الفصل الأول

القرآن والوجود

إن مراتب الوجود، التي حللناها في الباب الأول من هذه الدراسة، تمثل المراتب البسيطة التي تتوازى مع حروف اللغة. أما الموجودات المركبة فهي الكلمات الإلهية التي تركبت من هذه الحروف أو المراتب البسيطة. وإذا كانت كل مرتبة من مراتب الوجود تساوي حرفًا من حروف اللغة، فإن الكلمة الإلهية «كن» تمثل الأمر الإلهي الذي عنه صدرت أعيانُ الممكنات، أو لنقُل بعبارة أخرى: إن الموجودات هي كلمات الله التي تُرَد في أصلها للأمر الإلهي «كن»: «اعلم أن الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد وبها يظهر سلطانها الذي لا يبعُد، وهي مركبات لأنها أتت للإفادة فصدرت عن تركيب يعبر عنه باللسان العربي بلفظة «كن»، فلا يتكون عنها إلا مركب من روح وصورة، فتلتحم الصور بعضها ببعض لما بينها من المناسبات … والمادة التي ظهرت فيها كلمات الله التي هي العالم هي نَفَس الرحمن، ولهذا عُبِّرَ عنه بالكلمات.»١
وإذا كان الإنسان الكامل هو الكون الجامع الصغير الذي اجتمعت فيه كلُّ حقائق الوجود، فمن الطبيعي أن يكون هذا الإنسان هو الكلمة الجامعة. وفي هذا الإطار يُفهم قول الرسول : «أوتيت جوامع الكلم»؛ فيكون القرآن هو كلمات الله المرقومة التي توازي الوجود وترمز إليه، كما توازي الإنسان وترمز إلى حقائقه. وإذا كان الإنسان — كما سبقت الإشارة — هو البرزخ الجامع بين الحق والخلق، أو بين ظاهر الوجود وباطنه، فمن الطبيعي أن يكون القرآن — بالمثل — برزخًا بين الحق والإنسان، «فقوله: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ؛ نَصَب القرآن، ثم قال: خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، فينزل عليه القرآن ليترجم منه بما علَّمه الحق من البيان الذي لم يقبله إلا هذا الإنسان، فكان للقرآن علم التمييز، فعلم أين محله الذي ينزل عليه من العالم، فنزل على قلب محمد ، نزل به الروح الأمين. ثم لا يزال ينزل على قلوب أمته إلى يوم القيامة، فنزوله في القلوب جديد لا يبلى، فهو الوحي الدائم. فللرسول صلوات الله وسلامه عليه الأوَّلية في ذلك، والتبليغ إلى الأسماع من البشر، والابتداء من البشر، فصار القرآن برزخًا بين الحق والإنسان، وظهر في قلبه على صورة لم يظهر بها في لسانه، فإن الله جعل لكل موطن حكمًا لا يكون لغيره. وظهر في القلب أُحَدِي العين فَجسَّده الخيال وقسمه، فأخذه اللسان فصيره ذا حرف وصوت، وقيَّد به سمع الآذان، وأبان أنه مترجم عن الله لا عن الرحمن؛ لِمَا فيه من الرحمة والقهر والسلطان … فالكلام لله بلا شك، والترجمة للمتكلم به كان مَن كان، فلا يزال كلام الله من حين نزوله يُتلى حروفًا وأصواتًا؛ إلى أن يُرفع من الصدور ويُمحى من المصاحف، فلا يبقى مترجم يقبل نزول القرآن عليه، فلا يبقى الإنسان المخلوق على الصورة.»٢

القرآن في مثل هذا التصور موازٍ للوجود وموازٍ للإنسان في نفس الوقت، وهو — مثل الوجود والإنسان — له جانبان: جانب باطن كلي هو جمعيته من حيث هو قرآن نزل على قلب النبي، وما زال ينزل متجددًا على قلوب العارفين. وجانب ظاهر من حيث تلاوته باللسان وتحويله إلى أصوات وحروف منطوقة. وهذه التفرقة بين جانبَي القرآن الباطن والظاهر تُمكِّن ابن عربي — بسهولة — من حل معضلة قِدَم القرآن وحدوثه.

إن كلمات الله الوجودية لها — كما أشرنا — وجه إلى القِدم ووجه إلى الحدوث؛ هي قديمة من حيث وجودها في العلم الإلهي، ومحدَثة من حيث ظهورها في أعيان صور العالم. والقرآن بالمثل قديم من حيث إنه العلم الإلهي القديم، ومحدث من حيث نزوله على قلوب العارفين وعلى ألسنتهم، فكلام الله «له الحدوث والقِدَم، فله عموم الصفة، فإن له الإحاطة ولنا التقييد.»٣ فالقرآن كالوجود، والإنسان جامع للقدم والحدوث والظاهرِ والباطن، ولذلك تجتمع فيه كلُّ الحقائق الإلهية والكونية على السواء؛ وعلى ذلك فهو في منزل الاعتدال؛٤ بمعنَى أنه يمثل همزة الوصل بين الوجود بحقائقه المختلفة وبين الإنسان بجوانبه المختلفة.
وإذا كان الوجود يقوم على التربيع، وكذلك يقوم الوجود الإنساني، فمن الطبيعي أن يقوم القرآن كذلك على نفس الأساس الرباعي، فهو يتكون من ظاهر وباطن وحدٍّ ومُطَّلَع. وهذه المستويات الأربعة تتوازى مع حقائق الوجود كما تتوازى مع حقائق الإنسان، هذا من الناحية الوجودية. أما من الناحية المعرفية فالقرآن يمثل تعبيرًا عن المعرفة الصوفية، أو لنقُل: تُحلُّ رموزه وإشاراته بالمعرفة الصوفية. القرآن بالنسبة للرسول ذِكْر؛ أي: تذكير له بما شاهده في معراجه. ومن هذه الزاوية فهو خالٍ من الإجمال والرمز والإلغاز والتورية التي توجد في الشعر، «قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ؛ فإن الشعر محل الإجمال والرموز والإلغاز والتورية؛ أي: ما رمَزْنا له شيئًا ولا لغَّزناه، ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئًا آخر، ولا أجملنا له الخطاب، إنْ إلا ذِكْر لما شاهده حين جذبناه وغيَّبناه عنه وأحضرناه بنا عندنا، فكنا سمْعَه وبصره، ثم رددناه إليكم لتهتدوا به في ظلمات الجهل والكون، فكنا لسانه الذي يخاطبكم به، ثم أنزلنا عليه مُذَكِّرًا بما شاهد، فهو ذكر له لذلك، وقرآن؛ أي: جَمْع أشياءَ كان شاهدها عندنا، مبين: ظاهرٌ له؛ لعلمه بأصل ما شاهده وعاينه في ذلك التقريب الأنزه الأقدس الذي ناله منه ، ولنا منه من الحظ على قدر صفاء المحل والتهيؤ والتقوى.»٥

إن القرآن بالنسبة للصوفي والنبي خالٍ من الإلغاز والرمز، ولكنه بالنسبة للإنسان العادي مجموعة من الرموز التي قد تُفْهم بمستويات عديدة من الفهم. النبي وحده، وكذلك العارف، قادر على إدراك تعدد المستويات وترابطها؛ بحجم تجربته المعرفية التي حلَّت له شفرة الوجود ومكَّنته من حل شفرة النص، فصار قادرًا على فهمه بتعدد مستوياته واختلافها. والصوفي — كما أشرنا من قبل — يبدأ بالنص متحققًا بظاهره فيُكْشف له عن حقيقة الوجود، فيعود للنص مرةً أخرى. وكلما تعمَّق الصوفي في معراجه، تكشفت له أعماق النص ومستوياته؛ حتى يسمع القرآن من الوجود ويرى الوجود في النص.

(١) مفهوم الرمز والإشارة

يربط ابن عربي بين الإشارة وبين أمرين: البعد المكاني بين المشير والمشار إليه؛ بحيث لا يبلغه الصوت وتبلغه الإشارة. الأمر الثاني بُعْد العلة؛ بمعنى أن يكون المشار إليه ذا صَمَم، فلا بد، والحالة هذه، من استخدام الإشارة بدلًا من العبارة. ولكن هذين البعدين، وهما البُعد والعلة، يمكن أن يُفهما بالمعنى الوجودي والمعرفي، فالبعد هو المسافة الوجودية بين الرب والعبد، والعلة هي النقص الذي لا يُمكِّن العبد من سماع كلمات الوجود. وبهذا المعنى يكون القرآن إشارةً لحقائق الوجود وحقائق الألوهة في حق البعيد والمعلول من البشر. أما العارفون فهم ليسوا بعيدين، كما أنهم ليست بهم علة مانعة تمنعهم عن الاستماع إلى كلام الله في الوجود وفي القرآن معًا، فالقرآن في حقهم لا يكون إشارة، وإنما يكون عبارة يفهمون كل إمكانياتها المعنوية: «إن أهل الله قد جعلوا الإشارة نداءً على رأس البعد وبَوحًا بعين العلة. ولكن في التقسيم في الإشارات يظهر فُرقان؛ وذلك أن الإشارة التي هي نداء على رأس البعد، فهو حمل ما لا تبلغه العبارة، كما أن الإشارة للذي لا يبلغه الصوت لبعد المسافة وهو ذو بصر، فيشار إليه بما يراد منه فيفهم؛ فهذا معنى قولهم: نداء على رأس البعد. فكل ما لا تسعُه عبارة من العلوم، فهو بمنزلة من لم يبلغه الصوت، فهو بعيد عن المشير وليس ببعيد عما يراد منه، فإن الإشارة قد أفهمته ما يُفهمه الكلام أو يبلغه الصوت، وقد علمت قطعًا أن المشير إذا كان الحق فإنه بعيد عن الحد الذي يتميز به العبد، فهذا بُعد حقيقي لا بد منه. ولا يكون الأمر إلا هكذا، فلا بد من الإشارة، وهي اللطيفة، فإنه معنًى لطيف لا يُشعر به. ثم إنه وإن لم يكن بُعد فهو بَوح بعين العلة؛ وذلك أن الأصم يكون قريبًا من المتكلم، ولكن قربه لا تقع به الفائدة؛ لأنه لا يصل إليه الصوت لعلة الصَّمم، فيشير إليه مع القرب كما يقول الحق على لسان عبده: سمع الله لمن حمده، فهذا غاية القرب مع وجود العلة وظهورها، وأكثر من هذا القرب ما يكون.»٦
الإشارة إذن مجرد إيحاء بالمعنى دون تحديد مقصود متعين كما يحدث في العبارة، وليس معنى ذلك أن العبارة الإلهية في النص القرآني تحدد المعنى تحديدًا قاطعًا، فالمقصود بالعبارة الإلهية بدورها إشارات ورموز؛ لأنها نابعة من اللغة الإلهية التي تنظم الوجود والإنسان: «إن الرموز ليست مرادة لأنفسها، وإنما هي مرادة لِمَا رمَزَت له ولما أُلغِز فيها. ومواضعها من القرآن آيات الاعتبار كلها، والتنبيه على ذلك قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ، فالأمثال ما جاءت مطلوبةً لأنفسها، وإنما جاءت ليُعلم منها ما ضربت له وما نُصبت من أجله، مثلًا مثل قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، فجعله كالباطل، كما قال: وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، ثم قال: وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، ضربه مثلًا للحق، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ، وقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ؛ أي: تعجبوا وجُوزوا واعبُروا إلى ما أردته بهذا التعريف، وإِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ؛ مِن: عبرت الوادي؛ إذا جُزْتَه. وكذلك الإشارة والإيماء، قال تعالى لنبيه زكريا: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا؛ أي: بالإشارة، وكذلك فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ في قصة مريم لمَّا نذرت للرحمن أن تُمسك عن الكلام. ولهذا العلم رجال كبيرٌ قدرُهم، مِن أسرارهم سر الأزل والأبد والحال والخيال والرؤيا والبرازخ، وأمثال هذه من النسب الإلهية. ومن علومهم خواصُّ العلم بالحروف والأسماء والخواص المركبة والمفردة من كل شيء من العالم الطبيعي، وهي الطبيعة المجهولة.»٧
فالرمز والإشارة هما أساس الكلام الإلهي للبعد القائم بين الله والإنسان من جهة، وبسبب العلة المانعة في الإنسان العادي من فهم الكلام الإلهي وجودًا ونصًّا. والاعتبار هو الجواز من ظاهر ما يعطيه النص إلى باطنه المقصود: «إن الله قد ربط بكل صورة حسية روحًا معنويًّا بتوجه إلهي عن حكم اسم رباني، لهذا اعتبرنا خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قَدَمًا يقدم؛ لأن الظاهر منه هو صورته الحسية، والروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن؛ مِن: عبرت الوادي؛ إذا جُزْتَه، وهو قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ، وقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ؛ أي: جُوزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم إلى ما تعطيه تلك الصورُ من المعاني والأرواح في بواطنكم، فقدَّر كونها ببصائركم، وأمر وحثَّ على الاعتبار، وهذا باب أغفله العلماء؛ ولا سيما أهل الجمود على الظاهر؛ فليس عندهم من الاعتبار إلا التعجب، فلا فرق بين عقولهم وعقول الصبيان الصغار، فهؤلاء ما عبَروا قط من تلك الصور الظاهرة كما أمرهم الله.»٨

إن العلاقة بين العبارة والإشارة هي العلاقة بين الظاهر والباطن، فظاهر العبارة هو ما تدل عليه من حيث وضعية اللغة، والإشارة هي باطنها من حيث هي لغة إلهية. وإذا كان أهل الظاهر يتوقفون عند العبارات ومعانيها التي تعطيها قوة اللغة الوضعية، فإن العارفين ينفُذون إلى ما تشير إليه العبارة من معانٍ وجودية وإلهية؛ أي: ينفذون إلى باطنها الروحي العميق، كما عبروا من ظاهر الصور الوجودية الحسية إلى معانيها الروحية الباطنة.

إن الفارق بين ظاهر العبارة وباطنها الإشاري الرمزي هو الفارق بين اللغة الإنسانية واللغة الإلهية التي تتجلى في القرآن كما تتجلى في الوجود. وإذا كانت دلالة اللغة الإنسانية دلالة عرفية، فإن دلالة اللغة الإلهية دلالة ذاتية على المستوى الوجودي؛ بمعنى أن كلمات الله الوجودية (الموجودات) تستند في دلالتها إلى أعيانها الثابتة في العدم، «فتحدث المعاني فينا بحدوث تأليفها الوضعي. وما وقع فيها الوضع في الصور المخصوصة إلا لذاتها لا بحكم الاتفاق ولا بحكم الاختيار؛ لأنها بأعيانها أعطت العلم الذي لا يتحول والقولَ الذي لا يتبدَّل.»٩ وبالمثل فإن دلالة القرآن وإن خضعت في ظاهرها للعُرف والتواطؤ؛ لأنها نزلت بلسان البشر، فإنها تدل في باطنها على حقائق وجودية وإلهية كما سنشير إليه فيما يلي.
ولا تقوم العلاقة بين الرمز والمرموز إليه، أو الإشارة والعبارة، على الانفصال، فليست اللغة العادية إلا صدًى للُّغة الإلهية، أو مظهرًا لها على المستوى الوجودي. وقد كان من الضروري أن ينزل الوحي على اللغة العرفية؛ لأنه نزل لهداية الناس كافة،١٠ ولكنه يتضمن الإشارات التي لا يفهمها إلا أهل الله خاصة. ولذلك يُصرُّ ابن عربي على ضرورة الجمع بين الظاهر والباطن في فَهم النص؛ لأن الظاهر يمثل الرمز الذي لا يمكن النفاذ إلى المرموز إليه الباطنِ إلا من خلاله. وعلى ذلك فليس مِن حق مَن لا معرفة له بمآخذ أهل الله أن يتخيل «أنهم يَرْمون بالظواهر، فينسُبونهم إلى الباطنية، وحاشاهم من ذلك! بل هم القائلون بالطرفين.»١١ إن الفارق بين الظاهر والباطن أو العبارة والإشارة فارقٌ كيفي لا كمي: «الإشارة أفصح من العبارة؛ فإن العبارة تفتقر إلى علم الاصطلاح، وليست الإشارة كذلك.»١٢
وإذا كانت اللغة الإلهية — وجوديةً كانت أم نصِّية — لغةً إشارية رمزية، فمن الطبيعي أن يعتمد المتصوفة — أيضًا — على منهج الستر والإشارة في تعبيراتهم عن معارفهم وأحوالهم، فاللغة العادية لا تحتمِل بدلالاتها الاتفاقية المعانيَ التي يتوصلون إليها معرفيًّا: «قوالب ألفاظ الكلمات لا تحمل عبارة معاني الحالات.»١٣ والشكوى على أي حال قديمةٌ من صعوبة التعبير عن أحوال ومواجيد الصوفية باللغة العرفية المتواضعة، أو كما يقول النفَّري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.»١٤ ولكنَّ لاستخدام الإشارة والرمز في عبارات الصوفية بعدًا آخر: هو الضَّنُّ بالعلم الإلهي على غير أهله، أو الخوف من الفقهاء وهجومهم واتهاماتهم بالكفر والإلحاد والزندقة: «ولا أشدَّ من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم أسراره في خلقه، وفَهَّمهم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام. ولمَّا كان الأمر في الوجود والواقع على ما سبق به العلم القديم كما ذكرنا، عَدَل أصحابنا إلى الإشارات كما عدلت مريم عليها السلام من أجل أهل الإفك والإلحاد إلى الإشارة، فكلامهم رضي الله عنهم في شرح كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إشاراتٌ، وإن كان ذلك حقيقة وتفسيرًا لمعانيه النافعة، وردَّ ذلك كله إلى نفوسهم مع تقريرهم إياه في العموم وفيما نزل فيه كما يعلمه أهل اللسان الذين نزل الكتاب بلسانهم، فعَمَّ به سبحانه عندهم الوجهين، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ؛ يعني الآياتِ المنزلةَ في الآفاق وفي أنفسهم، فكل آيةٍ لها وجهان؛ وجه يرونه في نفوسهم، ووجه يرونه فيما خرج عنهم، فيسمون ما يرونه في أنفسهم إشارة؛ ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك، ولا يقولون في ذلك إنه تفسير؛ وقايةً لشرهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليه؛ وذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق، واقتدَوا في ذلك بسنن الهدى؛ فإن الله كان قادرًا على تنصيص ما تأوَّله أهل الله في كتابه، ومع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية التي نزلت بلسان العامة علومَ معاني الاختصاص التي فهَّمها عباده حين فتح لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم.»١٥
ومعنى ذلك أن استخدام كلمة «الإشارة» في تفسير النص القرآني لا تعني تعارضًا بين التفسير والتأويل أو بين الظاهر والباطن، ولكنها تعني استخدام مصطلح يتوافق مع رمزية النص من جهة، ويتحاشى هجوم الفقهاء من جهة أخرى؛ على أساس أنهم يقبلون كلمة «الإشارة» دلالةً على التفسير الصوفي، ويرفضون اعتباره تفسيرًا لظاهر النص. وعلى أي حال فإن مثل هذا التبرير لم يكن كافيًا، واستمر الهجوم على ابن عربي لا من معاصريه فحسب، بل من بعض العلماء المعاصرين في القرن العشرين.١٦ إن المعضلة كما يطرحها ابن عربي في هذا النص تكمن في الدلالة المزدوجة للنص القرآني: دلالته على الكون سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ، ودلالته على المعرفة الباطنية التي يحصِّلها الصوفي في معراجه وَفِي أَنْفُسِهِمْ، فالمعنى الظاهر الذي يفهمه علماء الرسوم هو دلالة القرآن على الكون الظاهر، والإشارة هي المعاني التي يفهمها المتصوفة دلالةً على المعرفة الباطنية التي ترى الوجود والنص معًا في ضوء جديد. ومثل هذا التصور لا يتعارض مع الأصول التي ينطلق منها ابن عربي، وأهمها الموازاة بين الإنسان والكون، والموازاة بينهما وبين الله. وعلى ذلك، فالقرآن لا بد أن يشير إلى كل هذه الدلالات مجتمِعة، وهي المستويات الأربعة التي سنتناولها في الفقرة التالية.
إن منهج الستر والإشارة — فيما يرى الصوفية — يرتبط باتساع أفق المعرفة التي يصل إليها العارف، ولا يجد في اللغة الوضعية العباراتِ الملائمةَ للتعبير عن هذه الحقائق، ومِن ثَم يضطر إلى السَّتر؛ رحمةً بالعباد العاديين الذين لم يصِلوا إلى هذه المعرفة: «ولمَّا كان الأمر عند الخلق بهذه النسبة، وحُجبوا عن ماله عند الله من عظيم النصبة، أخفيناه عنهم رحمةً بهم، وجرينا على مذهبهم، فما أظهرت النبوة للجمهور إلا قدرَ حمل عقولهم؛ خوفًا من نفورهم عنه وذهولهم؛ فيقعوا في تكذيب الخبر الصادق؛ فتحلَّ بهم لذلك مَثُلات العوائق. ثم جرى على هذا المهيع السلفُ الصالح من الصحابة، ونزلوا من مقام الهيبة إلى مقام المزاح والدعابة … وتستَّروا بالمعاملات في الظواهر، وتكتَّموا بما حصل لهم من العلم المَصون والسرائر، وإن كان قد نبَّهوا رضوان الله عليهم على أمور ليست عند الجمهور، وخاطبوا بها من وراء الستور. قال أبو هريرة: لو بَثثتُه لقُطع مني هذا البلعوم. وقال ابن عباس: لو فسَّرته لكنت فيكم الكافر المرجوم. لمَّا رأوا أن حقائق الغيوب فوق مراتب بعض القلوب، فأخذوا الأمر من فوق معرفة مشاهدةٍ وذوق ورثًا نبويًّا محفوظًا ومقامًا علويًّا ملحوظًا.»١٧

ومثل هذا الستر يُنسَب أيضًا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإلى أحد أحفاده؛ وهو جعفر الصادق أو علي زين العابدين: «وكما قال علي رضي الله عنه حين علم النقلة: إن هاهنا — وضرب على صدره بيده — لَعلومًا جمَّة، لو وُجدت له حملة. وكما قال ابنه الذكيُّ الحَبر السني:

يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحلَّ رجالٌ مسلمون دمي
يَرَوْن أقبح ما يأتونه حسنَا
فبهؤلاء السادات في ستري لهذه العلوم تأسيت، وبهم فيها اهتديت.»١٨
منهج الستر والإشارة إذن منهج قديم يمتد إلى عهد النبي والصحابة والتابعين؛ لأنه لا يُعقل — من وجهة نظر ابن عربي — أن يختص هو أو يختص الصوفية المتأخرون بعلم باطن الشريعة وإدراك رموز ودلالات النص القرآني. إن للنبوة — كما أشرنا في الباب السابق — جانبين: جانب الولاية الذي يختص بعلم الباطن والحقائق، وجانب التشريع الذي يختص بعلوم الظاهر وإبلاغ الوحي للبشر العاديين. ومعظم الناس يأخذ الوحي من جانبه الظاهر، ويعتمد على اللغة العرفية لفهم المراد بكلام الله. أما العارفون المحققون الذين لا يخلو الزمان عن واحد منهم، فهُم الذين يعلمون باطن النص وحقيقتَه. وابن عربي لا ينكر ارتباط النص القرآني — من حيث الظاهر — بإطار المنزَّل عليهم الوحي؛ لدرجة أنه يلاحظ غَلَبة اللغة التجارية على كثير من نصوص القرآن: «وإنما عدل في هذه الأمور إلى التجارة دون غيرها، فإن القرآن نزل على قرشي بلغة قريش بالحجاز، وكانوا تجارًا دون غيرهم من الأعراب. فلما كان الغالب عليهم التجارة كسى الله ذات الشرع والإيمان لفظ التجارة؛ ليكون أقرب إلى أفهامهم ومناسبة أحوالهم.»١٩
وليس معنى ذلك أن النص مرتبط بالظروف الزمانية والبيئية، فهذه الصور مجرد قشرة خارجية ظاهرة تخفي المعاني العميقة. وكثير من هذه المعاني العميقة لم يدركها عامة المسلمين، بل إنهم لم يدركوا كثيرًا من المعاني الظاهرة، واحتاجوا للرسول لكي يشرحها لهم واللغةُ لغتهم. ويردُّ ابن عربي مشكلة عدم الفهم في المستوى الظاهر نفسه إلى تعدد الدلالات التي يمكن أن تثيرها العبارة: «إن الإنسان ينطق بالكلام يريد به معنًى واحدًا مثلًا من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام، فإذا فُسِّر بغير مقصود المتكلم من تلك المعاني، فإنما فَسَّر المُفَسِّر بعض ما تعطيه قوة اللفظ، وإن كان لم يُصِب مقصود المتكلم، ألَا ترى الصحابة كيف شق عليهم قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، فأتى به نكرة، فقالوا: وأيُّنا لم يَلبِس إيمانَه بظلم! فهؤلاء الصحابة، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ما عرفوا مقصود الحق من الآية، والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور، فقال لهم النبي : «ليس الأمر كما ظننتم، وإنما أراد الله بالظلم هنا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.» فقوة الكلمة تعمُّ كلَّ ظلم، وقَصْدُ المتكلم إنما هو ظلم مخصوص … ولذلك تتقوى التفاسير في الكلام بقرائن الأحوال، فإنها المميِّزة للمعاني المقصودة للمتكلم.»٢٠

إن معضلة الفهم إذن لا تقتصر على فهم الإشارات والرموز، بل تمتد في نظر ابن عربي إلى الفهم اللغوي للعبارة في إطار العرف والتواضع اللغوي، فالألفاظ لها قوة في أصل وضعها، أو لنقُل: في استعمالها، تعطي لها مدلولات كثيرة، ومراد المتكلم — أو قصده — إنما هو مدلول واحد من هذه المعلومات الكثيرة. وقد يفهم المخاطب مدلولًا مغايرًا لقصد المتكلم. إن ثلاثية «المرسِل-الشفرة-المستقبِل» أو «المتكلم-العبارة-المخاطب» لا يمكن أن تتطابق عناصرُها تطابقًا تامًّا، فالشفرة نفسها تتسم بقدر هائل من تعدد الدلالة، ولا بد لفهم الدلالة بدقة من مراعاة السياق في العناصر الثلاثة.

وإذا كانت هذه هي المعضلة على مستوى الدلالة الظاهرة، فالمعضلة على المستوى الباطن الإشاري لا بد أن تكون أكثر تعقيدًا، ومن ثَم تحتاج لنظام إشاري متميز للتعبير عنها؛ هو لغة الإشارة والستر عند المتصوفة. ويبقى سؤال لا بد من الإجابة عليه: إذا كان النبي والصحابة والتابعون قد سكتوا عن الإفضاء بهذه العلوم، فلماذا لم يسكت ابن عربي نفسه؟ وتعليل ابن عربي في ردِّه على هذا السؤال يردُّنا إلى تصوره لنفسه بأنه خاتم الولاية المحمدية، فهو القادر على حل شفرة النص القرآني حلًّا كاملًا في دلالاتها المتعددة والمختلفة؛ بحكم مرتبته هذه من جهة، وبحكم العصر الذي ينتمي إليه من جهة أخرى، وهو يمثل الثلث الأخير من الليل بالنسبة للبعثة المحمدية: «فالعالم اليوم كله نائم من ساعة مات رسول الله يرى نفسه حيث هي صورة محمد إلى أن يُبعَث. ونحن بحمد الله في الثلث الأخير من هذه الليلة التي العالم نائم فيها، ولمَّا كان تجلِّي الحق في الثلث الأخير من الليل، وكان تجليه يعطي الفوائد والعلوم والمعارف التامة على أكمل وجوهها؛ لأنها عن تجلٍّ أقرب؛ لأنه تجلٍّ في السماء الدنيا، فكان علم آخر هذه الأمة أتمَّ من علم وسطها وأوَّلها بعد موت رسول الله ؛ لأن النبي لمَّا بعثه الله بعثه والشركُ قائم والكفر طاغٍ، فلم يَدْعُ القرن الأول، وهو قرن الصحابة، إلا للإيمان خاصة، ما أظهر لهم مما كان يعلمه من العلم المكنون، وأنزل عليه القرآن الكريم، وجعله يترجم عنه بما يبلغه أفهام عموم ذلك القرن، فصوَّر وشبَّه، ونعت بنعوت المحدَثات، وأقام جميع ما قاله من صفة خالقه مقامَ صورة حسية مُسوَّاةٍ مُعَدَّلةٍ، ثم نفخ في هذه الصورة الخطابية روحًا لظهور كمال النشأة، فكان الروح لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وكل آية تسبيح في القرآن، فهو روحُ صورةِ نشأةِ الخطاب، فافهم فإنه سر عجيب، فلاحَ من ذلك لخواص القرن الأوَّل دون عامته، بل لبعض خواصه، من خلف خطاب التنزيه أسرارٌ عظيمة، ومع هذا لم يَبْلغوا فيها مبلغَ المتأخرين من هذه الأمَّة؛ لأنهم أخذوها من مواد حروف القرآن والأخبار النبوية، فكانوا في ذلك بمنزلة أهل السَّمَر الذين يتحدَّثون في أول الليل قبل نومهم. فلما وصل زمان ثلث هذه الليلة، وهو زماننا، فأعطى من العلوم والأسرار والمعارف في القلوب بتجلِّيه ما لا تعطيه حروفُ الأخبار، فإنه أعطاها في غير مواد بل المعاني مجردة، فكانوا أتم في العلم، وكان القرن الأول أتم في العمل، وأما الإيمان فعلى التساوي.»٢١

ويمكن القول أخيرًا إن الدلالة الإشارية لرموز القرآن تتوقف على حال المستقبَل، وتتطور مع تطور السياق الزمني الذي يدور فَهمُ هذه الرموز من خلاله. وليس المقصود بالزمن هنا التتالي التاريخي، بل صفاء التجليات الإلهية بحسب أحوال المُتَجلَّى لهم وعلى قدر علمهم. صحيح أن ابن عربي في نصوص كثيرة سبقت الإشارة إليها يربط العلم بالعمل والتجلي بالعلم، لكنه هنا ينسى فيرى تفوُّق العصور السابقة في العمل وتفوق عصره في العلم وتساويَهما في الإيمان. وعلى كل حال فربط صفاء التجليات بالثلث الأخير من ليل الأمَّة الإسلامية — عصر ابن عربي — ينفي فكرة التتالي الزمني من جهة، كما يعطي لهذا التعليل بعدًا تأويليًّا من جهة أخرى.

(٢) القرآن والوجود

الموازاة التي يقيمها ابن عربي بين القرآن والوجود ليست موازاةً معرفية، بل هي بنفس القدر موازاة أنطولوجية. فالأساس في الوجود والقرآن معًا في النفَس الإلهي الذي ظهرت فيه أعيان صور الموجودات، كما ظهرت فيه حروف اللغة التي تتشكل منها الكلمات الإلهية. من هذا المنطلق لا يصبح القرآن نصًّا لغويًّا تاريخيًّا يتحدد معناه طبقًا لمراعاة قواعد وأصول موضوعية قائمة في بنية اللغة العربية؛ إذ اللغة العربية نفسها مجرد مظهر للُّغة الإلهية المقدسة. القرآن كلام الله، والوجود كذلك كلمات الله، وليس المهم عند الصوفي فَهمَ الكلام من خلال ظاهر اللغة، بل الاستماع إلى المتكلم (الله) من خلال مجالي كلامه المختلفة على مستوى الوجود ومستوى النص معًا: «اتل القرآن من حيث ما هو كلام الله تعالى، لا من حيث ما تدلُّ عليه الآيات من الأخبار والأحكام؛ فإنه الران.»٢٢ ولا يمكن أن تتم هذه التلاوة التي تستهدف الوصول إلى المتكلم إلا من خلال تلاوة القرآن على أساس بُعْدَيه: الوجودي والنصي.
إن استماع الصوفي إلى القرآن أو تلاوته له ليست إلا استماعًا لكلمات الوجود من خارج، واستماعًا لكلمات نفسه من داخل. ولا تعارضَ بين ظاهر الوجود الخارجي وباطن الإنسان الداخلي، فكلاهما جانبان يكشفان عن حقيقة واحدة هي كلام الله، فالإنسان هو مختصر الوجود، والكون الجامع الصغير: «ولا تظنَّ يا بني أن تلاوة الحق عليك وعلى أبناء جنسك من هذا القرآن العزيز خاصة، ليس هذا حظ الصوفي، بل الوجود بأسره «كتاب مسطور في رق منشور»، تلاه عليك سبحانه وتعالى لتعقِلَ عنه إنْ كنت عالمًا؛ قال تعالى: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، ولا يُحجب عن ملاحظة المختصر الشريف مِن هذا المسطور الذي هو عبارة عنك، فإن الحق تعالى تارةً يتلو عليك من الكتاب الكبير الخارج، وتارةً يتلو عليك من نفسك، فاستمع وتأهَّبْ لخطاب مولاك إليك في أي مقام كنت، وتحفَّظْ من الوَقْر والصمم، فالصمم آفة تمنعك من إدراك تلاوة الحق عليك من نفسك المختصرة، وهو الكتاب المعبَّر عنه بالفرقان؛ إذ الإنسان محل الجمع لِمَا تفرَّق في العالم الكبير.»٢٣

إن هذا التوازي بين الوجود والقرآن من جهة، وبين الإنسان والقرآن من جهة أخرى؛ يعتمد على التوازي الذي سبقت الإشارة إليه بين الإنسان والوجود. وإذا كان الإنسان كما سبقت الإشارة هو البرزخ الفاصل بين الحق والخلق، فهو الفرقان. والفرقان هو القرآن؛ بحكم أنه فرَّق بين الحق والباطل معرفيًّا، وبحكم أنه برزخٌ بين الله والإنسان كما سبقت الإشارة. ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن يتوازى القرآن مع حقائق الوجود كما يتوازى مع حقائق الإنسان؛ من حيث رباعية الحقائق التي يعتمدان عليها.

إن كل شيء في الوجود له ظاهر وباطن وحدٍّ ومُطَّلع؛ الوجود له ظاهر هو ما ندركه بالحواس في خبرتنا اليومية، وله باطن هو الروح التي تُمسك هذه الصور الحسية الظاهرة، وله حد وهو ما يميزه عن غيره من الموجودات، وله مطَّلع هو غايته ونهايته. والإنسان كذلك له ظاهر هو صورته المدركة بالحس، وله باطن هو روحه المدبِّرة لهذه الصورة، وله حد هو ما يميزه عن الحيوان والنبات والجماد، وله مطَّلع هو غايته ونهايته. هذه الجوانب الأربعة لكلٍّ من العالم والإنسان تنطبق على الله نفسه، أو على مرتبة الألوهة، فلها ظاهر وباطن وحد ومطلع، يعبَّر عنها بالأسماء الإلهية الجامعة، وهي الاسم الظاهر والباطن والأول والآخر. والظاهر والباطن والحد والمطَّلع هي — أيضًا — مستويات النص القرآني: «ما من شيء إلا وله ظاهر وباطن وحد ومطَّلع، فالظاهر منه ما أعطتك صورته، والباطن ما أعطاك ما يمسك عليه الصورة، والحد ما يميزه عن غيره، والمطلع منه ما يعطيك الوصول إليه إذا كنت تكشف به. وكل ما لا تكشف به فما وصلت إلى مطلعه … لا فرق بين هذه الأمور الأربعة لكل شيء وبين الأربعة الأسماء الإلهية الجامعةِ الاسمَ الظاهر، وهو ما أعطاه الدليل، والباطن وهو ما أعطاه الشرع من العلم بالله، والأول بالوجود والآخر بالعلم.»٢٤
هذه المستويات الأربعة تتجاوز الإنسان كمفهوم كلي والعالمَ كمفهوم كلي؛ لتنطبق على الإنسان من حيث آحاده وعلى العالم من حيث مراتبه، أو تفاصيله أو أجزائه. ينقسم العالم — في تصور ابن عربي — إلى عوالمَ أربعة حلَّلناها بالتفصيل في الباب الأول؛ وهي عالم الملك والشهادة؛ وهو عالم الظاهر، وعالم الغيب والملكوت؛ وهو عالم الباطن، وعالم البرزخ والجبروت؛ وهو عالم الحد، وعالم الأسماء الإلهية؛ وهو البرزخ المطلق أو الخيال المطلق، وهو عالم المطلع. وهذا التقسيم لمراتب العالم لا يقوم على الانفصال، فلكل مرتبة من هذه المراتب الأربع على حِدَة ظاهرٌ وباطن وبرزخ. باطن عالم الشهادة هو ظاهر عالم الملكوت، وباطن عالم الملكوت هو ظاهر عالم الجبروت؛ وهكذا.٢٥ وهذا التداخل بين مراتب الوجود ينعكس بالضرورة على مستويات النص القرآني، فليست العلاقة بين مستويات الظاهر والباطن والحد والمطلع قائمةً على الانفصال والتميز كما سنرى.
وينقسم البشر — معرفيًّا — إلى أنواع أربعة تتوازى مع مراتب الوجود من جهة، ومع مستويات النص من جهة أخرى، فهناك رجال الظاهر، ورجال الباطن، ورجال الحد، ورجال المطلع. ولا تقوم العلاقة بين البشر العارفين بمستوياتهم الأربعة وبين موضوع معرفتهم — في الوجود والقرآن — على الانفصال والتميز، بقدر ما تقوم على التداخل والتأثير المتبادل. يستمد هؤلاء البشر العارفون معرفتهم الوجودية من أرواح هذه العوالم ومن علوم الملائكة والأنبياء الذين يشرفون عليها؛ وذلك عن طريق الاتصال من خلال المعراج الصوفي. ومن خلال هذه المعرفة يستطيعون فَهْم النص القرآني من جهة، كما يستطيعون التأثير في هذه العوالم بهِمَمهم من جهة أخرى. ويعتمد ابن عربي على النص القرآني لتأكيد مثل هذا التصور؛ مما يؤكد ما نذهب إليه من جدلية العلاقة بين الفكر والنص عند ابن عربي. يقول: «الرجال أربعة: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ وهم رجال الظاهر، ورجال لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله؛ وهم رجال الباطن، جُلساء الحق تعالى، ولهم المشورة، ورجال الأعراف؛ وهم رجال الحد، قال تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ؛ وهم أهل الشم والتمييز والسَّراح عن الأوصاف، فلا صفة لهم، كان منهم أبو اليزيد البسطامي. ورجال إذا دعاهم الحق يأتونه رجالًا؛ لسرعة الإجابة لا يركبون، قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا، وهم رجال المطلع. فرجال الظاهر لهم التصرف في عالم الملك والشهادة، وأما رجال الباطن فهم الذين لهم التصرف في عالم الغيب والملكوت، فيستنزلون الأرواح العلوية بهِمَمهم فيما يريدونه؛ أعني أرواحَ الكواكب لا أرواح الملائكة، فيفتح لهؤلاء الرجال في باطن الكتب المنزلة، والصحف المطهرة، وكلام العالم كله، ونظم الحروف والأسماء من حيث معانيها، ما لا يمكن لغيرهم؛ اختصاصًا إلهيًّا. وأما رجال الحد، فهم الذين لهم التصرف في عالم الأرواح النارية، وهو عالم البرزخ والجبروت، وهم رجال الأعراف. والأعراف سور حاجز بين الجنة والنار، برزخٌ باطنُه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب، فهو حدٌّ بين دار السعداء ودار الأشقياء. وهؤلاء الرجال أسعد الناس بمعرفة هذا السور، ولهم في كل حضرة دخول واستشراف. وأما رجال المطلع فهم الذين لهم التصرف في الأسماء الإلهية، فيستنزلون بها ما شاء الله، وهذا ليس لغيرهم. وهم أعظم الرجال وهم الملامتية.»٢٦

هذه الموازاة بين القرآن والوجود والإنسان تؤدي إلى تحرر العارف في فهمه للنص القرآني من حدود المعطيات اللغوية المباشرة؛ حيث يمكن له أن يرى القرآن في ضوء وجودي ونفس أشمل. ولا تصبح العلاقة بين العارف والنص — في ظل هذا الفهم — علاقة انفصال، بل هي علاقة توحُّدٍ منظورٌ إليها من جانبين وباعتبارين. إن العارف يقرأ في القرآن الوجود بأسره، كما يقرأ فيه نفسه ومعارفه؛ إذ الوجود كلمات الله، والعارف — أو الإنسان الكامل — هو كلمة الله الجامعة.

إن الفارق بين الصوفي وغيره من العلماء يكمن في هذا الاتساع في فهم الصوفي لمعنى الكلام الإلهي، بينما يُضيِّق الفقهاء — أو علماء الرسوم — مفهوم الكلام الإلهي، ويقصُرونه على النص القرآني. إن الكلام الإلهي يمتد — في نظر الصوفي — ليشمل إلى جانب الوجود كلَّ كلام لفظي أيًّا كان الناطق به، فالكلام البشري مظهر للكلام الإلهي، فإنْ فَهِمه الفاهمُ طبقًا لمعطيات العرف والاصطلاح، فإنه لم يفهم سوى ظاهره، وإن فهمه فهمًا إلهيًّا أدرك حقيقة أن الله هو المتكلم على كل لسان: «فكل قائل عندهم فليس إلا الله، وكل قولٍ علمٌ إلهي. وما بقيت الصيغة إلا في صورة السماع من ذلك، فإنه ثَم قول امتثال شرعًا وقول ابتلاء، فما بقي إلا الفهم الذي به يقع التفاضل.»٢٧

العارف إذن يرى الوجود كله كلمات الله، ويرى كل كلام في الوجود كلامًا لله. وهذا الكلام الوجودي ينقسم إلى ما يجب امتثاله شرعًا، وهو كلام الله المباشر بالأمر أو النهي، وما يُعَد ابتلاء، وهو كلام كل متكلم في الوجود. هذا الكلام الابتلاء قد يكون خيرًا وقد يكون شرًّا، والفهم هو الذي يفرِّق بين هذين المستويَين. إن استماع الصوفي للكلام — أيًّا كان الناطق به — يعتمد على الفهم، والاستماع والفهم مصطلحان يدلان على معنًى واحد، فيستطيع التفرقة بين الكلام الذي يجب امتثاله، وهو الكلام المباشر، وبين الكلام الابتلاء، وهو كلام الله من خلال صور المتكلمين. الكلام الذي يجب امتثاله هو كلام الله على لسان المرسل بالوحي المنزل، أما الكلام الابتلاء فهو كلام الله على ألسنة البشر وغيرهم من الكائنات. والصوفي قادر على سماع هذا الكلام كله، وقادر في نفس الوقت على أن يميز بين مستويات الكلام ومراتبه.

وتوحيد ابن عربي بين الكلام الإلهي والكلام غير الإلهي يعتمد على تصوره بأن الأسماء الإلهية هي الفاعلة على الحقيقة من خلال الصور، وأنْ لا شيء يحدث في الكون ضد إرادة الله؛ وإنْ بدا الأمر كذلك في عين أهل الظاهر. إن إبليس يدعو الإنسان إلى المعصية، ولكنه لا يفعل ذلك إلا بإرادة الله وإذنه، والإذن نوع من الكلام. وكل شيء في الكون إنما يقع بإذن الله، فكلام كل متكلم — أيًّا كان موضوعه — واقع بإذن الله. وهذا الكلام الواقع عن الإذن (الكلام الابتلاء) يختلف تلقيه في سمع الصوفي — ويختلف فهمه — عن الكلام الإلهي المباشر الذي يجب امتثاله. في مقابلة هذا الفهم الواسع للكلام الإلهي عند المتصوفة، اقتصر أهل الظاهر «على كلام الله المعيَّن المسمى فرقانًا وقرآنًا، وعلى الرسول المعين المسمى محمدًا . والعارفون عمَّموا السمع في كل كلام، فسمعوا القرآن قرآنًا لا فرقانًا وعمَّموا الرسالة، فالألف واللام التي في قوله: وَلِلرَّسُولِ إشارة إلى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ عندهم للجنس والشمول لا للعهد، فكل داعٍ في العالم فهو رسول من الله باطنًا، ويفترقون في الظاهر، ألَا ترى إبليس — وهو أبعد البُعداء عن نسبة التقريب — وكذلك الساحر بعده، كيف شهد لهم بالرسالة وإن لم يقع التصريح! فقال في السَّحَرة: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، ولا معنَى للرسالة إلا أن يكون حكمها هذا وهو إذْن الله. وقال في إبليس في إثبات رسالته: اذْهَبْ فَمن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. ثم عرَّفنا الله سبحانه ما أرسله به فقال: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ. وهذه الأحوال كلها عين ما جاءت به الكُمَّل من الرسل عليهم السلام الذين أعطوا السيف. فيسعد العارف بتلقي رسالة الشيطان ويعرف كيف يتلقاها، ويشقى بها آخرون؛ وهم القوم الذين ما لهم هذه المعرفة … فالعالم كله عند العارف رسولٌ من الله إليه، وهو رسالته — أعني العالم — في حق هذا العارف رحمة؛ لأن الرسل ما بُعثوا إلا رحمة، ولو بُعثوا بالبلاء لكان في طيِّه الرحمةُ الإلهية؛ لأن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء، فما ثَم شيء لا يكون في هذه الرحمة.»٢٨
وإذا كان السماع من جانب الصوفي يرى كل كلام كلامًا لله، فإن الفهم — وهو الوجه الآخر للسماع — يميز بين هذين المستويين: مستوى الكلام المباشر، ومستوى الكلام غير المباشر. يميز الصوفي في فهمه وسماعه بين الأمر الوارد على لسان النبي والأمرِ الوارد على لسان إبليس، كما يميز بين النهي المباشر والنهي غير المباشر، وبذلك «يختلف الأخذ من العارفين عن هؤلاء الرسل لاختلاف الرسل، فليس أخْذهم من الرسل أصحابِ الدلالات سلامُ الله عليهم كأخْذهم من الرسل الذين هم عن الإذن من حيث لا يشعرون. ومَن شعر منهم وعلِم ما يدعو إليه كإبليس إذ قال لصاحبه: اكفرْ، فيتلقاه منه العارف تلقيًا إلهيًّا، فينظر إلى ما أمره الحق به من الستر فيستره، ويكون هذا الرسول الشيطانُ المطرود عن الله منبهًا عن الله، فيسعد هذا العارف بما يستره، وهو غير مقصود الشيطان الذي أوحى إليه. والذي هو غير العارف يكفر بالذي يقول له: اكفرْ [به]، فإذا كفر يقول له الشيطان: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فشهد الله للشيطان بالخوف من الله رب العالمين في دار التكليف والإيمان به.»٢٩

إن السماع والفهم من جانب الصوفي لكلام البشر والشيطان يعتمد على سياق مختلف؛ فحواه أن كل كلام هو في حقيقته كلام إلهي، وكل داعٍ في العالم إنما هو رسول إلهي. ومن طبيعة هذا السياق أن يعطي للشفرة اللغوية — أو الرسالة — معنًى جديدًا يعتمد على هذا السياق. وهذا ما يشير إليه ابن عربي، من أن أمر الشيطان للإنسان بالكفر يجب أن يؤخذ — من سياق الكلام الإلهي — على أنه أمْرٌ بالستر. وإذا كان مقصود الشيطان هو الكفر بالله، فإن سياق الكلام الإلهي هو ستر المعرفة، أو الكفر بغير الله الذي يؤدي إلى سعادة العارف.

ومن الضروري الإشارة إلى أن توحيد ابن عربي بين الكلام الإلهي وغيره من الكلام في الوجود، أو كلام أي متكلم كان؛ يستند كما سبقت الإشارة إلى فعالية الأسماء الإلهية في العالم من جهة، كما يستند إلى الموازاة بين القرآن والوجود والإنسان من جهة أخرى: «إن كلام العالم ليس إلا كلامه، فإن العالم كله إنسان كبير كامل، فحكمه حكم الإنسان، وهوية الحق باطن الإنسان وقواه التي كان بها عبدًا، فهدية الحق قوى العالم التي كان بها إنسانًا مُسبِّحًا ربَّه تعالى.»٣٠
وإذا كان العالم والإنسان يستندان في صدورهما إلى الحقيقة المحمدية السارية في الكون بأسره، فمن الضروري أن يصبح القرآن هو حقيقة محمد ومعرفته التي نالها: «فمن أراد أن يرى رسول الله ممن لم يدركه من أمته فلينظر إلى القرآن، فإذا نظر فيه فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله ، فكأن القرآن انتشأ صورةً جسدية يقال لها: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. والقرآن كلام الله، وهو صفته، فكان محمد صفة الحق تعالى بجملته.»٣١
وكما أن الحقيقة المحمدية واحدة في العين كثيرةٌ في الكون، أو هي حقيقة واحدة تجلت في صور مختلفة ابتداءً من آدم إلى صور الأنبياء جميعًا، حتى وجدت مجلاها الأكمل في الصورة الجسدية المحمدية، فكذلك كلام الله واحد بالعين كثيرٌ في الكون، وكذلك يكون القرآن مهيِّمنًا على غيره من الكتب والصحف: «وإنما صحت الغيرية في الكتب المنزلة من حيث المحل، فهي واحدة العين كثيرة في الكون.»٣٢

إن الحقيقة المحمدية، كما سبقت الإشارة، هي الحقيقة السارية في الكون باعتبارها المجلى الأولى لتوجه الألوهة لحقيقة الحقائق في العماء في عالم البرزخ المطلق، وهذا هو بُعدها الوجودي. أما بُعدها المعرفي فهو كونها الحجاب المعرفي بين الذات الإلهية والعالم والإنسان. وإذا كان القرآن يتوازى مع محمد النبي المكي، فإن كلام الله — أو صفة العلم — بمعناه الكوني الوجودي يمكن أن يتوازى مع الحقيقة المحمدية، فالقرآن — بذلك — يمثل التجلي الأكمل والأشمل لحقيقة العلم الإلهي. وهكذا يمكن القول إن هناك حقيقة قرآنية (= الحقيقة المحمدية) سارية في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء جميعًا، حتى وجدت مجلاها الأكمل في الكتاب الذي نزل على محمد؛ وهو القرآن. إن هذه الحقيقة القرآنية هي كلام الله، وهي العلم الإلهي، وهي الحقيقة المحمدية؛ طبقًا لتوحيد ابن عربي بين هذه الحقائق وجوديًّا وإن كان يفرِّق بينها معرفيًّا.

نحن إذن إزاء حقيقة وجودية — هي الكلام الإلهي — تتجلى في صور مختلفة، هي التي تؤدي إلى الكثرة الوجودية المدركة في الكلام. وإذا كان القرآن المنزل على محمد يُعَد أكمل مجالي حقيقة الكلام الإلهي، فهو — في النهاية — مجرد مجلًى؛ لأنه متلبِّس بالصورة التي هي الألفاظ والحروف والكلمات؛ بمعنى أنه مرتبط بالدلالة العرفية الوضعية للغة العربية، ومن خلال هذه الثنائية، ثنائية الكلام القرآن، يثير ابن عربي معضلة فَهم هذا النص المحدد في إطار الكلام الإلهي الوجودي.

(٣) القرآن ومعضلة الفهم

يفرِّق ابن عربي بين مستويين من الكلام: المستوى الأول هو الكلام مجردًا عن المادة، لفظيةً كانت أم رقمية. والمستوى الثاني هو الكلام مُتلبِّسًا بالمدة؛ لفظيةً كانت أم رقمية. هذه التفرقة كما أشرنا تفرقة بين مستويين — لا نوعين — من الكلام. إنها تفرقة بين ماهية الكلام وصورته، أو بين جوهره الواحد وأعراضه المتعددة. الكلام في المستوى الأول هو الكلام الإلهي في الوجود والكون، وهو واحد العين، وفي المستوى الثاني هو كلامُ كلِّ متكلم بالوحي أو بدونه، وهو متكثر متعدد؛ هذا على المستوى الوجودي الخالص. وعلى المستوى المعرفي هناك تناسُب بين عملية الإدراك والفهم وبين مستوى الكلام، فالعلم يتعلق بمستوى الكلام-الماهية؛ أي: الكلام غير المتلبِّس بالمادة. أما الكلام-الصورة، أو الكلام المتلبِّس بالمادة، فلا يتعلق به سوى الفهم. والفهم ليس إلا صورةً من صور العلم، أو هو — فيما يقول ابن عربي — «تعلق خاص في العلم.»٣٣

ولما كان ابن عربي يوحِّد بين الكلام الماهية والألوهة، فمن الطبيعي أن يتعلق العلم بالكلام الإلهي كما يتعلق بالألوهة التي تُعلَم ولا تُدرَك؛ كما يقول ابن عربي. أما الكلام الصورة أو الكلام متلبِّسًا بالمادة، فيتعلق بإدراكنا المحدود بالحواس، ولا يمكن لهذا الإدراك أن يصل إلى العلم. إن الكلام الماهية يُعلَم عن طريق الاتصال بمصدره الأصلي، فيدرك العارف كلَّ المعاني التي يقصدها المتكلم من كلامه؛ سواءٌ تجلَّى هذا الكلام في الوجود أو النص. أما الكلام الصورة فهو يرتبط باللغة في مستواها الدلالي العرفي، وهذا المستوى بطبيعته متعدد ومتغير؛ فلا يتعلق الفَهم إلا بأحد جوانبه الدلالية. ويستطيع الصوفي أن يربط بين جانبَي الكلام أو مستويَيه؛ فيفهم القرآن وهو متلبِّس بالألفاظ في ضوء فَهمه للكلام الماهية.

ولكن لماذا يتعلق العلم بالكلام الماهية، بينما لا يتعلق بالكلام الصورة سوى الفهم؟ وكيف يستطيع العارف أن يتجاوز إطار الفهم إلى العلم؟ على المستوى الوجودي الخالص تمثل الصورة أو المادة في الكلام — لفظًا كانت أم كتابة — عائقًا بين الكلام وبين المدرِك. إن عملية الفهم لا تتم إلا من خلال هذه الصورة التي تُشوِّش على المدرِك الوصولَ إلى باطنها. أو بعبارة أخرى إذا شئنا استخدام مصطلحات لغوية يمثل اللفظ في الصوت أو الخط في الكتابة وسيطًا بين المتلقي وبين المعنى الكامن وراء هذا اللفظ. وعلى المستوى الإدراكي تمثل الحواس عائقًا آخرَ بين المتلقي والكلام، حيث نتلقى الكلام بالأُذن في حالة اللفظ أو بالعين في حالة الكتابة. وإلى جانب ذلك فإن عملية التلقي — هنا — تتم في إطار اللغة بكل ما تحتمله اللغة من الاشتراك والمجاز وتعدد الدلالة. «فإذا علم السامع اللفظة من اللافظ بها، أو يرى الكتابة، فإنْ عَلِم مراد المتكلم في تلك الكلمة مع تضمُّنها في الاصطلاح معانيَ كثيرةً خلاف مراد المتكلم بها؛ فذلك الفهم، وإن لم يعلم مراد المتكلم من تلك الكلمة على التفصيل، واحتمل عنده فيها وجوه (كذا) كثيرة مما تدل عليه تلك الكلمة، ولا يعلم على التعيين مرادَ المتكلم من تلك الوجوه، وهل أرادها كلَّها أو أراد وجهًا واحدًا أو ما كان، فمع العلم بمدلول تلك الكلمة لا يُقال فيه إنه أعطى الفهم فيها، وإنما أعطى العلم بمدلولاتها كلها؛ لعلمه بالاصطلاح.»٣٤

الفهم إذنْ تحديد دقيق لمراد المتكلم، وتعيين للمعنى المقصود من اللفظ؛ ضمن محتملاته العديدة في اللغة، بينما يظل العلم في إطار التعميم وعدم التحديد. وقد تبدو مثل هذه النظرة — من زاوية عصرنا — نظرةً معكوسة تفضِّل التعميم على التخصيص والغموضَ على الوضوح. أو قد يبدو لنا — من زاوية أخرى — أن هذه النظرة تُعلي من شأن الفهم على حساب العلم؛ مما يوهم بتناقض ابن عربي الذي يعتبِر الفهم مرحلةً أدنى من العلم أو صورةً مخصوصة من صور العلم كما سبقت الإشارة. لكن هذا التناقض يزول إذا أدركنا أن المقارنة بين الفهم والعلم هنا مقارنةٌ في إطار الكلام المتلبِّس بالصورة، وبالتالي فعملية الإدراك والفهم لا بد أن تنفُذ إلى الباطن (المعنى) عن طريق الصورة (اللفظ).

إن الفهم في إطار اللغة الوضعية، هو إدراك معنى شفرة المتكلم في سياقها الذاتي، أما العلم في إطار هذه اللغة فهو إدراك المعاني والدلالات المتعددة التي يمكن أن تحتملها الشفرة. والأمر مختلف تمامًا في إدراك الكلام الماهية، أو الكلام في مستواه الوجودي، وهو الكلام غير المتلبِّس بالمادة. في هذه الحالة الأخيرة لا يمثل اللفظ — صوتًا أو كتابةً — عائقًا بين الكلام والسامع، كما لا تمثل الأذن أو العين عائقًا بين المتلقي والكلام. إن إدراك الكلام في هذه الحالة الأخيرة يتم عن طريق توحُّد السامع بالكلام، فإذا كان الكلام في غير مادة فالسامع يسمع بغير آلة. إن هناك تناسبًا بين الكلام والسامع ترتفع فيه الوسائطُ وتنتفي الاثنينية ويتم العلم المباشر. إننا هنا لسنا في مجال اللغة الاصطلاحية التي تحتاج من السامع جهدًا للتحديد والتعيين والتفصيل، بل نحن في مجال إدراك مباشر وعلم مُجمل، «فذاك الكلام الذي لا يكون في موادَّ يُعلَم ولا يقال فيه يفهم، فيتعلق به العلم من السامع الذي لا يسمع بآلة، بل يسمع بحق مجرد عن الآلة، كما إذا كان الكلام في غير مادة فلا يسمع إلا بما يناسبه.»٣٥

إن السماع عن الوجود والذي يكون بغير آلة هو السماع الذي يسمعه العارف الذي يصير الحق سمْعَه وأذنه وعينه؛ كما جاء في الحديث القدسي: «ما زال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت عينه التي بها يبصر، وأذنه التي بها يسمع، ورِجْله التي بها يمشي، ويده التي بها يبطش»، وهي حالة المعرفة الكاملة التي تسقط فيها العوائق وتتجلى الحقيقة لقلب العارف.

إن الفارق بين العلم والفهم يتوازى مع تفرقة ابن عربي بين الكشف والذوق والشهود من جهة، وبين المعرفة الاستدلالية العقلية من جهة أخرى؛ الأولى يقينية تتوحَّد فيها الذات مع موضوعها، والثانية تتم عن طريق وسائط، وتقوم على الثنائية بين الذات والموضوع. إننا في المعرفة الأولى نعلم وفي الثانية نفهم. إن الحقيقة التي نعلمها في الحالة الأولى ليست لها صفة التحديد والتفصيل؛ إذ هي الحقيقة الكلية في شمولها ولا تحددها. أما الحقيقة التي نفهمها في الحالة الثانية فهي حقيقة جزئية تعكس جانبًا واحدًا، أو بعدًا متميزًا من أبعاد الحقيقة الكلية التي نعلمها علمًا مباشرًا في الحالة الأولى.٣٦

إن هذه التفرقة بين مستويَين في الكلام تمثل تقسيمًا معرفيًّا لوحدة الكلام الإلهي، أو الكلام الماهية والوجود. هذا الكلام قد يكون في غير مادة فيحتاج للتجرُّد عن علائق المادة وشواغلها؛ حتى يصل العارف إلى سماع هذا الكلام وفهمه. أما الكلام المادي فهو الكلام الإلهي الذي يمثله الوحي في شكل الكتب المقدسة، ويستطيع الصوفي أن يفهم هذا الكلام في باطنه وعمقه بعد أن يصل إلى حالة السماع والعلم بالكلام الوجودي. إن التأويل — في ظل هذا الفهم — هو اكتشاف الشفرة الإلهية، وفهم القرآن في ضوء هذه الشفرة؛ أي: فَهمه باعتباره مجموعةً من الرموز الدالَّة على حقائق الوجود والإنسان.

إن القرآن الذي نقرؤه كل يوم بألسنتنا ونسمعه بآذاننا ونراه بأعيننا ليس إلا محاكاة للكلام الإلهي الوجودي. وقد مرَّ هذا الكلام الإلهي بمراحل ثلاث؛ أُولاها: لغة الملَك جبريل، وثانيتها: لغة الرسول الخاصة، وثالثتها وآخرها: اللغة العربية الاصطلاحية، أو لنقُلْ بكلمات أخرى: إن الكلام الإلهي قد نزل من إطلاقه، وتحدَّد في ثلاث مراحل مختلفة؛ وصولًا إلى الإنسان الذي يستهدفه الوحي. إن الكلام الإلهي في إطلاقه الوجودي يتحدد — في الوحي — على مستويات ثلاثة، تمثل كل منها شفرة مستقلة أو صورة خاصة من صور الكلام. ومعنى ذلك أن هناك أربعة مستويات للكلام الإلهي تتوازى مع رباعيات الوجود والإنسان.٣٧

وتنعكس هذه المعضلة — معضلة التنزل — في فهم النص، فالوقوف عند معطيات اللغة العربية وفهم النص من خلالها يمثل وقوفًا عند المستوى الظاهر، والنفاذ إلى ما وراء هذا المستوى لفهم القرآن كما نزل على الرسول يمثل مستوى الباطن، وهذا المستوى هو الذي يشير إليه ابن عربي بتنزل القرآن على قلب الصوفي. في هذا المستوى يتجاوز العارف معطيات اللغة العامة، ويصل إلى الشفرة الخاصة بالرسول في إطار اللغة العامة. أما المستوى الثالث فهو فَهم القرآن من خلال الشفرة الجبريلية، وهذا المستوى يمثل مستوى الحد، فجبريل نفسه ينتمي إلى عالم الجبروت. ويبقى المستوى الرابع والأخير وهو مستوى المطلع؛ حيث يصل الصوفي إلى مرتبة العلم بالكلام الإلهي المطلق، ويفهم القرآن في ضوء هذه الشفرة.

إن معضلة فهم النص القرآني، والكتب المنزلة عامة تمثل — في نظر ابن عربي — إشكالية حقيقية يطرحها كما يلي: «أصدق القول ما جاء في الكتب المنزلة والصحف المطهرة المرسلة. ومع تنزيهها الذي لا يبلغه تنزيه، نزلت إلى التشبيه الذي لا يماثله تشبيه؛ فنزلت آياته بلسان رسوله، وبَلَّغ رسوله بلسان قومه، وما ذكر صورة ما جاء به الملَك، وهل هو أمر ثالث ليس مثلهما، أو هو مشترك؟ وعلى كل حال فالمسألة فيها إشكال؛ لأن العبارات لحننا، والكلام لله ليس لنا، فما هو المنزَّل والمعاني لا تنزل؟ إن كانت العبارات فما هو القول الإلهي؟ وإن كان القول فما هو اللفظ الكياني؟ وهو اللفظ بلا ريب، فأين الشهادة والغيب»؟٣٨

هذا الإشكال الذي يطرحه ابن عربي يمثل عائقًا حقيقيًّا في فهم القرآني، لكن هذا العائق يزول تدريجيًّا إذا فهمنا أن العلاقة بين هذه المستويات علاقةُ تداخل؛ كمثيلتها الوجودية قَدمًا بقدم، فالظاهر هو وسيلتنا إلى الباطن، كما أن معرفتنا باللغة العربية وسيلة أساسية لفهم الشفرة النبوية، أو فهم القرآن كما نزل بلسان الرسول. والباطن — بدوره — يقودنا إلى حد الشيء وحقيقته التي تميزه عن غيره، فنفهم — كما فهم ابن عربي — ما يتميز به القرآن عن غيره من الكتب السماوية، وما يميز الآية فيه والسورة عن غيرها من الآيات والسور. وهذا الحد يقودنا إلى المطلع؛ وهو دلالة القرآن على حقائق الألوهة. إننا في رحلة صاعدة تجاه الحقيقة المطلقة أو العلم بالكلام الإلهي، نجتاز مراحل من الفهم ضروريةً للوصول إلى العلم. هذه المراحل ليست في علاقة تضاد؛ بمعنى أن الوصول إلى مرحلة أعلى لا يعني إنكار الفهم المتضمَّن في المرحلة الأدنى أو رفضَه، بل الأحرى القول إن العلاقة بين هذه المراحل علاقة نموٍّ وتزايد. إن كل مرحلة تمثل جانبًا من الحقيقة ضروريًّا للفهم، ولا غناء عنه لفهم الجوانب الأخرى. وباكتمال هذه الجوانب، أو باجتياز هذه المراحل، تنكشف الحقيقة — حقيقة الكلام — في إطلاقها ووحدتها.

إن الفارق بين ابن عربي والمتكلمين فيما يرتبط بعلاقة الظاهر بالباطن يكمن في أن المتكلمين ينظرون إلى علاقة الباطن بالظاهر من خلال منظور التضاد، وهي علاقة عُبِّر عنها من خلال التقابل بين الحقيقة (الباطن) والمجاز (الظاهر). المجاز هو ظاهر العبارة الذي يجب أن نتجاوزه وصولًا إلى فهم حقيقة المراد منها أو باطنها. ويعد الوقوف عند المستوى الظاهر في الفهم خطأً واعتقادُه كفرًا.٣٩ ولذلك يرفض ابن عربي وقوع المجاز في القرآن: «فما وقع الإعجاز إلا بتقديسه عن المجاز، فكله صدق، ومدلول كَلِمِه حق، والأمر ما به خفاء.»٤٠
إن الإيمان بوجود المجاز … بالمفهوم البلاغي القديم الذي يقيم العلاقة بين الحقيقة والمجاز على الانفصال؛ يعني التسليم بثنائية العلاقة بين الظاهر والباطن وقيامها على التضاد والتناقض في نفس الوقت. والموقف مع ابن عربي مختلف؛ فهو يسلِّم بصحة كل مستويات المعنى في النص القرآني على أساس أنها تنزُّلات مختلفة، أو مجال متعددة لحقيقة واحدة هي الكلام الإلهي. في ظل هذه النظرة لا بد أن تتعدد أبعاد المعنى في النص طبقًا لتعدد القراء ومستوياتهم في الفهم داخل إطار اللغة الواحدة. وهذا التعدد في معنى النص وتأويله أمر مشروع، طالما أن فَهْم السامع لا يتجاوز إطار اللغة التي نزل بها النص في مرتبة الظاهر، «وأما كلام الله إذا نزل بلسان قوم، فاختلف أهل ذلك اللسان في الفهم عن الله ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختلاف مدلولاتها، فكل واحد منهم وإن اختلفوا فقد فَهِم عن الله ما أراده، فإنه عالم بجميع الوجوه تعالى. وما من وجه إلا وهو مقصود لله تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص المعين؛ ما لم يخرج عن اللسان، فإن خرج عن اللسان فلا فهم ولا علم.»٤١
ولعل فيما سبق ما يفسِّر لنا إصرارَ ابن عربي في مواطن كثيرة من كتاباته على ضرورة الإيمان بظاهر ما جاء في القرآن، كما يفسِّر لنا وقوفه ضد التأويل والمؤوِّلة.٤٢ ولكن علينا أن نفهم أنه يقف ضد التأويل الذي ينكر الظاهر ويرفضه، لا التأويلِ الذي يسلِّم بتعدد مستويات المعنى وصحة كل منها باعتبارها وجوهًا متعددةً لحقيقة الكلام الإلهي، «وكل من أظهر اعتقاد النبوة، وصَرَف ما جاءت به من الأحكام الظاهرة إلى معانٍ نفسية لم تكن من قصد النبي، بما ظهر عليه ما اعتقدته العامة من ذلك، فإنه لا يحصل على طائل من العلم. ومن اعتقد فيما جاء به هذا النبي أنه من الظاهر والعموم على ما هو عليه حق كله، وله زيادةُ مصرفٍ آخرَ مع ثبوت هذه المعاني، فجمع بين الحس والمعنى في نظره، فذلك الوارث العالم الذي شاهد الحق على ما هو عليه. وهذا لا يحصل إلا بالتعمل.»٤٣
وإذا كانت العلاقة بين مستويات النص تقوم على التداخل، فلا بدَّ من أن يبدأ العارف بالتحقق بظاهر النص؛ وهو ظاهر الشريعة من الأحكام والعبادات. والتحقق بظاهر النص لا يتم إلا بفهمه من خلال معطيات اللغة الوضعية الاصطلاحية، وهو المستوى الذي يقف عنده الفقهاء ورجال الأصول، فيستخرجون الأحكام من النصوص طبقًا لمراعاة قواعدَ لغويةٍ معروفة. وبعد أن يتم للصوفي التحققُ بهذا المستوى الظاهر فهمًا وعملًا، يمكنه أن يبدأ رحلته المعراجية التي أسهبنا في تحليلها في الباب السابق. ومراحل هذا المعراج قد تؤدي بالسالك إلى نزول القرآن على قلبه كما نزل على قلب الرسول. في هذه المرتبة يضع الصوفي نفسه مكان النبي لكي يتلقى الوحي مباشرةً عن الملَك؛ أي: يتلقاه بالشفرة المشتركة الخاصة بين الرسول والمَلَك؛ بمعنى أنه يتجاوز إطار الشروح والتفسيرات وإطارَ اللغة الوضعية الاصطلاحية إلى مستوًى أكثرَ خصوصيةً يؤدي به إلى النفاذ إلى المعنى الباطن، فيكون قادرًا على فهم النص كما فهمه الرسول: «انظر في القرآن بما نزل على محمد ، لا تنظر فيه بما أنزل على العرب فتخيب عن إدراك معانيه، فإنه نزل بلسان رسول الله ؛ لسانٍ عربي مبين، نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام على قلب محمد … فإذا تكلمت في القرآن بما هو به محمد متكلم نزلت عن ذلك الفهم إلى فهم السامع من النبي ، فإن الخطاب على قدر السامع لا على قدر المتكلم، وليس سمْعُ النبي وفَهْمُه فيه فَهم السامع من أمته فيه إذا تلاه عليه. وهذه نكتة ما سمعتها قبل هذا عن أحد قبلي، وهي غريبة وفيها غموض.»٤٤

والنكتة غريبة حقًّا، فابن عربي يفرِّق بين فهم الرسول للوحي وبين كلامه به، ويعتبِر أن كلامه بالوحي — ولعله يقصد شرحه له — منزلةٌ أدنى من فهمه له؛ لأنه يريد أن يصل إلى إفهام سامعيه فيُبَسِّط لهم الحقائق التي يتضمنها. وابن عربي يطالب الصوفي أن يرقى إلى مستوى فَهم الرسول لا إلى مستوى شرحه، وإلا نزل إلى مستوى فهم العامة. وما دمنا نتحدث عن مستوى الفهم الباطن، فَهْم الرسول، فمن الضروري الإشارة إلى أن هذا الفهم يمثل المستوى الثاني فحسب. وليس معنى ذلك أن الرسول لم يتجاوز فَهمُه إطار هذا المستوى، فالرسل والأنبياء يتجاوزون هذا الإطار بحكم أنهم أولياء أيضًا كما سبقت الإشارة. والرسول محمد خاصةً له مكانة خاصةٌ؛ من حيث إنه المجلى الكامل لحقيقته الروحية التي يسعى الصوفي إلى الاتحاد بها. وهذا السعي الدائم يجعل الصوفي يتجاوز هذا المستوى الباطن إلى مستوى الحد، ومنه إلى مستوى المطلع كما سبقت الإشارة.

بهذه الطريقة يتجدد الوحي ويتنوع بتنوع العارفين وتنوع أحوالهم؛ بمعنى أن القرآن يتجلى في صور متعددة من المعاني والتنزلات لا تعني كثرةً بأي حال من الأحوال؛ فالنص في ذاته واحد من حيث هو دلالةٌ على الكلام الإلهي الوجودي: «القرآن متنوع ينطبع عند النازل عليه في قلبه بصورةِ ما نزل عليه، فتَغيَّرُ على المنزل عليه الحال لتغيُّر الآيات، والكلام من حيث ما هو كلام واحد لا يقبل التغير.»٤٥ وإذا كان الصوفي يتنوع باطنه — في هذه المرحلة — بتنوع الآيات، فإن القرآن نفسه يتنوع بتنوع القارئين، بل يتنوع معنى النص بتنوع أحوال القارئ الواحد؛ بمعنى أن العلاقة بين القارئ والمقروء، أو العارف والنص، علاقةٌ جدليةٌ يتبادلان فيها التأثير والتأثر: «ألا ترى العالِم الفَهِم المراقب يتلو المحفوظ عنده من القرآن فيجد في كل تلاوةٍ معنًى لم يجده في التلاوة الأولى! والحروف المتلوَّة هي بعينها ما زال فيها شيء ولا نقص، وإنما الموطن والحال تجدَّد، ولا بد من تجدُّده، فإن زمان التلاوة الأولى ما هو زمان التلاوة الثانية.»٤٦

إن هذه العلاقة الجدلية بين القارئ والنص تقوم على تنوُّع النص من جهة وتنوع أحوال القارئ من جهة أخرى، فالحال تُغَيِّر فهم الصوفي للنص، والنص يغيِّر حال الصوفي، وهكذا تقوم العلاقة على نوع من التوتر المستمر الصاعد، يتجدد فيه المعنى ويترقى من خلاله الصوفي في أحواله، ولذلك يطالب ابن عربي العارف أحيانًا بالتنوع مع تنوع النص والخضوع لهذا التنوع، وأحيانًا يطالبه بالثبات لهذا التنوع وتوجيه الهمَّة إلى المتكلم لا إلى الكلام؛ حتى يصل إلى مطلع القرآن؛ وهو الثبات في التنوع؛ أي: يصل إلى الحقائق الكلية المختفية خلف آيات القرآن المتنوعة في موضوعاتها وأساليبها.

يقول ابن عربي حاثًّا العارفَ على التنوع: «واعلم أن الاتباع إنما هو فيما حدَّه لك في قوله ورَسَمه؛ فتمشي حيث مشى بك، وتقف حيث وقف بك، وتنظر فيما قال لك انظر، وتسلِّم فيما قال لك سلِّم، وتعقِلُ فيما قال لك اعقِل، وتؤمن فيما قال لك آمن؛ فإن الآيات الإلهية هي الواردة في الذكر الحكيم، وردت متنوعة، وتنوَّع لتنوعها وصفُ المخاطب بها، فمنها آيات لقوم يتفكرون، وآيات لقوم يعقلون، وآيات لأولي الأبصار. ففصِّل كما فصَّل، ولا تتعدَّ إلى غير ذلك، بل نزِّل كلَّ آية وغيرها بموضعها، وانظر فيمن خاطب بها وكن أنت المخاطب بها، فإنك مجموعُ ما ذكر، فإنك المنعوت بالبصر والنُّهى واللُّب والعقل والتفكر والعلم والإيمان والسمع والقلب، فاظهر بنظرك بالصفة التي نعتك بها في تلك الآية الخاصة، تكن ممن جُمِعَ له القرآن فاجتمع عليه فاستظهرَه فكان من أهله، بل هو عين القرآن إذا كان على هذا الوصف، وهو من أهل الله وخاصته.»٤٧
في هذه المرحلة يتصف القارئ بصفات القرآن، بل يكون هو عين القرآن كما كان محمد هو القرآن. وهذه هي المرحلة الثانية في فهم النص في مستواه الباطن. إن القارئ في هذه المرحلة لا يقرأ القرآن، بل يتحلَّى به، لا يتعامل معه باعتباره نصًّا يجب فهمه فحسب، بل يتَّحد به متلوِّنًا مع آياته، مستجيبًا لمواطنه المختلفة استجابةً تتفق مع طبيعة هذه المواطن؛ بلاغًا كانت أم إنذارًا أم توحيدًا أم ذكرًا.٤٨
ولكن العارف لا يقنع بهذه المرحلة من الفهم الباطني، ولا يقنع بأن يحل محلَّ الرسول المكي التاريخي، بل يتوق إلى الحقيقة المطلقة؛ إلى الحقيقة المحمدية وإلى المتكلم نفسه بالقرآن. ولكي يتجاوز إطار المستوى الباطن عليه أن يداوم التلاوة، لا بمعنى الترديد الآلي، بل بمعنى التحقق بالنص، وهي التلاوة الكلية التي تنتظمَ ظاهر العبد وباطنه: «إن على اللسان تلاوة، وعلى الجسم بجميع أعضائه تلاوة، وعلى النفس تلاوة، وعلى القلب تلاوة، وعلى الروح تلاوة، وعلى السرِّ تلاوة، وعلى سر السر تلاوة. فتلاوة اللسان ترتيل الكتاب على الحد الذي رتب المكلِّفُ له، وتلاوة الجسم المعاملاتُ على تفاصيلها في الأعضاء التي على سطحه، وتلاوة النفس التخلُّق بالأسماء والصفات، وتلاوة القلب الإخلاص والفكر والتدبر، وتلاوة الروح التوحيد، وتلاوة السر الاتحاد، وتلاوة سر السر الأرب؛ وهو التنزيه الوارد عليه في الإلقاء منه جل وعلا. فمن قام بين يدي سيده بهذه الأوصاف كلها، فلم يُرَ جزء منه إلا مستغرقًا فيه على ما يرضاه منه، كان عبدًا كليًّا، وقال له الحق إذ ذاك: حَمِدني عبدي، أو ما يقول على حسب ما ينطق به العبد قولًا أو حالًا.»٤٩
وهكذا يصل العبد إلى التحقق بموضوع تلاوته تحققًا كاملًا، فيتلو عليه الحق من باطنه؛ بمعنى أن الوجود الإنساني يَفْنى في وجود الحق، وتنتفي بالتالي كثرةُ التلاوة والتالي والمتلو عليه. ويصل العبد إلى مطلع النص، فيوهَب السماعَ عن الحق، ويُفهَّم حقائقَ معاني كلامه: «إذا أراد الحق أن يُنزلك هذا المقام، ويُسمعك تلاوته على حسب ما يريده، إمَّا من حيث صفته، وإمَّا من حيث فعله على اختلافه، فمتى شاء هذا بك أفناك عنك وجرَّدك منك، وبقيت في الوجود شبحًا مفقودًا.»٥٠ في هذه الحالة يتلقى العبد مباشرةً عن الله، وإن شئنا الدقة قلنا: يتوحد العارف بموضوع معرفته، ويتوحد العالم بالمعلوم. إنها مرحلة العلم الكشفي التي تنتفي فيها ثلاثيةُ: المتكلم، الكلام، المستمع. وفي هذه المرحلة يسمع الصوفي عن الله بلا واسطة، ويتوحد القرآن بالوجود في معرفة الصوفي وفهمه.
وهنا نأتي للثبات في التنوع بعد مرحلة التنوع في التنوع. إن الصوفي في المرحلة السابقة كان يتنوع بتنوع آيات القرآن، وهو في مقام الاستجابة السلبية، أما في هذه المرحلة فهو يتنوع في ثباته أو لنقُل: يدرك ثبات الكلام الإلهي في تنوعه، ويتجاوز ظاهره وباطنه وحدَّه واقفًا مع مطلعه الذي هو حقائق الألوهة الكلية، وهذا هو الهدف النهائي من معراج الصوفي ومِن تأمُّل النص ومعايشته في نفس الوقت: «وما طلبتك لتتلو القرآن لتقف مع معانيه، فإن معانيَه تفرِّقك عني، فآية تمشي بك في جنتي وما أعددت لأوليائي فيها، فأين أنا إذا كنت أنت في جنتي مع «الحور المقصورات في الخيام كأنهن الياقوت والمرجان»، متكئًا على «فُرُش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دانٍ»، تُسقى من «رحيق مختوم»، «مِزاجُه من تسنيم». وآيةٌ تستشرف بك على جهنم، فتعايِن ما أعددت فيها لمن عصاني وأشرك بي من «سَمومٍ وحميم وظلٍّ مِن يحموم لا بارد ولا كريم». وترى «الحُطَمة، وما أدراك ما الحطمة؟ نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم موصدة — أي: مسلَّطة — في عَمدٍ ممددة»؟ أين أنت يا عبدي إذا تلوت هذه الآية وأنت بخاطرك وهمتك في الجنة تارة وفي جهنم تارة؟ ثم تتلو فتمشي بك في: القارعة، ما القارعة، وما أدراك ما القارعة، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش. يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حمْلَها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وترى في ذلك اليوم من هذه الآية: يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وترى العرش في ذلك اليوم تحمله ثمانية أملاك، وفي ذلك اليوم تُعرَضون؟ فأين أنا والليل لي؟ فها أنت يا عبدي في النهار في معاشك، وفي الليل فيما تعطيه تلاوتك من جنة ونار وعَرْض، فأنت بين آخرةٍ ودنيَا وبرزخ، فما تركت لي وقتًا تخلو بي فيه إلا جعلته لنفسك، والليل لي يا عبدي لا للمحمدة والثناء … فأين أنا وأين خلوتك بي؟ ما عرَفني ولا عرف مقدار قولي: الليل لي، وما عرف لماذا نزلت إليك بالليل إلا العارفُ المحقق الذي لقيه بعض إخوانه، فقال له: يا أخي اذكرني في خلوتك بربك، فأجابه ذلك العبد فقال: إذا ذكرتُك فلستُ في خلوة، فمثل ذلك عرَف قدر نزولي إلى السماء الدنيا بالليل، ولماذا نزلتُ ولِمن طلبت، فأنا أتلو كتابي عليه بلسانه وهو يسمع؛ فتلك مسامرتي له، وذلك العبد هو المُلتذُّ بكلامي. فإذا وقف مع معانيه فقد خرج عني بفكره وتأمله، فالذي ينبغي له أن يُصغي إليَّ ويُخْلي سَمْعَه لكلامي؛ حتى أكون أنا في تلك التلاوة كما تلوت عليه وأسمعته أكون أنا الذي أشرح له كلامي وأترجم له عن معناه؛ فتلك مسامرتي معه، فيأخذ العلم مني لا من فكره واعتباره، فلا يبالي بذكر جنة ولا نار ولا حساب ولا عرض ولا دنيَا ولا آخرة، فإنه ما نظرها بعقله ولا بحث عن الآية بفكره، وإنما ألقى السمع لما أقوله له وهو شهيد حاضر معي، أتولى تعليمه بنفسي، فأقول له: يا عبدي أردت بهذه الآية كذا وكذا، وبهذه الآية الأخرى كذا وكذا؛ وهكذا إلى أن ينصدع الفجر فيحصل من العلوم على يقين ما لم يكن عنده، فإنه مني سمع القرآن، ومني سمع شرحه وتفسير معانيه.»٥١

ويمكن القول في النهاية إن الثبات مع النص والتنوع معه يعنيان مرحلتين من مراحل الفهم تُعد أولاهما أرقى من ثانيتهما، فحالة الثبات تعني الوصول إلى مطلع النص وغايته؛ وهو السماع عن الله، والفهم عن الله مباشرةً، والوصولُ إلى العلم بالكلام الإلهي الوجودي، أي: الكلام الماهية لا الصورة. وحين يعود العارف للكلام الصورة أو النص يمكن أن يتنوع معه، ولكن التنوع في هذه الحالة هو التنوع في الثبات، أو لنقُل: هو إدراك تعدد معاني النص مع إدراك حقيقته الرمزية وما يدل عليه من الحقائق. وليست هذه الحالة سوى حالة اليقين المعرفي التي يدرك الصوفي فيها ثبات الحقيقة الإلهية؛ مع تغيُّرها وتنوعها في الصور المختلفة. وهذا يقودنا إلى مناقشة مفهوم اللغة، أو الشفرة التي يتجلى الكلام الإلهي من خلالها، وما هي الوسائل والأدوات اللغوية التي يستطيع الصوفي من خلالها حل شفرة الرمز؟ وهذا كله موضوع الفصل التالي.

١  الفتوحات ٤ / ٦٥، وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ١٦٨-١٦٩، ٣ / ٢٨٣، ٤ / ١٠٤-١٠٥، ١٦٦-١٦٧.
٢  الفتوحات ٣ / ١٠٨.
٣  الفتوحات ٤ / ٤٠٢، وانظر نفس المصدر  ٤٧٣.
٤  انظر: الفتوحات ٣ / ٩٣.
٥  الفتوحات ١ / ٥٦.
٦  الفتوحات ٢ / ٥٠٤.
٧  الفتوحات ١ / ١٨٩.
٨  الفتوحات ١ / ٥٥١.
٩  الفتوحات ٤ / ٦٥.
١٠  الفتوحات ٢ / ٨٦، ٢١٩-٢٢٠، ٣ / ٥٣٠.
١١  الفتوحات ١ / ٦٥٤.
١٢  العبادلة  ١٨٣.
١٣  الحكم الإلهية  ٨، وانظر أيضًا: تنزل الأملاك  ١١٦.
١٤  كتاب المواقف  ٥١.
١٥  الفتوحات ١ / ٢٧٩.
١٦  انظر: محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون ٣ / ٤٠-٤١؛ ابن عربي وتفسير القرآن  ٤، ٣٨.
١٧  عنقاء مغرب  ٢٠-٢١.
١٨  تنزل الأملاك  ٣٦، وانظر: الفتوحات ١ / ١٩٩-٢٠٠.
١٩  الفتوحات ٣ / ٢٥٩.
٢٠  الفتوحات ١ / ١٣٥-١٣٦، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٢٨، حيث يرى ابن عربي أن من حق المريد أن يعيد شرح عبارة عرفانية قالها في زمان تالٍ، إذا لاح له من ورائها معانٍ جديدة لم تكن مقصورةً له من عبارته في الزمان الأول.
٢١  الفتوحات ٣ / ١٨٨، وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ٢١٦-٢١٧، حيث يرى ابن عربي أن القرآن نزل في الثلث الأخير من الليلة المباركة «ليلة القدر» على غيب محمد ؛ أي: قلبه، وهو نزول الرب إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، والرب غيب محمد؛ أي: باطنه، وغيب النشأة الإنسانية، والقرآن صفة الرب التي بها نزل.
٢٢  العبادلة  ١٤٦.
٢٣  مواقع النجوم  ٦٧-٦٨.
٢٤  الفتوحات ٤ / ٤١١.
٢٥  انظر: الفتوحات ١ / ٥٤.
٢٦  تنزل الأملاك  ١٩-٢٠، وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ١٨٧-١٨٨، ٤ / ٩-١٠ حيث ينسب ابن عربي هذا التقسيم إلى شيخه أبي محمد عبد الله الشكاز، ويورد نفس الآيات بتفصيل أكثر.
٢٧  الفتوحات ٤ / ١٦١.
٢٨  الفتوحات ٤ / ١٦١. ومن المهم أن نلاحظ أن توجيه الآيات يستهدف — إلى جانب السياق الذي نحن فيه — حل معضلة الخير والشر في العالم وعموم الرحمة الإلهية والخير الإلهي.
٢٩  الفتوحات ٤ / ١٦١.
٣٠  الفتوحات ٤ / ١٤١.
٣١  الفتوحات ٤ / ٦١.
٣٢  العبادلة ٦٠، وانظر: العطار، الفتح المبين  ٥٥.
٣٣  الفتوحات ٤ / ٢٥.
٣٤  الفتوحات ٤ / ٢٥.
٣٥  الفتوحات ٤ / ٢٥.
٣٦  انظر: أبو العلا عفيفي، الفلسفة الصوفية لابن عربي  ١٠٦–١٠٩.
٣٧  يختلف هذا التصور تمامًا عن تصور مدرسة الإسكندرية — التي يُظنُّ أن ابن عربي تأثر بها — من حيث عدد المستويات وعلاقتها بعضها ببعض، فأوريجن مثلًا يقسم النص إلى ثلاثة مستويات: المعنى الحرفي، والمعنى الأخلاقي، والمعنى الروحي. وكل مستوًى من هذه المستويات لا ينطبق على النص ككل، بل ينطبق على أجزاء بعينها، انظر:
Erik Routly; The Wisdom of The Fathers, pp. 17–23.
Robert M. Grant, The Interprctation of The Bible, pp. 75–88.
٣٨  الفتوحات ٤ / ٣٩٢، وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ٨٣ حيث يرى ابن عربي أن القرآن نزل على قلب الرسول جملة واحدة (قرآنًا)، ثم فصَّله له الوحي بعد ذلك (فرقانًا)؛ ولذلك كان يَعجَل به مع الوحي؛ بمعنى أنه كان يسابق الوحي في تلاوته.
٣٩  انظر على سبيل المثال: عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة ٣٤-٣٥، ٣١٢.
٤٠  الفتوحات ٤ / ٣٣٢.
٤١  الفتوحات ٤ /  ٢٥.
٤٢  انظر على سبيل المثال هجومه على المعتزلة والفلاسفة في التأويل: تنزل الأملاك ١٣٤ وما بعدها؛ والفتوحات ٤ / ٤٠٠.
٤٣  الفتوحات ٣ / ٣٢٣، وانظر أيضًا: العطار، الفتح المبين  ٢٦، ٣٨.
٤٤  الفتوحات ٤ / ٤٢٧.
٤٥  الفتوحات ٤ / ٢٠٢.
٤٦  الفتوحات ٤ / ٢٥٨، ٤١٤، وانظر في تنزل القرآن على ابن عربي وفقًا لحاله: الفتوحات ٢ / ٦٩٣، وانظر أيضًا: الفتوحات ٣ / ٩٣-٩٤، ١٢٧–١٢٩، وروح القدس  ٤٨.
٤٧  الفتوحات ٤ / ١٠٥-١٠٦.
٤٨  الفتوحات ٤ / ٢٦٨.
٤٩  مواقع النجوم ٨٣.
٥٠  مواقع النجوم ٨٥، وانظر: روح القدس ٤٩، حيث يؤوِّل ابن عربي قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا بقوله على لسان من يُدْعى أبا محمد عبد العزيز المكتوب له الرسالة: «سر هذه الآية في قوله: لِبَشَرٍ، ولا يكون بشرًا إلا من غلبت عليه البشرية.» ثم يستطرد على طريقته مستشهدًا بقول النسوة عن يوسف: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.
٥١  الفتوحات ١ / ٢٣٨-٢٣٩.
يستند ابن عربي في هذه الفكرة — فكرة الليل والقرآن — إلى النفَّري، انظر: كتاب المواقف ٦٢؛ موقف اسمع عهد ولايتك. وإن كان ابن عربي ينسب العبارة التي يقتبسها إلى موقف العلم. وقارِن بما سبقت الإشارة إليه من نزول الرب في الثلث الأخير من الليل، واكتمال العلم في عصر ابن عربي الذي يمثل الثلث الأخير من يوم الأمة المحمدية. ومن الغريب أن آربري لم يُشر إلى إشارة ابن عربي هذه في مقدمته (٨–١٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤