الفصل الرابع

الحقيقة والشريعة

إن إدراك الصوفي لباطن الشريعة وحقيقة الوجود إنما يُستمَد من الحقيقة الأصلية لكلٍّ من الوجود والشريعة، ونعني الحقيقة المحمدية السارية في الوجود بأسره، والتي تُستمَد كلُّ الشرائع من مِشْكاتها الأصلية. وإذا كانت كل الشرائع السماوية تنتسب في حقيقتها وباطنها إلى الروح المحمدي، فإنها في ظاهرها تُنسب إلى النبي الخاص الذي يُعَد بدوره مظهرًا لجانب ما من حقيقة محمد. وظهور محمد بالشريعة الإسلامية لا يعني ظهور الباطن، فمحمد نفسه مَجلًى للحقيقة المحمدية، وإن يكن هو المجلى التام، وإنما يعني ظهورُه اكتمالَ الظاهر ووصوله إلى غايته. وهذا هو التفسير الذي يطرحه ابن عربي لقول الرسول في حجة الوداع: «لقد استدار الزمان كهيئته يوم خلقه الله»؛ بمعنى أن دورة الاسم الباطن للحقيقة المحمدية قد اكتملت، وعاد الحكم له مِن اسمه الظاهر، فبرزت الشريعة في أقصى أشكال اكتمالها ونضجها.١
إن ثنائية الظاهر والباطن وعلاقتهما الجدلية المتفاعلة تتخذ في فكر ابن عربي أشكالًا عديدة، ويعبر عنها بصيغ مختلفة، فالنبوة بكل مظاهرها وتجلياتها تمثِّل المستوى الظاهر من الشريعة، والولاية بكل مراتبها تمثل المستوى الباطن. والتفاعل بين النبوة والولاية يتمثل في أنهما جميعًا مستمَدان من الحقيقة المحمدية، فهما مستمدان من أصل واحد. والفارق بين النبوة والولاية هو الفارق بين الوهب والاكتساب، فالنبوة موهوبة والولاية مكتسَبة بالتعمل والسلوك والمجاهدات. وإذا كنا في الباب الأول قد ركَّزنا على البُعد الوجودي للحقيقة المحمدية، فالذي يهمنا هنا هو إبراز جانبها المعرفي. وانطلاقًا من التفرقة الأساسية بين الذات الإلهية والعالم يرى ابن عربي أن الحقيقة المحمدية هي الأصل المعرفي لكل علوم الأولياء، أو العلوم الناتجة عن التجليات، فالحقيقة المحمدية حجاب معرفي بين الذات الإلهية والإنسان، «ومن خلف ذلك الحجابِ يكون التجلي، ومن وراء ذلك الباب يكون التدلي، كما إليه ينتهي التداني والتوالي. وعلى باطن ذلك الحجاب يكون التجلي في الدنيا للعارفين، ولو بلغوا أعلى مقامات التمكين. وليس بين الدنيا والآخرة فرقٌ عند العارف في التجلي من غير الإحاطة بالحجاب الكلي — وهو في حقنا حجاب العزَّة، وإن شئت رداءُ الكبرياء — كما أن ذلك الحجاب يكون تجلي الحق له خلف حجاب البهاء، وإن شئت رداء الثناء.»٢ فالحقيقة المحمدية هي المرآة العاكسة لحقائق الألوهة، وهي الغاية التي يجب على الصوفي الطموحُ إليها ليستمد منها الحقائق، «وأفضل المرائي وأعدلها وأقْوَمها مرآة محمد فتجلِّي الحق فيها أكمل من كل تجلٍّ يكون، فاجهَدْ نفسك أن تنظر إلى الحق المتجلي في مرآة محمد ؛ لينطبعَ في مرآتك فترى الحقَّ في صورة محمدية برؤية محمدية ولا تراه في صورتك.»٣
وإذا كانت الحقيقة المحمدية هي البرزخ الجامع بين الحق والخلق وجوديًّا، فهي البرزخ الجامع معرفيًّا بين الظاهر والباطن، وبين الشريعة والحقيقة، وبين النبوة والولاية. وإذا كان الحق وجوديًّا هو الأصل، فإن الباطن والحقيقة معرفيًّا هما الأصل، وإذا كانت النبوة تمثل ظاهر الشرائع ومستواها العام، فإن الولاية تمثل الباطن والمستوى الخاص. ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن تكون الولاية هي الأصل والنبوة هي الفرع. وللنبوة دورة بدأت بآدمَ وانتهت بمحمد المكي الذي بظهوره اكتمل ظاهر الشريعة، أما دورة الولاية فهي مستمرة لأن الباطن لا يتوقف عند صورة واحدة من صور الظاهر. ولكل نبي من الأنبياء جانبان يستمدهما من الحقيقة المحمدية؛ جانبُ النبوة التي تمثل المستوى الظاهر، وجانب الولاية التي تمثل المستوى الباطن. ويستند ابن عربي في مثل هذا التصور إلى ورود اسم «الولي» صفةً لله في القرآن، ولم تَرِد النبوة صفة له؛ مما يؤكد في فكر ابن عربي أوَّلية الولاية على النبوة، وبالتالي الباطن على الظاهر: «والولاية لها الأولوية ثم تنصحب وتثبت ولا تزول. ومن درجاتها النبوة والرسالة، فينالها بعض الناس ويصِلون إليها، وبعض الناس لا يصل إليها. وأما اليوم فلا يصل إلى درجة النبوة — نبوة التشريع — أحدٌ؛ لأن بابها مغلق، والولاية لا ترتفع دنيا ولا آخرة، فللولاية حكم الأول والآخِر والظاهر والباطن بنبوة عامة وخاصة وبغير نبوة. ومن أسمائه الولي، وليس من أسمائه نبي ولا رسول، فلهذا انقطعت النبوة والرسالة؛ لأنها لا مستند لها من الأسماء الإلهية، ولم تنقطع الولاية فإن الاسم الولي يحفظها.»٤
وانطلاقًا من أولية الولاية على النبوة وأوليةِ الباطن على الظاهر، يفرِّق ابن عربي بين الولاية العامة والولاية المحمدية الخاصة. الولاية العامة هي الأصل، والنبوة فرع لها، ولذلك فدائرة النبوة هي نفسها دائرة الولاية العامة، ويمثل الأنبياء، بدءًا من آدمَ وانتهاءً بعيسى، حلقاتٍ متتابعةً في هذه الولاية العامة: «ولها بدءٌ من آدمَ فختمها بعيسى، فكان الختم يضاهي البدء. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ، فختم بمثل ما به بدأ، فكان البدء لهذا الأمر بنبي مطلق وختم به أيضًا.»٥ ويستند ابن عربي في تصوره لعيسى خاتمًا للولاية العامة على ما ورد في المأثور من عودة عيسى في آخر الزمان؛ ليحكم بشريعة محمد، ويقيمَ العدل في الأرض على أساس من الشريعة الإسلامية. وتمثِّل عودة عيسى اكتمالًا للجانب الباطن من الشريعة، كما اكتمل الظاهر بظهور محمد: «ويرتفع اجتهاد المجتهدين بنزوله عليه السلام … وقد يكون له من الاطلاع على روح محمد كشف؛ بحيث أن يأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به في أمته ، فيكون عيسى عليه السلام صاحبًا وتابعًا من هذا الوجه، وهو عليه السلام من هذا الوجه خاتم الأولياء.»٦
أما الولاية المحمدية الخاصة فتختص بالعلماء العارفين من أتباع الشريعة الإسلامية، ولها كذلك دورتها، ولكنها دورة سرية باطنية لا يُعرَف على التحقيق ممثِّلوها، وإنما هو واحد لا يخلو عنه الزمان هو «القطب»، به يكون استمرار العالم. لا نعرف مِن ممثِّلي هذه الولاية سوى البداية والختم، فالبداية هي محمد من حيث كونه وليًّا لا من حيث كونه نبيًّا؛ أي: من جانبه الباطن لا الظاهر، أما الخَتْم — ختم الولاية المحمدية — فهو ابن عربي نفسه.٧ وإذا كان الختم دائمًا يمثل اكتمال الجانب الذي يمثله، فابن عربي يمثل اكتمال الجانب الباطن للشريعة المحمدية، وعيسى — خَتْم الولاية العامة — يمثل اكتمال الجانب الباطن للشرائع كلها. ويجب علينا ألا ننسى أن كليهما يستمِد معرفته من الحقيقة المحمدية الروحية الباطنة. وإذا كان ابن عربي يذهب إلى أن استمداد الرسل من كونهم أولياءَ لا يكون «إلا من مشكاة خاتم الأولياء»،٨ فليس معنى ذلك تقدُّمَ خاتم الأولياء (عيسى) على خاتم الأنبياء (محمد)، بل معناه التقدم في جانب والتأخر في جانب آخر. والمقارنة هنا بين محمد المكي أو الحقيقة التاريخية وعيسى؛ فمحمد المكي يستمد ولايته من مشكاة خاتم الأولياء، ومن هذه الزاوية يتقدم عيسى محمدًا. وإذا كانت الحقيقة الروحية المحمدية تمثل أصل الباطن والظاهر معًا؛ فمعنى ذلك أنها هي المشكاة الأصلية التي تُستمَدُّ منها كلٌّ من الولاية والنبوة. ومن الضروري الإشارة إلى أن مفاضلة ابن عربي بين الولاية والنبوة يجب النظر إليها في ضوء التفرقة بين الحقيقة المحمدية الروحية وبين الحقيقة التاريخية لمحمد. وعلى ذلك يمكن أن نفهم قوله إن خاتم الأولياء (عيسى) «كان وليًّا وآدمُ بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليًّا إلا بعد تحصيله شرائطَ الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله تعالى تَسمَّى ﺑ «الولي الحميد»، فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبتُه مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه (يعني: مع خاتم الأنبياء، وهو محمد التاريخي)، فإنه الولي، الرسول، النبي، وخاتم الأولياء، الولي، الوارث، الآخذ عن الأصل، الشاهد للمراتب.»٩ ومما يؤكد ما نذهب إليه قولُه عن خاتم الأولياء عيسى: «وإن كان خاتم الأولياء تابعًا في الحكم لِمَا جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه مِن وجهٍ يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى.»١٠ فعيسى تابع من حيث ولايته؛ لأنه يستمدها من الحقيقة المحمدية، وإن كان من جانبٍ آخرَ أعلى؛ من حيث إن ولاية محمد المكي مستمَدة من ولاية عيسى: «فهو يأخذ من مشكاة عيسى كغيره، وهذا محل الإشكال لأنه هو الممِدُّ للجميع بدءًا وعَودًا.»١١
وقد أدى غموض لغة ابن عربي خاصة في فصوص الحكم إلى اضطراب في فَهم المقصود بخاتم الولاية؛ هل المقصود بها ابن عربي نفسه «خاتم الولاية المحمدية»، أم المقصود بها عيسى «خاتم الولاية العامة»؟ وقد فَهِم أبو العلا عفيفي — مستندًا في ذلك على شرح القاشاني وبالي أفندي — أن ابن عربي يعني نفسه «عندما يستعمل خاتم الأولياء من غير تخصيص أو تقييد».١٢ ومثل هذا الفهم يتعارض بشكل أساسي مع فكر ابن عربي؛ إذ معناه أن ولاية محمد مستمدة من روح ابن عربي وكذلك ولاية عيسى، ولا يكون هناك معنًى للتفرقة بين ولاية عامة يمثل عيسى خاتمتها، ويُعتبَر بها «مقدمًا على جميع الأولياء من عهد آدم إلى آخر وليٍّ يكون في العالم»١٣ وولايةٍ خاصة يمثِّل ابن عربي خاتمتها. ويتعارض مثل هذا الفهم مع ما يورده أبو العلا عفيفي نفسه من نصوص ابن عربي من مثل قوله: «وكلامنا في اللواء الخاص بأمته . وللولاية المحمدية المخصوصة بهذا الشرع المنزل على محمد ختم خاص هو في الرتبة دون عيسى عليه السلام لكونه رسولًا.»١٤ والأقرب إلى سياق فكر ابن عربي أن يكون المقصود ﺑ «خاتم الأولياء» من غير تخصيص ولا تقييد، كما ورد في الفصوص، هو خاتم الولاية العامة عيسى.١٥

وننتهي إلى أن ثنائية الظاهر والباطن تنبَع في حقيقتها من أصل واحد هو الحقيقة المحمدية النورانية السارية في الكون بأسره، ومن هذا الأصل المتوحد يمثل الأنبياء والرسل تجلياتٍ لهذه الثنائية، فهم من حيث كونهم أولياءَ يتجلى فيهم البُعد الباطن، ويتجلى فيهم البعد الظاهر من كونهم أنبياء. ويصل الظاهر إلى أقصى أشكال اكتماله بظهور المجلى الأخير لهذه الحقيقة في شخص النبي. وهكذا تنتهي دائرة النبوة وتظل دائرةُ الولاية — المستوى الباطني — مستمرةً لتصل إلى أوْج اكتمالها في الشريعة المحمدية على يديِ ابن عربي، وتصل إلى أوْج اكتمالها العام بظهور عيسى في آخر الزمان.

الولاية المحمدية، أو الولاية الخاصة، هي إذنْ علمُ باطن الشريعة الذي يمكن أن يُفهَم الظاهرُ من خلاله ويؤوَّل على أساسه. والوارث المحمدي هو القادر على تأويل الشريعة؛ لأنه يستمِد الفهم من مصدرها الأصلي من خلال معراجه الخيالي وترقِّيه في المقامات والأحوال المختلفة. ويظل الفارق بين الولاية والنبوة فارقًا أساسيًّا، فالنبوة تتضمن الولاية؛ لأن الظاهر يشير إلى الباطن ويتضمنه، والولاية لا تتضمن النبوة؛ لأن الباطن لا يحتاج للظاهر. من هذه الزاوية يمكن القول — مع ابن عربي — إن الطرق إلى الله تتعدد بتعدُّد السالكين، ومن ثَم تتعدد معارجُ العلماء بتنوع التجليات الإلهية، وذلك لا يعني — في النهاية — أنها طرق مختلفة أو متناقضة، أو يمكن أن توصِلَ إلى نتائجَ مختلفة. إن دَرج معالي الأولياء والأنبياء واحد في حقيقته؛ «فإنه لكل شخص من أهل الله سُلَّم يخصه لا يرقى فيه غيرُه، ولو رقي أحدٌ في سُلَّم أحد لكانت النبوة مكتسَبةً — فإن كل سُلَّم يُعطي لذاته مرتبةً خاصة لكلِّ مَن رَقِي فيه — وكانت العلماء ترقى في سُلَّم الأنبياء فتنال النبوة برقيِّها فيه، والأمر ليس كذلك، وكان يزول الاتساع الإلهي بتكرار الأمر. وقد ثبت عندنا أنه لا تكرار في ذلك الجانب، غير أن عدد درج المعالي كلِّها — الأنبياء والأولياء والمؤمنون والرُّسل — على السواء، لا يزيد سُلَّم على سلم درجةً واحدة.»١٦
إن اختلاف الطرق لا ينفي وَحدةَ الحقيقة؛ فالطرق تختلف باختلاف السالكين من جهة، وبتنوع التجليات الإلهية من جهة أخرى. ويرجع اختلاف السالكين إلى اختلاف الأمزجة والطبائع والاستعدادات الروحية عند كل سالك؛ مما يؤدي إلى اختلاف النتائج التي يصلون إليها، فكل سالك يقف عند حدود معراجه الخاص، ويعبِّر عن معرفته الخاصة التي تعكس المدى الذي وصل إليه في معراجه: «ومع أن طريق الحق واحدة، فإنه يختلف وجوهه باختلاف أحوال سالكيه؛ من اعتدال المزاج وانحرافه، وملازمة الباعث ومعيته، وقوة روحانيته وضعفها، واستقامة همتها وميلها، وصحة توجهه وسَقَمه، فمنهم من تجتمع له، ومنهم من تكون له بعض هذه الأوصاف، فقد يكون مطلب الروحانية شريفًا ولا يساعده المزاج.»١٧ من هذه الزاوية تُعَد الولاية مكتسبة لأنها مرتبطة بالتعمل والمجاهدة؛ على عكس النبوة التي هي اختيار من الله واصطفاء.
والولاية تعني الوصول إلى غاية المعراج الصوفي ولا تعني اكتساب النبوة. إن الولاية هي العلم بالأسرار الإلهية، «والاطلاع على غوامض العلوم الإلهية»، وهي «سارية في عباد الله مِن رسول ووليٍّ وتابع ومتبوع».١٨ إنها نبوةُ تحقيق لا نبوة تشريع، والنبوة على العكس من ذلك تجمع بين التحقيق والتشريع، فالولاية لها بُعد واحد، والنبوة لها بُعدان: بُعد التحقيق وبعد التشريع، فالنبي «له جهتان: تبليغ الأحكام المتعلقة بحوادث الأكوان والإخبارُ عن الحق وأسمائه وصفاته، وأحوال الملكوت والجبروت وعجائب عالم الغيب، وهو باعتبار التبليغ رسولٌ وشارع، ونبوته تشريعية، وباعتبار الإنباء عن الغيب وتعريف الحق بذاته وأسمائه وليٌّ، ونبوته تحقيقية، فرسالة التشريع ونبوته تنقطعان؛ لأنهما كمال له بالنسبة إلى الخلق، وأما القسم الآخر فمن مقام ولايته التي هي كمالٌ له بالنسبة إلى الحق لا بالنسبة إلى الخلق، بل كمال حقَّانيٌّ أبدي.»١٩
إن جانبَي التحقيق والتشريع اللذين تتميز بهما النبوة جانبان متصلان غير منفصلين. وإذا كان الولي يختص بجانب التحقيق أو علم الباطن، فإن هذا الجانب الباطن لا يتناقض مع الشريعة الظاهرة، بل هو الأساس في فهمها وتأويلها على وجهها الصحيح. إن الولي لا يأتي بشريعة جديدة أو ينسخ حكمًا من أحكام الشريعة المقررة، بل يأتي بفَهم جديد مستمَدٍّ من المصدر الأصلي الذي استمد منه النبيُّ ذاته عن الروح الأمين، وإن كان الصوفي يستمد فَهْمه من روح النبي. إن للشريعة مصدرين: هما النص القرآني والأحاديث النبوية، يصاحبهما الإجماع الذي ينعقد على فهم هذين المصدرين من الفقهاء وعلماء الشريعة؛ بإعمال العقل ومنهج النقد التاريخي.٢٠ ومن الطبيعي ألا يقنَع المتصوفة بمنهج النقد التاريخي الذي يرتضيه المحدِّثون والفقهاء لتضعيف الحديث أو تقويته، ومن الطبيعي أيضًا أن يرفضوا منهجهم الفكري والاعتمادَ على القياس في تقرير الأحكام. إن الصوفي الولي قادر على تصحيح الحديث أو تضعيفه بالعودة إلى منبع الحديث وهي روح النبي: «وأما حالة أنبياء الأولياء في هذه الأمة فهو كل شخص أقامه الحق في تجلٍّ من تجلياته، وأقام له مظهر محمد ومظهر جبريل عليه السلام، فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطابَ الأحكام المشروعة لمظهر محمد ، حتى إذا فرغ من خطابه وفُزِّع عن قلب الولي، عقَل صاحب هذا المشهد جميعَ ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية، فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي للحضور الذي حصل في هذه الحضرة مما أمر به ذلك المظهر المحمدي من التبليغ لهذه الأمة، فيُردُّ إلى نفسه وقد وعى ما خاطب به الروحُ مظهر محمد ، وعلِم صحته علمَ يقين، بل عينَ يقين، فأخذ حكم هذا النبي وعمِل به على بيِّنة من ربه، فربَّ حديث ضعيف قد تُرك العمل به لضعف طريقه، من أجْلِ وضَّاع كان من رواته، يكون صحيحًا في نفس الأمر، أو يكون الواضع مما صدق في هذا الحديث ولم يضعه، وإنما ردَّه المحدِّث لعدم الثقة بقوله في نقله، وذلك إذا انفرد به ذلك الواضع، أو كان مدار الحديث عليه، وأما إذا شاركه فيه ثقةٌ سمِعه معه، قَبِل ذلك الحديث من طريق ذلك الثقة. وهذا ولي قد سمعه من الروح يُلقيه على حقيقة محمد كما سمع الصحابة في حديث جبريل عليه السلام مع محمد في الإسلام والإيمان والإحسان، وفي تصديقه إياه. وإذا سمعه من الروح الملقي فهو فيه مثل الصاحب الذي سمعه من فم رسول الله علمًا لا يشكُّ فيه؛ بخلاف التابع فإنه يقبله على طريق غلبة الظن لارتفاع التهمة المؤثرة في الصدق. ورُبَّ حديث يكون صحيحًا من طريق رواته يحصل لهذا المكاشِف الذي قد عاين هذا المظهر، فسأل النبي عن هذا الحديث فأنكره وقال لم أقُلْه ولا حكمت به؛ فيعلم ضعفه، فيترك العمل به عن بيِّنة من ربه، وإن كان قد عمل به أهلُ النقل لصحة طريقه وهو في نفس الأمر ليس كذلك.»٢١
إن هذا النقد لمنهج المحدِّثين في نقد الأحاديث وتصنيفها يقوم على أساسين؛ الأساس الأول: هو الحقيقة المحمدية الروحية التي تتجاوز إطار الزمان والمكان، والأساس الثاني: هو قدرة الصوفي العارف على الاتصال بهذه الحقيقة المحمدية في إطارها اللامحدود زمانيًّا ومكانيًّا؛ وذلك من خلال معراجه الخيالي.٢٢ ويمكن للصوفي — من خلال هذا الاتصال — أن يعاين العصر النبوي ويعايشه، فيكون كالصحابي الذي يسمع الحديث من فم الرسول؛ متجاوِزًا سلسلة الإسناد والنقل التاريخي، فيصحِّح حديثًا ضعيفًا أو يضعِّف حديثًا صحيحًا. ولا يكتفي ابن عربي بنقد منهج المحدثين، بل ينقد منهج الفقهاء في استخراج الأحكام من النصوص على أساس اعتمادهم على التواتر من جهة، واعتمادهم على فكرهم من جهة أخرى؛ الأمر الذي يوقعهم في دائرة الاحتمالات والظنون، ولا يمكن أن يصل بهم إلى علم قطعي يقيني؛ «فإن الفقهاء الذين أخذوا علمهم ميتًا عن ميت إنما المتأخر منهم هو فيه على غلبة الظن إذا كان النقل شهادةً والتواتر عزيزًا. ثم إنهم إذا عثروا على أمور تفيد العلم بطريق التواتر لم يكن ذلك اللفظ المنقول بالتواتر نصًّا فيما حكموا به، فإن النصوص عزيزة، فيأخذون من ذلك اللفظ بقدر قوة فَهمهم فيه، ولهذا اختلفوا. وقد يمكن أن يكون لذلك اللفظ في ذلك الأمر نصٌّ آخر يعارضه ولم يصل إليهم. وما لم يصل إليهم ما تُعبِّدوا به، ولا يعرفون بأي وجه من وجوه الاحتمالات التي في قوة هذا اللفظ كان يحكم رسول الله المشرِّع، فأخذه أهل الله عن رسول الله في الكشف على الأمر الجلي والنص الصريح.»٢٣
فالصوفي لا يصحِّح الحديث فقط أو يضعِّفه، ولكنه يفهم محتواه والحكمَ المتضمَّن فيه فَهمًا يقينيًّا قائمًا على الكشف، بعكس الفقيه الذي يظلُّ في دائرة الظنون والاحتمالات. ولعلنا بعد ذلك كله مطالَبون بالتسليم تسليمًا مطلقًا بكل ما يورده ابن عربي في مؤلفاته من أحاديث؛ على أساس أنها أحاديثُ صحيحة من طريق كشفه. بل ولعلنا أكثر من ذلك مطالبون بالتسليم له بصحة ما يفهمه من هذه الأحاديث؛ ومن ثَم مطالَبون بالتسليم بتصوراته الفلسفية كلها عن كينونة الله في العماء ومعنى العماء، وعن صورة الإنسان الإلهية والمعنى الذي يرتضيه لها، وعن النفَس الإلهي الذي عنه وُجد العالم … إلخ؛ كل هذه التصورات الفلسفية التي تعتمد على أحاديثَ يوردها ابن عربي ويفهمها فهمًا خاصًّا. ولا عجب أن يطالبنا ابن عربي بذلك كله، فالصوفية يتلقَّون «عن الله بالبينة التي هم عليها من ربهم، والبصيرةِ التي بها دعَوُا الخلق إلى الله عليها، كما قال الله: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وقال: أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، فلم يُفرِد نفسه بالبصيرة، وشهد لهم بالاتباع في الحكم؛ فلا يتَّبعونه إلا على بصيرة، وهم عباد الله أهل هذا المقام.»٢٤
إن العلماء ورثة الأنبياء كما ورد في الحديث النبوي: وعلماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. ومن حق ابن عربي في هذين الحديثين أن يَقصُر مفهوم العلماء على المتصوفة العارفين، فهم الورثة على الحقيقة القادرون على فهم الشريعة وتأويلها على وجهها الصحيح. وهؤلاء الورثة لا يشاركون الأنبياء في الفهم عن الله فحسب، بل هم يشاركونهم كذلك في البلاء والامتحان والتكذيب الذي يقع عليهم من جانب أهل الظاهر. والفارق الوحيد بين الأنبياء والورثة «أن الوارث لا يُحدِث شريعةً ولا ينسخ حكمًا مقررًا، ولكن يُبَيِّن فإنه على بينة من ربه وبصيرة، ويتلوه شاهد منه بصدق اتباعه، وهو الذي أشركه الله تعالى مع رسوله في الصفة التي يدعو بها إلى الله فأخبر وقال: أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وهم الورثة، فهم يدْعون إلى الله على بصيرة. وكذلك شرَّكهم مع الأنبياء عليهم السلام في المحنة وما ابتُلوا به، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وهم الورثة، فشرَّك بينهم في البلاء كما شرَّك بينهم في الدعوة إلى الله.»٢٥
إن الوارث العارف قادر على فهم الشريعة وتصحيحها، ولا يعني ذلك أنه يغيِّر حكمًا مقررًا أو يأتي بحكم جديد، فالباطن لا يتعارض مع الظاهر ولا ينفيه. إن البلاء الذي يشير إليه ابن عربي، والذي يشترك فيه الأولياء مع الأنبياء، يأتي غالبًا من أهل الظاهر الذين لا يدركون حقائق الأشياء، وقد دفع كثير من الصوفية كالحلَّاج٢٦ والسُّهْرَوَرْدي٢٧ حياتهم في هذا الصراع الدامي بين الفقهاء والمتصوفة، ولذلك يشتد هجوم ابن عربي عليهم في أماكنَ كثيرة من كتبه، ويتهمهم بالجهل ومعارضة القرآن، ويتخذ من شخصية الخضر نموذجًا للعلم الوهبي اللدُنِّي: «ثم إن الطامة الكبرى أنك إذا قلت لواحد من هذه الطائفة المنكرة: اشتغلْ بنفسك، يقول لك: إنما أقوم حمايةً لدين الله وغيرةً له، والغيرة لله من الإيمان وأمثال هذا، ولا يسكن ولا ينظر هل ذلك من قبيل الإمكان أم لا؛ أعني: أن يكون الله قد عرَّف وليًّا من أوليائه بما يجربه في خلقه ويعلمه علومًا من لدُنْه تكون العبارة عنها بهذه الصيغ التي ينطق بها الرسول ؛ كما قال الخضر: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، وآمن هذا المنكر بها في زعمه إذ جاء بها رسول الله ، فواللهِ لو كان مؤمنًا بها ما أنكرها على هذا الولي.»٢٨
ولا يختص علم الصوفي فقط بتجديد الشريعة كما تتمثل في الأحكام المعتمدة على الأحاديث التي يصححها بالرجوع إلى المنبع الأصلي، بل إن فَهْمه للقرآن أو لباطنِ معناه هو الأساس في قدرته على تجاوز ظاهر الشريعة والولوج إلى باطنها الحقيقي. وإذا كان الصوفي قادرًا على تصحيح الحديث أو تضعيفه، فإن قدراته أمام النص القرآن لا تتجاوز إطار الفهم أو تصحيح قراءة في أحيان قليلة. والصوفي يستمد فهمه من باطن النبي؛ أي: جانب الولاية فيه. وإذا كان محمد — قبل رسالته — قد انقطع إلى ربه متعبدًا بشريعة إبراهيم، فأنتج له هذا الانقطاع النبوةَ والوحي، فإن انقطاع الصوفي الوارث إلى ربه بظاهر الشريعة المحمدية يؤدي به إلى النبوة المكتسبة، أو الولاية التي هي فَهْم باطن الشريعة، «فالوارث الكامل من الأولياء منا مَن انقطع إلى ربه بشريعة رسول الله إلى أن فتح الله له في قلبه فَهْم ما أنزل الله عزل وجل على نبيه ورسوله محمد بتجلٍّ إلهي في باطنه، فرزقه الفهم في كتابه عز وجل، وجعله من المحدثين في هذه الأمة، فقام له هذا مقامَ المَلَك الذي جاء إلى رسول الله ، ثم رده الله إلى الخلق يرشدهم إلى إصلاح قلوبهم مع الله، ويفرِّق لهم بين الخواطر المحمودة والمذمومة، ويبين لهم مقاصد الشرع وما ثبت من الأحكام عن رسول الله وما لم يثبت؛ بإعلام من الله أتاه رحمةً من عنده وعلَّمه من لدنه علمًا، فيُرقِّي هممهم إلى طلب الأنفَس بالمقام الأقدس، ويُرَغِّبهم فيما عند الله كما فعل رسول الله في تبليغ رسالته.»٢٩
وننتهي من ذلك إلى أن الولي المحمدي لا يقلُّ شأنًا وأهميةً عن الأنبياء والرسل، فكلهم يستمِد من مشكاة الحقيقة المحمدية من جانبها الباطن: «إن محمدًا عليه الصلاة والسلام هو الذي أعطى جميع الأنبياء والرسل مقاماتِهم في جميع الأرواح حتى بُعِث بجسمه وتبعناه، والتحق بنا من الأنبياء في الحكم من شاهده أو نزل بعده (عيسى بعد رجعته)، فأولياء الأنبياء الذين سلفوا يأخذون عن أنبيائهم، وأنبياؤهم يأخذون عن محمد ، فشاركت الولاية المحمدية الأنبياءَ في الأخذ عنه، ولهذا ورد الخبر: علماءُ هذه الأمة أنبياءُ بني إسرائيل. وقال تعالى فينا: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وقال في حق الرسل: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فنحن الأولياء شهداءُ على أتباعهم، ونصرف الهمة في الخَلوة للوراثة الكلية المحمدية.»٣٠
وإذا كان أولياء هذه الأمة يتساوون بالأنبياء والرسل، لأن كلهم يستمِد من الحقيقة المحمدية، فلا مانع، والحالة هذه، أن يرث الولي المحمدي أيَّ نبي من الأنبياء، عيسى أو موسى أو إبراهيم، فهو في هذه الحالة لا يكون تابعًا له؛ لأنه يرثه من النور المحمدي؛ بمعنى أنه يرث هذا الجانب الخاصَّ من النور المحمدي الذي يرتبط بهذا النبي خاصةً؛ أي: يرث معرفة هذا النبي الخاصة المستمدةَ من النور المحمدي: «إن الأولياء من أمَّة محمد الجامع لمقامات الأنبياء عليهم السلام قد يرث الواحد منهم موسى عليه السلام، ولكن من النور المحمدي لا من النور الموسوي، فيكون حاله من محمد عليه السلام حال موسى عليه السلام منه ، وربما يظهر مِن ولي عند موته ملاحظةُ موسى أو عيسى، فيتخيل العامي ومن لا معرفة له أنه قد تهوَّد أو تنصَّر؛ لكونه يذكر هؤلاء الأنبياءَ عند موته، وإنما ذلك من قوة المعرفة بمقامه والاتصاف؛ إلا القطب فإنه على قلب محمد عليه السلام. وقد لقينا رجالًا على قلب عيسى، وهو أول شيخ لقيتُه، ورجالًا على قلب موسى، وآخرين على قلب إبراهيم وغيرهم عليهم السلام، ولا يعرف ما ذكرناه إلا أصحابنا.»٣١

وإذا كانت الولاية والنبوة متداخلتين تداخُلَ الظاهر والباطن، فإنهما في نفس الوقت متمايزتان؛ حيث يقتصر دور الولاية على الباطن، بينما تجمع النبوة بين الظاهر والباطن، وتختصُّ الشريعة بعلم الظاهر وحده. وعن طريق التأويل الذي يقوم به الوليُّ العارف يمكن الجمع بين الظاهر والباطن مرةً أخرى، فيكتسب الولي صفة النبوة، فالتأويل هو همزة الوصل بين الولاية والنبوة، وهو همزة الوصل بين الظاهر والباطن والشريعة والحقيقة.

وعلى ذلك يمكن القول مع ابن عربي إن الولاية والنبوة تجتمعان في أمور ثلاثة وتفترقان في أمر واحد؛ تجتمعان «في ثلاثة أشياء: الواحد في العلم من غير تعلُّم كَسْبي. والثاني في الفعل بالهمة فيما جرت به العادة ألا يُفعل إلا بالجسم أو لا قدرة للجسم عليه. والثالث في رؤية عالم الخيال في الحس. ويفترقان بمجرد الخطاب؛ فإن مخاطبة الولي غيرُ مخاطبة النبي، ولا يُتوهم أن معارج الأولياء على معارج الأنبياء … معارج الأنبياء بالنور الأصلي، ومعارج الأولياء بما يفيض عن النور الأصلي.»٣٢ ألَا تردُّنا هذه المماثلة بأبعادها الثلاثة والتمييز ذو البعد الواحد إلى فكرة التربيع التي يقوم عليها الوجود والإنسان؟! هذا ما يؤكده تقسيم مراتب العارفين عند ابن عربي؛ موضوع الفقرة التالية.

(١) حقائق الدين ومراتب العارفين

تقوم حقيقة الوجود على التربيع، وعلى نفس التربيع تقوم حقائق الإنسان. ويماثلهما في نظر ابن عربي حقيقةُ الدين التي تقوم على أركان أربعة؛ هي الولاية والنبوة والرسالة والإيمان. وهذه الحقائق الأربع أو الأركان لها باطن وظاهر. والحقيقة المحمدية هي الأساس الذي تقوم عليه أركان الدين، كما كانت هي أساس حقائق الوجود وحقائق الإنسان معًا.

يمثل الجانب الروحي الباطن لهذه الحقائق الأربع كلٌّ من آدم وإبراهيم وعيسى ومحمد، أما الجانب الظاهر فيمثله عيسى وإلياس وإدريس والخضر، وهم الرسل الأحياء في نظر ابن عربي. وينوب عن هؤلاء الرسل في عالم الحس والشهادة القطبُ والأئمة والأوتاد والأبدال. وهؤلاء الأخيرون يستمدون علومهم من أرواح هؤلاء الرسل بواسطة إسرافيل وميكائيل وجبريل وعزرائيل. ولا تقوم العلاقة بين أعضاء الجانب الباطن على الانفصال، فمحمد هو القطب الذي تدور عليه رحى الوجود، اصطفاه الله من الخلق: «هو منهم وليس منهم، هو المهيمن على جميع الخلائق، جعله عمدًا أقام عليه قبة الوجود، جعله أعلى المظاهر وأسناها، صح له المقام تعيينًا وتعريفًا، فعلمه قبل وجود طينة البشر، وهو محمد ، لا يتكاثر ولا يقاوم، وهو السيد ومَنْ سواه سوقة، قال عن نفسه: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.»٣٣ فمحمد هو القطب الروحي الذي يحفظ به الله كل مراتب الوجود، «والقطب عبد الله، قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ؛ يعني محمدًا ٣٤ ويُعتبر كلٌّ من آدم وعيسى وإبراهيم هم الأوتاد الثلاثة لهذا القطب، ومنهم الإمامان من غير تعيين.
ومن اللافت للانتباه أن تصور ابن عربي لدولة الدين بجانبيها الباطني والظاهري يتماثل تمامًا مع تصوره لحقيقة الوجود، مع خلاف في التفاصيل الدقيقة التي لا تُخلُّ بهذا التماثل. وإذا كان القلم أو العقل الأول قد اختير من الملائكة المهيَّمين الكروبيين الغارقين في بحر الجمال الإلهي، فإن القطب قد اختير من بين العباد المستهلكين أهلِ الفناء والشطح، الذين وصلوا ولم يعودوا حيث استغرقتهم اللانهائية. وتصوير ابن عربي لهذا الاصطفاء للقطب من بين «الأفراد» أو «المقربين» أو «الركبان»، والمقارنة التي يقيمها بين حال هؤلاء المقربين وحال القطب؛ تستدعي في ذهن ابن عربي حالَ الملائكة المهيمة، واصطفاء العقل الأول منهم ليتولَّى شئون الوجود. والمماثلة بين هؤلاء «الأفراد» والرقم ثلاثة والاسم الإلهي الفرد يستدعي في أذهاننا ثلاثية الألوهة وحقيقة الحقائق والعماء التي أنتجت الحقيقة المحمدية، فنرتدُّ إلى رباعية عالم الخيال المطلق. هذه الموازاة بين «الأفراد» والملائكة المهيمة، وبين القطب والقلم تستحق بعض التأمل؛ لأننا إزاء وجود معرفي شامل كامل يتوازى بكامله مع مراتب الوجود الأنطولوجية بمستوياتها المختلفة، ولندع ابن عربي يعبر بنفسه عن هذه الموازاة. الأفراد من الصوفية «طائفة خارجة عن حكم القطب وحدها، ليس للقطب فيهم تصرف، ولهم من الأعداد الثلاثة إلى ما فوقها من الأفراد، ليس لهم ولا لغيرهم فيما دون الفرد الأول، الذي هو الثلاثة، قدم، فإن الأحدية للذات، وهو الواحد لذات الحق، والاثنان للمرتبة، وهو توحيد الألوهة، والثلاثة أول وجود الكون عن الله، فالأفراد في الملائكة المهيَّمون في جمال الله وجلاله الخارجون عن الأملاك المسخَّرة والمدبرة اللذين هما في عالم التدوين والتسطير، وهم من القلم والعقل إلى ما دون ذلك. والأفراد من الإنس مثل المهيمة في الأملاك، فأول الأفراد الثلاثة، وقد قال رسول الله الثلاثة رَكْب. فأول الرَّكب الثلاثة إلى ما فوق ذلك، ولهم من الحضرات الإلهية الحضرة الفردانية، وفيها يتميزون، ومن الأسماء الإلهية الفرد. والموادُّ الواردة على قلوبهم من المقام الذي تَرِد منه على الأملاك المهيمة، ولهذا يُجهل مقامهم وما يأتون به مثل ما أنكر موسى عليه السلام على خضر؛ مع شهادة الله فيه لموسى وتعريفه بمنزلته وتزكية الله إياه وأخْذِه العهد عليه إذا أراد صحبته.»٣٥
وليس هذا المقام إلا مقام أمثال البسطامي والحلاج، ومَن سواهم من أهل الفناء الذين حكم عليهم الفقهاء بالكفر دون أن يعوا أنهم مأخوذون عن أنفسهم وعن العالم، وأنهم غارقون في بحار الجمال الإلهي لا يتميزون عنه في شيء، «معتكفون في حضرة الحق سبحانه، لا يعرفون سواه، ولا يشهدون سوى ما عرَفوا منه، ليس لهم بذواتهم علم عند نفوسهم، وهم على الحقيقة ما عرَفوا سواهم ولا وقفوا إلا معهم هم، وكل ما سوى الله بهذه المثابة؛ مقامهم بين الصديقية والنبوة الشرعية، وهو مقام جليل جهِله أكثر الناس من أهل طريقنا كأبي حامد وأمثاله؛ لأن ذوقه عزيز، هو مقام النبوة المطلقة، وقد يُنال اختصاصًا، وقد يُنال بالعمل المشروع، وقد يُنال بتوحيد الحق والذلة وما ينبغي من تعظيم جلال المنعم بالإيجاد والتوحيد. كل ذلك من جهة العلم، وله كشف خاص لا يناله سواهم كالخضر، فإنه كما قلنا من الأفراد، ومحمد كان، قبل أن يرسَل وينبَّأ، من الأفراد الذين نالوا الأمر بتوحيد الحق وتعظيم جلاله والانقطاع إليه.»٣٦
وقد اختار الله من هؤلاء المقربين الأفراد محمدًا ليكون القطب، كما اختار حقيقته لتكون القلم أو العقل الأول على مستوى الوجود، واختار معه آدم وعيسى وإبراهيم ليكتمل بهم بناء الدين. ويوازي ابن عربي بين حقائق الدين والأركان الأربعة للبيت. اثنان منهم هما الإمامان، وأربعتهم هم الأوتاد الذين يقوم عليهم البيت، وعلى قلب هؤلاء الأنبياء يكون الأوتاد الأرضيون في عالم الحس والشهادة، «فمنهم من هو على قلب آدم، والآخر على قلب إبراهيم، والآخر على قلب عيسى، والآخر على قلب محمد عليهم السلام. فمنهم من تُمدُّه روحانية إسرائيل، وآخرُ روحانيةُ ميكائيل؛ وآخر روحانية جبريل، وآخر روحانية عزرائيل، ولكلِّ وتدٍ ركن من أركان البيت؛ فالذي على قلب آدم عليه السلام له الركن الشامي، والذي على قلب إبراهيم له الركن العراقي، والذي على قلب إسماعيل له ركن اليماني، والذي على قلب محمد له ركن الحجر الأسود، وهو لنا بحمد الله.»٣٧ وهكذا يضع ابن عربي نفسه في ركن الحجر الأسود على قلب محمد؛ مما يؤكد أنه قطب الزمان، وأنه خاتم الولاية الخاصة المحمدية.
ويتماثل هذا التصور مع تصور ابن عربي الذي سبق أن حللناه لقيام العرش على التربيع؛ حيث يحمل قوائمه الأربع أربعةٌ من الرسل وأربعة من الملائكة، مع فارق بسيط هنا هو استبدال عزرائيل وعيسى برضوان ومالك اللذين يمثلان الوعد والوعيد، وهما من أمور الآخرة، والحديث هنا عن أركان الدين في الحياة الدنيا.٣٨ وتصور ابن عربي — من جهة أخرى — للعلاقة بين القطب والإمامين يتماثل مع تصوره للعلاقة بين القلم والنفس الكلية، فالأقطاب هم «الجامعون للأحوال والمقامات بالأصالة أو بالنيابة … لا يكون منهم في الزمان إلا واحد؛ وهو الغوث أيضًا»،٣٩ وهذه الوحدة تتماثل مع وحدة العقل الأول واحتوائه على الإجمال والتفصيل. أما الأئمة فهما اثنان، «وهما اللذان يخلُفان القطب إذا مات، وهما للقطب بمنزلة الوزيرين، الواحد منهم مقصور على مشاهدة عالم الملكوت، والآخر مع عالم الملك.»٤٠ وهاتان الوظيفتان اللتان يمثلهما الإمامان يمكن أن يتوازيا مع جانبَي النفس الكلية: جانبها النوراني فيما يقابل العقل، وجانبها المظلم الذي يمتد عنها مكوِّنًا الطبيعةَ التي تقابل عالم الملك.
ولعل ذلك كله يسمح لنا بأن نوازي بين محمد وآدم وعيسى وإبراهيم من جانب، وبين عالم العقول الكلية بمراتبه الأربع أو عالم الأمر من جانب آخر. ومما يؤكد مشروعية هذه الموازاة أن ابن عربي يُصرُّ على وجود مقابل لهذه الرباعية المعرفية في العالم الوسيط بين عالم الأمر وعالم الكون والاستحالة، وهو عالم الخلق. وإذا كان عالم الخلق يتكون من مستويات أربعة هي العرش أو الجسم الكل والكرسي والفلك الكلي وفلك البروج، فعالم الدين المقابل لعالم الأمر يتكون من أربعة رسل متجسدين؛ هم عيسى وإلياس وإدريس والخضر. ويمكن لنا أن نعتبر عيسى موازيًا للعرش لانتمائه إلى العالم السابق ولهذا العالم؛ كما ينتمي العرش إلى العالمَين ويتوسط بينهما. إن وجود هؤلاء الرسل الأحياء ضرورة لحفظ أركان بيت الدين: «إن الرسول هو القطب المشار إليه الذي ينظر الحق إليه فيبقى به هذا النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع، إلا أن الإنسان لا يصحُّ عليه هذا الاسم إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح، ويكون موجودًا في هذه الحياة الدنيا بجسده وحقيقته، فلا بد أن يكون الرسول الذي يحفظ الله به هذا النوع الإنساني موجودًا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذَّى، وهو مجلى الحق من آدم إلى يوم القيامة. ولما كان الأمر على ما ذكرناه ومات رسول الله بعدما قرَّر الدينَ الذي لا يُنسَخ والشرعَ الذي لا يُبدَّل، ودخلت الرسل كلهم في هذه الشريعة يقومون بها، والأرض لا تخلو من رسول حي بجسمه فإنه قطب العالم الإنساني، ولو كانوا ألف رسول لا بد أن يكون الواحد من هؤلاء هو الإمام المقصود، فأبقى الله تعالى بعد رسول الله من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدنيا ثلاثة، وهم إدريس عليه السلام، بقي حيًّا بجسده وأسكنه الله السماء الرابعة، والسموات السبع هي في عالم الدنيا وتبقى ببقائها وتفنى صورتها بفنائها، فهي جزء من الدار الدنيا، فإن الدار الأخرى تبدَّل فيها السموات والأرض بغيرهما كما تبدَّل هذه النشأة الترابية منا نشآتٍ أُخر غير هذه … وأبقى في الأرض أيضًا إلياس وعيسى، وكلاهما من المرسلين، وهما قائمان بالدين الحنيفي الذي جاء به محمد ، فهؤلاء ثلاثة من الرسل المجمَع عليهم أنهم رسل. وأما الخضر وهو الرابع فهو من المختلَف فيه عند غيرنا لا عندنا، فهؤلاء باقون بأجسامهم في الدار الدنيا، فكلهم الأوتاد، واثنان منهم الإمامان، وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم، فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة؛ وإن لم يُبعثوا بشرع ناسخ ولا هم على غير شرع محمد ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والواحد من هؤلاء الأربعة، الذين هم عيسى وإلياس وإدريس وخضر، هو القطب، وهو أحد أركان بيت الدين، وهو ركن الحجر الأسود. واثنان منهم هما الإمامان، وأربعتهم هم الأوتاد، فبالواحد يحفظ الله الإيمان، وبالثاني يحفظ الله الولاية، وبالثالث يحفظ الله النبوة، وبالرابع يحفظ الله الرسالة، وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف.»٤١
إن حرص ابن عربي على وجود هؤلاء الرسل الأربعة أحياءً بجسدهم في هذه الحياة الدنيا، ليكتمل له تصورُه، جعله يميز بين إدريس وإلياس ويعتبرهما شخصيتين رغم أنه اعتبرهما شخصًا واحدًا في مكان آخر؛٤٢ هذا إلى جانب الغموض الذي يرتبط بشخصية الخضر لا عند ابن عربي فحسب، بل في التراث الديني الإسلامي عامة؛ الأمر الذي جعل هنري كوربان — كما أشرنا من قبل — يرى أن ابن عربي لم يكن يعيش عالمنا الأرضي الزماني بقدر ما كان يعيش عالم الخيال والمُثُل ويتعامل من خلاله.٤٣
وهناك بعد ذلك الأوتاد الأربعة الزمانيون، أو نواب هؤلاء الأوتاد الرسل الأحياء بأجسادهم، «ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة كلَّ زمان شخصٌ على قلوبهم مع وجودهم هم نوَّابهم، فأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون القطب والإمامين والوتد إلا النواب لا هؤلاء المرسلون الذين ذكرناهم، ولهذا يتطاول كل واحد من الأمة لنيل هذه المقامات، فإذا حصلوا أو خُصُّوا بها عرَفوا عند ذلك أنهم نواب لذلك القطب، ونائب الإمام يعرف أن الإمام غيرُه وأنه نائب عنه، وكذلك الوتد.»٤٤ وكما أن الرسل يحفظون أركان البيت بيتِ الدين (الكعبة)، فهؤلاء النواب يحفظون أركان العالم الأربعة، «الواحد منهم يحفظ الله به المشرق وولايته فيه، والآخرُ المغربَ والآخرُ الجنوبَ والآخر الشمال، والتقسيم من الكعبة.»٤٥ ولا حاجة إلى القول بأن ابن عربي هو قطب الزمان؛ لأنه على ركن الحجر الأسود الذي يحفظه الخضر، ولأنه على قلب محمد كما سبقت الإشارة.
فإذا انتقلنا من الأوتاد إلى الأبدال وجدناهم سبعة، يستمدون علومهم من أرواح الأنبياء المقيمين في الأفلاك السبعة السيَّارة؛ مما يؤكد الموازاة بين مراتب الوجود ومراتب العارفين في فكر ابن عربي. ويعرض ابن عربي للخلاف بين المتصوفة في عدد الأبدال هل هم سبعة أم أربعون، ويبدو أن ابن عربي يختار القول بأنهم سبعة: «أربعة هم الأوتاد، واثنان هم الإمامان، وواحد هو القطب، وهذه الجملة هم الأبدال … وقيل: سُمُّوا أبدالًا لأنهم أُعطوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون؛ لأمر يقوم في نفوسهم على علم منهم.»٤٦ وهؤلاء الأبدال السبعة «يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكل بدل إقليم، وإليهم تنظر روحانيات السموات السبع، ولكل شخص منهم قوة من روحانيات الأنبياء الكائنين في هذه السموات، وهم إبراهيم الخليل، يليه موسى، يليه هارون، يتلوه إدريس، يتلوه يوسف، يتلوه عيسى، يتلوه آدم سلام الله عليهم أجمعين. وأما يحيى فله تردُّد بين عيسى وبين هارون، فينزل على قلوب هؤلاء الأبدال السبعة من حقائق هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وتنظر إليهم هذه الكواكب السبعة بما أودع الله تعالى في سباحتها في أفلاكها، وبما أودع في حركات هذه السموات السبع من الأسرار والعلوم والآثار العلوية والسفلية.»٤٧
وإذا كان الأبدال — وهم يتضمنون الأوتاد — يتلقَّون علومهم من أرواح أنبياء الأفلاك السبعة السيَّارة، فإن الأوتاد يتلقَّون علومهم من أرواح الأنبياء والملائكة الذين يمثلون حملة العرش كما سبقت الإشارة. وهذا ما يميز الأوتاد عن الأبدال وإن كانوا منهم. وثَم ميزة أخرى لكل من الإمامين والقطب كلٌّ حسب مقامه ورتبته المعرفية. إن هذا التدرج المعرفي الهابط من القطب والإمامين والأوتاد والأبدال يتماثل مع التدرج الوجودي من العقل الأول والنفس الكلية، إلى العرش والكرسي والأفلاك الثابتة والأفلاك المتحركة. ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن يتوسَّط النقباء بين الأوتاد والأبدال، وأن يكون عددهم اثني عشر نقيبًا، يتماثلون عدديًّا ووظيفيًّا مع ملائكة فلك البروج؛ الذين ينقلون العلم إلى النواب في السموات السبع السيَّارة، من الفك الأطلسي آخرِ مراتب عالم الخلق، وهذا ما يؤكده ابن عربي بقوله عن هؤلاء النقباء إنهم «اثنا عشر في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر برجًا، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله في مقامه من الأسرار والتأثيرات وما يعطي للنزلاء فيه من الكواكب السيَّارة والثوابت … واعلم أن الله قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علومَ الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها، ومعرفة مكرها وخداعها.»٤٨
وعلاوة على هؤلاء النقباء هناك النجباء الثمانية، «وهم ثمانية في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، وهم الذين تبدو منهم وعليهم أعلامُ القَبول من أحوالهم، وإن لم يكن لهم في ذلك اختيار، ولكن الحال يغلب عليهم، ولا يعرف ذلك منهم إلا من هو فوقهم لا من هو دونهم، وهم أهل علم الصفات الثمانية. السبع المشهورة والإدراك الثامن، ومن مقامهم الكرسي، لا يتعدوه (كذا) ما داموا نجباء، ولهم القدم الراسخة في عالم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأن. والنقباء هم الذين حازوا علم الفلك التاسع، والنجباء حازوا علم الثمانية الأفلاك التي دونه، وهي كل فلك فيه كوكب.»٤٩
ولا يتوقف تقسيم العارفين عند ابن عربي عند هذا الحد، فعباد الله وخواصُّه أكثر من أن يحصُرهم العد، كما أن الملائكة المدبرة والمسخرة في الكون أكثرُ من أن يحصرها الحد. ولا يمكن في الواقع تتبُّعُ تقسيم ابن عربي لخواص عباد الله كما لا يمكن تتبع تقسيمه للملائكة المسخرة والمدبرة، فابن عربي يطلق عليهم اسم «عالم الأنفاس»،٥٠ وهو تعبير يشي باستحالة الحصر. ويكفينا أن نقف عند هذا التقسيم الكلي كما وقفنا في تقسيمه لمراتب الوجود. ولا شك أن الموازاة بين عالم الملائكة المدبرة وعالم العارفين تستهدف إقامة المعرفة على أساس وجودي. هذا إلى جانب الموازاة العامة بين حقائق الوجود وحقائق الدين، وكذلك الموازاة في هذه الحقائق بين مراتب مختلفة تتجلى في تدرُّجات هابطة من عالم القلم (القطب) إلى العرش (الأوتاد الأربعة) إلى الفلك الأطلس (النقباء الاثني عشر) إلى فلك البروج (النجباء الثمانية) إلى الأفلاك المتحركة (الأبدال السبعة)، مع التداخل الذي يتوازى مع تداخل مراتب الوجود.

وإذا كان ابن عربي يحتفظ لنفسه دائمًا بمنصب القطب وختم الولاية، فما ذلك إلا ليستطيع أن يعطي نفسه حقَّ التأويل من جهة، وتبرير كل درجات المعرفة ومن ثَم كل مستويات التأويل من جهة أخرى؛ كما سنتعرض له بالتفصيل في القسم الثالث والأخير من هذه الدراسة.

١  انظر: الفتوحات ١ / ١٤٤.
٢  عنقاء مغرب  ٣٧.
٣  الفتوحات ٤ / ٤٣٣.
٤  الفتوحات ٣ / ١٠١.
٥  الفتوحات ٢ / ٥٠.
٦  الفتوحات ١ / ١٨٤-١٨٥.
٧  الفتوحات ٢ / ٤١، ٣ / ٤١، وانظر: أبو العلا عفيفي، التصوف؛ الثورة الروحية في الإسلام  ٣١٢–٣١٤.
٨  فصوص الحكم  ٦٢.
٩  فصوص الحكم  ٦٤.
١٠  فصوص الحكم  ٦٢.
١١  العطار، الفتح المبين  ٤٤.
١٢  التصوف، الثورة الروحية في الإسلام  ٣١٢، وانظر: شرح القاشاني  ٤٣؛ وشرح بالي أفندي  ٥٢.
١٣  الفتوحات ١ / ١٨٤.
١٤  راجع: التصوف، الثورة الروحية في الإسلام  ٣١٢–٣١٤.
١٥  انظر: العطار، الفتح المبين  ٤٤-٤٥.
١٦  الفتوحات ١ / ١٦٧.
١٧  رسالة الأنوار  ٢.
١٨  الفتوحات ١ / ٢٠٠.
١٩  القاشاني، شرح الفصوص  ٤٢.
٢٠  يقيم ابن عربي الشريعة أيضًا على أساس رباعي: أصلان فاعلان هما الكتاب والسُّنة، وأصلان منفعلان هما الإبداع والقياس. ويوازي بين هذه الرباعية وغيرها من الرباعيات الوجودية. انظر: رسالة في أصول الفقه  ١٩؛ والفتوحات ٢ / ١٦٢.
٢١  الفتوحات ١ / ١٥٠.
٢٢  انظر في اتصال ابن عربي بالخضر خارج إطار الزمان والمكان: هنري كوربان، الخيال الخلَّاق  ٤-٥، ٥٣.
٢٣  الفتوحات ١ / ١٩٨، ٥٤٥-٥٤٦، ٢ / ٣٧٦، ٤ / ٢٨.
٢٤  الفتوحات ١ / ١٩٨.
٢٥  الفتوحات ١ / ٢٥١، ٢ / ٥٥٤-٥٥٥، ٦٤٤-٦٤٥، ٣ / ٥٦.
٢٦  انظر: ماسينيون، المنحنى الشخصي لحياة الحلاج  ٧٢–٧٨.
٢٧  انظر: هنري كوربان، السهروردي مؤسس المذهب الإشراقي  ١٣٠-١٣١.
٢٨  الفتوحات ١ / ٢٠٠-٢٠١، ٢٠٢، ٢٧٩–٢٨١، ٢ / ١١، ٧٩، ٣ / ٦٩، ٢٤٥، ٣٧٠.
٢٩  الفتوحات ١ / ٢٥١.
٣٠  رسالة الأنوار  ١٦-١٧.
٣١  رسالة الأنوار  ١٦.
٣٢  رسالة الأنوار  ١٥.
٣٣  الفتوحات ٢ / ٧٣-٧٤.
٣٤  الفتوحات ٢ / ٦.
٣٥  الفتوحات ١ / ١٩٩.
٣٦  الفتوحات ٢ / ١٩، ٤١.
٣٧  الفتوحات ١ / ١٦٠.
٣٨  انظر: الفتوحات ٣ / ٣٤١؛ وعقلة المستوفز  ٥٨.
٣٩  الفتوحات ٢ / ٦.
٤٠  الفتوحات ٢ / ٦.
٤١  الفتوحات ٢ / ٥-٦.
٤٢  فصوص الحكم  ١٨١؛ وتعليقات أبي العلا عفيفي  ٤٤-٥٥، ٢٥٧-٢٥٨.
٤٣  الخيال الخلَّاق في تصوف ابن عربي، المقدمة ص٥٣–٦٧.
٤٤  الفتوحات ٢ / ٦.
٤٥  الفتوحات ٢ / ٧.
٤٦  الفتوحات ١ / ١٦٠.
٤٧  الفتوحات ١ / ١٥٤-١٥٥، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٧؛ وكتاب حلية الأبدال  ١–١٠.
٤٨  الفتوحات ٢ / ٧.
٤٩  الفتوحات ٢ / ٨.
٥٠  الفتوحات ٢ / ٦–٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤