنسان

إن حقائق الألوهة التي يمثل الإنسان الكامل صورتها حقائقُ متنوعة، تتضمن التماثل والتضاد والاختلاف. وإذا كانت هذه الحقائق قد ظهرت متفرقةً في أعيان صور الموجودات، أو لنقُلْ في العالم، فإنها قد وُجدت بكمالها في الإنسان. فمن هذه الحقائق أن الله هو الأول والآخر والظاهر والباطن. وهي حقائق متضادة، توجد بكمالها في الإنسان وإن اختلف معناها في الإنسان عنها في الله. ولكن هذه الحقائق الإلهية — من جانب آخر — تكتسب مغزاها ومعناها بالإضافة للعالم والإنسان. فلو تصورنا ارتفاع العالم والإنسان من الوجود، لم نقُلْ: أولًا أو آخرًا أو ظاهرًا أو باطنًا. إن الألوهة نفسها لا تُعقَل إلا بوجود المألوه، والربوبية لا تُعقَل إلا بوجود المربوب، وهكذا كل الحقائق الإلهية. ومعنى ذلك أن العلاقة بين الله والإنسان، أو الأصل والصورة، هي علاقةُ تلازُم؛ «لأن كل حقيقة تُعقل للحق لا تُعقل مجردةً عن الخلق، فهي تطلب الخلق بذاتها، فلا بد من معقولية حق وخلق؛ لأن تلك الحقيقة الإلهية من المحال أن يكون لها تعلق أثري في ذات الحق، ومن المحال أن تبقى معطلةَ الحكم؛ لأن الحكم لها ذاتي، فلا بد من معقولية الخلق؛ سواء اتصف بالوجود أو بالعدم.»٩
إن هذا التلازم بين الحق والخلق، أو بين الله والإنسان، تلازُمٌ معقول أو تلازم ذهني، لا يعني أن وجود العالم والإنسان هو الذي أكسب الذات الإلهية أسماءها وصفاتِها وحقائقَها. وإذا كانت لغة ابن عربي توقِعنا أحيانًا في مثل هذا الوهم، فتفرقته في مراتب الوجود بين الوجود العيني والوجود الذهني يمكن أن تفسِّر مثل هذا التناقض وتزيل هذا الوهم، فالعالم وكذلك الإنسان لهما وجود علمي سابق على وجودهما العيني. ويُعَد هذا الوجود في العلم مرتبة من مراتب الوجود، وهو وجود العالم والإنسان كأعيان ثابتة في العدم. وهذا الوجود هو الأساس، أو هو البزرة التي ينتُج عنها الوجود العيني. وإذا كان الوجود العيني للعالم والإنسان قد شفَع وجود الحق وثنَّاه، فإن هذا الوجود في علم الله يمكن أيضًا النظرُ إليه على أنه وجودٌ ثانٍ، ولكن في مرحلة الوحدة. هو وجودٌ ثانٍ إذا صحَّ لنا التفرقة بين العالم والعلم تفرقةً ذهنية، وعلى ذلك فالعالم والإنسان قد شفَعا وجود الحق؛ سواءٌ اتصفا بالوجود العيني أو بالعدم العيني؛ إذ هذا العدم العيني مسبوق بالوجود العلمي، وهو وجود الأعيان الثابتة في العدم. وعلى ذلك «فإن ثبوت عينه في العدم به يكون التهيؤ لقَبول الآثار، وثبوته في العدم البزرة لشجرة الوجود، فهو في العدم بزرة، وفي الوجود شجرة … وإذ والأمرُ على ما ذكرناه فما في العلم إلا الشفع، وهو تثنية الجمع، لأن الحقائق الإلهية كثيرة، والمحققات على قدرها أيضًا، فثنَّت المحققاتُ الحقائق في العلم وإن لم تتصف بالوجود العيني.»١٠
إن هذا التلازم بين حقائق الألوهة وحقائق الإنسان والعالم، أو بين الحق والخلق، تلازم ضروري، ولكنه لا يعني التطابق أو الوحدة، فحقيقة العبد هي العبودية، وحقيقة الرب هي الربوبية؛ وإن استند كلٌّ منهما للآخر من حيث التعلُّقُ الذهني أو العقلي: «إن العبد هو عبد لذاته، ولكن لا تُعقل له عبوديةٌ ما لم يُعقل له استناد إلى سيد، والرب رب لذاته، ولكن لا تُعقل له ربوبية ما لم يُعقل له مربوبٌ هو مستنده، فكل واحد سند للآخر، فالمعلوم أعطى العلْم للعالم فصيَّره عالِمًا، والعلم صيَّر المعلوم معلومًا. ومن حيث ارتفاع هذا الذي قلناه فلا عالم ولا معلوم ولا ربَّ ولا مربوب. وليس الأمر إلا عالم ومعلوم ورب ومربوب، وهو الذي عليه الوجود، فليتكلم بما أعطاه الوجود والشهود، وليترك وهميات الجائز العقلي.»١١ فالعلاقة إذن بين الله والإنسان علاقة ضرورية تقوم على الاستناد والتعلق. وهذه العلاقة يمكن التعبير عنها من خلال ثنائيات متعددة يستحيل الفصل بين طرفَي كل منها وجوديًّا، وإن أمكن — عقليًّا — إدراكُ كل طرف بمعزِل عن الآخر. إنها علاقة الأصل بالصورة، والباطن بالظاهر، والأول بالآخر، والحق بالخلق، والسيد بالعبد، والرب بالمربوب، والإله بالمألوه. وهي كلها علاقات متلازمة لا تُعقل إحداها بمعزِل عن الأخرى. ويمكن لنا أن نأخذ علاقة «الباطن-الظاهر» كمثال نوضح من خلاله هذا التلازمَ بين الله والإنسان. وتحليل هذه العلاقة يمكن أن يضيء لنا جوانب من مفهوم «الصورة» التي خُلق عليها الإنسان؛ سواء كانت صورة الإنسان في علم الله، أو كانت صورة الأسماء الإلهية.

إن الله يمكن أن يوصف بالظاهر والباطن من خلال منظورين متغايرَين، فهو ظاهر لنفسه أزلًا لم يَحتَجْ في ظهوره إلى شيء آخر خارجه. ولكنه — من جانب آخر — ظاهر في أعيان صور الموجودات، وأهمها الإنسان، فهو ظاهرًا أزلًا من حيث علمه بذاته، وهو ظاهر بأسمائه في صور الموجودات، وهذا الظهور أدى إلى بطون ذاته في حجب الأكوان. والإنسان — على العكس في ذلك — كان باطنًا في العالم الإلهي ثم ظهر من حالة الوجود العلمي إلى الوجود العيني، فوجوده العيني ظهور، ووجوده العلمي بطون. وظهور الإنسان في الوجود العيني أدَّى إلى بطون الذات الإلهية، فصار الإنسان حجابًا أو ظلًّا تحتجب وراءه الذات الإلهية، وإن كان ظهوره قد أدَّى — من جانب آخر — إلى ظهور الأسماء الإلهية من حالة بطونها في الذات. إن الأسماء الإلهية، أو حقائق الألوهة في هذه الحالة، تمثل الوسيط بين الذات الإلهية والإنسان أو العالم، وهي في هذه الحالة أشبه بالظل القائم بالذات الإلهية، الذي قد يمتد عنها فيَحجُبها، والذي قد يظل لاصقًا بها فيكون هو نفسه محجوبًا. وامتداد حقائق الألوهة — أو الظل — يمثل ظهور العالم والإنسان، فظهور الإنسان يعني بطون الذات الإلهية، وبطون الإنسان يعني ظهور الذات الإلهية. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى علاقة الإنسان بالله على أساس أنها قائمة على التضاد، فلا يظهران معًا أبدًا، فظهور الذات الإلهية يعني بطون الإنسان، وظهور الإنسان يعني بطون الذات الإلهية. ولا يتعارض هذا مع أن الإنسان يُظهر حقائق الألوهة من بطونها؛ فالألوهة وسيط بين الذات الإلهية والإنسان.

إن علاقة الظاهر والباطن بين الله والإنسان، وإن قامت على التلاؤم والارتباط الضروري بينهما، لا تعني حاجة الله للإنسان؛ فالذات الإلهية ظاهرة لنفسها أزلًا. إن الذات الإلهية تحتاج للإنسان لإظهار حقائق الألوهة في صورة غيرية تُعرَف من خلالها معرفةً مغايرة لمعرفتها بذاتها؛ فيتحقق لها كمال المعرفة بمرتبتَيها القديمة والحادثة. وإذا كانت حقائق الألوهة تظهر بتمامها في الإنسان الكامل، فإنها هي نفسها الظلُّ القائم أو البرزخ بين الحق والخلق؛ بمعنى أن الألوهة تمثل برزخًا بين المتماثلَين؛ أي: بين الله والإنسان، «وهو الفصل الذي يكون بين الحق والإنسان الكامل، فإن هذا الفصل أوجب تميُّزَ الحق من الخلق، فينظر بما هو أليقُ، وموضعه ضرب المثال الظل الذي في الشخص الممتد عنه الظلُّ الممدود، فالظل القائم به بين الشخص والظل الممدود المنفصل عنه ذلك؛ هو البرزخ، وهو بالشخص القائم به ألصق؛ فهو به أحق، فبالحق مُيِّزَ الخلق لا بالخلق يميز الحقُّ عنه؛ لأن الخلق متلبِّسٌ بنعوت الحق، وليس الحق متلبِّسًا بالخلق؛ ولذلك كان ظهور الخلق بالحق، ولم يكن ظهور الحق بالخلق؛ لكون الحق لم يزل ظاهرًا لنفسه، فلم يتصف بالافتقار في ظهوره إلى شيء؛ كما اتصف الخلق بالافتقار في ظهوره لعينه في عينه إلى الحق. ونريد بالخلق هنا الإنسان الذي له المثلية لا غيره، فإن هذا الفصل وقع بين المِثلَين، فللفصل حكم المِثلَين بلا شك؛ لأنه يقابل كل مثل بذاته، ولولاه لَمَا تميَّز المثل عن مثله.»١٢

إن ثنائية «الظاهر-الباطن» بين الله والإنسان تقودنا بالضرورة إلى مفهوم الصورة الإنسانية ومماثلتِها للصورة الإلهية. وإذا كانت هذه الثنائية تقوم على أولية للظهور الإلهي على الظهور الإنساني، فإن علاقة الصورة تقوم — بدورها — أيضًا على أولية للأصل، وهذه العلاقة — بدورها — تحتاج لمزيد من التحليل قد يضيء — بدوره — ثنائية الظاهر والباطن بشكل أعمق.

(٣) الباطن والظاهر

إن الصورة الإلهية التي خُلق عليها الإنسان ليست في حقيقتها إلا صورة الألوهة، أو حقائق الأسماء الإلهية، أو الصورة الإنسانية في علم الله القديم إذا عاد الضمير — في الحديث النبوي — إلى آدم. وأيًّا كان الأمر فالصورة لا تماثل الأصل ولا تطابقه مطابقةً تامة. إن الصورة تفترض وسيطًا مرآويًّا عاكسًا، كما تفترض تقابلًا بين الأصل وصورته. وهذا الوسيط والتقابل ينفي توحُّد الأصل بالصورة والتطابقَ الكامل بينهما. إن الوسيط المرآوي في حالة شفافيته الكاملة واستوائه التام عن أيِّ تحدُّب أو تقعُّر — وهي الحالة التي يمثلها مفهوم الإنسان الكامل — تعكس ما يقابلها بشكل مختلف؛ بحيث يظهر اليمين يسارًا واليسارُ يمينًا. وهذا التقابل يتجلى بدوره في الصورة الإنسانية من خلال ثنائية «الثبات والتنوع» التي تلقي بثنائية الظاهر والباطن، فللألوهة باطن ثابت وظاهر متنوع، وللإنسان ظاهر ثابت وباطن متنوع، فباطن الألوهة هو ظاهر الإنسان، وظاهر الألوهة هو باطن الإنسان. الألوهة ثابتة من حيث باطنها؛ لأنها ليست غير الذات الإلهية، وهي متنوعة من حيث ظاهرها؛ لأنها ليست سوى أعيان صور الموجودات. وباطن الإنسان — في المقابل — متنوع؛ لأن قلبه ومشاعره وأحاسيسه في حالة تغير دائم وحركة مستمرة لا تهدأ ولا تثبت، أما ظاهره الحسي فله قدر من الثبات بحيث لا تخطئه العين في أحواله النفسية والقلبية المتعددة. إن ثنائية الظاهر والباطن في الألوهة تظهر بذاتها في الإنسان، ولكن بشكل مغاير يتجلَّى في تنوع الباطن وثبات الظاهر، كما تعكس المرآة يمين الشيء شمالًا وشماله يمينًا. ومعنى ذلك أن الإنسان وإن كان في حقيقته على صورة الله فهو مغاير له، «فله التنوع في باطنه، وله الثبوت في ظاهره، فلا يزيد فيه عضو لم يكن عنده في الظاهر، ولا يبقى على حال واحد في باطنه، فله التنوع والثبوت، والحق موصوف بأنه الظاهر والباطن، فالظاهر له التنوع والباطن له الثبوت، فالباطن الحق عين ظاهر الإنسان، والظاهر الحق عين باطن الإنسان، فهو كالمرآة المعهودة إذا رفعت يمينك عند النظر فيها إلى صورتك رفعت صورتك يسارها، فيمينك شمالها وشمالك يمينها، فظاهرك أيها المخلوق على صورة اسمه الباطن، وباطنك اسم الظاهر له، ولهذا يُنكَر في التجلي يوم القيامة، ويعرف ويوصف بالتحول في ذلك، فأنت مقلوبه، فأنت قلبه وهو قلبك.»١٣
إن هذا التقابل بين الله والإنسان من حيث «الظاهر والباطن» ومن حيث «التنوع والثبات»؛ أساسه التماثل القائم على الخلاف بين الأصل والصورة. غير أن هذا الخلاف لا يعني التضاد بين حقائق الألوهة وحقائق الإنسان، إنه خلاف يؤدي إلى الوفاق والمحبة والالتئام. وإذا كانت الغاية من إظهار حقائق الألوهة هي المعرفة «فخلقت الخلق فبي عرفوني»، فإن هذا الخلاف يمثل حجر الزاوية في رحلة المعرفة الإنسانية، فلو كان التماثل بين الله والإنسان قائمًا على التطابق والتوحُّد، لم يكن للمعرفة معنًى أو طريق، فالمعرفة تفترض تغايرًا بين الذات وموضوعها من جهة، كما تفترض نوعًا من التشابه من جهة أخرى، أو لنقُلْ إن المعرفة لا تبدأ من المجهول المطلق وإلا انتهت إلى لا شيء، فالتماثل بين الله والإنسان يجعل المعرفة ممكنة، والتغاير والاختلاف يجعل للمعرفة معنًى. إن الفارق في هذه النقطة بين ابن عربي وابن سبعين مثلًا، وهو من أصحاب وحدة الوجود الصريحة، أن ابن سبعين ينكر أيَّ ثنائية بين الله والعالم، ومن ثَم يذهب إلى أن «الخلق أو الغير … ليس متميزًا عن وجود الله، فما أخبر عن الله سوى الله، فما ثَم في الوجود خلق أو غيرٌ بوجه من الوجوه.»١٤
وقد نجد في بعض نصوص ابن عربي ميلًا إلى مثل هذا التصور، ولكنه ميل لا ينفي الثنائية ولا يُلغيها، ويجب فهم هذه النصوص في ضوء هذه التفرقة الأساسية. إن المعرفة تبدأ من الثنائية، ولكنها قد تنتهي إلى الوحدة، وليست الوحدة التي تنتهي إليها المعرفة وحدةً بين الذات الإلهية وذات الإنسان، ولكنها وحدة التحقق بكمال الوجود الإنساني على الصورة الإلهية. من هذا المنطلق يُعَد الخلاف بين الأصل الإلهي والصورة الإنسانية مَعبرًا للمعرفة وطريقًا للتحقق بكمال الصورة، «فأشد الأشياء مواصلةً ومحبةً واتحادًا الخلافُ مع مخالفة، ولهذا يكون الخلاف بحسَبِ مَن يخالفه، ولا يتميز عن صاحبه إلا بحُكمه … وأما المِثْل مع مثله فإن المناسبة تجمع بينهما في المودة، فيحب كلُّ مثل مثله بما فيه من المناسبة المثلية وإن لم يجتمعا، فيشبه المثل الخلاف في المحبة وإن كان بينهما فُرقانٌ بالحقائق فيهما.»١٥
ويمكن القول مع ابن عربي إن العلاقة بين الله والإنسان تقوم على أبعاد ثلاثة: هي المماثلة والخلاف والضدية. المماثلة نابعة من أن الإنسان على صورة الله، والخلاف نابع من أن الصورة تُغاير الأصل، ولكن هذا الخلاف القائم على المماثلة يؤدي إلى التوافق والمحبة والائتلاف التي تؤسس بدورها ركائزَ المعرفة التي يتحقق بها الهدفُ النهائي من الإيجاد. أما علاقة الضدية فهي علاقة الذات الإلهية بالذات الإنسانية، فهما ذاتان متغايرتان تغايرًا حاسمًا هو تغاير الأضداد. الضدية لا تجعل العبد ربًّا أو الربَّ عبدًا من حيث الذات، والمماثلة تعني الاتفاق في الصفات العامة أو الحقائق، وهي الصورة، والخلاف ناتج عن المفارقة بين الأصل والصورة. فالإنسان مِثْل لله «من حيث الصورة الإلهية، ضدٌّ من حيث إنه لا يصحُّ أن يكون في حال كونه عبدًا ربًّا لمن هو عبدٌ له، خلافٌ مِن حيث إن الحق سمعه وبصره وقواه، فأثبته وأثبت نفسه في عين واحدة.»١٦ ولا يكون الله سَمْع العبد وبصرَه حتى يحبَّه، ولا يحبه حتى يتقرَّب إليه بالنوافل؛ كما جاء في الحديث النبوي الذي يستند إليه ابن عربي. ولا يكون الحق سمْعَ العبد وبصره إلا إذا كانا متمايزَين من حيث العين، ولكنه التمايز القائم على التماثل، وهذا التمايز أو الخلاف هو الذي يؤدي إلى المحبة والوفاق والالتئام.
وإذا كان الإنسان الكامل هو الإنسان الذي يماثل الحق مماثلةً تامة، فإن هذه المماثلة مماثلةٌ معرفية لا وجودية؛ بمعنى أنه يصل إلى معرفة أنه على الصورة، ولا يستغرقه التغاير والاختلاف الناتج عن الصورة، فيعرف أن هذا الاختلاف أشدُّ دلالة على أنه صورة، ومن ثَم يكون تحقُّقه بالمعرفة تحقيقًا لتمام الصورة. ومع هذه المعرفة أيضًا يدرك الإنسان الكامل حقيقة عبوديته التي لا تشوبها رائحة من الربوبية. «إن الإنسان الكامل امتاز عن الكل بالمجموع وبالصورة، فاعلم هذا، فلا تصحُّ العبودية المحضة التي لا تشوبها ربوبيةٌ أصلًا إلا للإنسان الكامل وحده، ولا تصحُّ ربوبيةٌ أصلًا لا تشوبها عبودية بوجه من الوجوه إلا لله تعالى، فالإنسان على صورة الحق من التنزيه والتقديس عن الشوب في حقيقة، فهو المألوه المطلق، والحق سبحانه هو الإله المطلق، وأعني بهذا كلِّه الإنسان الكامل، وما ينفصل الإنسان الكامل عن غير الكامل إلا برقيقة واحدة؛ وهي ألَّا يشوب عبوديته ربوبية أصلًا.»١٧
إن الإنسان الكامل — كما سبقت الإشارة — ليس هو الله، قد يكون نائبًا أو خليفة أو بدلًا أو صورة، ولا يعني هذا أنه هو. وهذا العلم هو ما يطلق عليه ابن عربي «علم إلحاق الإنسان الكامل بربه»،١٨ وهي معرفة الإنسان الكامل بأنه على صورة الله، وتحققه الكامل بعبوديته المحضة في نفس الوقت. إن الإنسان يقابل الحضرة الإلهية كما يقابل العالم، وإذا كانت الحضرة الإلهية هي الذات الإلهية والصفات والأفعال، فإن الإنسان من حيث مقابلته بالذات فهو ضدٌّ لها، ومن حيث مقابلته بالصفات فهو مِثل، ومن حيث مقابلته بالأفعال فهو خلاف. وهذه الحقائق الثلاث، من المماثلة والخلاف والضدية، تمثل جوهر علاقات التشابه بين الله والإنسان؛ بمعنى أن الضدية تمنع التوحُّد، والمماثلة تخلق الرابطة، والخلاف يؤدي إلى المعرفة. الضدية في الذوات، والمماثلة في الصفات، والمخالفة في الأفعال، «فأما كونه ضدًّا فيما هو عاجز جاهل قاصر ميتٌ أعمى أخرسُ ذو صَمَم فقير ذليل عَدَم. وبما هو مِثل ظهوره بجميع الأسماء الإلهية والكونية فهو مِثْل للعالم ومثلٌ للحضرة، فجمع بين المِثْليَّتين، وليس ذلك لغيره من المخلوقين، فهو حي عالم مريد قادر سميع بصير متكلم عزيز غني؛ إلى جميع الأسماء الإلهية كلها والأسماء الكونية، فله التخلُّق بالأسماء.»١٩ ولكن كيف يوفِّق ابن عربي بين ضدية الذات الإنسانية مع الذات الإلهية، وبين تماثل صفاتهما وتغاير أفعالهما؟ وبعبارة أخرى كيف يمكن أن يوصف الإنسان بمثل هذه الأوصاف المتعارضة؛ من أنه عاجز جاهل قاصر ميت، وأنه في نفس الوقت حي عالم مريد قادر سميع؟ من الواضح أن ابن عربي يصف بالنعوت الأولى ذات الإنسان حالَ تجرُّدها عن أي وصف، ويصف بالنعوت الثانية هذه الذاتَ نفسها حالَ اتصافها بالصفات والأسماء الإلهية. ومعنى ذلك أن الذات الإنسانية التي تتصف بالوجود المطلق، فالتضاد بين الذات الإلهية والذات الإنسانية هو تضادٌّ بين الوجود المطلق والعدم، فكيف إذن تنتقل الأسماء الإلهية إلى الذات الإنسانية فتَهبُها الوجود؟ في الإجابة عن مثل هذا السؤال يكمُن سرُّ الإيجاد كله وسر المعرفة أيضًا.

(٤) الإنسان والأسماء الإلهية

إن ظهور الألوهة من حالة بطونها في الذات الإلهية؛ يعني ظهور أعيان الممكنات من عدمها الثبوتي أو من وجودها العدمي كأعيان ثابتة. وإذا كانت كلُّ مرتبة من مراتب الوجود قد ظهرت باسم إلهي خاص يتناسب مع هذه المرتبة، فإن ظهور الإنسان قد توجَّهت عليه الأسماءُ الإلهية كلها. ويمكن القول إذن إن للأسماء الإلهية وجودًا سابقًا على وجود الإنسان؛ لأنها أسماء أزلية للذات الإلهية، غير أنها كانت باطنة ثم أبرزتها أعيانُ صور الموجودات، فالأسماء الإلهية على ذلك أصلية في الألوهة مستعارةٌ في الإنسان. يتساوى في ذلك أسماءُ التنزيه وأسماء التشبيه، فالأصل في نظر ابن عربي أن الأسماء الإلهية — أو الألوهة — هي العلة الفاعلة في كل مراتب الوجود من أرقاها إلى أدناها، وأن كل فعل كونيٍّ إنما هو في حقيقته فعل إلهي يحتجب وراء الأسباب والعلل المباشرة. ومن هذا المنطلق فإن كل الأسماء في الكون أسماء إلهية، حتى ما يوهِم منها التشبيه بالخلق أو بالأكوان؛ «فإنه ما ثَم مسمًّى بالأصالة إلا الله … فإن الحق هو المشهود بكل عين في نفس الأمر، ولا يعلم ذلك إلا الآحاد من أهل الله.»٢٠
إن العامة — فيما يقول ابن عربي — يميزون بين صفات الحق وصفات الخلق، ويرون أن الحق قد ظهر بصفات الخلق، ويقصدون بذلك صفاتِ التشبيه كالفرح والعجب والمكر وغيرها من الصفات التي توهم مشابهة الله لخلقه، ويعتبرون أن هذا الاتصاف من الحق بصفات الخلق نزولٌ «من الحق تعالى إليهم بصفاتهم».٢١ أما صفات التنزيه — أو الأسماء الحسنى — كالقادر والحي والعالِم، فهي في نظرهم صفات الحق، «وأن العبد علَت منزلتُه عند الله حتى تحلَّى بها».٢٢ ومثل هذا التصور القائم على التفرقة بين صفات الحق وصفات الخلق يوهم التساويَ بين الحق والخلق؛ بحيث يمكن أن يستعير كلٌّ منهما صفاتِ الآخر من طريقتين مختلفتين: هما النزول من الحق والعلو من الخلق. وابن عربي لا ينكر أن هناك طريقتين، ولكنه ينكر استعارة الحق أسماءَ الخلق، فالأسماء كلها لله وبالأصالة، والخلق قد ظهر بها، سواءٌ كانت هذه الأسماء أسماءَ تنزيه أم أسماء تشبيه.
وإذا كان الإنسان على صورة الله؛ بمعنى أنه جامع الأسماء الإلهية، فإن هذه الجمعية جمعية استعارية؛ بمعنى أن هذه الأسماء أصيلة في الله مستعارةٌ في الإنسان؛ وذلك بحكم التنزل الإلهي في صور أعيان الممكنات بدءًا من أعلاها إلى أدناها، وهذا هو معنى السواء عند ابن عربي بين طريقتين هما طريق الحق وطريق الخلق. «واعلم أن السواء بين طريقين؛ لأن الأمر محصور بين ربٍّ وبين عبد، فللرب طريق وللعبد طريق، فالعبد طريق الرب فإليه غايته، والرب طريق العبد فإليه غايته، فالطريق الواحدة العامة في الخلق كلهم هي ظهور الحق بأحكام صفات الخلق، فهي في العموم أنها أحكام صفات الخلق، وهي عندنا صفات الحق لا الخلق؛ وهذا معنى السواء. والطريق الآخر ظهور الخلق بصفات الحق التي تتميز في العموم أنها صفات الحق كالأسماء الحسنى وأمثالها، وهذا مبلغ علم العامة. وعندنا وعند الخصوص كلُّها صفات الحق بالأصالة ما أُضيف إلى الخلق منها مما تجعله العامةُ نزولًا من الله إلينا بها، وهي عندنا صفات الحق … فهي عند العامة أسماءُ نقص وعندنا أسماء كمال؛ فإنه ما ثَم مسمًّى بالأصالة إلا الله. ولمَّا أظهر الخلق أعطاهم من أسمائه ما شاء وحققهم بها، والخلق في مكان النقص لإمكانه وافتقاره إلى المرجح، فما يُتخيل أنه أصل فيه وحق له، أتبعوه في الحكم نفسه، فحكموا على هذه الأسماء الخَلْقية بالنقص. وإذا بلغهم أن الحق تَسمَّى بها ويصف نفسه بها يجعلون ذلك نزولًا من الحق تعالى عليهم بصفاتهم، وما يعلمون أنها أسماء حق بالأصالة، فعلى مذهبنا في ظهور الخلق بصفات الحق تعمُّ الخلق أجمعه، فكل اسم لهم هو حق للحق مستعارٌ للخلق.»٢٣
هناك إذن طريقان وغايتان: طريق الرب، وغايته الإنسان الذي تكتمل به دائرةُ الوجود وجوديًّا ومعرفيًّا، في هذا الطريق يظهر الحق في أعيان صور الموجودات بأسمائه كلها، فيهبها الوجود كما يهبها أسماءه. والطريق الآخر هو طريق العبد، وغايته الوصول إلى ربه، والعلمُ بحقيقة الصورة التي هو عليها. وقد يُتوهم في الطريق الأول أن الحق تَسمَّى بأسماء خلقه، ويُتوهم في الطريق الثاني أن العبد تَسمَّى بأسماء الحق، وهو وهم يزيله ابن عربي، فالطريقان سواءٌ في أن الأسماء كلها أسماء إلهية، والعلم بذلك لا يكون إلا للخصوص من أهل الله؛ أي: العلم بأصالة الأسماء لله واستعارتها في الإنسان. إن رحلة الإنسان الصاعدة إلى ربه، وتحلِّيَه بالأسماء الإلهية، لا تعني أنه كان خُلْوًا منها، بل يعني أنه كان على غير علم بهذا التحلي. ومعنى ذلك أن طريق العبد إلى الرب يستهدف المعرفة لا الخروجَ عن الأوصاف الذاتية واكتسابَ أوصاف جديدة. وقد يتوهم بعض المتصوفة أنهم يتحلَّون فعلًا بالأسماء الإلهية، خاصةً الأسماءَ الحسنى منها، ويتصورون أن ذلك لا يكون إلا لأهل الخصوص. ويرى ابن عربي أن العلم بذلك لا يكون إلا للخصوص من أهل الله «وفَرْق عظيمٌ بين قولنا لا يكون ذلك، وبين قولنا لا يكون العلم بذلك؛ فإن الحق هو المشهود بكل عين في نفس الأمر.»٢٤
إن الحقيقة الوجودية تستلزم أن الأسماء أصيلة في الألوهة، مستعارة في الإنسان، والحقيقة المعرفية قد توهِم غير ذلك، فيتصور البعض أن هناك أسماءً للحق وأسماء للخلق، وأن كلًّا منهما يمكن أن يستعير من الآخر. إن الأسماء كلها — حتى ما يوهِم منها النقص — هي لله بالأصالة، والنقص الذي نحكم به على بعض هذه الأسماء ناتج عن وجودها المستعار في الإنسان. وهذا الفارق بين أصالة الأسماء الإلهية واستعارتها في الإنسان؛ يرتدُّ إلى الفارق الذي أشرنا إليه فيما سبق بين الصورة والأصل، أو بين الألوهة والإنسان، فللأسماء الإلهية — بدورها — جانبان: جانب الأصل والحقيقة، وجانب الظل والصورة، أو الروح والصورة، فأرواح الأسماء هي جانبها الإلهي، وصوَرُها هي جانبها الإنساني، «فالله اسم خاص بالحق في مقابلة الإنسان اسم خاص للصورة. وأسماء الحق الباقية مركَّبة من روح وصورة، فمن حيث صورتها تدلُّ بحكم المطابقة على الإنسان، ومن حيث روحها ومعناها تدل بحكم المطابقة على الله … فالأمر بيننا وبينه على السواء؛ مع الفرقان الموجود المحقَّق بأنه الخالق ونحن المخلوقون.»٢٥
وهكذا نجد أن المماثلة بين الله والإنسان من حيث الصورة أو من حيث الأسماء مماثلةٌ لا تقوم على التطابق، وإنما تقوم على التغاير والخلاف؛ إلى جانب التضاد الذي أشرنا إليه بين الذات الإلهية والذات الإنسانية. وهذه هي الأبعاد الثلاثة للعلاقة بين الله والإنسان. وهذه الأبعاد الثلاثة بكاملها توجد في الألوهة أو الأسماء الإلهية «في الإنسان الكامل المثل والضد والخلاف؛ كما هو في الأسماء الإلهية: المثل كالرحمن الرحيم، والخلاف كالرحمن الصبور، والضد كالضار النافع.»٢٦ وهكذا ينتهي ابن عربي إلى المماثلة الكاملة. ويمكن القول في النهاية إن حرص ابن عربي على المماثلة لا يقلُّ عن حرصه على المغايرة والخلاف. وهذا الحرص هو ما يفسِّر لنا تأرجحه الدائم بين البُعدين. ويعود هذا التأرجح في فكره إلى رغبته في إقامة الوحدة مع حرصه أيضًا على الثنائية؛ وذلك من خلال فكرة الوسيط أو البرزخ على المستويين الوجودي والإنساني على السواء. وقد يمكن القول — في النهاية — إنه لا يُفلح في تجاوز الثنائية وإن كان يحاول جاهدًا تجاوُزَها. ومن هنا يصحُّ القول إن التجاوز الوحيد والمتاح للثنائية إنما هو تجاوز معرفي لا وجودي، فالإنسان بحكم كونه على الصورة، وبحكم طبيعته البرزخية، قادرٌ على اختراق الوسائط في رحلة صاعدة شاقة تقابل رحلةَ النزول من عالم البرزخ الأعلى لحقائق الألوهة في أعيان صور الموجودات.
إن الطريقين اللذين يميز بينهما ابن عربي وجوديًّا قد يتلاقيان معرفيًّا، ودون ذلك المجاهدات والمَشاقُّ والعقبات التي يجب على الإنسان اجتيازُها حتى يَنفُذ إلى باطنه الإلهي الخالص وحقيقته الروحية الأصلية. وتتمثل هذه المَشاقُّ والعقبات في جانبه الظاهر الكوني الذي يحجُب عنه حقيقتَه الروحية، كما حجَبت صورُ أعيان الموجودات حقائقَ الألوهة. فإذا تحقق الإنسان — معرفيًّا — بحقيقته الباطنية وصل إلى مرحلة الكمال، «فإذا لم يَحُز رتبة الكمال فهو حيوان تُشبه صورته الظاهرة صورةَ الإنسان.»٢٧ وبين الإنسان الكامل والإنسان الحيوان تتدرَّج مراتب البشر؛ طبقًا لمرتبة المعرفة التي يَصِلون إليها والآفاق الكونية التي يستطيعون اجتيازها.
١  عنقاء مغرب  ٣٨.
٢  الفتوحات ٢ / ٤٦٨.
٣  الفتوحات ٢ / ١٢٣-١٢٤، وانظر: عقلة المستوفز  ٤٥–٤٧.
٤  الفتوحات ٢ / ٤٤٦.
٥  الفتوحات ٣ / ٢٧٩-٢٨٠.
٦  الفتوحات ٣ / ٨، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٦٤٢.
٧  انظر: تعليقات أبي العلا عفيفي على الفصوص  ٨، إلى جانب ما أشرنا إليها سالفًا من مواضع كثيرة في دراسته عن ابن عربي.
٨  الفتوحات ٣ / ٣٩٩-٤٠٠.
٩  الفتوحات ٣ / ٢٨٦.
١٠  الفتوحات ٣ / ٢٨٦.
١١  الفتوحات ٤ / ١٠٢.
١٢  الفتوحات ٣ / ٢٨٦-٢٨٧.
١٣  الفتوحات ٤ / ١٣٥-١٣٦، وانظر أيضًا: الفتوحات ٣ / ٢٩٦.
١٤  انظر التفتازاني، ابن سبعين وفلسفة الصوفية  ٢١٦، ٢٣٠-٢٣١.
١٥  الفتوحات ٣ / ٢٦٩.
١٦  الفتوحات ٣ / ٢٧٠.
١٧  الفتوحات ٢ / ٦٠٣.
١٨  الفتوحات ٣ / ٢٧٤.
١٩  الفتوحات ٢ / ٤٤٦.
٢٠  الفتوحات ٣ / ١٤٧.
٢١  الفتوحات ٣ / ١٤٧.
٢٢  الفتوحات ٣ / ١٤٧.
٢٣  الفتوحات ٣ / ١٤٧.
٢٤  الفتوحات ٣ / ١٤٧.
٢٥  الفتوحات ٣ / ٢٦٦-٢٦٧.
٢٦  الفتوحات ٣ / ٢٧١.
٢٧  الفتوحات ٢ / ٤٦٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤