الفصل الثاني

اللغة والوجود

تحتل حروف اللغة عند المتصوف مكانة هامة، وتكتسب دلالات رمزية عديدة. ولا شك أن الغموض الذي أحاط بتفسير معنى الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن؛ ساهم في فتح باب من التأمل واسعٍ وعميق لاستبطان مغزى هذه الحروف ودلالتها.١ ولم يكتفِ المتصوفة بالبحث عن دلالة هذه الحروف، بل طمحوا إلى اكتشاف أسرار الوجود وأسرار الخلق؛ من خلال تأمل العلاقات المتشابكة بين القول الإلهي المتمثل في الفعل «كن»، وبين الفعل الإلهي المتمثل في إيجاد أعيان الممكنات. وربطوا بين الأسماء الإلهية وحروف اللغة من جهة، وبينها وبين مراتب الوجود من جهة أخرى.٢
ولم يكن أمر الاهتمام باللغة وقفًا على المتصوفة، بل شارك فيه الشيعة، الذين اعتبروا الحروف رموزًا لسلسلة الأئمة والحجج.٣ ويشير ماسينيون إلى أن السين — مثلًا — صارت رمزًا لسلمان الفارسي الذي أُدمجت شخصيته منذ بداية القرن الثاني الهجري في النموذج الإلهي الأعلى. وكذلك صارت العين رمزًا لعلي، والميم رمزًا لمحمد . وتحول سلمان — السين — لكي يكون همزة الوصل، أو الحلقة المفقودة الضرورية بين محمد وعلي، أو الميم والعين. وبناءً على ذلك التصور انقسم الشيعة إلى سينية وعينية وميمية؛ بناءً على ترتيبهم للعلاقة بين هذه النماذج الروحية والتاريخية الثلاثة.٤
ولا شك أن المتصوفة عامة، وابن عربي خاصة، قد أفادوا من جهود من يطلق عليهم ابن خلدون «أهل السحر والطِّلَّسمات» خاصةً ما يرتبط بفهمهم لتأثير الحروف في عالم الطبيعة وفي الأفلاك؛ بناءً على القوة العددية الخاصة للحروف، وبناءً على طبائعها التي تتماثل مع العناصر الطبيعية الأربعة المعروفة. وهي العلوم التي يمكن الرجوع إليها في كتب جابر بن حيان، ومسلمة المجريطي، وشمس الدين البوني، وغيرهم. والفارق بين هؤلاء والمتصوفة — فيما يقول ابن خلدون — «أن تصرف أهل الطلسمات إنما هو في استنزال روحانية الأفلاك وربطها بالصور أو النسب العددية؛ حتى يحصل من ذلك نوعُ مزاج يفعل الإحالة والقلب بطبيعته فعل الخميرة فيما حصلت فيه. وتصرف أصحاب الأسماء (يعني المتصوفة) إنما هو بما حصل لهم بالمجاهدة والكشف من النور الإلهي والإمداد الرباني، فيسخِّر الطبيعة لذلك طائعةً غير مستعصية، ولا يحتاج إلى مَددٍ من القوى الفلكية ولا غيرها.»٥
والحق أن قضية اللغة والحروف في الفكر الإسلامي عامة، والفكر الصوفي خاصة، تحتاج لدراسات عديدة تكشف عن أصولها واتجاهاتها المختلفة؛ خاصة فيما يتعلق بقضية التأويل.٦ فالحروف هي أصول الكلمات في اللغة، هي الأصوات التي تتألف مكوِّنةً الكلمة، والكلمات بدورها تتألف مكونةً الجملة. وبالمثل فإن مراتب الوجود التي حللناها في الباب الأول وُجدت في العماء الذي هو النفَس الإلهي، فهي تماثل الحروف من هذه الزاوية كما سبقت الإشارة. وإذا كانت الموجودات المركبة قد وُجدت عن الأمر الإلهي «كن» فإنها وُجدت — بدورها — عن تركيب في حروف النفس الإلهي من اتصال حرفين هما الكاف والنون. من هذا المنطلق توازي اللغة الوجود كله، فالوجود كما سبقت الإشارة هو كلمات الله المرقومة. وإذا أضفنا إلى هذه الموازاة موازاةَ ابن عربي بين القرآن والوجود، وهي الموازاة التي حللناها في الفصل السابق، أمكن لنا أن نوازي بين القرآن واللغة، وتكون الموازاة على النحو التالي:

الوجود / /  القرآن / / اللغة.

والموازاة قائمة على أساس أن الوجود بمراتبه ومستوياته المختلفة قد تجلى في القرآن من خلال وسيط اللغة، وهذا هو ما سيعطي لابن عربي مشروعيةً للتأويل الوجودي لآيات القرآن وحروفه.

مثل هذه الموازاة سابقة على ابن عربي وإن لم تكن بمثل هذا الوضوح؛ فهل التستري — الذي يشير إليه ابن عربي كثيرًا — يربط بين العماء من جهة، والحروف ومراتب الوجود والأسماء الإلهية من جهة أخرى، كما يربط بين ذلك كله وبين القرآن كله عادة، والحروف المقطعة في أوائل السور خاصة؛ وذلك على أساس أن القرآن «هو الصفة، وهو العلم، وهو الذكر، وهو الروح، وهو يفصل بين النور والروح الأعلى. وهو نوعٌ والتسعة والتسعون اسمًا أشخاص له، وهو الجامع لها، والقرآن راجع إليها، أعني إلى التسعة والتسعين»؟٧
والحق أن ابن عربي لا يعتمد على التستري وحده، بل هو يشير فيما يرتبط بقضية الحروف إلى أسماء كثيرة؛ مثل جعفر الصادق، وجابر بن حيان، والحكيم الترمذي، وابن مسرة الجبلي، وأبي القاسم بن قسٍّ صاحب كتاب خلع النعلين، والحلاج.٨ وهذه الإشارات كلها تؤكد ما ذهبنا إليه في التمهيد من تمثُّل ابن عربي لعناصرَ تراثية كثيرة وظَّفها في إطار فكره توظيفًا متميزًا. ويتجاوز ابن عربي حدود التراث الإسلامي لينسب علم الحروف إلى عيسى بن مريم، ويسميه العلم العيسوي، كما يسميه أيضًا — نقلًا عن الحكيم الترمذي — علم الأولياء. والتسميتان لا تتعارضان على أي حال؛ فعيسى هو خاتم الولاية العامة، ومنه يستمد كل الأولياء علومهم كما سبقت الإشارة: «اعلم أيَّدك الله أن العلم العيسوي هو علم الحروف، ولهذا أُعطي النفخ، وهو الهواء الخارج من تجويف القلب، الذي هو روح الحياة. فإذا انقطع الهواء في طريق خروجه إلى فم الجسد سُمي مواضع انقطاعه حروفًا، فظهرت أعيان الحروف … فكان ينفخ في الصورة الكائنة في القبر، وفي صورة الطائر الذي أنشأه من الطين، فيقوم حيًّا بالإذن الإلهي الساري في تلك النفخة، وفي ذلك الهواء. ولولا سريان الإذن الإلهي فيه لَمَا حصلت حياة في صورة أصلًا، فمن نَفَس الرحمن جاء العلم العيسوي إلى عيسى، فكان يحيي الموتى بنفخة، عليه السلام، وكان انتهاؤه إلى الصور المنفوخ فيها.»٩

علم الحروف إذن علم إلهي؛ لأن الوجود كان عن النَّفَس الإلهي. وقد أعطى الله عيسى هذه القدرة بالإذن الإلهي، وهي القدرة على إحياء الصور بالنفخ الذي هو في حقيقته النَّفَس الإلهي. من هنا يستحق عيسى أن يكون كلمة الله التي ألقاها إلى مريم؛ لأن وجوده نفسه كان عن نفخ ملكي بإذن إلهي. ومما يستحق الإشارة هنا أن نرى الكيفية التي يتفاعل بها فكر ابن عربي مع النص في علاقة متجاوبة لا يخضع فيها أحد الطرفين للآخر أو يستخدمه لصالحه.

وإذا كان ابن عربي — كما أشرنا — هو خاتم الولاية المحمدية، فمن الضروري أن يكون علمه بالحروف على درجة واسعة من العمق والشمول؛ لأنه يستمده من المشكاة الأصل في هذا العلم، وهو عيسى خاتم الولاية العامة. والحق أن مفهوم ابن عربي للُّغة وللحروف يشمل الوجود كله من أرقاه إلى أدناه، مِن عالم الألوهة والخيال المطلق إلى عالم الكون والاستحالة. وتتوازى حروف اللغة — من جانب آخر — مع مراتب العارفين بدءًا من الأنبياء وانتهاءً إلى عوام المؤمنين. فتصور ابن عربي للحروف يشمل الكون كله وجوديًّا ومعرفيًّا في نفس الوقت.

ولا يقف ابن عربي عند الحروف فقط، بل يمتد تصوره الوجودي المعرفي ليشمل الحركات الطويلةَ والقصيرة، وحركات الإعراب، والأسماء بأنواعها المختلفة من أسماء أعلام وضمائر وأسماء موصولة. ويمتد هذا التصور ليشمل — أيضا — ظواهرَ لغوية مثل الإعراب والبناء، والجمع والإفراد، والتأنيث والتذكير، والترخيم. ولا يكتفي ابن عربي بجوانب اللغة الصوتية والدلالية، بل يمتد تصوره ليشمل الشكل الكتابي للحروف والكلمات، مستخرجًا منها دلالاتٍ وجوديةً ومعرفية على جانب كبير من الأهمية فيما يتصل بقضية التأويل.

وإذا كنا في هذا الفصل نهتم أساسًا بالتركيز على الوسائل اللغوية المختلفة التي يستخدمها ابن عربي في تأويل القرآن، فسنكتفي بإعطاء أمثلة موجزة لكلٍّ من هذه الوسائل التي عددناها. ومن الضروري الإشارة إلى أن هذه الوسائل التأويلية تتداخل وتتفاعل كلها معًا في تأويل نص قصير جدًّا أحيانًا؛ جزء من آية، وربما كلمة واحدة أو حرف من حروف الكلمة؛ كالدلالات المختلفة لحرف الألف مثلًا من حيث قيمته الصوتية وشكل كتابته وقابليته للاتصال القبلي وعدم قابليته للاتصال البَعدي … إلخ.

ومن الطبيعي أن نستبعد من مجال هذا الفصل الموازياتِ الكثيرةَ التي يقيمها ابن عربي بين حروف اللغة والعناصر الطبيعية الأربعة؛ وذلك لارتباطها بعلوم السحر والتنجيم من جهة، وبُعدها عن قضية التأويل من جهة أخرى.١٠

(١) البعد الصوتي

(١-١) الحروف الصوامت

سبقت الإشارة في الباب الأول إلى أن مراتب الوجود صدرت كلها عن العماء الذي هو النفَس الإلهي، وهو إحدى مراتب الخيال المطلق. وقد صدرت كل مرتبة من هذه المراتب الوجودية — كما سبقت الإشارة — عن اسم إلهي خاص، وارتبطت بحرف من حروف اللغة وُجِد بدوره عن هذا الاسم الإلهي. ومعنى ذلك أن هناك توازيًا بين مراتب الوجود والأسماء الإلهية من جهة، وبينها وبين حروف اللغة من جهة أخرى. وإذا تتبعنا مراتب الوجود من أرقاها (العقل الأول أو القلم) إلى أدناها، وجدناها تنتقل من الصفاء والنورانية إلى الكثافة والظلمة، بنفس القدر الذي تترتب به حروف اللغة في جهاز النطق الإنساني؛ بدءًا من التحرر الكامل للهواء الذي يصدر عنه الصوت دون أي احتكاك أو ضيق في مجرى النفَس، وانتهاءً إلى حروف الشفتين اللتين هما آخر المخارج.

وهكذا تتوازى الأسماء الإلهية مع مراتب الوجود مع حروف اللغة، ثمانية وعشرون اسمًا توازي ثماني وعشرين مرتبة وجودية، توازي بدورها ثمانية وعشرين حرفًا هي حروف اللغة. وهذه كلها تتوازى مع منازل القمر الثماني والعشرين:١١ «فأوجد العالم على عدد الحروف من أجل النفَس في ثمانية وعشرين لا تزيد ولا تنقص. فأول ذلك العقل وهو القلم … ثم النفس وهو اللوح، ثم الطبيعة، ثم الهباء، ثم الجسم، ثم الشكل، ثم العرش، ثم الكرسي، ثم الأطلس، ثم فلك الكواكب الثابتة، ثم السماء الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، ثم كرة النار، ثم كرة الهواء، ثم كرة الماء، ثم كرة التراب، ثم المعدن، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم المَلَك، ثم الجن، ثم البشر، ثم المرتبة. والمرتبة هي الغاية في كل موجود، كما أن الواو غاية حروف النفس.»١٢

ولكن هذه الحروف التي تتوازى مع مراتب الوجود والأسماء الإلهية ليست هي حروف لغتنا الإنسانية، بل هي أرواح وملائكة تُسمى بأسماء هذه الحروف التي نعرفها. وهذه الحروف الملائكة الأرواح هي التي تحفظ هذه الأسماء الإلهية، وتحفظ مراتب الوجود المرتبطة بها. أو لنقل بعبارة أخرى: إن هذه الحروف الإلهية هي باطن الأسماء، وباطن مراتب الوجود في نفس الوقت. والأسماء ومراتب الوجود تمثل ظاهر هذه الأرواح الحروف. أما حروف لغتنا البشرية المنطوقة والمكتوبة فهي تمثل أجساد هذه الحروف الأرواح وصورها الظاهرة. وحين يريد الصوفي أن يؤثر في مرتبة وجودية يستدعي صورة الحرف في خياله، وهذه تستدعي بدورها روح الحرف والاسم الإلهي الذي يحفظه روح هذا الحرف. وعلى ذلك يمكن إقامة التوازي بين اللغة الإلهية واللغة الإنسانية على مستوى الحروف على النحو التالي:

حروف اللغة الإلهية / / الأسماء الإلهية ومراتب الوجود / / اللغة الإنسانية.

إن حروف لغتنا الإنسانية — في ظل هذا التصور — ليست إلا صورًا ظاهرة حسية لأرواح الحروف الإلهية. وتتوسط الأسماء الإلهية التي توازي مراتب الوجود بين الباطن الروحي (اللغة الإلهية) والظاهر الحسي (اللغة الإنسانية). يقول ابن عربي: «وجميع الأسماء الإلهية المختصة بهذا الإنسان (الكامل) الموصوف بهذه الصفة التي ينزل بها هذه المنازل (الأحوال والمقامات التي توازي منازل القمر ومنازل الوجود؛ بناء على الموازاة بين الإنسان الكامل والقمر) معلومة مُحصاة؛ وهي: الرفيع الدرجات، الجامع، اللطيف، القوي، المذل، رازق، عزيز، مميت، محيي، حي، قابض، مبين، مُحصٍ، مصوِّر، نور، قاهر، عليم، رب، مقدِّر، غني، شكور، محيط، حكيم، ظاهر، [آخر]،١٣ باطن، باعث، بديع. ولكل اسم من هذه الأسماء روحانية مَلَك تحفظه وتقوم به وتحفظها، لها صور في النفَس الإنساني تُسمى حروفًا في المخارج عند النطق، وفي الخط عند الرقم، فتختلف صورها في الكتابة ولا تختلف في الرقم (كذا وأظنها في الصوت). وتُسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح بأسماء هذه الحروف، فلنذكرها على ترتيب المخارج حتى تُعرف رتبتها، فأولهم ملك الهاء، ثم الهمزة١٤ وملك العين المهملة، وملك الحاء المهملة، وملك الغين المعجمة، وملك الخاء المعجمة، وملك القاف؛ وهو ملك عظيم رأيت من اجتمع به،١٥ وملك الكاف، وملك الجيم، وملك الشين المعجمة، وملك الياء، وملك الضاد المعجمة، وملك اللام، وملك النون، وملك الراء، وملك الطاء المهملة، وملك الدال المهملة، وملك التاء المعجمة باثنتين من فوقها، وملك الزاي، وملك السين المهملة، وملك الصاد المهملة، وملك الظاء المعجمة، وملك الثاء المعجمة بالثلاث، وملك الذال المعجمة، وملك الفاء، وملك الباء، وملك الميم، وملك الواو. وهذه الحروف أجساد تلك الملائكة لفظًا وخطًّا بأي قلم كانت. فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها؛ أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر المتصوَّرة في الخيال، فلا يُتخيل أن الحروف تعمل بصورها، وإنما تعمل بأرواحها. ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد، يعظِّم بذلك كله خالقه ومُظهرَه، وروحانيته لا تفارقه. وبهذه الأسماء يسمون هؤلاء الملائكة في السموات، وما منهم ملك إلا وقد أفادني.»١٦

وإذا كانت حروف اللغة — الصوامت — توازي الأسماء الإلهية كما توازي مراتب الوجود، فإنها يمكن أن تُقسَّم إلى مراتب أربع باعتبارات مختلفة؛ الاعتبار الأول: تقسيمها من حيث المخارج، وهذا هو التقسيم الواضح عند ابن عربي، والذي لا يتعارض مع تصوره لمراتب الوجود التي حللناها في الباب الأول. الاعتبار الثاني: تقسيمها من حيث مراتبها الفلكية، ووضعها في أربع مجموعات تماثل الله والإنسان والجن والملائكة. وهو تقسيم يَصْعُب فَهم دلالة بعض جوانبه كما سنرى. أما الاعتبار الثالث فهو تقسيم ابن عربي للحروف من حيث مراتبها المعرفية ومن حيث إنها عالم مكلَّف موازٍ لعالم البشر.

(أ) الحروف ومراتب الوجود

يتبع ابن عربي في هذا التقسيم ترتيب الحروف على حسب مخارجها الصوتية التي تتماثل مع مراتب الوجود الأربع، وهي عالم الملكوت الذي يوازي مراتب عالم الأمر، وعالم الجبروت الذي يوازي عالم الخلق وعالم الملك والشهادة. ويحتفظ ابن عربي للعالم الأول — عالم الخيال المطلق — بالحركات دون الحروف الصوامت، كما سنشير له عند حديثنا عن الحركات. وبين كل عالمين من هذه العوالم الثلاثة التي توازيها الحروف؛ حروف ممتزجة تجمع بين العالمين اللذين تمتزج بهما وتتوسَّط بينهما وجوديًّا وصوتيًّا؛ فهناك من الحروف العالم الممتزج بين عالم الشهادة وعالم الجبروت، وهناك أيضًا العالم الممتزج من الحروف بين عالم الجبروت وعالم الملكوت. ولكي يحافظ ابن عربي على رباعية الترتيب يُقسم حروف عالم الأمر إلى قسمين، يتضمن كل قسم حرفين على النحو التالي:

  • (١)
    عالم العظمة: وهو ما يطلق عليه أبو طالب المكي عالم الجبروت، وهو الهاء والهمزة. وهذان الحرفان يوازيان — بالترتيب — النَّفْس الكلية والعقل الأول، ويوازيان الاسمين الإلهيين الباعث والبديع.
  • (٢)
    العالم الأعلى أو عالم الملكوت. ويتضمن حروف العين والحاء والغين والخاء، وهي توازي الطبيعة الكلية والهباء والجسم الكل والشكل، وتوازي الأسماء الإلهية الباطن والآخر والظاهر والحكيم.

    وتمثل الحاء التي تشير إلى الهباء وتوازيه الحرفَ الممتزج بين عالم العظمة وعالم الملكوت. ومثل هذا الموقع الوسطي للحاء يتماثل مع موقع موازيها الوجودي الهباء الذي هو ظل النفس الكلية، الذي امتد عنها مكوِّنًا الطبيعة، فالحاء — مثله مثل الهباء — ينتمي من حيث باطنه إلى عالم العظمة، وينتمي من حيث ظاهره إلى عالم الملكوت.

  • (٣)
    العالم الوسيط أو عالم الجبروت. ويتضمن حروف التاء والثاء والجيم والدال والذال والراء والزاي والطاء والكاف واللام والفاء والصاد والضاد والقاف والشين والياء الصحيحة. وتوازي هذه الحروف — حسب مخارجها — مراتب الوجود التي تبدأ من العرش وتنتهي إلى مرتبة المَلَك وما يوازيها من الأسماء الإلهية.

    ومن الطبيعي أن يكون حرف الفاء الذي يوازي مرتبة الملك هو الحرف الممتزج الوسيط بين عالم الجبروت وما يليه من عالم الشهادة. ونلاحظ أن ابن عربي ينطلق من تصوره لطبيعة المَلَك، فهو من عالم البرزخ والجبروت، لكنه قادر على الظهور والتحيز في عالم الملك والشهادة، كما كان يظهر جبريل للرسول في صور متعددة. ولعلنا لاحظنا أن ابن عربي لا يضع بين عالم الملكوت وعالم الجبروت أي عالم ممتزج أو حرف وسيط.

  • (٤)

    أما حروف عالم الملك والشهادة فهي الباء والميم والواو، وهي الحروف التي توازي مراتب الجن والبشر ومرتبة «المرتبة» التي هي آخر المراتب الوجودية.

ولا ينسى ابن عربي أن يجعل للحركات الطويلة علاقةً ما بهذه المراتب في هذا السياق، لكنها علاقة تؤكد الانفصال وتشير إلى التداخل؛ فهذه الحركات من العالم الذي يشبه عالمنا، ولكن لا تتصف بالدخول في هذا العالم ولا بالخروج عنه، وهو تصور يتسق مع مماثلة ابن عربي بين الحركات وعالم الخيال المطلق أو الألوهة، كما سنتعرض لها بعد ذلك.١٧

(ب) الحروف والمراتب الفلكية للموجودات

هذا هو التقسيم على أساس الاعتبار الثاني، وهو لا يخلو من غموض لم يستطع الباحث أن يزيله؛ خاصةً فيما يرتبط بمغزى العدد الفلكي لكل مرتبة من هذه المراتب. يقسم ابن عربي الحروف إلى مراتب أربع: المرتبة الأولى، مرتبة المكلِّف، وهو الحق سبحانه، وهي المرتبة التي يساوي كل حرف من حروفها سبعة أفلاك. والمرتبة الثانية هي مرتبة الإنسان، التي عدد أفلاك حروفها ثمانية. أما المرتبة الثالثة فهي مرتبة الجن، وعدد أفلاك كل حرف من حروفها تسعة أفلاك. والمرتبة الرابعة والأخيرة هي مرتبة الملائكة، وعدد أفلاك حروفها عشرة أفلاك. وبناءً على هذا التقسيم الفلكي يوازي ابن عربي بين عدد الأفلاك ومراتب الحروف من جهة، والعناصر الطبيعية والأُسطقصات الأربعة من جهة أخرى. ويتداخل التقسيم تداخلًا غامضًا يزيد من غموضه خَلَلٌ وتحريف في مواضع خمسة في النص، وهي مواضع لم يتنبه لها محقق الأجزاء المطبوعة حديثًا، رغم ما تطرحه إحدى المخطوطات التي اعتمد عليها في التحقيق، وهي نسخة بايزيد التي يرمز إليها بالحرف B.١٨

والذي يهمنا في هذا التقسيم هو دلالته الوجودية وقيامه على التربيع من جهة، واعتماد ابن عربي على الشكل الكتابي للحروف من جهة أخرى. أما الدلالة الطبيعية والفلكية فهي — على أهميتها في ذاتها — لا تعنينا في هذا السياق.

  • (١)
    تختص المرتبة السبعية بالحضرة الإلهية، وحروفها هي الهمزة والزاي واللام. ويقيم ابن عربي تعليله لهذه الموازاة بين هذه الحروف والحضرة الإلهية على أساسين؛ الأساس الأول: أن الحضرة الإلهية تتكون من ثلاثة جوانب هي الذات والصفة والعلاقة أو الرابطة التي تجمع بين الذات والصفة. الأساس الثاني: أن هذه الحروف الثلاثة إذا نُطقت على أساس أنها كلمة واحدة (أزل)، دلَّت على نفي الأولية، وهذا ما يعبر عنه ابن عربي بقوله: «وحصل للحضرة الإلهية من هذه الحروف ثلاثة حقائق هي عليها أيضًا، وهي الذات والصفة والرابط بين الذات والصفة؛ وهي القَبول، أي: بها كان القبول؛ لأن الصفة لها تعلُّق بالموصوف بها، وبمتعلقها الحقيقي لها، كالعلم يربط نفسه بالعالم به وبالمعلوم، والإرادة تربط نفسها بالمريد بها وبالمراد لها، والقدرة تربط نفسها بالقادر بها وبالمقدور. وكذلك جميع الأوصاف والأسماء وإن كانت نِسبًا. وكانت الحروف التي اختصت بها الألف والزاي واللام تدل على معنى نفي الأولية؛ وهو الأزل.»١٩

    وسنرى كيف يحلل ابن عربي الزاي واللام من الناحية الكتابية للكشف عن علاقتهما بالألف من ناحية، وعن علاقة الزاي ووسطيتها بين الألف واللام من ناحية أخرى؛ وذلك في حديثه عن المرتبة الثانية من هذه المراتب.

  • (٢)
    وإذا كانت الحضرة الإنسانية تماثل الحضرة الإلهية من حيث كونها ذاتًا وصفةً ورابطة بين الذات والصفة، فمن الطبيعي أن يوازيها ثلاثةُ حروف أيضًا. وإذا كانت المماثلة بين الله والإنسان — كما سبقت الإشارة — ليست مماثلةً ذاتية، بل هي مماثلة من حيث الصورة، فمن الطبيعي أن تختلف حروف الإنسان عن حروف الحضرة الإلهية: «حصل للحضرة الإنسانية من هذه الحروف ثلاثة أيضًا كما حصل للحضرة الإلهية، فاتفقا في العدد غير أنها حروف النون والصاد والضاد، ففارقت الحضرة الإلهية من جهة موادها، فإن العبودية لا تشرك الربوبية في الحقائق التي بها يكون إلهًا، كما أن بحقائقه يكون العبد مألوهًا. وبما هو على الصورة اختص بثلاثة كهو، فلو وقع الاشتراك في الحقائق لكان إلهًا واحدًا أو عبدًا واحدًا، أعني عينًا واحدة، وهذا لا يصح، فلا بد أن تكون الحقائق متباينة ولو نُسبت إلى عين واحدة. ولهذا بايَنهم بقِدمه كما باينوه بحدوثهم، ولم يُقَل: بايَنهم بعلمه كما باينوه بعلمهم، فإن فلك العلم واحدٌ قديمًا في القديم محدَثًا في المحدث. واجتمعت الحضرتان في أن كل واحدة منهما معقولة من ثلاث حقائق: ذات وصفة ورابطة بين الصفة والموصوف بها … ثم إنه في نفس النون الرقمية التي هي شطر الفلك من العجائب ما لا يقدر على سماعها إلا من شد عليه مئزر التسليم، وتحقق بروح الموت الذي لا يُتصور من قام به اعتراض ولا تطلُّع. وكذلك في نفس نقطة النون أول دلالة النون الروحانية المعقولة فوق شكل النون السفلية التي هي النصف من الدائرة. والنقطة الموصولة بالنون المرقومة الموضوعة أول الشكل التي هي مركز الألف المعقولة، التي بها يتميز قطر الدائرة، والنقطة الأخيرة التي ينقطع بها شكل النون وينتهي بها؛ هي رأس هذا الألف المغفولة المتوهمة، فتقدِّر قيامها من رقدتها، فترتكز على النون فيظهر من ذلك حرف اللام. والنون نصفها زاي، مع وجود الألف المذكورة، فتكون النون بهذا الاعتبار تعطيك الأزل الإنساني، كما أعطاك الألف والزاي واللام في الحق. غير أنه في الحق ظاهر؛ لأنه بذاته أزليٌّ لا أولَ له، ولا مفتتَح لوجوده في ذاته بلا ريب ولا شك … وظهور ما ذكرناه من سر الأزل في النون هو في الصاد والضاد أتمُّ وأمكن لوجود كمال الدائرة. وكذلك ترجع حقائق الألف والزاي واللام التي للحق إلى حقائق النون والصاد والضاد التي للعبد.»٢٠

    وهكذا يعتمد ابن عربي على الشكل الكتابي للنون ليستنتج أن النون توازي نصف الوجود الظاهر الذي يقابل نصفه الباطن؛ لأن النون — كتابيًّا — نصف دائرة، والوجود في تصور ابن عربي دائرة كما سبقت الإشارة. وبين طرفَي النون، أو نقطتَي بدايتها ونهايتها هناك ألف متوهمة هي نصف قطر دائرة الوجود. لو تصورنا قيام هذه الألف من رقدتها لكوَّنت مع النون لامًا بهذا الشكل ل. وتبقى بعد ذلك الزاي، وهي نصف النون من الناحية الكتابية. وهكذا تتضمن النون اللف والزاي واللام فيكون الأزل ظاهرًا في الله باطنًا في الإنسان. أما الصاد والضاد فوجود الدائرة فيهما أتمُّ وأكمل من النون، ومِن ثَم يمكن أن يدلَّا بدورهما على نفس الحقائق.

  • (٣)
    وإذا كان ابن عربي قد اعتمد على شكل الحروف الكتابي لإقامة هذه الموازاة بين الله والإنسان، فإنه في تعليل الحروف الأربعة التي توازي عالم الجن — وهي العين والغين والسين والشين — يكتفي بالإحالة للقرآن؛ مما يؤكد ما نذهب إليه من أن التأويل في فكر ابن عربي منهج واسع عميق، ومن أن للنص القرآني حضورًا مستمرًّا في فكره. للجن أربعة حروف؛ لأن الجوانب التي يأتي منها الشيطان للإنسان أربعة: هي الأمام والخلف واليمين والشمال، ويستند ابن عربي إلى قوله تعالى: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ: «فحصلت الأربعة للجن الناري لحقائق هم عليها … وفرغت حقائقهم، ولم تبقَ لهم حقيقة خامسة يطلبون بها مرتبة زائدة.»٢١
  • (٤)
    وتبقى بعد ذلك المرتبة العشرية من الحروف، وهي التي للملائكة، «وهي ثمانية عشر حرفًا؛ وهي الباء والجيم والدال والهاء والواو والحاء والطاء والياء والكاف والميم والفاء والقاف والراء والتاء والثاء والخاء والذال والظاء.»٢٢
    والعلة وراء أن يكون للملائكة ثمانية عشر حرفًا هي أن الملائكة تمثل العالم الوسيط بين الله والإنسان؛ ولذلك يعتبر ابن عربي المرتبة العشرية من الحروف هي: «المرتبة الثانية من المراتب الأربعة»؛٢٣ أي: بدون اعتبار المرتبة الفلكية للحروف. وإذا كانت للحضرة الإلهية ثلاثة جوانب هي الذات والصفة والرابطة بينهما، تماثلها ثلاثة جوانب للحضرة الإنسانية، فإن كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة ينقسم أيضًا إلى ملك وملكوت وجبروت، أو ظاهر وباطن وبرزخ. وعلى ذلك يكون مجموع الحضرتين ثمانية عشر جانبًا، وهي أعداد حروف الملائكة. هذه الجوانب الثمانية عشر تنقسم إلى تسعة في جانب الحق وتسعة في جانب الإنسان، وذلك بحكم برزخية عالم الملائكة. التسعة التي في جانب الحق هي رقائق الإلقاء من الحق إلى الخلق، والتسعة التي في جانب الإنسان هي رقائق التلقي، والواسطة التي تتوسط بين هذين الجانبين هو جبريل الذي يهبط بالوحي إلى الأرض على الرسول. وهذا ما يعبر عنه ابن عربي بقوله:
    «الحضرة الإنسانية كالحضرة الإلهية، لا بل هي عينها، على ثلاث مراتب: ملك وملكوت وجبروت. وكل واحدة من هذه المراتب تنقسم إلى ثلاث، فهي تسعة في العدد، فتأخذ ثلاثة الشهادة فتضربها في الستة المجموع من الحضرة الإلهية والإنسانية، أو في الستة الأيام المقدَّرة التي فيها أوجدت الثلاثة الحقية الثلاثة الخلقية يخرج لك ثمانية عشر، وهو وجود المَلَك. وكذلك تعمل في الحق بهذه المثابة، فالحق له تسعة أفلاك للإلقاء، والإنسان له تسعة أفلاك للتلقي، فتمتد من كل حقيقة من التسعة الحقية رقائقُ إلى التسعة الخلقية، وتنعطف من التسعة الخلقية رقائقُ على التسعة الحقية، فحيثما اجتمعت كان الملك ذلك الاجتماع، وحدث هناك؛ فذلك الأمر الزائد الذي حدث هو الملك. فإن أراد أن يميل بكلِّه نحو التسعة الواحدة جذبته الأخرى، فهو يتردد ما بينهما؛ جبريل ينزل من حضرة الحق على النبي عليه السلام … فإنْ أخذناها من جانب الحق قلنا أفلاك الإلقاء، وإن أخذناها من جانب الإنسان قلنا أفلاك التلقي. وإن أخذناها منهما جعلنا تسعة الحق للإلقاء والأخرى للتلقي، وباجتماعهما حدث الملك؛ ولهذا أوجد الحق تسعة أفلاك السموات السبع والكرسي والعرش، وإن شئت قلت: فلك الكواكب والفلك الأطلس، وهو الصحيح.»٢٤

(ﺟ) الحروف ومراتب العارفين

إذا تركنا هذه التقسيمات الوجودية للحروف وانتقلنا إلى تقسيم الحروف على أساس معرفي؛ لاحظنا أن ابن عربي يعتبر هذا التقسيم تقسيمًا حقيقيًّا كالتقسيمات السابقة؛ فكما تتوازى مراتب العارفين مع مراتب الوجود طبقًا للآفاق التي يصل إليها العارف في رحلته المعراجية، فكذلك الحروف — من حيث حقيقتها الروحية — أُممٌ تعقِل وتعي وتدرك: «واعلم أنه ما قسمنا هذه الحروف تقسيمَ مَن يعقل على طريق التجوز، بل ذلك على الحقيقة، فإن الحروف عندنا وعند أهل الكشف والإيمان — حروف اللفظ وحروف الرقم وحروف التخيل — أمم من جملة الأمم، لصورها أرواح مدبرة حية ناطقة تسبح الله بحمده طائعة ربها … فما الحروف عندنا كما هي عند أهل الحجاب الذين أعماهم الله وجعل على بصرهم غشاوة.»٢٥
تنقسم الحروف — معرفيًّا — إلى مراتب موازية لمراتب العارفين من البشر، فهناك العامة والخاصة، وخاصة الخاصة، وخلاصة خاصة الخاصة، وصفاء خلاصة خاصة الخاصة. وهناك العالم المرسل، والعالم الذي تعلق بالله وتعلق به الخلق، وهو ما يطلق عليه ابن عربي «عالم التقديس من الحروف الكروبيين». وهناك العالم الذي غلب عليه التخلُّقُ بأوصاف الحق، والعالم الذي غلب عليه التحقق، والعالم الذي قد تحقق بمقام الاتحاد. وهؤلاء الأخيرون يقسمهم ابن عربي إلى مرتبتين: عالٍ وأعلى.٢٦
أما الخاصة فهم حروف أوائل سور القرآن الأربع عشرة. وتقتصر حروف خلاصة خاصة الخاصة على الباء دون غيرها من الحروف،٢٧ ويعود ابن عربي فيضعها مع الفاء والجيم في العالم الذي غلب عليه التحقق. ومن الصعب في الواقع تفسير هذا التقسيم للحروف على أساس صوتي أو كتابي، وابن عربي نفسه لا يقدم لنا أي تفسير، وحجته في ذلك الرغبةُ في الاختصار خشيةَ الإطالة، ومن ثَم يكتفي بالإحالة إلى كتاب «المبادئ والغايات».

ويستدعي عالم التقديس من الحروف الكروبيين إلى أذهاننا عالمَ الملائكة الكروبيين الذين خلقهم الله في العماء، واختار منهم الأرواح المدبرة لهذا العالم. هذه الحروف هي الألف والدال والذال والراء والزاي والواو. وهذه الحروف كلها تقبل الاتصال القبلي في الكتابة ولا تقبل الاتصال البعدي، وهي من هذه الزاوية تتوازى مع الملائكة الكروبيين المهيمين في جمال الحق سبحانه لا يعلمون عن العالم شيئًا، فهم غارقون في بحر الأحدية.

وهذه الحروف تماثل — من جانب آخر — العارفين من أهل الفناء كالبسطامي والحلاج وغيرهما، وهم العارفون الذين غرقوا في جمال الجلال الإلهي، واستغرقوا فيه بالكلية كما سبقت الإشارة. وإذا كان ابن عربي يُفَضِّل العارف العائد إلى الخلق دون أن يقلل من شأن أهل الفناء، فإنه يفرِّق بين نوعين من العبادة: عبادة الذات من حيث كونها تستحق وصف الألوهة، وعبادة الألوهة التي هي مجموع النسب والأوصاف، ويرى وجوب الجمع في العبادة بين الاعتبارين؛ بحكم تركيب العابد أو وجوده في عالم التركيب. في هذه التفرقة يشير ابن عربي إلى هذه الحروف إشارةً تكشف عن معناها الذي استخلصناه لها من حيث مماثلتها لعالم الملائكة الكروبيين من جهة، ومماثلتها للعارفين من أهل الفناء من جهة أخرى. يقول ابن عربي معبِّرًا عن هذين الجانبين للعبادة بالمعنى والحرف: «فالحرف للحرف والمعنى للمعنى، فلذلك لم نعبد الذات معرَّاةً عن وصفها بالألوهية، ولم نعبد الألوهية من غير نسبتها إلى موصوف بها، فلم تقم العبادة إلا على ما تقتضيه حقيقة العبد، وهو التركيب، لا على ما تقتضيه حقيقة الحق، وهو الأحدية … والحقيقة هي الأحدية التي لا تتعلق ولا يُتَعلَّق بها، ولهذا كانت الألف في الوضع الإلهي بالخط العربي إذا تقدمت في الكلمة لا تتصل ولا يُتَّصل بها، وإذا تأخرت اتصل بها بعضُ الحروف ممن لا علم له بالأحدية المطلقة التي تستحقها هذه الذات إلا خمسة أحرف لا غير من جميع الحروف، وهي الدال والذال والراء والزاي والواو. وهي خمسة أحوال مَن اتصف بها عرَف الأحدية، وكانت عبادته ذاتية ولم يقترن بها أمر، وهي عبادة المعنى للمعنى، فإن الأمر عبادة الحرف للحرف، فلا يخطر لعابدِ المعنى فرقٌ بين الذات والألوهية ولا كثرة، بل يرى عينًا واحدة تستحق ما هو عليه هذا العارف من حيث معناه لا من حيث حرفه. وهذا مقام الجلال والعظمة وأحدية العبد التي أعطت معرفة الأحدية الذاتية والتنزيه والغنى.»٢٨

(د) الجهر والهمس بين الحروف والوجود

يستغل ابن عربي كل الإمكانيات المرتبطة بالبعد الصوتي لحروف اللغة في نظامه التأويلي؛ وذلك لتأكيد تصوره الوجودي والمعرفي على السواء. ونلاحظ في تأويله لظاهرتَي الهمس والجهر خاصةً اعتمادَه المباشر على نصوص من القرآن يتصور أنها تشير رمزيًّا إلى هذه الحروف. تشير الحروف المجهورة إلى عالم الملك والشهادة، بينما تشير حروف الهمس إلى عالم الغيب والملكوت. ويقابل هذين العالمين من الحروف أنواعٌ من البشر نزلت فيهم آيات قرآنية: «اعلم أن العالم، على بعض تقاسيمه، على قسمين بالنظر إلى حقيقة معلومة عندنا «قسم يسمى عالم الغيب»، وهو كل ما غاب عن الحس ولم تَجْرِ العادة بأن يدرك الحس له، وهو من الحروف السين والصاد والكاف والخاء المعجمة (؟) والتاء باثنتين من فوق والفاء والشين والهاء (؟) والثاء بالثلاث والحاء. وهذه حروف الرحمة والألطاف والرأفة والسكينة والوقار والنزول والتواضع، وفيهم نزلت هذه الآية: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. وفيهم نزل أيضًا على الرقيقة المحمدية التي تمتد إليهم منه من كونه أوتي جوامع الكلم، أتى إليهم بها رسولهم، فقال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وفيهم: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، وفيهم: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وفيهم: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ. وهذا القبيل من الحروف هو أيضًا الذي نقول فيه إنه من اللطف لما ذكرنا، فهذه من جملة المعاني التي نطلق عليه منه عالم الغيب واللطف.»٢٩
هذه هي الحروف المهموسة، وقد أدخل فيها ابن عربي الخاء والهاء وهما مجهوران. وفي مقابل هذين الحرفين أدخل الطاء والقاف في الحروف المجهورة؛ وهما مهموسان. تقابل الحروف المجهورة عالم القهر والشهادة؛ «وهو كل عالم من عالمَي الحروف جرت العادة عندهم أن يدركوه بحواسهم، وهو ما بقي من الحروف. وفيهم قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، وقوله تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وقوله: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، فهذا عالم الملك والسلطان والقهر والشدة والجهاد والمصادمة والمقارعة. ومن روحانية هذه الحروف يكون لصاحب الوحي الغتُّ والغط وصلصلة الجرس ورشح الجبين، ولهم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، ويَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، كما أنه في حروف عالم الغيب: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا٣٠

إن ظاهرتَي الجهر والهمس تتحولان هنا إلى رموز وجودية، فالهمس: يرمز إلى عالم الغيب وجوديًّا، ويرمز إلى الرحمة واللطف والخشوع وكظم الغيظ إنسانيًّا. أما الجهر فيرمز لعالم الشهادة والقهر، ويشير إلى الشدة والمصادمة. والآيات التي يستشهد بها ابن عربي على الحالتين أو الوصفين تعكس علاقة التقابل بين هاتين الظاهرتين. والأساس الذي يستند إليه ابن عربي في هذا الاستشهاد أن الرسول أوتي جوامع الكلم. وجوامع الكلم هي القرآن الذي يمكن أن يدلَّ على كل شيء؛ على الوجود والإنسان والمعرفة. إن الوحي أيضًا يمكن أن يعكس هاتين الحالتين، فقد يكون صعبًا شديدًا أو لينًا سهلًا، فهما حالتان جاء بهما الوحي للرسول، والرسول — من جانب آخر — أُرسل رحمةً للعالمين، ولكنه أُمِر أن يحارب المشركين بالسيف ويغلظ عليهم، والقرآن جامع لكل هذه الحقائق في وصف النبي . وليست الشدة التي جاء بها الرسول — في حقيقتها — إلا عين الرحمة؛ وإن تسَرْبَلت بمظهر القسوة والشدة، كما أن عالم الشهادة والقهر ليس إلا صورةً ظاهرة لعالم الغيب والملكوت.

وإذا كانت كل هذه المعاني الوجودية والمعرفية والإنسانية تدل عليها ظاهرتَا الهمس والجهر، ألَا يؤكد ذلك ما سبق أن قلناه من أن اللغة — وكذلك القرآن — تتحول عند ابن عربي إلى شفرة خاصة لا يفهم دلالتها إلا المتصوفة؛ أعني الذين وصلوا منهم إلى غاية المعراج ونهايته وتحققوا بالمعرفة الكاملة؟

وقبل أن ننتقل من الحروف الصوامت إلى الحركات نشير إلى الموازاة التي يقيمها ابن عربي بين الحروف الرَّخوة والشديدة والمطبقة وبين بعض المظاهر الوجودية: «وجرت الريح ما بين زعزع ورخاء؛ وهي الحروف الشديدة والرخوة. وظهر عن النفَس أصوات الرعود كالحروف المجهورة، وهبوب النسيم وهي الحروف المهموسة، وظهرت الطباق في الأفلاك كالحروف المطْبقة في تَنَفُّس الإنسان إذا قصده، وهو في الإلهيات إذا أردنا أن نقول له كن، فالحروف المطبقة في النفَس الإلهي وجود سبع سموات طباقًا، وكل موجود في العالم على جهة الانطباق.»٣١

ولا يمكن الاعتراض على ابن عربي بأن الحرف الواحد قد يدل على شيء ويرمز إليه في سياق، ويدل على شيء آخر ويرمز إليه في سياق آخر؛ فدلالة الحروف، وكذلك دلالة اللغة، ليست دلالة ثابتة ساكنة، بل هي دلالة ثرية متنوعة. والحروف نفسها من حيث وصفها اللغوي تخضع لتصنيفات عديدة باعتبارات مختلفة، فيمكن أن تصنَّف من حيث المخارج، ومن حيث الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، ويمكن أن تتعدد الأوصاف على الحرف الواحد ولا يعني ذلك تعدُّدًا في الحرف ذاته.

إن تعدد دلالة الحروف وتنوعها ليس إلا انعكاسًا لتعدد مظاهر الوجود وتنوعها، وتعدد الأسماء الإلهية وتنوعها، وإن دلَّت كلُّها على حقيقة واحدة لا تتعدد ولا تتكثر: «وكلمات العالم على مراتب مخارج الحروف من نَفَس المتنفِّس الإنساني الذي هو أكمل النشآت كلها في العالم، وهي ثمانية وعشرون حرفًا، لكل حرف اسم عيَّنه المقطع، مقطعُ نَفَسِه، فأوَّلها الهاء وآخرها الواو. ومنها حروف مفردة المخرج؛ كالحرف المستطيل والمنحرف والمكرر (كالضاد واللام والراء). ومنها مشتركة في المخرج كحروف الصفير، وإن كان بين المشترك تفاوت؛ فهو قريب بعضها من بعض، يجد اللافظُ الصحيحُ اللفظِ في حال التلفُّط بها الفرقَ بين الحرفين المشتركين كالطاء والتاء والدال، فهذه الثلاثة وإن كانت من مخرج واحد فهو على التقارب لا على التحقيق. ولهذا اختلفت الألقاب عليه لاختلاف أحوالها في المخارج، فيكون للحرف الواحد ألقابٌ متعددة؛ لدرجات له في النفَس عند التكوين منه في مقطع الحرف يمتاز به عن الذي يقاربه في المخرج الذي أوجب له أن يُقال فيه إنه مشترك، كحرف الصاد غير المعجمة مثلًا، فإنه من الحروف المهموسة، ويشارك الكاف في الهمس، وهو من حروف الصفير، فهو يشارك الزاي في الصفير، وهو من الحروف المطبقة، فهو يشارك القاف في الاستعلاء. فهذا حرف واحد اختلفت عليه ألقاب كثيرة؛ لظهوره في مراتب متعددة، قابلٌ بذاته كلَّ مرتبة صالحٌ لها، فاختلفت الاعتبارات؛ فاختلفت الأسماء. كذلك نقول في العقل الأول عقل؛ لمعنًى يخالف المعنى الذي لأجله نسميه قلمًا، يخالف المعنى الذي لأجله نسميه روحًا، يخالف المعنى الذي لأجله نسميه قلبًا.

والعين واحدة والحكم مختلف
لذا تنوعت الأرواح والصور
كذلك الحق أصل الوجود، الواحد الأحد الذي لا يقبل العدد، فهو وإن كان واحد العين فهو المسمى بالحي القيوم العزيز المتكبر؛ إلى تسعة وتسعين اسمًا لعين واحدة وأحكام مختلفة.»٣٢

إن كل حروف اللغة ترتدُّ في حقيقتها إلى الألف — الحركة الطويلة — صوتيًّا وكتابيًّا، فهي كلها تدرُّجات مختلفة ومتباينة لهواء النفَس الذي تمثل الألف حريته الكاملة من الناحية الصوتية. والألف من الناحية الكتابية هي خط، ومن هذه الزاوية تُعدُّ كل الحروف تجلياتٍ مختلفةً لهذا الخط الأصل. والألف توازي الذات الإلهية التي هي أصل الأسماء والحروف ومظاهر الوجود معًا؛ كما سيتبين من الفقرة التالية.

(١-٢) الحركات الطويلة والقصيرة

إذا انتقلنا من الصوامت إلى الحركات؛ وهي الفتحة والضمة والكسرة، والألف والواو والياء، نجد موازاة من نفس النوع؛ فالألف توازي الذات الإلهية، والواو تماثل الصفات وتوازيها، والياء توازي الأفعال؛ وذلك في عالم الألوهة أو عالم الخيال المطلق.

وإذا تدرجنا هبوطًا إلى عالم الأمر كانت الألف للروح، والواو للنَّفْس، والياء للجسم الذي هو العرش. وعلى المستوى الإنساني توازي الألف الروح، والواوُ النفسَ الإنسانية، والياء الجسم الإنساني. وإذا كانت الألف فتحة طويلة، والواو ضمة طويلة، والياء كسرة طويلة، فإن الروح الذي توازيه الألف صفته الفتح؛ وهي الفتحة، والنفس التي توازيها الواو صفتها القبض؛ وهي الضمة، والجسم الذي توازيه الياء صفته الفعل، وهي الكسرة. أو لنقُل بطريقة أخرى: إن النَّفْس برزخ بين الروح والجسم على المستوى الإنساني، والنفس الكلية برزخ بين عالم الأمر وعالم الخلق، والألوهة برزخ بين الذات الإلهية والعالم، وبالمثل فإن الضمة حركة متوسطة بين الفتح والكسر، والواو حرف متوسط بين الألف والياء. الألف توازي الذات الإلهية في عالم الخيال المطلق، وتوازي القلم في عالم الأمر، وتوازي الروح على المستوى الإنساني، وكذلك الياء توازي الأفعال الإلهية، وتوازي الجسم أول عالم الخلق، كما توازي الجسم الإنساني الذي تظهر منه الأفعال؛ وإن كانت في حقيقتها تُنسب للروح.

وهكذا يمكن أن توازي الحركات الطويلة والقصيرة مراتب الوجود إلى غير نهاية؛ بدءًا من عالم الألوهة وانتهاءً إلى الإنسان آخرِ مراتب الوجود. إن الفارق بين الألف من جهةٍ والواو والياء من جهة أخرى؛ أن الألف دائمًا حركة طويلة، أما الواو والياء فقد يكونا حركتين وقد يكونا صوامت، فالألف ثابتة لا يَعْتوِرها تغير؛ ولذلك توازي الذات الإلهية. والواو والياء يتوازيان مع عالم الصفات وعالم الأفعال. إن الواو والياء — من جانب آخر — حرفا عِلَّة، والصفات والأفعال يمثلان علَّتين فاعلتين، فالألوهة — صفاتٍ وأفعالًا — هي العلة الفاعلة في العالم.

وهكذا يستطيع ابن عربي أن يحول مصطلح «العلة» من معناه اللغوي إلى المعنى الفلسفي؛ عن طريق هذه الموازيات التي يقيمها بين الحركات ومراتب الوجود، «ذكر أهل التركيب في وضع الخطوط في حروف العلة الياء المكسور ما قبلها؛ إذ قد توجد الياء الصحيحة ولا كسر قبلها، وكذلك الواو المضمومة ما قبلها. ولما ذكروا الألف لم يقولوا المفتوح ما قبلها؛ إذ لا توجد إلا والفتح في الحرف الذي قبلها؛ بخلاف الواو والياء، فالاعتدال للألف لازم أبدًا، فالجاهل إذا لم يعلم في الوجود منزهًا إلا الله نسي الروح القدسي الأعلى فقال: ما في الوجود إلا الله، فلما سئل في التفصيل لم يوجد لديه تحصيل. وإنما خصصوا الواو بالمضموم ما قبلها، والياء بالمكسور ما قبلها لما ذكرناه، فصحت المفارقة بين الألف وبين الواو والياء؛ فالألف للذات، والواو العلِّية للصفات، والياء العلِّية للأفعال. الألف الروح، والعقل صفته، وهو الفتحة، والواو النَّفْس، والقبض صفتها، وهي الضمة. والياء الجسم، ووجود الفعل صفته، وهو الخفض. فإن انفتح ما قبل الواو والياء فذلك راجع إلى حال المخاطب. ولما كانتا غيرًا، ولا بد، اختلفت عليهما الصفات، ولما كانت الألف لا تقبل الحركات اتحدت بمدلولها، فلم يختلف عليها شيء البتة. وسُمِّيَت حروف العلة لما نذكره؛ فألف الذات علة لوجود الصفة، وواو الصفة علة لوجود الفعل، وياء الفعل علة لوجود ما يصدر عنه في عالم الشهادة من حركة وسكون؛ فلهذا سميت عللًا.»٣٣
ولكي يؤكد ابن عربي مثل هذا التصور الذي يربط بين الألف والذات الإلهية من جهة، وبين الواو والياء والصفات والأفعال من جهة أخرى؛ يلجأ إلى التحليل الصوتي للألف، ويرى أنها تمثل التحرر الكامل للهواء في النَّفَس. وتمثل باقي الحروف — بما فيها الواو والياء — تجليات مختلفة لهذا الصوت؛ فالألف «يسري في مخارج الحروف كلها سرَيانَ الواحد في مرتبة الأعداد … … ويخفي اسمه في جميع المراتب، فيكون الاسم هناك للباء والجيم والحاء وجميع الحروف، والمعنى للألف.»٣٤
أما الواو والياء المعتلَّتان فليستا — بدورهما — سوى الألف انتقلت من حالة الاعتدال إلى الميل بالرفع في الواو والميل بالخفض في الياء. والميل هنا يعني التوجه على إيجاد صور أعيان الممكنات؛ وذلك عن طريق التجليات الإلهية المختلفة. والميل — أيضًا — هو الرحمة التي أوجد الله بها العالم من نَفَسه، وهي رحمة خفية باطنة؛ ولذلك اختفت الواو في الأمر الإلهي «كن»، وظهرت في ضمير الهوية «هو»، فاختفاؤها يدل على الرحمة الباطنة في إيجاد العالم، وظهورها في ضمير الهوية يعوِّض اختفاءها في الأمر الإلهي «كن» ويدل عليه. وهذا ما يعبر عنه ابن عربي بقوله: «أصل الأشكال الخط، كما أن أصل الخط النقطة، والخط هو الألف، فالحروف منه تتركب وإليه تنحل، فهو أصلها. وأما الحروف اللفظية فالألف يحدثها بلا شك كما يَظْهر الألف عن الحرف إذا أشبعتَه الفتح؛ فإنه يدل على الألف، كما أنك إذا أشبعت الحرف الضمَّ دلَّ على ألف الميل؛ وهو واو العلة. وإنما ظهر عن الرفع المشبع؛ لأن العلة أرفع من المعلول، فما ظهر عن الحرف إلا بصفة الرفع البالغ؛ ليعلم أنه وإن مال ما مال إلا عن رفعةٍ؛ رحمةً بك ليوجدك مَظْهرًا لخالقك، ألَا تراه في حرف الإيجاد كيف جاء برفع الكاف المشبع فقال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ! فجاء بالكاف مشبَعةَ الضم لتدل على الواو. فإن قلت: وأين الواو قلنا غُيِّبَ في السكون الذي هو الثبوت، فإن الحق يستحيل عليه الحركة. فلما التقى سكون الواو من كون وسكون النون اتصفت الواو بالغيب فلم تظهر، ولزمت الهوية. ولهذا هو الهو غيب وضمير عن غائب. وبقيت النون ساكنة تدل على سكون الواو، وظهرت النون على صورة الواو في السكون وهو الثبوت؛ كقوله: خلق آدم على صورته، فأثبت الأسماء بوجود النون في كن؛ أي: ما ثَم كائنٌ حادث إلا عن سبب.»٣٥

إن ابن عربي يستخدم مصطلحات «الحركة» و«السكون» و«العلة» استخدامًا خاصًّا، فهذه المصطلحات اللغوية تكتسب أبعادًا وجودية. وإذا كانت الألف والواو والياء حروف علة، فالذات الإلهية هي علة ظهور الصفات، والصفات بدورها علة ظهور الأفعال. وليست الذات والصفات والأفعال وما يوازيها من الحروف مراتبَ منفصلةً متميزة من الناحية الوجودية، فالواو والياء ترتدان — صوتيًّا وكتابيًّا — إلى الألف كما ترتدُّ الأفعال إلى الصفات، والصفاتُ إلى الذات. وإذا كانت الألف هي التي توجِد الحروف صوتيًّا وكتابيًّا، فللحروف — كذلك — قدرة على إظهار الألف المختفية فيها والباطنة؛ إذا أشبع المتكلم حركة الفتح في الحرف، وكذلك تظهر الواو إذا أشبع حركة الضم، وتظهر الياء إذا أشبع حركة الخفض.

والحروف هنا هي الموجودات أو البشر الذين يُظهِرون أسماء الله وصفاتِه كما ظهروا هم بها. وإذا كانت الواو تمثل واسطة بين الألف والياء، أو بين الذات والأفعال، فمن الطبيعي أن تختفي هذه الواو وتكون غيبًا في الأمر الإلهي «كن»؛ حتى يظل سر الخلق محفوظًا. ومن الطبيعي كذلك أن تظهر هذه الواو في ضمير الهوية؛ لأنه يدل على الغيب المطلق للذات الإلهية.

(أ) الحركات والمعرفة

وإذا كانت الواو هي الواسطة الوجودية بين الألف والياء، أو بين الذات والأفعال، فمن المنطقي — من وجهة نظر ابن عربي — أن تكون أيضًا هي الواسطة المعرفية بين الحق والخلق. تمثل الواو — معرفيًّا — الروح الجبريلي الذي حمل الوحي إلى الأنبياء عامةً، ومحمد خاصةً، والنبي في هذه الحالة يوازي الياء التي تتلقى من الواو. إن العلاقة بين الواو والياء هنا هي علاقة الإمداد بالاستمداد، «فمن حيث إن الله تعالى جعلهما حرفَي علة، وكل علة تستدعي معلولها بحقيقتها، وإذا استدعت ذلك فلا بد من سرٍّ بينهما يقع به الاستمداد والإمداد، فلهذا أُعطيت المد؛ وذلك لمَّا أودع الرسول الملكي الروحي لو لم يكن بينه وبين الملقى إليه نسبةٌ ما ما قَبِل شيئًا، لكنه خفي عليه ذلك. فلمَّا حصل له الوحي ومقامه الواو — لأنه روحاني علوي — والرفع يعطي العلو، وهو باب الواو المعتلَّة، فعبرنا عنه بالرسول الملكي الروحاني؛ جبريل كان أو غيره من الملائكة. ولما أُودع الرسول البشري ما أودع من أسرار التوحيد والشرائع أُعطي الاستمداد والإمداد الذي يمد به عالم التركيب، وخفي سرُّ الاستمداد، ولذلك قال: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، وقال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. ولمَّا كان موجودًا في العالم السفلي عالم الجسم والتركيب، أعطيناه الياء المكسور ما قبلها المعتلة، وهي من حروف الخفض. فلما كانتا علتين لوجود الأسرار الإلهية من توحيد وشرع — وهنا سر الاستمداد — فلذلك مُدَّتا.»٣٦

ولعلنا لاحظنا كيف يحول ابن عربي المصطلحات اللغوية إلى شفرة خاصة ذات دلالات وجودية ومعرفية، فالمد في الواو والياء يدل على الإمداد والاستمداد وجوديًّا ومعرفيًّا. ويمكن أن ترمز الواو إلى جبريل من حيث ميلها إلى الرفع ومَدِّها، ويمكن أن ترمز — من حيث شكلها الكتابي — للإنسان الكامل الذي هو برزخ وجودي ومعرفي بين الحق والخلق، أو بين الله والعالم.

إن الإنسان كما سبقت الإشارة له جانبان: جانب الأولية من حيث جمعيته الإلهية ووجوده في العلم الإلهي الباطن، وجانب الآخرية من حيث جمعيته الكونية وظهوره في الوجود، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وكذلك الواو لها الأولية من حيث هي حرف علة، ولها الآخرية من حيث هي حرف صحيح ينطق به في آخر المخارج، وهو الشفتان. والواو من جهة أخرى ظاهرة في ضمير الهوية باطنة في الأمر الإلهي «كن»، فهي تماثل الإنسان بجميع جوانبه. الواو كالإنسان تجمع من حيث آخريتها كلَّ قوى الحروف كما يجمع الإنسان كل مظاهر الوجود: «ففي الواو خواص الحروف كلها وقواها؛ لأنه لا يظهر عينه عند انقطاع الهواء في مخرجه حتى يمشي ذلك الهواء على جميع المخارج كلها، فحصل فيه من قوة كل حرف.»٣٧
والواو من حيث نطقها مفردة وكتابتها هي واوان بينهما ألف (واو)، وهي من هذه الزاوية تماثل الصورة الإنسانية. الألف بين الواوين تفصل بين الصورة والأصل فيظهر التماثل كما يظهر الخلاف، فالصورة الإنسانية — كما سبقت الإشارة — قد تكون الصورة الإنسانية في علم الله القديم، أو قد تكون صورة حقائق الألوهة. وأيًّا كان الأمر، فالصورة لا تماثل الأصل ولا تتوحد به؛ إذ يظل هناك صورة وأصل، وتتميز الصورة عن أصلها بالخلاف بين الذوات: «وحال بينهما حجابُ العزة الأحمى والأحدية العظمى، فتميزت الذوات. فإذا نظرت الكون من حيث الصورة قلت عدم، فإن الصورة هي الهو، فإذا نظرته من حيث ذاته قلت وجود. ولا تعرف ذلك ما لم تعرف الفاصل بين الواوين — وهو الألف — فيعرفك أن هذا ليس هذا.»٣٨

ولا يقف تحليل ابن عربي للواو صوتيًّا وكتابيًّا عند هذا الحد، بل يتعرض لدلالتها العددية، كما يعود لها دائمًا — كما سنرى في حديثنا عن البعد الدلالي — عند الحديث عن الهوية ودلالة الضمير «هو» في القرآن عليها. كذلك يعود إليها عند الحديث عن الأمر الإلهي «كن»، كما سنتعرض له بالتفصيل بعد ذلك.

(ب) الحركات ومراتب العارفين

إذا كان ابن عربي قد وجد للحروف الصوامت ما يوازيها من مراتبَ معرفية، فمن الضروري أن يجد للحركات مكانةً أرقى من المراتب السابقة في درجات المعرفة، وذلك بناءً على تصوره للحركات عمومًا بأنها أسمى من الصوامت. تمثل الألف في مراتب العارفين القطب الذي هو محل نظر الله في العالم، والذي يحفظ على العالم وجوده. أما الواو والياء فهما الإمامان؛ أحدهما — وهو الواو — يحفظ الله به العالم العلوي، وثانيهما — وهو الياء — يحفظ الله به العالم السفلي: «إن هذه الحروف لمَّا كانت مثل العالم المكلَّف الإنساني المشاركة له في الخطاب لا في التكليف دون غيره من العالم؛ لقَبولها جميعَ الحقائق كالإنسان، وسائر العوالم ليس كذلك، كان منهم القطب كما منا، وهو الألف. ومقام القطب منا الحياة القيومية، هذا هو المقام الخاص به؛ فإنه سارٍ بهمته في جميع العالم، كذلك الألف من كل وجه: من جهة روحانيته التي ندركها نحن ولا يدركها غيرنا، ومن حيث سريانه نَفَسًا من أقصى المخارج الذي هو مُنبعَث النفَس إلى آخر المنافس، ويمتد في الهواء الخارج وأنت ساكت، وهو الذي يُسمى الصدى. فتلك قيومية الألف، لا أنه واقف. ومن حيث رقمه فإن جميع الحروف تنحل إليه وتتركب منه، ولا يَنحلُّ هو إليها كما ينحل هو أيضًا إلى روحانيته، وهي النقطة تقديرًا، وإن كان الواحد لا ينحل، فقد عرَّفناك ما لأجله كان الألف قطبًا.»٣٩

ومن الطبيعي أن يكون الواو والياء هما الإمامين على أساس من التفسير الذي أشرنا إليه قبل ذلك، وهو أن الواو والياء ميل في الألف، فالألف هو الأصل المهيمِن، الواو والياء ليسا إلا إمالة بالرفع أو الخفض لهذه الألف. والإمامان بالمثل أقل من القطب من حيث المرتبة، وإن كان الواحد منهما يمكن أن يحل محله ويقوم مقامه، كما يمكن أن تحل الواو أو الياء محل الألف، ولكن ماذا عن الأوتاد والأبدال؟

لا يجد ابن عربي في الحركات سوى الثلاث الطويلة، ولكنه يجد في حروف الإعراب — وبعضها حركات — ما يسُدُّ له هذه الثغرة حتى يكتمل له موازاة الحروف بمراتب العارفين. وقد سبقت الإشارة إلى أن عدد الأبدال سبعة يتضمنون في داخلهم الأوتاد الأربعة، ويتضمن الأوتاد في داخلهم القطبَ والإمامين. وإذا كان القطب هو الألف، والإمامان هما الياء والواو، فمعنى ذلك أنهم داخلون في عدد الأبدال الأربعة خصوصًا وعدد الأبدال السبعة عمومًا، مع بعض التعديل، فالألف والواو والياء التي تدخل في مراتب الأوتاد والأبدال ليست حروف المد، بل هي حروف الإعراب، وهي ألف الرفع للمثنى وواو الرفع للجمع وياء النصب والجر للمثنى والجمع. ويضيف إليهم ابن عربي نون الرفع في الأفعال الخمسة ليكتمل عدد الأوتاد أربعة. وإذا أضفنا إلى هؤلاء الأربعة تاء الفاعل وكاف المخاطب وضمير الغائب المنصوب، اكتمل عدد الأبدال السبعة.

ويعتمد ابن عربي — لغويًّا — على إنابة الضمير مَنابَ الاسم ودلالته عليه، أو لنقُل: إن الضمير يُبْدل بالاسم، فتؤدي الضمائر وظائف الأبدال، وهكذا يتغير المصطلح اللغوي ليشير إلى معانٍ صوفية: «والأبدال سبعة: الألف والواو والياء والنون وتاء الضمير وكافه وهاؤه. فالألف ألف رجلان، والواو واو العمرون، والياء ياء العمريْن، والنون نون يفعلون. وسر النسبة بيننا وبينهم في مرتبة الأبدال كما بيناه في القطب أن التاء إذا غابت مِن قمتَ، تركت بدلها، فقال المتكلم: قام زيد، فنابت بنفسها مناب الحروف التي هي اسم هذا الشخص المخبر عنه. ولو كان الاسم مركبًا من ألف حرف ناب الضمير مناب تلك الحروف؛ لقوة حروف الضمائر وتمكُّنها واتساع فلكها، فلو سميت رجلًا «يا دار ميَّة بالعلياء فالسَّند» فقد نابت التاء أو الكاف أو الهاء مناب جملة هذه الحروف في دلالته، وتركتْه بدلها، أو جاءت بدلًا منها كيفما شئت. وإنما صحَّ لها هذا لكونها تعلم ذلك ولا يعلمه من هي بدل منه أو هو بدل عنها؛ فلهذا استحقت هي وأخواتها مقام الأبدال. ومَدرَكُ مِن أين علم هذا موقوفٌ على الكشف، فابحث عنه بالخلوة والذكر والهمة.»٤٠

إن استبدال حروف الإعراب بالحركات الخالصة للدلالة على القطب والإمامين في النص السابق؛ لا يعني تراجعًا في فكر ابن عربي، فللقطب والإمامين كما سبقت الإشارة في الباب السابق ممثِّلون من الرسل الأحياء بأجسادهم، وهم عيسى وإلياس وإدريس والخضر، وممثِّلون زمانيون غير معيَّنين على رأسهم ابن عربي. ويمكن أن تكون حروف الإعراب موازية للقطب والإمامين الزمانيَّين، أما الألف والواو والياء — الحركات — فهي توازي القطب والإمامين السماويين.

(١-٣) الحرف المركب «لا» ودلالته

سبقت الإشارة إلى أن للحضرة الإنسانية ثلاثةَ حروف هي: النون والصاد والضاد؛ وذلك في تقسيم الحروف حسب مراتبها الفلكية. ولاحظنا في ترتيب الحروف حسب مخارجها في النفَس أن حرف الميم يوازي مرتبة الإنسان.٤١

ويعود ابن عربي في ترتيب حروف اللغة حسب نظام أ ب ت ث، فيجد للحرف المركب «لا» دلالته على التناسب والتعلق بين الله والإنسان؛ وذلك بحكم أنه مركب من حرف صامت هو اللام، وحركةٍ طويلة هي الألف التي توازي الذات الإلهية كما سبقت الإشارة. ومعنى ذلك أن اللام — في هذا الترتيب — توازي الإنسان. وفي هذا التعدد والثراء في دلالة الحروف على معانٍ وجودية ومعرفية متنوعة، وفي الرمز للإنسان — وكذلك لله — بأكثر من حرف في أكثر من سياق، وبأكثر من اعتبار؛ ما يؤكد أن الدلالة الرمزية التي يضيفها ابن عربي على الحروف ليست دلالةً ثابتة ذات بُعد واحد، بل هي دلالة متحركة متوترة تتسم بقدر هائل من الثراء والتنوع.

وليس هذا التوتر في نظام الدلالة إلا انعكاسًا للتوتر القائم في بنية الوجود نفسه، وهو توتر لا يدركه إلا قلب الصوفي المتحقق. ليس الوجود مشروعًا تم وانتهى، بل هو في حالة خلق جديد مستمر، نحن، البشر العاديين، في لَبْس منه. يتجلى هذا التوتر في عمليات الإيجاد المستمرة التي تنصبُّ على الأعراض والصور بسرعة فائقة لا يدركها إلا خيال الصوفي. ومصدر هذه العمليات هو التجليات الإلهية المستمرة التي لا تتوقف عن العالم لحظةً واحدة، وهي التي تحفظ عليه بقاءه ووجوده آنًا بعد آن. ولولا هذه التجليات لَفَنيت صور أعيان الموجودات، وانمحى العالم من الوجود الظاهر.٤٢

يتجلى هذا التوتر في دلالة حروف اللغة، وفي إمكانية ترتيبها وَفق نُظُم مختلفة على أسس متغايرة، تُغير نظام هذه الحروف أو صورة ترتيبها، وإن كانت الحروف هي هي في حقائقها وأعيانها. فهناك ترتيب حَسَب المخارج، وهو ترتيب يتوافق مع ترتيب مراتب الوجود، وفي هذا الترتيب توازي الميم مرتبة الإنسان. وهناك ترتيب آخر وَفق الصوامت والحركات، وفي هذا الترتيب توازي الواو مرتبة الإنسان الكامل الذي هو برزخ بين الحق والخلق، كما أن الواو برزخ بين حرفي الأمر الإلهي «كن». وهناك ترتيب أ ب ت ث، وفي هذا الترتيب يمكن أن توازي الباء الإنسان باعتبار أوليته، ويمكن أن توازيه اللام في لام ألف؛ بحكم تركيبها وآخريتها وشكل كتابتها؛ حتى تلتقي بالألف وتعانقها وتختفي كلٌّ منهما في الأخرى؛ دلالة على تداخل الظاهر والباطن في الإنسان، حيث تدل الألف — كما سبقت الإشارة — على الذات الإلهية.

ويمكن أن تدل الباء في هذا الترتيب أيضًا على القدرة الإلهية، أو العقل الأول الذي هو أول مبدع في عالم العماء، ولا تعارض في ذلك، فالعقل الأول هو المظهر الأول للحقيقة المحمدية التي هي الموجود الأول في عالم الخيال المطلق،٤٣ ويكون الإنسان الكامل هو النقطة التي تحت الباء، كما سنشير في تأويل البسملة.

في هذا الترتيب الثالث للحروف — ترتيب أ ب ت ث — يوازي ابن عربي بين اللام ألف وبين التناسب بين الله والإنسان من جهة، وبينها وبين حقيقة الحقائق الكلية من جهة أخرى. ويقيم الموازاة الأولى على أساس أنَّ لام الألف ليست حرفًا بسيطًا، ولكنها حرف مركب، وهي من ثَم تعكس التركيب الإنساني الذي يتكون من ظاهر وباطن، أو من حقائق كونية وحقائق إلهية. ويقيم الموازاة الثانية بين لام ألف وحقيقة الحقائق على أساس ما سبقت الإشارة إليه في الباب الأول؛ من أن حقيقة الحقائق هي المفاهيم الكلية التي تنطبق على الحق وتوصف بالقِدَم، وتنطبق على الخلق وتوصف بالحدوث، وهي حقائق لا موجودةٌ ولا معدومة في ذاتها، وإن كانت تقبل الوجود والتحيز في صور أعيان الموجودات.

والجمع بين الإنسان وحقيقة الحقائق في الدلالة الرمزية للام ألف يفسر — كما سنشير في باب الدلالة — قابليةَ الإنسان وحده — دون غيره من الموجودات أو الحروف والكلمات الإلهية — لفهم دلالة الحروف والكلمات الإلهية على مستوى الوجود والنص في نفس الوقت. والأساس الذي نقيم عليه هذا التفسير من جانبنا أن حقيقة الحقائق هي جماع الألوهة، وهي محتوى العلم الإلهي القديم في نفس الوقت.

ومما يؤكد ما نذهب إليه من دلالة هذا التعدد في رمزية الحروف على توتر العلاقة بين الدال والمدلول، وعدم ثباتها في اللغة الإلهية؛ انعكاسًا للتوتر القائم في بنية الوجود المدلول: أن ابن عربي لا ينظر إلى الأنساق المختلفة في ترتيب حروف اللغة على أنها أنساق وضعية إنسانية، بل يعتبرها من الأسرار الإلهية التي لا يدركها واضعو هذه الأنساق أنفسهم.

يقول ابن عربي: «هذا يختص بحروف الرقم المناسب المزدوج، وهو نظم أ ب ت ث، فإنه ناسب بين الحروف لتناسبها في الصورة بخلاف وضع أبجد؛ وذلك أن اللام كسوة الألف وجُنَّته، فإنه مستور فيها بالنون الملصقة به الذي تمم وجود اللام. وجعلها في آخر النظم ليس بعدها إلا الياء؛ لأنه ظهر في عالم التركيب وهو آخر العوالم. وجاء بعده بالياء؛ لأن لها السفل؛ إذ كانت إنما حدثت من إشباع حركة الخفض، والخفض سفل، والسفل آخر المراتب. فكان تنبيهًا أُجري على خاطر الواضع لهذه الحروف، وربما لم يقصد ذلك. ونحن إنما ننظر في الأشياء من حيث إن الباري واضعها، لا من حيث يدُ مَن ظهرت منه، فلا بد من القصد في ذلك والتخصيص، فشرحنا لكون الحق هو الواضع لها لا غيره. ولمَّا كانت الأولية للألف انبغى أن تكون له الآخرية، وكما له الظاهر في أول الحروف انبغى أن يكون له الباطن في آخر الحروف؛ ليجمع بين الأول والآخر والظاهر والباطن. والياء هي ألف الميل في عالم الحس الذي هو العالم الأسفل لحدوثها عن الخفض؛ لتدل على الألف التي في لام ألف، ولتدل على السبب الذي في شكل اللام إذا انفردت. فإذا عانقت «اللام» الألف صغرت النون «التي في اللام» في الالتواء، وقابل الألفُ التي في اللام الألفَ التي في لام ألف؛ حتى لا يكون يقابله إلا نفسه، فقابل الألفُ الألفَ وربطت النون بينهما، وهو ألف سر العبد الذي تألَّف بربه. وهو من باب الامتنان الإلهي، قال تعالى ممتنًّا على عبده:لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، ولم يقل: قلوبهم ولا بَيْنها، فجاء بهاء الهو في بينهم، وجعل ميم الجمع سترًا عليه؛ ليدل على ما ينسب إليه من الجمعية من حيث كثرة الأسماء له تعالى. والمراد أنه سبحانه أَلَّف بين قلوب المؤمنين وبينه؛ لأنهم ما اجتمعوا على محمد إلا بالله ولله، فبه تألَّفوا التألف محمد (كذا)، فافهمْ لماذا ذكر لام ألف في نظم تناسب الحروف، وهو نظم أ ب ت ث.»٤٤

ولاحِظ دلالة استخدام ابن عربي هنا لكلمة التناسب، فهذا الترتيب للحروف في هذا النظام من جمع الحروف المتناسبة متجاورةً؛ إنما جاء ليدلَّ على التناسب بين الله والإنسان، ولهذا لم يأتِ لام ألف التي تدل على هذا التناسب إلا في سياق هذا الترتيب الخاص. والواقع أن لام ألف — كما يقرر ابن عربي — ليست حرفًا على الحقيقة، فهي مكونة من حرفين هما اللام والألف، واللام — من حيث شكلها الرقمي — عبارة عن ألف ونون كما سبقت الإشارة. وحين تلتقي اللام بالألف تختفي النون، ولا يمكن التمييز بين اللام والألف. وهذه بالضبط علاقة الإنسان بالله من جهة، وعلاقته بالكون من جهة أخرى، فاللام ترمز إلى وجود الإنسان على الصورة الإلهية بالألف التي فيها، وترمز إلى وجوده على الصورة الكونية بالنون التي تجتمع مع الألف مكونةً اللام ورامزةً للوجود الإنساني.

وحين تلتقي اللام بالألف — في رحلة الإنسان المعرفية — تصغُر النون؛ دلالةً على تحقق الإنسان بباطنه، فلا يلتقي بالألف سوى ألف مثله، فتختفي إحداهما في الأخرى؛ دلالة على التناسب الوجودي والمعرفي بين الله والإنسان والالتقاء بينهما، وظهور أحدهما الذي يعني بطون الآخر. وتظل اللام ألف حرفًا مركبًا دلالةً على وجود الإنسان في عالم التركيب والمادة. وهو أول حرف مركب؛ لأن الإنسان نفسه مركب من باطن وظاهر، أو من حقائق إلهية وحقائق كونية. وعلى ذلك فهذا الحرف المركب لام ألف يرمز إلى هذا التركيب من جهة، كما يرمز إلى التداخل والتآلف على المستوى المعرفي من جهة أخرى: «وهو أول حرف مركب من الحروف فوحده الشكل، فلم يُعرف الألف من اللام، فألحق بالمفردات، فكأنهما حرف واحد، كما تعذَّر الانفصال ولم يتميز شكل اللام فيه من شكل الألف، فلم يدركه البصر. فإن قيل إن السمع يدركه بقوله لا، فلْيُعلم أن اللام تحتمِل الحركة والألف لا تحتمل الحركة، فلم يتمكن النطق بالألف، فينطق باللام مشبعةَ الحركة لظهور الألف؛ ليُعلم أنه أراد لام ألف لا لامَ غيره حتى يَرقُمَه الراقم على صورته الخاصة به، فلا تمتاز الألف من اللام لتمكن الألفة. كذلك الإنسان إذا كان الحق سمْعَه وبصره، كما ورد في الخبر، يرتبط بالحق ارتباط اللام بالألف، ولهذا تقدم في حرف شهادة التوحيد في لفظة لا إله إلا الله، فنفى بحرف الألف ألوهة كل إله أثبته الجاهل المشرك لغير الله، فنفى ذلك بحرف يتضمن العبد والرب، فإنه يتضمن مدلول اللام والألف.»٤٥
وترمز اللام ألف — من جهة أخرى — إلى الْتقاء الأحدية الإلهية والفردية التي يقوم عليها الوجود الإنساني، والذي يؤدي إلى تمام قيام الوجود على التربيع، كما سبقت الإشارة. ويعتمد ابن عربي في هذه الدلالة الرمزية على القيمة العددية لحرف اللام من جهة، وعلى ثلاثية الأطوار التي يمر بها خلق الإنسان في رحم الأنثى كما عبَّر عنها القرآن من جهة أخرى؛ الأمر الذي يؤكد التفاعل بين فكر ابن عربي والنص القرآني. وإذا كانت اللف في حساب الجُمَّل تساوي واحدًا، فاللام تساوي ثلاثين، فهي في المرتبة الثلاثية من العشرات. وتتوازى ثلاثية اللام مع أطوار خلق الإنسان في القرآن. والتقاء هذه اللام بالألف يعني التقاء الأحدية بالفردية، ويكون الناتج هو شفعية الإنسان والوجود ومماثلتهما للصورة الإلهية: «فالألف لها الأحدية في المرتبة والأول في العدد، واللام لها المرتبة الثالثة من أول مراتب العدد، والثلاثة هي أول الأفراد، فقد ظهر التناسب بين الأحد والفرد من حيث الوترية؛ فهو أول في الأحدية، والإنسان الكامل أوَّل في الفردية، فاعلم ذلك. ولهذا جاء في نشأة الإنسان أنه علقة من العلاقة، والعَلَقية في ثالث مرتبة من أطوار خلقه، فهي في الفردية المناسبة له من جهة اللام في مراتب العدد؛ قال تعالى: خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، وهذه أول مرتبة، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، هذه ثانية، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، وهي المرتبة الفردية ولها الجمع. والإنسان محل الجمع لصورة الحضرة الإلهية ولصورة العالم الكبير؛ ولهذا كان الإنسان وجودُه بين الحق والعالم الكبير.»٤٦

إن الوجود الإنساني — في هذا السياق — هو العلقة التي تُعَد مرحلة ثالثة بالنسبة لعلَّتي وجود الإنسان؛ وهما الجسد المعبَّر عنه بالطين، وهو جسد الأنثى القابل، والنطفة التي تستقرُّ فيه مكوَّنة من ماء الرجل. ويعتمد ابن عربي على التشابه اللفظي بين العلقة والعلاقة؛ ليربط بين هذه الثلاثية وثلاثية اللام. ومن الواضح أن ابن عربي في هذا التأويل يتجاهل سياق الآية التي لا تتوقف في أطوار خلق الإنسان عند هذه الأطوار الثلاثة التي يؤكد عليها ابن عربي؛ ليتَّسق له هذا الربط.

وقد سبقت الإشارة إلى أن وجود الإنسان على الصورة الإلهية ومماثلته لها من جانب، ومفارقته للأصل واختلافه عنه من جانب آخر؛ هما حجرا الزاوية في المعرفة. المخالفة تؤدي إلى الوفاق والمحبة والسعي للمعرفة، والمشابهة والمناسبة تجعل المعرفة ممكنة. ولهذا تكتسب اللام ألف دلالةً معرفية إلى جانب دلالتها الوجودية؛ إذ هي ترمز — إذ حُلَّت من تعانقها الشكلي وصارت «أل» — إلى حقيقة الحقائق الكلية، مضمون العلم الإلهي القديم: «واعلم أن لام ألف بعد حلها ونقض شكلها وإبراز أسرارها، وفنائها عن اسمها ورسمها؛ تظهر في حضرة الجنس والعهد والتعريف والتعظيم؛ وذلك لمَّا كان الألف حظ الحق واللام حظ الإنسان، صار الألف واللام للجنس. فإذا ذكرت الألف واللام ذكرت جميع الكون ومكوِّنه. فإن فنيت عن الحق بالخليقة وذكرت الألف واللام، كان الألف واللام الحق والخلق، وهذا هو الجنس عندنا، فقائمة اللام للحق تعالى، ونصف دائرة اللام المحسوس الذي يبقى بعدما يأخذ الألف قائمته هو شكل النون للخلق، ونصف الدائرة الروحاني الغائب للملكوت. والألف الذي تبرزه قطر الدائرة للأمر؛ وهو كن، وهذه كلها أنواع وفصول للجنس الأعم الذي ما فوقه جنس، وهو حقيقة الحقائق التائهة، القديمة في القديم لا في ذاتها، والمحدثة في المحدث لا في ذاتها. وهي بالنظر إليها لا موجودة ولا معدومة، وإذا لم تكن موجودة لا تتصف بالقدم ولا بالحدوث.»٤٧

وننتهي من البعد الصوتي للغة الذي طال رغمًا عنا لتعدد جوانبه، وننتقل إلى البعد الدلالي الذي نرجو أن نكشف من خلاله — بشكل أعمق — عن تعدد مستويات الدلالة وتوترها بين الدال والمدلول.

(٢) البُعد الدلالي

الموجودات هي كلمات الله التي تكونت من الحروف على ترتيب خاص. وأصل الحروف الإلهية هي النفَس الإلهي الذي هو العماء، فالعماء أصل الحروف والموجودات في نفس الوقت. وإذا كانت الحروف توازي مراتب الوجود البسيطة التي لا تزيد على ثمانٍ وعشرين مرتبة، فإن الكلمات التي تتألف من هذه الحروف لا تتناهى؛ تأكيدًا لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.٤٨

وإذا كانت الحروف قد ظهرت في العماء عن النفس الإلهي، وتجلَّت في مراتب الوجود البسيطة مرتبةً مرتبة، فإن الموجودات المركبات، وإن ظهرت أيضًا في العماء، إلا أنها ظهرت عن كلمة إلهية مركبة هي الأمر الإلهي «كُنْ». ولا تخلو حروف هذه الكلمة الظاهرة والباطنة من دلالة توازي ثنائية الظاهر والباطن في الوجود بأسره، وفي الموجودات على انفرادها.

إن تحليل ابن عربي الصوتي لكلمة «كُنْ» يكشف عن أحد وسائله التأويلية من جهة، كما يكشف في نفس الوقت عن دلالة الحروف كما حللناها في الصفحات السابقة. ويكشف — من جهة ثالثة — عن جانب مِن فَهمه للبعد الدلالي للغة فيما يرتبط بالكلمة.

(٢-١) دلالة الكلمة الإلهية الأولى «كُنْ»

لهذه الكلمة — الأمر الإلهي — جانبان: جانب ظاهر يتكون من حرفين هما الكاف والنون، وجانب باطن يتكوَّن من ثلاثة حروف هي الكاف والواو والنون. وعلى ذلك فهي من حيث ظاهرها توازي عالم الشهادة، ومن حيث باطنها توازي عالم الغيب والملكوت. ولما كان عالم الشهادة نفسه يتكون من ظاهر وباطن تماثلت حروف «كُنْ» الظاهرة مع جانبَي عالم الشهادة؛ فالكاف من حيث مخرجها غيب باطن؛ لأنها من حروف أقصى الحنك، فهي توازي باطن عالم الشهادة؛ هذا إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من دلالتها على نصف دائرة الوجود الظاهر من حيث شكلها الكتابي. فالبعد الدلالي الظاهر لحروف «كُنْ» هو دلالتها على جانبَي عالم الشهادة؛ الظاهر والباطن.

وتتكوَّن كلمة «كُنْ» من حيث باطنها من ثلاثة حروف؛ لأن أصلها «كُونْ» وحُذفت الواو — لغويًّا — لالتقاء الساكنين؛ الواو والنون. ولكن هذا الحذف يكتسب عند ابن عربي دلالاتٍ وجوديةً سبقت الإشارة إلى بعضها. الواو المحذوفة — في مثل هذا التصور — توازي التوجه الإلهي الباطن في كل شيء في الوجود؛ وذلك لأنها حرف علة، فعنها — أو بسببها — وُجد التكوين: «فشهادة صورة كلمة «كن» اثنان؛ كاف ونون، وهكذا عالم الشهادة له وجهان؛ ظاهر وباطن، فظاهره النون وباطنه الكاف. ولهذا مخرج الكاف في الإنسان أدخل لعالم الغيب؛ فإنه من آخِر حروف الحلق بين الحلق واللسان، والنون من حروف اللسان. وغيب هذه الكلمة هو الواو بين الكاف والنون، وهي من حروف الشفتين، فلها الظهور، وهي حرف علة لا حرف صحيح، ولهذا وجد عنه التكوين لأنه حرف علة. ولمَّا كان من حروف الشفتين بامتداد النَّفَس من خارج الشفتين إلى ظاهر الكون، ولهذا كان ظهور الحكم في الجسم للروح، فظهرت منه الأفعال والحركات من أجل روحه، وكان روحه غيبًا؛ لأن الواو لا وجود لها في الشهادة لأنها حُذفت لسكونها وسكون النون، فهي تعمل من خلف الحجاب، فهي غائبة في العين ظاهرةٌ في الحكم.»٤٩

إن الواو هنا هي الرابطة بين الكاف والنون، أو بين الباطن والظاهر. وهي توازي التوجه الإلهي على إيجاد أعيان الممكنات، سواء تم هذا التوجه بالقول أو باليد أو اليدين. وهذا الوضع الباطني للواو يتماثل مع تصور ابن عربي أن لكل موجود وجهين: وجهًا إلى علَّته وسببِه المباشرة، وهذا هو جانبه الظاهر، ووجهًا يخصه إلى الله، وهذا هو جانبه الباطن.

ويتسق هذا التصور — من جانب آخر — مع ما سبقت إليه الإشارة من وجود الموجودات عن ثلاث حقائق لا اثنتين، تنتهي بظهور العالم والإنسان إلى التربيع أو الشفعية. ولذلك يحرص ابن عربي على ثلاثية كلمة التكوين، وعلى توسُّط الواو بين الكاف والنون؛ أي: بين الظاهر والباطن.

ويمكن لهذه الكلمة (كُنْ) أن تتماثل مع الأفلاك التسعة التي ينتُج عن حركتها كل ما يحدث في الدنيا والآخرة مِن كون واستحالة، فهي أصل التكوينات التي تنتج عنها كلمات الله الكثيرة. توازي كلمة «كُنْ» هذه الأفلاك التسعة؛ لأن حروفها الظاهرة والباطنة عددها ثلاثة، ولكنها يمكن أن تنحل إلى تسعة حروف، فالكاف ثلاثة هي كاف ألف فاء، وكذلك الواو ثلاثة والنون ثلاثة. توازي الكاف الفلك الأطلس؛ لأنه باطن بالنسبة للفلك الذي يليه، وهو فلك البروج الذي يضم في باطنه — بدوره — الأفلاك السبعة المتحركة. وعلى هذا فالنون تماثل فلك البروج، والواو الباطنة بين الكاف والنون توازي توجهات هذين الفلكين على الأفلاك السبعة المتحركة التي ينتج عن حركتها كلُّ ما يحدث في عالم الكون والاستحالة.

وإذا كان الفلك الأطلس وفلك البروج يتوجهان — كما سبقت الإشارة — على إيجاد الجنة والنار وما يحدث فيهما من الحركات والتكوينات المستمرة، فمعنى ذلك أن كلمة التكوين دائمة التأثير في الدنيا والآخرة. تختص الكاف بتكوينات الآخرة من حيث هي باطن الكلمة، ومن حيث موازاتها لفلك البروج. والواو هي علة امتزاج نعيم الدنيا بعذابها من حيث توسُّطها — الباطن — بين الكاف والنون. وهكذا يستطيع ابن عربي عن طريق حل حروف «كُنْ» إلى بسائطها الحروفية أن يجعلها تسعة. «ولمَّا كانت التسعة ظهرت في حقيقة هذه الثلاثة الأحرف ظهر عنها من المعدودات التسعة الأفلاك. وبحركات مجموع التسعة الأفلاك وتسيير كواكبها وُجدت الدنيا وما فيها، كما أنها تخرب بحركاتها. وبحركة الأعلى من هذه التسعة وُجدت الجنة بما فيها، وبحركة الثاني الذي يلي الأعلى وُجدت النار بما فيها، والقيامة والبعث والحشر والنشر. وبما ذكرناه كانت الدنيا ممتزجة؛ نعيم مزوج بعذاب. وبما ذكرناه أيضًا كانت الجنة نعيمًا كلها والنار عذابًا كلها. وما زال ذلك المزج في أصلها، فنشأة الآخرة لا تقبل مزاج نشأة الدنيا، وهذا هو الفرقان بين نشأة الدنيا والآخرة.»٥٠

وهكذا يمكن القول إن النَّفَس الإلهي هو أصل مراتب الوجود وأصل حروف اللغة الإلهية، ويمكن القول كذلك إن كلمات الله «الموجودات» تنبع كلها من الكلمة الإلهية الأولى «كُنْ»؛ التي تعكس جدلية الظاهر والباطن من خلال وسيط برزخي هو الواو المحذوفة والتي تربط بين الكاف والنون، كما يربط عالم الخلق بين عالمَي الأمر والشهادة أو بين الظاهر والباطن.

إن دلالة الكلمة هنا لا تنفصل عن دلالة حروفها، بل يمكن القول إن دلالة الكلمة ليست إلا محصلةً لمجموع دلالة حروفها. ولا تتوقف دلالة الكلمة عند حروفها الظاهرة، بل تمتد لتشمل حروفها المقدرة المحذوفة. ومثل هذا التصور لدلالة الكلمات من شأنه — على مستوى التأويل — أن يثير أسئلةً قد لا تخطر على ذهن مفسِّر غير متصوف؛ مثل السؤال الذي يثيره ابن عربي مثلًا عن دلالة حذف الألف من أول كلمات البسملة (بسم)، ووجودها في كلمات شبيهة أخرى؛ مثل وجودها في قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وفي قوله: بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا. والإجابة التي يطرحها ابن عربي عن مثل هذا السؤال تعيدنا إلى مكانة الألف ودلالتها على الذات الإلهية، كما تعيدنا إلى تصوره الوجودي والمعرفي للعلاقة بين الله والإنسان، وهي علاقة التماثل والتضاد. أو لنقُل بكلمات أخرى: إن تأويل البسملة وحده كافٍ لاستخراج كل الدلالات الوجودية والمعرفية في فلسفة ابن عربي، وكافٍ أيضًا لاستهلال كل وسائل التأويل التي يستخدمها في مواجهة النص؛ بدءًا من دلالة الحروف وانتهاءً بدلالة التركيب؛ كما سنتعرض له في الفصل الثالث من هذا الباب. ونكتفي هنا من تأويل البسملة بدلالة الحرف المحذوف، وهو الألف من البسملة، ووجوده في كلمات أخرى مشابهة.

إن علاقة التضاد بين الله والإنسان تمنع من ظهورهما معًا. وقد ظهر العبد في باء البسملة، أو في النقطة التي تحت الباء على وجه الخصوص: «ونقول: بسم بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميز العابد عن المعبود. قيل للشبلي رضي الله عنه: أنت الشبلي، فقال: أنا النقطة التي تحت الباء، وهو قولنا النقطة للتمييز، وهو وجود العبد بما تقتضيه حقيقة العبودية. وكان الشيخ أبو مدين رحمه الله يقول: ما رأيت شيئًا إلا رأيت الباء عليه مكتوبة.»٥١ فالباء هنا تعني ظهور العبد، ومع ظهور العبد تبطُن الذات الإلهية، وهي الألف، في البسملة. أما وجودها في غير البسملة فهو للدلالة عليها، ولتأكيدِ أن وجود العبد هو مجرد وجود ظاهر، وأن الله هو الفاعل على الحقيقة من خلف حجاب الصور الكثيرة؛ ومنها الإنسان. «فلو لم تظهر في باسم السفينة ما جرت السفينة، ولو لم تظهر في اقرأ باسم ربك ما علم المثل حقيقته ولا رأى صورته، فتيقَّظْ من سِنة الغفلة وانتبه. فلمَّا كثر استعمالها في أوائل السور حذفت لوجود المثل مقامه في الخطاب وهو الباء، فصار المثل مرآة للسين، فصار السين مثالًا، وعلى هذا الترتيب نظام التركيب.»٥٢

وهكذا نجد أن دلالة الكلمة لا تنفصل عن دلالة حروفها المنطوقة والمكتوبة، والظاهرة والباطنة على السواء. ولا تنفصل دلالة الكلمات اللفظية والرقمية عن دلالة الكلمات الوجودية، التي هي الموجودات. ومن المستحيل أن تكون هذه الدلالة دلالةً عرفية وضعية كدلالة الكلمات الإنسانية؛ فالكلمة الإلهية، وجوديةً كانت أم لفظية، تكتسب معناها من وجودها السابق في علم الله، ولا بد أن يتماثل هذا المعنى الظاهر المتجلي في الوجود واللغة والقرآن مع المعنى الباطن في القصد الإلهي.

(٢-٢) قضية الدلالة بين الظاهر والباطن

لقد نوقشت قضية الدلالة اللغوية في التراث الديني من خلال الخلاف المشهور حول قِدم القرآن وحدوثه، والخلافِ الأعمق حول العلاقة بين الذات الإلهية وصفاتها. وتضاربت الآراء بين القول بالتوقيف والقول بالاصطلاح، أو التوفيق بين الرأيين بالقول بقِدَم الدلالة وتوقيفيَّتها من حيث الأصل، وحدوثها واصطلاحيتها من حيث الفرع. ولكن هذه الآراء كلها قد اتفقت على أن العلاقة بين الدال والمدلول، أو الألفاظ والمعاني، علاقة عرفية اتفاقية وضعية. وكان الخلاف في واقعه حول أصل المواضعة: هل هي من الله أم من الإنسان.٥٣
وتتجلى قضية الدلالة في فكر ابن عربي من خلال منظورٍ مغاير انطلاقًا من تصوره للألوهة — وهي مجموع الصفات والأسماء — على أنها مجموعة من العلاقات المشتركة الوسيطة بين الله والعالم من جهة، واللهِ والإنسان من جهة أخرى. من خلال هذا المنظور تنتفي ثنائيةُ القِدم والحدوث على مستوى الصفات الإلهية وعلى مستوى العالم معًا. وانطلاقًا من موازاة ابن عربي بين اللغة والوجود من جهة، واللغةِ والقرآن من جهة أخرى، تنتفي ثنائية القدم والحداثة على مستوى الدلالة اللغوية والنص القرآني معًا، فالكلام الإلهي «له الحدوث والقِدَم فله عموم الصفة، فإن له الإحاطة ولنا التقييد.»٥٤
وإذا كانت الموجودات هي كلمات الله، وكلامه قديم محدث، فالموجودات الكلمات لها وجه إلى القِدم من حيث وجودها السابق القديم في علم الله في صورة الأعيان الثابتة، ولها وجه إلى الحدوث من حيث ظهورها في أعيان صور الموجودات الحسية. هذان الجانبان للوجود ينعكسان في مفهوم ابن عربي للغة. وإذا كانت دلالة اللغة الإنسانية — ظاهر اللغة الإلهية — دلالةً اتفاقية وضعية عرفية، فإن دلالة الكلمات الإلهية — باطن اللغة الإنسانية — لا تقوم على الوضع والاتفاق، بل تستند إلى أعيانها ومعانيها الثابتة في علم الله القديم؛ «فتَحدُث المعاني فينا بحدوث تأليفها الوضعي، وما وقع فيها الوضع في الصور المخصوصة إلا لذاتها لا بحكم الاتفاق ولا بحكم الاختيار؛ لأنها بأعيانها أعطت العلم الذي لا يتحول والقول الذي لا يتبدل.»٥٥

وليس هناك تعارض بين وضعية الدلالة في اللغة الإنسانية، وذاتية العلاقة بين الدال والمدلول في اللغة الإلهية. وقد سبق لنا التعرُّض لموازاة ابن عربي بين حروف اللغة الإنسانية والأسماء الإلهية من جانب، ومراتب الوجود من جانب آخر؛ حيث اعتبر أن حروف اللغة الإنسانية اللفظية والرقمية والخيالية ما هي إلا أجساد لأرواح هي الحروف الإلهية التي تحفظ مراتب الوجود وتحفظ الأسماء الإلهية. وهكذا يمكن النظر إلى علاقة اللغة الإنسانية باللغة الإلهية من خلال ثنائية الظاهر والباطن. ولمَّا كانت هذه الثنائية لا تقوم على تعارض وجودي، أمكن القول إن قيام الدلالة في اللغة الإنسانية على الوضع والاتفاق مجرد وهْمٍ منشؤه التركيز على الجانب الظاهر وإغفالُ الجانب الباطن للظاهرة. التعارض بين الظاهر والباطن في دلالة اللغة تعارض معرفي يزيله الإنسان الكامل الذي يتحقق بباطنه وباطن الوجود كله؛ فيكون قادرًا على فهم الدلالة الحقيقية لكلمات الله على مستوى الوجود واللغة عامة، وعلى مستوى النص القرآني بصفة خاصة.

إن الإنسان الكامل — كما سبقت الإشارة — يتمتع بموقع برزخي وجودي ومعرفي؛ فهو أول من حيث القصد وآخر من حيث النشء؛ أول من حيث روحه وباطنه وتجلِّي الأسماء الإلهية كلها فيه. وهو آخر من حيث جسده وظاهره واجتماع حقائق الكون كلها فيه؛ فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وإذا كان الإنسان الكامل برزخًا جامعًا للطرفين — الله والعالم — فهو يفصل بينهما كما يجمع في نفس الوقت. من هذه الزاوية يمكن النظر للإنسان على أنه الفاصل بين كلمات الله الكثيرة التي هي الموجودات، كما أنه هو الواو الفاصلة بين الكاف والنون في الكلمة الإلهية «كُنْ» والباطنة بينهما. الإنسان إذن — من حيث موقعه الوجودي — فاصل بين كلمات الله الكثيرة، وفاصل بين حروف كلمته الواحدة. أما من حيث موقعه المعرفي فهو الواصل بين هذه الكلمات والحروف، الواصل الذي يعطيها الدلالة ويضفي عليها المعنى؛ لأنه هو الوحيد القادر على فهمها على مستوى الوجود والنص معًا.

إن ابن عربي يستخدم — كدَأَبه كما رأينا — المصطلحات اللغوية مضفيًا عليها دلالاتٍ وجوديةً ومعرفية، وإن كانت هذه الدلالات والأبعاد لا تنفصل عن معانيها الاصطلاحية بل تستند إليها. يستخدم هنا ابن عربي مصطلحات الفصل والوصل حين يقول إن الإنسان الكامل ينوب مناب الحق في الفصل بين الموجودات أو الكلمات، «فإن الله وصف نفسه بأن له كلمات، فكثَّر، فلا بد من الفصل بين آحاد هذه الكثرة. ثم الكلمة الواحدة أيضًا منها كثَّرها في قوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فأتى بثلاثة أحرف: اثنان ظاهران؛ وهما الكاف والنون، وواحد باطن خفي لأمر عارض؛ وهو سكونه وسكون النون، فزال عينه من الظاهر لالتقاء الساكنين. فناب الإنسان الكامل في هذه المرتبة مناب الحق في الفصل بين الكلمة المتقدمة والتي تليها، فنطق الحق سبحانه في هذه النشأة الإنسانية وكل مَن ظهر بصورتها بالحروف في مخارج النَّفَس من هذه الصورة. ووجود الحرف في كل مخرج تكوينه إذا لم يكن مكوَّنًا هناك، وإلا فمن يكوِّنه؟ فلا بد للمكوِّن أن يكون بين كل كلمتين أو حرفين لإيجاد الكلمة الثانية أو الحرف الثاني وتعلق الأول به، لا بد من ذلك في الكلمات الإلهية التي هي أعيان الموجودات.»٥٦

إن وجود الكلمات بالنطق يفترض بالضرورة وجودَ المتكلم الذي يفصل بين كل كلمة والكلمة التي تليها، كما يفصل كذلك في الكلمة الواحدة بين كل حرف وما يليه. وإذا كان الله لا يظهر بذاته في كلماته المنطوقة، فإن الإنسان الكامل — بموقعه البرزخي — هو الذي ينوب مناب الحق في هذا الظهور. وإذا كان الله لا ينطق القرآن بنفسه، فإن القارئ هو الذي يقرأ ويفصل بين الحروف والكلمات، ويسمى ما يقرؤه القارئ كلام الله. وفي هذا السياق يُكثِر ابن عربي من الاستشهاد بقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ؛ حيث سمى الله قراءة القارئ كلام الله؛ لأنه ينوب عن الحق في النطق بكلماته الملفوظة، كما ينوب الإنسان الكامل — وجوديًّا — عن الحق في الظهور بكلماته الوجودية.

في ظل هذا التصور يزول التعارض بين وضعية الدلالة في اللغة الإنسانية وذاتية الدلالة في اللغة الإلهية، فالوضع والاتفاق هو المستوى الظاهر، والحقيقة الباطنة هي ذاتية العلاقة بين الدال والمدلول في اللغة؛ لأن اللغة الإنسانية ليست إلا ظاهرًا ماديًّا حسيًّا للغة الإلهية.

إن اللغة منحة من الله للإنسان منحه إياها من حقيقة النَّفَس الإلهي؛ الذي هو الروح الإنساني والهواء الذي يجري في مخارج نفسه مكوِّنًا الحروف والكلمات. ولذلك «جعل الله النطق في الإنسان على أتم الوجود، فجعل له ثمانية وعشرين مقطعًا للنَّفَس، يُظْهِر في كل مقطع حرفًا معينًا ما هو عين الآخر، ميَّزه المقطع من كونه ليس غير النَّفَس، فالعين واحدة من حيث إنها نَفَس، وكثيرةٌ من حيث المقاطع. وجعلها ثمانية وعشرين لأن العالم على ثمانية وعشرين في المنازل التي تجول السيارة فيها وفي بروجها، وهي أمكنتها من الفلك المستدير؛ كأمكنة المخارج للنَّفَس لإيجاد العالم وما يصلح له، ولكل عالم أعطت هذه المقاطع التي أظهرت أعيان الحروف، ثم قسم هذه المقاطع إلى ثلاثة أقسام: قسم أقصى عند الطرف الأقصى الآخِر، فالأقصى الواحد يسمى حروف الحلق، وهو على طبقات، والأقصى الآخر الثاني حروف الشفتين، وما بينهما حروف الوسط.»٥٧

ليست اللغة الإنسانية إذن في حقيقتها وباطنها سوى لغة إلهية. وإذا كان الإنسان ينوب مناب الله في النطق، ويستمد نَفَسه الهواء الذي ينطق الحروف والكلمات به من الله، أو من النفس الإلهي، فالعارف الكامل هو الذي يفهم المعنى الباطن لهذه الكلمات الإلهية في الوجود واللغة على السواء. أما الإنسان العادي الذي لا يتجاوز إدراكه ومعرفته المستوى الظاهر، فلا يفهم من اللغة سوى دلالتها الوضعية الظاهرة، ولا يكاد يفهم من كلمات الوجود شيئًا.

الإنسان العادي في إدراكه للعالم ووقوفه عند المستوى الظاهر؛ مثل العجمي الذي يسمع اللغة العربية فلا يدرك سوى أصواتها مجردةً عن أي دلالة أو مغزًى، والإنسان العارف في إدراكه لباطن الوجود كالعربي يدرك دلالة هذه الأصوات الوجودية ويعرف معناها؛ الأمر الذي يتيح له أن يفهم البعد الدلالي الباطن العميق للُّغة عامة وللنص القرآني خاصة: «العالم كله لا يعرف من الموجودات التي هي كلمات الله إلا وجود أعيانها خاصة، ولا يعلم ما أريدت له هذه الموجودات سوى أهل الفهم عن الله. والفهم أمر زائد على كونه مسموعًا، فكما ينوب العبد الكامل الناطق عن الله في إيجاد ما يتكلم به بالفصل بين كلماته — إذ لولا وجوده هناك لم يصحَّ وجود عين الكلمة — كذلك ينوب في الفهم مناب الحق.»٥٨
ولا يتم للإنسان الوصول إلى إدراك هذه النيابة الوجودية والمعرفية، وإلى حالة الفهم للُّغة الوجودية إلا بِرُقيِّه المعراجي؛ حيث يتخلص من عناصر الكون المتداخلة فيه، ولا يبقى إلا بالسر الإلهي وحده وهو الروح، أو النَّفَس الإلهي الذي نفخه الله في طينته. في هذه الحالة يدرك العارف أن المتكلم على الحقيقة هو الله والناطق هو الله، فإنه ما نطق في صورته إلا بهذا السر الإلهي الباطن. «وذلك هو الحظ الذي لكل موجود من الله، وبه يصل إليه إذا صارت إليه الأمور كلها. وإذا تحلل الإنسان في معراجه إلى ربه، وأخذ كل كون منه في طريقه ما يناسبه، لم يبقَ منه إلا هذا السر الذي عنده من الله فلا يراه إلا به، ولا يسمع كلامه إلا به، فإنه يتعالى ويتقدس أن يدرك إلا به. وإذا رجع الشخص من هذا المشهد، وتركبت صورته التي كانت تحللت في عروجه، ورَدَّ العالمُ إليه جميع ما كان أخذه منه مما يناسبه — فإن كل عالم لا يتعدى جنسه — فاجتمع الكل على هذا السر الإلهي واشتمل عليه، وبه سبَّحت الصورة بحمده، وحَمِدت ربها؛ إذ لا يحمده سواه. ولو حَمِدته الصورة من حيث هي لا من حيث هذا السر لم يظهر الفضل الإلهي والامتنانُ على هذه الصورة … فالكلمة عن الحروف، والحروف عن الهواء، والهواء عن النفس الرحماني.»٥٩
وإذا كان السر الإلهي في كل موجود هو باطنه، فكل موجود حي بحياة خاصة لا ندركها؛ لأن هذا السر ليس إلا النفس الإلهي، «وعلى ذلك فإن كل شيء في الكون ناطق مسبِّح لله تعالى، وإن كان العامة لا يفقهون هذا التسبيح؛ كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، وقوله: سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وغيرهما من الآيات، فالعارف وحده هو الذي يفقه هذا التسبيح ويدركه؛ لأنه تحقق بحقيقة هذا السر الإلهي الذي لكل موجود وجهٌ إليه.»٦٠

وهكذا ننتهي إلى أن الإنسان وإن كان حرفًا أو كلمة من كلمات الله الوجودية، إلا أنه قادر — بحكم أنه كلمة جامعة — على فهم كلمات الله الوجودية واللفظية على السواء. هذا الفهم هو الذي يمكِّن الإنسان الكامل من تجاوز إطار اللغة العرفية الاصطلاحية والنفاذ إلى المستوى الباطن للُّغة في جانبها الإلهي. في هذا المستوى لا تقوم العلاقة بين الدال والمدلول على أساس اعتباطي قائم على الاتفاق، بل تقوم على أساس ذاتي هي علاقة الرمز بالمرموز إليه. ولمَّا كان المرموز إليه (الوجود) في حالة من التوتر الدائم والتغير المستمرة كما أسلفنا، فإن الرموز الدالة عليه في حالة دائمة من التوتر أيضًا.

(٢-٣) الدلالة وعلاقة الاشتراك

سبقت الإشارة في الباب السابق إلى أن ابن عربي — مخالفًا كثيرًا من المتصوفة — يذهب إلى أن الأسماء كلها لله بالأصالة، حتى تلك الأسماء التي توهم النقص، والتي يتوهم عامة البشر أنها أسماء كونية. ومثل هذا التصور لا بد أن يكون مستندًا إلى الحقيقة الباطنية للغة التي حللناها في الفقرة السابقة. فإذا نظرنا للُّغة من جانبها الظاهر وقعنا في وهم مؤدَّاه أن الله قد تسمَّى بأسماء خلقه واستعارها منهم. وكلا التصورين — الباطن والظاهر — يجب الجمع بينهما، فالظاهر هو غطاء الباطن وستره والطريق الوحيد إليه، والباطن لا يظهر لنا إلا من خلال هذا الظاهر، فكلاهما ضروري للآخر. ولذلك لا بد من النظر لقضية الدلالة من خلال علاقة الاشتراك والتداخل بين الظاهر والباطن، دون التركيز على أحدهما وإغفال الآخر.

من هذا المنطلق يفرِّق ابن عربي — من حيث الدلالة — بين الأسماء الأعلام والصفات والضمائر. الأسماء تعيِّن المسمى وتحدده وتحصره، أما الصفات فهي في منطقة وسطى بين الضمائر وأسماء الأعلام؛ لأنها يمكن أن تدل بالاشتراك على أكثر من موصوف. والضمائر على عكس الأسماء قابلة لتعدد دلالاتها بتعدد مَن تشير إليهم أو تدل عليهم. وعلى ذلك يوازي ابن عربي بين أسماء الأعلام من حيث ثبات دلالتها وبين عالم الحس والشهادة. ويوازي بالمثل بين الصفات وبين عالم البرزخ والجبروت من حيث وسطيتها وقابليتها للاشتراك. أما الضمائر فهي توازي عالم الغيب والملكوت؛ من حيث إنها متعددة الدلالة وغير قابلة للتحديد والتعيين. فالمضمرات «تلحق بعالم الغيب، والمعيَّنات تلحق بعالم الشهادة؛ لأن المضمر صالح لكل معيَّن لا يختص به واحد دون آخر، فهو مطلق. والمعين مقيد، فإنك إذا قلت زيد، فما هو غيره من الأسماء؛ لأنه موضوع لشخص بعينه. وإذا قلت أنت أو هو أو إنك، فهو ضمير يصلح لكل مخاطب قديم وحديث. فلهذا فرقنا بين المضمر والمعين بالاسم أو الصفة. والصفة برزخية بين الأسماء وبين الضمائر، فإنك إذا قلت المؤمن أو الكاتب فقد ميزته عن غير المؤمن، فأشبه زيدًا من وجه ما عيَّنتْه الصفة، وأشبه الضمائر من وجه إطلاقه على كلِّ مَن هذه صفتُه، غير أن الضمير الخطابي مثلًا يعمُّ كل مخاطَب كائنًا من كان؛ مِن مؤمن وغير مؤمن وإنسان وغير إنسان.»٦١
ولا يمكن الاعتراض على ابن عربي بالقول إن الضمير في سياق لغوي خاص يشير إلى مسمًّى معين محدد؛ هو الاسم الذي يجب أن يعود عليه الضمير في السياق اللغوي. فالاسم في نظر ابن عربي — والضمير بالتالي — يتغير من لحظة لأخرى؛ لأن المشار إليه أو الشخص في حالة «خلق جديد» مستمرة. هذا الخلق الجديد لا يفهمه ويدركه إلا العارفون أهل الخيال، وهم مِن ثم يفهمون تغيُّر معنى الضمير أو الاسم من لحظة لأخرى. أو لنقُلْ بكلمات أخرى: إن توتر المرموز إليه وحركيَّتَه الدائمة المستمرة تؤدي بالضرورة إلى توتر الرمز الدال عليه. «وإياك أن تتوهم تكرار هذه الحروف (الضمائر) في المقامات أنها شيء واحد له وجوه كثيرة، إنما هي مثل الأشخاص الإنسانية، فليس زيد بن علي هو عين أخيه زيد بن علي الثاني، وإن كانا قد اشتركا في البنوَّة والإنسانية ووالدهما واحد. ولكن بالضرورة نعلم أن الأخ الواحد ليس عين الأخ الثاني، فكما يفرق البصر بينهما والعلم، كذلك يفرق العلم بينهما في الحروف عند أهل الكشف من جهة الكشف، وعند النازلين عن هذه الدرجة من جهة المقام التي هي بدل عن حروفه. ويزيد صاحب الكشف على العالم من جهة المَقام بأمر آخر لا يعرفه صاحب علم المقام المذكور. وهو مثلًا إذا كررته بدلًا من الاسم بعينه فتقول لشخص بعينه قلت كذا، فالتاء عند صاحب الكشف التي في قلت الأول غيرُ التاء التي في قلت الثاني؛ لأن عين المخاطب تتجدد في كل نَفَس، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، فهذا شأن العالم مع أحدية الجوهر. وكذلك الحركةُ الروحانية التي عنها أوجد الحق تعالى التاء الأولى غيرُ الحركة التي أوجد عنها التاء الأخرى، بالغًا ما بلغت، فيختلف معناها بالضرورة. فصاحب علم المقام يتفطن لاختلاف علم المعنى، ولا يتفطن لاختلاف التاء أو أي حرف آخر؛ ضميرًا كان أو غير ضمير؛ فإنه صاحب رقم ولفظ لا غير.»٦٢

إن هذه التفرقة بين دلالة الضمير والصفة والاسم من حيث التعدد والتنوع؛ يمكن أن تتجاوز موازاة ابن عربي بين هذه المراتب ومراتب الوجود الثلاث إلى منطقة الألوهة، فالضمير يمكن أن يوازي الذات الإلهية من حيث هي غيب مطلق، والصفات يمكن أن توازي الألوهة من حيث هي مجموعة من الصفات والعلاقات المشتركة بين الحق والخلق. والاسم «الله» يعبِّر عن جمعية الألوهة ووحدتها، ويدل عليها دلالة الاسم العَلَم على مسماه.

وتنعكس مثل هذه المنظمة في تطبيقات ابن عربي على النص القرآني، فالضمير «هو» في القرآن الكريم يدل على الذات الإلهية، والاسم «الله» يدل على الألوهة ويميزها عن غيرها، فهو اسم عَلَم لا يقع فيه اشتراك. أما الصفات فهي يمكن أن تدل على الحق من حيث باطنها ودلالتها الذاتية، ويمكن أن تدل على الخلق من حيث ظاهرها ودلالتها المعرفية. والعلاقة بين ضمير الهوية والاسم «الله» لا تقوم على الانفصال، فالألوهة هي ظاهر الذات، والذات باطنة فيها.

ولكي يصل ابن عربي لإبراز علاقة الظاهر والباطن بين الاسم «الله» وضمير الهوية؛ يلجأ إلى تحليل الاسم «الله» تحليلًا صوتيًّا. وهو في هذا التحليل لا يكتفي بحذف أداة التعريف من الاسم؛ لأن الناتج في هذه الحالة — على المستوى الدلالي — وهو «إله»؛ مختَلَف عليه؛ هل هو اسم أو صفة.٦٣ يحذف ابن عربي الألف واللامين فلا تبقى سوى الهاء وحدها، وهي من عالم الجبروت الذي يسميه ابن عربي عالم العظمة؛ كما سبقت الإشارة، وذلك في مقابلة عالم الملكوت والغيب من جانب، وعالم الملك والشهادة من جانب آخر.٦٤
هذه الهاء التي تبقى بعد حذف الألف واللامين من الاسم «الله» هاء مضمومة. وحركة الضم هذه إذا أُشبعت وصارت واوًا تنتمي بدورها إلى العالم الوسيط. وقد سبقت الإشارة إلى أن الواو توازي الصفات الإلهية، كما توازي الروح الجبريلي البرزخي، وتوازي الإنسان الكامل بحكم موقعه البرزخي الوسيط بين الحق والخلق، فالواو مثل الهاء من العالم الوسيط عالم الجبروت.٦٥

ولأن الواو غيرَ المحركة حرفُ علة بالمعنى اللغوي والوجودي، فلا بد من تحريكها بالفتح لإزالتها عن صفة العلِّية. فإذا حُرِّكت صار الناتج عن هذا التحليل الصوتي للام «الله» الضمير «هو» الذي يعبِّر عن الذات الإلهية أو باطن الألوهة.

إن علاقة الظاهر والباطن بين الألوهة والذات الإلهية تنعكس — صوتيًّا — في علاقة الضمير «هو» بالاسم «الله». ويتسق مثل هذا التصور مع ما أشرنا إليه من قبل من أن الضمائر تدل على الغيب لغويًّا ووجوديًّا. أما على المستوى المعرفي، فإن هذا الضمير ينتج في الذكر الصوفي من العلوم والمعارف أكثر من الذكر باسم «الله»؛ وذلك بحكم هذا الفارق الدلالي بين الضمير والاسم.

إن أولية الضمائر على الأسماء تتسق مع أوليات كثيرة في فكر ابن عربي، مثل أولية الباطن على الظاهر والوحدة على الكثرة والذات على الألوهة، وإن كانت الأولية دائمًا أولية مرتبة ذهنية لا أولية وجودية زمانية. يقول ابن عربي عن علاقة الضمير بالاسم: «والهو عند الطائفة أتم الأذكار وأرفعها وأعظمها. وهو ذكر خواص الخواص، وليس بعده ذكر أتمُّ منه، فيكون ما يعطيه الهو في إعطائه أعظمَ من إعطاء الأسماء الإلهية حتى من الاسم الله، فإن الاسم الله دلالة على الرتبة، والهوية دلالة على العين، لا تدل على أمر آخر غير الذات. ولهذا يرجع إليها محلول لفظة الله، فإنك تزيل الألف واللامين على الطريقة المعروفة عند أهل الله، فيبقى هو. فإن جعلته سببًا لتعلق الخلق به مكَّنت الضمة فقلت هُو، فجئت بواو العلة، وفيها رائحة الغِنَى عن العالمين. والعلة ما لها هذا المقام من أجل طلبها المعلول كما يطلبها المعلول، فحُركت بالفتح تخفيفًا من ثقل العلة فقيل هو، فدلَّ على عين غائبة عن أن يحصرها علم مخلوق، فلا يزال غيبًا عند كل من يزعم أنه علم به، حتى عن الأسماء الإلهية، فشُغْلها بما وضعها له من المعاني، فجعل الرازق همته متعلقة بالرزق، والمقيت بالتقويت، والعالم بالعلم، والحي بالحياة، وكل اسم بما وضع له وما دلَّ عليه من الحكم، فالأسماء موضوعة وضعتها الممكنات في حال ثبوتها وعدمها، فالأسماء أحكامها، والهوية تقوم للممكنات بهذه الأحكام.»٦٦

إن دلالة ضمير الهوية على الذات الإلهية لا يمكن أن تكون دلالة متغيرة، فالذات الإلهية ليست محلًّا لأي تغير أو تحول أو انتقال. التغير والتحول في علاقة الاشتراك التي تمثلها الألوهة، وهي مجموع الأسماء والصفات؛ باستثناء الاسم «الله» الذي يدل على جمعية الألوهة ووحدتها الذاتية دلالةَ الاسم العلم على مسماه. إن الألوهة هي علة التغير المستمر والخلق الدائم من خلال تجلياتها الفاعلة المختلفة.

من هذا المنطلق تدل كلُّ الضمائر المفردة في الضمير على الذات الإلهية، وتدل كل ضمائر الجمع دلالةً مشتركة على الله والعالم. ولمَّا كانت العلاقة بين الله والعالم علاقةَ تماثل قائمةً على التضاد الذاتي، انعكست هذه العلاقة في القرآن من خلال التقابل الدائم بين ضمير المفرد وضمير الجمع، فإن ضمير الجمع في القرآن إذا جاء دلالةً على الذات الإلهية قابَله ضمير المفرد؛ دلالةً على الأحدية الباطنة للعالم، وبالعكس إذا جاء ضمير المفرد دلالةً على أحدية الذات قابله ضميرُ الجمع؛ دلالةً على كثرة الأسماء الإلهية وكثرة العالم.

إن ثنائية الظاهر والباطن، والكثرة والوحدة، والذات والألوهة، والله والعالم؛ تتجلى جدليتها في النص القرآني من خلال التقابل بين الإفراد والجمع في الضمائر. الإفراد دلالة على الهوية والوحدة والذات، والجمع دلالة على الألوهة والكثرة والعالم، «قال الله عز وجل: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وقال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ، فكان بهويته معنا، وبأسمائه أقرب إلينا، فإن الحق إذا جمع نفسه مع أحديته فلأسمائه من حيث ما تدل عليه من الحقائق المختلفة وما مدلولها سواه، فإنها ومدلولاتها عينه وأسماؤه، فلا بدَّ أن تكون الكناية عن ذلك في عالم الألفاظ والكلمات بلفظ الجمع مثل نحن وإنَّا بكسر الهمزة وتشديد النون؛ مثل قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. وقد تفرَّد إذا أراد هويته لا أسماءه مثل قوله: إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وأين نحن من أنا؟ … فأفرد نفسه في جمعيتنا فقال: وَهُوَ مَعَكُمْ، وجمع نفسه في أحديتنا في قوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، فأفرد الضمير العائد على الإنسان، فلم يكن الجمع إلا بنا ولا الواحد العين إلا به.»٦٧

ولا يكتفي ابن عربي بعلاقة التقابل بين الإفراد والجمع في الضمائر في القرآن، بل ينطلق من تصوره لدلالة الصفة على أكثر من موصوف؛ ليرى أن كل الأوصاف التي وردت في القرآن تدل بباطنها على حقائق الألوهة، كما تدل بظاهرها على العالم. يتوقف ابن عربي مثلًا أمام قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. ويرى أن الضمير «هم» في «ذرهم» يعود على الأسماء الإلهية. وهذا التأويل ينطلق مِن تصوُّر أن الله هو الفاعل على الحقيقة من خلال الصور الظاهرة. وإذا كان هو الفاعل، فهو الموصوف بكل الصفات التي وردت في القرآن، والتي تدل — في ظاهرها — على فاعلين آخرين.

وهذا التأويل يُكسب الآية بُعدًا وجوديًّا وبُعدًا معرفيًّا في نفس الوقت. إن المعنى الظاهري للآية هو أمر المؤمنين — أو الرسول — أن يتجنبوا الكفار والمشركين الذين يسخرون من آيات الله، ويعرضوا عنهم مستعيذين بالله من هذا اللهو. أما المعنى الباطن الوجودي فهو يشير إلى العارف بضرورة أن يترك الأسماء الإلهية وانشغالها في شئون العالم، وأن يعتصم بالاسم الجامع «الله» الذي يدل على الألوهة في جمعيتها، ولا يقتصر على صفة دون صفة: «أمرنا الحق أن نقول: الله، ثم نَذر هُمْ؛ أي: نترك ضميرهم، وهو ضمير «هم» ضمير الجمع لا «هو»؛ الذي هو ضمير الإفراد، فإنَّا للفرد نخلص العبادة من الجمع، فإن الجمع أظهر القسمة بين الله وبين عبده في العبادة، وهي لله لا للمكلَّف من حيث صورته، وإن كانت له من حيث جمعيته بالله. فهنا رسخت قدم الشيخ أبي مدين رضي الله عنه ولم يتعدَّ، وغيره يتم الآية، فقال: في خوضهم يلعبون، فوقف أبو مدين رضي الله عنه مع قوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا — وكلُّ ما في العالم آياتُه؛ فإنها دلائلُ عليه — فأعرض عنهم، فامتثل أمر الله فأعرض، ووقف غيره مع أمره أن يتركهم في خوضهم يلعبون، فامتثلنا أمر الله وتركناهم، فكشف الغطاء عن أبصارنا، فعلمنا على الشهود مَن الخائص اللاعب، وما هو هذا الجمع الذي أظهره ضمير هُم في قوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. وقد تقدم أنه ما ثَم أثرٌ إلا للأسماء الإلهية؛ فثبت الجمع لله بأسمائه وثبت التوحيد بهويته.

فما ثَم جمع ولا واحد
سوى الحق فاشهد وذَرْ من أمر
كما قال في خوضه لاعبًا
لحكم القضاء وحكم القدر
فما ثَم فيما ترى لاعبًا
سوى مَن يُصرِّف هذي الصور
فتُبصره وهْو يلهو بها
كما شاءه حين يقضي الوطر.»٦٨

ورغم ما في هذا التأويل من غرابة، فإنه على الأقل من وجهة نظر ابن عربي لا يتعارض مع دلالتها الظاهرة، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الدلالة الظاهرة ضرورية وأساسية لهذا المستوى الدلالي الباطن. إن الفارق بين المستوى الدلالي الظاهر والمستوى الباطني يكمُن في قدرة الصوفي على النَّفاذ إلى ما وراء عالم الظواهر المدرَك إلى باطنه الروحي العميق.

إن الظاهر المدرَك أو الخبرة اليومية المباشرة قد توهمنا أننا الفاعلون على الحقيقة؛ خيرًا كان الفعل أم شرًّا. والحقيقة التي يصل إليها الصوفي هي أن الأسماء الإلهية هي الفاعلة على الحقيقة مِن وراء صور الموجودات الظاهرة، يستوي في ذلك الإنسان وغيره من الموجودات. قد نتوهم من خلال الخبرة اليومية أن الكافرين والمشركين هم الخائضون في الآيات على الحقيقة، ويدرك الصوفي أنهم مجرد صور تتحرك بأيدٍ خفية هي الأسماء الإلهية. وينطلق ابن عربي من هذا الفهم القائم على اشتراك الدلالة وتعددها ليحلَّ معضلة الجبر والاختيار، فالإنسان مخيَّر من حيث ظاهره وصورته، ولكنه مجبَر من حيث باطنه وحقيقته، فهو مجبر في اختياره، وإن لم يُحِسَّ مثلَ هذا الجبر إلا العارفون من أهل الله الذين يُكشف لهم الأمر على ما هو عليه.

من هذا المنطلق لا يتعارض تأويل ابن عربي للآية مع معناها الظاهر، فالكفَّار والمشركون هم الخائضون من حيث صورهم، والمَخوضُ فيه — ظاهريًّا — هي آيات القرآن، والخوض هو السخرية منها. أما من حيث الحقيقة والباطن، فالخائضون هم الأسماء الإلهية الفاعلة على الحقيقة، والمَخوض فيه صور العالم، وهي كلها دلائل وآيات على وجود الله أو مَظاهر له، والخوض هو الانشغال بشئون العالم من جانب الأسماء الإلهية.

في مثل هذا التأويل تكتسب ألفاظ الخوض والآيات دلالاتٍ مشتركة، فهي يمكن أن تكون دلالة على معانٍ ظاهرة كالسخرية والقرآن، ويمكن أن تكون دلالة على معانٍ باطنة كالانشغال ومظاهر الوجود. وإذا كان ابن عربي قد وُفق في تأويل كلمة «الآيات» استنادًا إلى معناها اللغوي والاصطلاحي، فإنه لم يوفق بنفس الدرجة في تأويل «الخوض»؛ لأن معناها الظاهر لا يخلو في دلالته من الدخول في أمر غير مقبول. وقد يردُّ ابن عربي بأن هذا هو المعنى الوضعي الاصطلاحي البشري لا الدلالةُ الإلهية للُّغة في باطنها العميق. وهذا ما يؤكده بقوله مستشهدًا بمجموعة أخرى من الآيات على رؤيته لمعضلة الجبر والاختيار: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ، فهو القاتل وإن لم يَرِد هذا الاسم، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، فهو الرامي بالصورة المحمدية وإن لم يَرِد هذا الاسم، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ في صورة طير وإن لم يَرِد، سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وهو الواقي وإن لم يَرِد للسرابيل اسم.

فهذا هو الخوض فاعلم به
لتعلمَ مَن ذلك الخائضُ
وأبرِمْ وما أنت أبرمتَه
وكنْ ناقضًا فهُو الناقضُ
وقُل للذي يَجْبُن انهض به
فتحمدْ نهوضك يا ناهضُ
فلم تقتلوهم ولكنه
هو القاتل الفارس الفارضُ.»٦٩

إن الاشتراك في دلالة الألفاظ هو الذي يسمح لابن عربي بمثل هذه التأويلات، وهو اشتراك يقوم على أساس أن الألوهة هي مجموعة من العلاقات المشتركة التي تربط بين الله والعالم. من هنا يكون لكل لفظ في اللغة عامة والقرآن خاصة بُعدٌ دلالي باطن يدل على حقائق الألوهة، وبُعدٌ دلالي ظاهر يدل على حقائق العالم. ولهذا انعكس التقابل بين وحدة الهوية وكثرة الألوة (= كثرة العالم) في التقابل في استخدام الضمائر في القرآن، كما سبقت الإشارة.

وانطلاقًا من التسوية بين الأسماء الإلهية والعالم، ودلالة ضمير الجمع على كل منهما يقرأ ابن عربي قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ برفع اللام من «كل». وتؤدي به هذه القراءة إلى التأويل النحوي على أساس أن «كل» خبر إن مرفوع بالضمة؛ وذلك خلافًا للقراءة المشهورة بفتح اللام مِن «كل»؛ على أساس أنها مفعول مقدم منصوب بالفعل «خلقنا». ويكون معنى الآية عند ابن عربي على هذه القراءة وهذا التأويل: «إنَّا جميع قوى الصور»؛٧٠ أي: إنَّا جميع كل شيء خلقناه، حيث إن ضمير الجمع يشير إلى حقائق الألوهة ويدل عليها، ولا يدل على الذات في مرتبة الهوية المطلقة.

(٢-٤) الاشتراك في الإعراب والبناء

ولا تتوقف علاقة الاشتراك بين الله والعالم عند حدود الضمائر والأسماء، بل تتجاوز ذلك إلى ظواهر لغوية كالإعراب والبناء، والتذكير والتأنيث، والأسماء الموصولة التي يسميها ابن عربي «الأسماء النواقص».

إن مصطلحات الإعراب والبناء اللغوية تعني تغيُّرَ حالة الاسم أو الفعل مع تغيره موقعه في السياق اللغوي في حالة الإعراب. أما البناء فهو ثبات الاسم على حالة واحدة مهما تغير موقعه في السياق. وهذه المصطلحات اللغوية إذا طُبقت على حقائق الألوهة تعني الإشارة الرمزية إلى علاقة الذات الإلهية بصفاتها، فالبناء — بمعنى الثبات وعدم التغير — يرمز إلى الذات الإلهية، ويرمز الإعراب إلى حقائق الألوهة وتجلياتها الدائمة في العالم، فالبناء «له باب في الصفة الثبوتية للإله من كونه ذاتًا ومِن ثبوت الألوهة إليه دائمًا. والمعرب له باب في المعارف الإلهية من قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، وسَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ، فهذا الفرق بين المعرب والمبني.»٧١
وإذا كانت الألوهة علاقة مشتركة كما أشرنا بين الذات الإلهية والعالم، فإن الاسم الإلهي حين يطلق على كون من الأكوان أو فرد من البشر لا يبقى على حاله دائمًا من حيث دلالته، بل تنتقل دلالته من بُعدها الباطن الإلهي إلى بُعدها الظاهر الاصطلاحي الوضعي. وهذا الانتقال يناقشه ابن عربي من خلال تطبيق ظاهرة الترخيم اللغوية على الأسماء الإلهية. فالاسم المرخم يمكن أن يُعْرَب بنقل حركة الحرف المحذوف إلى آخر الاسم بعد الحذف، وهذا معناه عدم مفارقة الاسم لحالته الإعرابية؛ أي: دلالته على الاسم الإلهي. ويمكن أيضًا أن يُبني الاسم المرخَّم على حركة الحرف الأخير منه بعد الحذف. وفي هذه الحالة الثانية يدل الاسم على الألوهة من حيث ثباتها وعدم مشاركتها للعالم، بينما يدل في الحالة الأولى على الاشتراك بين الألوهة والعبودية. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أبدًا أن هاتين الحالتين تمثلان درجتين معرفيتين لا حالتين وجوديتين، فالأسماء وجودًا وحقيقةً كلها لله بالأصالة، وهي في الخلق مستعارة: «فإذا رُخِّم الاسم فقد ينتقل إعرابه إلى آخر ما يبقى من حروف الكلمة، فتقول: يا حارُ هلمَّ، بعد ما كانت الراء مكسورة نُقل إليها حركة الثاء؛ ليعرف السامع أنه قد حذفت من الاسم حرف، فإنه إنما يعرف المنادى اسمه إذا كان اسمه حارثًا بالثاء. فإذا حُذف الثاء ربما يقول ما هو أنا، فإذا نُقل إلى الراء حركة الثاء عَلم أنه المقصود. كذلك إذا نودي العبد باسم إلهي ربما يقع في نفسه أنه جدير بذلك الاسم، فينقل وصف عبوديته إلى ذلك الاسم الإلهي الذي نودي به هذا العبد، فيعرف أنه المقصود من كونه عبدًا لاستصحاب الصفة له. هذا إذا نقل، وإذا لم يُنقل حركة المحذوف من الاسم لما بقي وتُرك على حاله، كان القصد في ذلك قصدًا آخر، وهو ترك كل حق على حقيقته حتى لا يكون لكونٍ أثرٌ في كون، ولا يظهر لكونٍ خلعةٌ على كون؛ ليكون المنفرد بذلك هو الله تعالى.»٧٢
فإذا تجاوزنا ظاهرة الإعراب والبناء إلى ظاهرة التأنيث والتذكير، وجدنا ما يقابلهما في حقائق الألوهة وحقائق العالم، فقد أعطى الله لنفسه اسم «الذات»، وهو اسم مؤنث، كما أعطى اسم «النَّفْس» للبشر، وهو اسم يحتمِل التذكير والتأنيث فيما يرى ابن عربي. والحق أن ظاهرتَي التأنيث والتذكير في العالم ترتدان إلى حقائق إلهية، فالإيجاد الإلهي لصور أعيان الممكنات من عدمها الثبوتي إلى وجودها الحسي يعتمد على أمرين: القول وهو مذكر، والإرادة وهي مؤنثة. ومن القول والإرادة انتقلت حقائق التذكير والتأنيث إلى العالم، وبسببهما كان التوالد والتكاثر في عالم الكون والاستحالة، بل وفي عالمَي الخلق والأمر، كما سبقت الإشارة، «وأعطى الله سبحانه اسم الذات لنفسه واسم النَّفْس لِمَا يحمل اسمُ النفس من التذكير والتأنيث؛ كما قال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ، فأنَّثَ، فقال: بلى قد جاءتكِ آياتي؛ بكاف مكسورة خطاب المؤنث آياتي، فكذبت بها بتاء مفتوحة خطاب المذكر، والعين واحدة، فإن النفس والعين عند العرب يُذكَّران ويؤنثان؛ وذلك لأجل التناسل الواقع بين الذكر والأنثى. ولذلك جاء في الإيجاد الإلهي بالقول وهو مذكر، والإرادةِ وهي مؤنثة، فأوجد العالم عن قول وإرادة، فظهر عن اسم مذكر ومؤنث، فقال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ؛ وشيء أنكر النكرات، والقول مذكر، إِذَا أَرَدْنَاهُ؛ والإرادة مؤنثة، أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ فظهر التكوين في الإرادة عن القول والعينُ واحدة بلا شك. ثم جعل التوليد في الحيوان، بل في كل ما يقبل الولادة على ثلاثة أضرب:يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا؛ مراعاةً لمحل التكوين، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ؛ مراعاةً للملقي، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا؛ مراعاةً للجموع … وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا؛ لِمن لا يقبل الولادة كأسماء التنزيه. فما في الوجود أحدية إلا أحدية الكثرة، وليست إلا الذات، والألوهة لهذه وصف نفس؛ لأنه لذاته هو، وله الأسماء الحسنى فافهم، فلهذا قلنا أحدية المجموع أو أحدية الكثرة.»٧٣
ولا يتوقف الاشتراك بين الله والعالم عند حدود التأنيث والتذكير والإعراب والبناء، بل يشتركان كذلك فيما يطلق عليه ابن عربي «الأسماء النواقص»، ويعني بها الأسماء الموصولة، وهي ناقصة لأنها في حاجة دائمة إلى صلة تبيِّنها وتزيل غموضها. وقد تسمَّى الله في القرآن بهذه الأسماء تقربًا إلى عباده وتَطْييبًا لنفوسهم: «فكان من العناية الإلهية بهم أن أجرى عليهم الأسماء النواقص ليعلموا أنهم في مرتبة النقص، وهو كمالهم عن الكمال الإلهي، فقال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ؛ يعني محمدًا فكنى عنه بالذي جاء بالصدق، والذي من الأسماء النواقص. ولمَّا علم أن العبد المقرَّب يتألم بظهور نقصه، ويخاف من إلحاقه بالعدم ورجوعه إلى أصله، آنسَه سبحانه من باب اللطف والكرم، فسمَّى سبحانه نفسه بالأسماء النواقص فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وقال: اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ. وليس في القرآن لله تعالى أكثر من الأسماء النواقص، فكان ذلك تأمينًا للخلفاء؛ فإنهم قاطعون بأن الحق ليس له مرتبة النقص ولا يقبلها، ومع ذلك جرت عليه الأسماء النواقص، فلو أثرت الأسماء لذاتها في المسمى لأثرت في الله، وهي غير مؤثرة فيه.»٧٤

وننتهي من هذا القسم بالتأكيد على أن الاشتراك الدلالي بين الحق والخلق، سواءٌ في الأسماء أو الضمائر أو ظواهر اللغة، ليس إلا انعكاسًا لجانبَي الدلالة اللغوية في بُعديها الإلهي والإنساني. وهذان الجانبان بدورهما ليسا إلا انعكاسًا لثنائية الذات الإلهية والعالم؛ حيث تمثل علاقة الاشتراك الدلالي على المستوى اللغوي توازيًا لوسيط الألوهة على المستوى الفلسفي، وكلاهما ضروري وأساسي لقضية التأويل كما وضحنا في الأمثلة التي ناقشناها.

(٣) البعد التركيبي

من الصعب في الواقع أن نفصل بين جوانب اللغة الصوتية والدلالية والسياقية أو التركيبية عمومًا، وفي فكر ابن عربي وتأويله خصوصًا؛ ولذلك سنكتفي هنا بمناقشة مفهوم ابن عربي للإسناد ودلالته الوجودية والمعرفية، وإعطاء نماذج لبعض القضايا التي يرى الباحث أنها أَدخلُ في باب التركيب؛ مثل ظواهر البَذل وأدوات النداء ونون الوقاية ومعاني الحروف.

والواقع أننا أدركنا معاني الحروف هنا؛ لأن ابن عربي يُدخل فيها أفعال الأمر التي تتكون من حرف واحد؛ كالشين من وشى، والعين من وعى، والقاف من وقى. وهذه الأفعال تُعَد جُملًا كاملة وإن تكوَّنت من حرف واحد. ومما يؤكد مشروعية هذا التصنيف من جانبنا أن ابن عربي ينسُب علم حروف المعاني إلى الحضرة المحمدية، وهي الحضرة التي ينسب إليها علم التركيب والإسناد؛ بناءً على أن محمد هو الذي أوتي جوامع الكلم.٧٥ أما علم الحروف الخالص فهو ينسُبه كما سبقت الإشارة إلى عيسى عليه السلام.
الكلام بالمعنى الإسنادي التركيبي يوازي الوجود كما وازت الكلمات المفردة الموجوداتِ التي لا يحصرها عدٌّ، فالإسناد اللغوي لا بد أن يقوم على ثلاثة عناصر: مسند ومسند إليه وعلاقة أو رابطة بين المسند والمسند إليه. وليس الوجود إلا هذا التركيب والتداخل بين عناصر ثلاثة هي الذات الإلهية (المسند إليه) والعالم (المسند)، والألوهة تمثل العلاقة والرابطة بين الذات الإلهية والعالم. هذه الموازاة بين اللغة في بُعدها التركيبي والوجود في علاقاته المتفاعلة؛ هي ما يعبر عن ابن عربي بجوامع الكلم الذي أوتيه الرسول ، والذي ينتقل إلى العارفين والأولياء من ورثته: «إن جوامع الكلم من عالم الحروف ثلاثة: ذات غنية قائمة بنفسها، وذات فقيرة إلى هذه الغنية غير قائمة بنفسها، ولكن يرجع منها إلى الذات الغنية وصفٌ تتصف به يطلبها بذاته، فإنه ليس من ذاتها إلا بمصاحبة هذه الذات لها، فقد صحَّ أيضًا الفقرُ للذات الغنية القائمة بنفسها كما صحَّ للأخرى. وذات ثالثة رابطة بين ذاتين غنيَّتين، أو ذاتين فقيرتين، أو ذات فقيرة وذات غنية. وهذه الذات الرابطة فقيرة لوجود هاتين الذاتين ولا بد، فقد قام الفقر بجميع الذوات من حيث افتقار بعضها إلى بعض — وإن اختلفت الوجوه — حتى لا يصح الغنى على الإطلاق إلا لله تعالى الغني الحميد من حيث ذاته. فلنسمِّ الغنية ذاتًا، والذاتَ الفقيرة حدثًا، والذات الثالثة رابطة؛ فنقول: الكلم محصور في ثلاث حقائق: ذات، وحدث، ورابطة. وهذه الثلاثة جوامع الكلم، فيدخل تحت جنس الذات أنواعٌ كثيرة من الذوات، وكذلك تحت جنس كلمة الحدث والرابط.»٧٦

إن علاقة التفاعل الدلالية بين الذات والحدث والرابطة في التركيب اللغوي ليست إلا انعكاسًا لعلاقة التفاعل بين الأسماء الإلهية من جانب ومراتب الوجود من جانب آخر، وهي علاقة الفعل من جانب الأسماء الإلهية والانفعال من جانب الموجودات. وهذه العلاقة يمكن النظر إليها — من زاوية أخرى — على أساسٍ من فاعلية المراتب الوجودية التي أظهرت الأسماء الإلهية من بطونها في الذات، فهي علاقة يتفاعل فيها الطرفان كما يتفاعل جانبا الجملة اللغوية من خلال الرابطة التي تجمعهما، فالذات الغنية (المسند إليه) تكتسب من الذات الفقيرة (المسند) وصفًا لم يكن لها قبل الإسناد. وكذلك يكتسب المسند معناه من إسناده إلى ذات غنية. ولا ينفي هذا التفاعل على المستوى الوجودي واللغوي أن الذات الغنية — في تصور ابن عربي — لها دلالتها الوجودية واللغوية المستقلة عن أي علاقة أو إسناد، فالله هو الغني الحميد. وليست الألوهة في وحدتها سوى صفة الاستغناء المطلق التي يقابلها من جانب العالم الافتقارُ المطلق؛ كما سبقت الإشارة في الباب الأول.

إن علاقة التفاعل تتجاوز — وجوديًّا — ثنائية الذات الإلهية والعالم، وتمتد لتشمل كلَّ مراتب الوجود من عالم الأمر إلى عالم الكون والاستحالة، وهو العالم الحي الظاهر؛ كما ناقشنا ذلك بالتفصيل في الباب الأول. وهذه العلاقة تجد مجلاها في التركيب اللغوي الذي هو جوامع الكلم الموازي لتفاعل مراتب الوجود، وعلاقات الموجودات التي هي كلمات الله.

تكتسب نون الوقاية في مثل هذا التصور معانيَ وجوديةً ومعرفية توازي معناها اللغوي وتنطلق منه. وإذا كان الوجود يتكون من ذاتين: ذات الحق الغنية عن العالمين، وذات الخلق المفتقرة إلى ذات الحق، فإن ذات العبد الإنسان الكامل هي التي تحفظ على هذين الطرفين تمايُزَهما. أو لنقُل بلغة ابن عربي: إن إنِّية الإنسان تقي إنِّية الحق الظهور؛ أي: تحفظها عن الاتصال بالعالم والظهور والنزول في مراتبه المختلفة؛ وذلك على أساس أن الإنسان الكامل هو الوسيط البرزخي بين الله والعالم، ومن خلاله يحفظ الله العالم بعد إيجاده. وإذا كان القرآن قد أثبت الإنيتين، إنية الحق وإنية الخلق، وميَّزهما، فإن إنية الإنسان الكامل تكون وقاية لإنية الحق، «قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى … فهذا إثبات الإنيتين وإثبات حكمهما، ثم نفى الحكم على أحدهما بعد إثباته، وهو الصادق القول، فاعلم أن إنية الشيء حقيقته في اصطلاح القوم، فهي في جانب الحق: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، وفي جانب الخلق الكامل: إِنِّي رَسُولُ اللهِ، فهاتان إنيتان ضبطتْهما العبارة، وهما طرفان، فلكل واحدة من الإنيتين حكم ليس للأخرى … فالإنية الإلهية قائلة، والإنية القابلة سامعة، وما لها قول إلا بالتكوين … فلهذا كان الإنيتان طرفين، فتميزتا، إلا أن لإنية الحادث منزلةَ الفداء والإيثار لجناب الحق بكونها وقاية. وبهذه الصفة من الوقاية تندرج إنية العبد في الحق اندراجًا في ظهور، وهو قوله: إِنَّنِي أَنَا اللهُ، فلولا نون الوقاية التي أثَّر فيها حرف الياء الذي هو ضمير الحق، فخفض النون؛ فظهر أثر القديم في المحدث، ولولاه لخفضت النون من إن، وهي إنية الحق، كما أثرت في قوله: إِنِّي أَنَا اللهُ، فإنه لا بد لها من أثر، فلما لم تجد إنية العبد التي هي نون الوقاية، أثَّرت في إنية الحق فخفضتها. ومقامها الرحمة التي هي الفتح، فما أزاله عن مقامه إلا هو، ولا أثَّر فيه سواه، فأقرب ما يكون العبد من الحق إذا كان وقاية بين إنية الحق وبين ضميره، فيكون محصورًا قد أحاط به الحق من كل جانب، وكان به رحيمًا لبقاء صفة الرحمة، فبابها مفتوح، وبها حفظ على المحدث وجوده، فبقي عين نون الوقاية الحادثة في مقام العبودية؛ الذي هو الخفض المتولد عن ياء ضمير الحق، فظهر في العبد أثر الحق، وهو عين مقام الذلة والافتقار، فما للعبد مقام في الوصلة بالحق تعالى أعظم من هذا؛ حيث له وجود العين بظهور مقامه فيه، وهو حال اندراج في الحق محاط به من كل جانب.»٧٧

وإذا كان الإنسان يقي بإنيته إنيةَ الحق من الخفض وجوديًّا ومعرفيًّا ولغويًّا، فليس معنى ذلك أن إنية الإنسان لها وجود مستقل وفاعلية خاصة؛ فإنية الإنسان — التي هي نون الوقاية — لا توجد إلا في سياق خاص بين إنية الحق وضميره. ومعنى ذلك أنها إنية محصورة بالحق من كل جانب، فالحق هو الذي وقى نفسه بصورة إنية العبد، التي ليست في حقيقتها سوى إنية الحق الظاهرة.

ولهذا قد يكون الحق — في سياق وجودي ولغوي آخر — بدلًا من الخلق؛ وذلك في مثل قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. في مثل هذه الآيات يضع الله نفسه بدلًا من العبد، بدلًا من محمد؛ سواء في الرمي أو المبايعة: «فهذا بدل الشيء من الشيء، وإن كان في هذا البدل رائحة من بدل البعض من الكل، فقال: أكلت الرغيف ثلثيه. وليس في أنواع البدل بدلٌ أحقُّ بالحضرة الإلهية من بدل الغلط، وهو الذي فيه الناس كلهم يظنون أنهم هُم وما هم هم، ويظنون أن ما هم هم وهم هم؛ ولهذا لا يوجد بدل الغلط في كلام فصيح.»٧٨

في هذا النص يطرح ابن عربي فكرة البدل من خلال منظور النفي والإثبات في الآية الأولى، حيث أثبت الله الرمي لمحمد ثم نفاه عنه وأثبته لنفسه. أما المنظور الذي تُطرح من خلاله فكرة البدل في الآية الثانية، فهو منظور بدل البعض من الكل، فيد الله (البعض) بدل من محمد، أو ضمير المخاطب (الكل)، وهو ما يطلق عليه ابن عربي «رائحة من بدل البعض من الكل»؛ لأنه لا يتصور التبعيض في حق الله عز وجل. ومن خلال هذين المنظورين لفكرة البدل يطرح ابن عربي فكرة الجبر والاختيار؛ من خلال التأكيد على أن البدل الأحق بالحضرة الإلهية هو بدل الغلط، فالناس تنسُب الأفعال — خاصة أفعال الخير — لأنفسها، وبذلك يظنون أنهم هم الفاعلون؛ وما هم كذلك، وينسبون الشر إلى الله ويظنون أنهم ليسوا بفاعلين؛ وهم الفاعلون. فالغلط ناتج عن تصور البشر أنهم الفاعلون على الحقيقة؛ لأن الله هو الفاعل من خلال صورهم، والغلط الآخر أن يتصور الإنسان أنه مجبر جبرًا كاملًا؛ لأنه أوقع الفعل من حيث صورته. إن المعرفة الحقة كما يراها ابن عربي تكمن في الجمع بين الظاهر والباطن والأدب مع الله، كما فعل الخضر الذي نسب الأفعال الخيِّرة إليه؛ إلى الله، وما يشتمُّ منه رائحة الشر نسبها لنفسه؛ أدبًا مع الله، وإن كانت الأفعال كلها لله في الحقيقة.

وهكذا تثير قضية البدل اللغوي معضلة الجبر والاختيار، ففي الآية الأولى أثبت الله الرمي لمحمد ونفاه عنه، «فنفى عين ما أثبته لك وأثبته لنفسه … وما رمى إلا العبد، فأعطاه اسمه وسماه به، وبقي الكلام في أنه هل حلَّاه به كما سماه به أم لا، فإنَّا لا نشك أن العبد رمى، ولا نشك أن الله تعالى قال: وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، فخُلِعت صفة العبد عن العبد وأُلبِس صفة الرب.»٧٩
وإذا كانت العلاقة بين الحق والخلق تتبادل التأثيرَ والتأثير، حيث يقي العبد بإنيته إنيةَ الحق مرة، ويضع الله نفسه بدلًا من العبد ويعطيه اسمه مرة أخرى؛ فمن الطبيعي ألا نتصور بُعْدًا من نوعٍ ما بين الحق والخلق، وجوديًّا أو معرفيًّا أو لغويًّا، فالله أقرب إلى البشر من حبل الوريد، وهو معنا حيثما كنا؛ كما ورد في كثير من آيات القرآن. وفي هذا السياق يفسِّر ابن عربي المعية وجوديًّا ومعرفيًّا، فهي معية النزول في صور أعيان الممكنات، وهي معية الاستواء والنصرة والمشاهدة والرفق والمراقبة، فما ثَم إلا هو من حيث الوجود الذي تتصف به أعيان الممكنات.٨٠
على أساسٍ من هذا التصور يكون البُعد بين الله والعبد بُعدًا معرفيًّا متوهمًا؛ خاصةً في جانب العبد المحجوب عن الله الذي اشتغلت نفسه بما لا قيمة له؛ فصدأت مِرآة قلبه. ولذلك يتوقف ابن عربي عند أدوات النداء في القرآن مستخرجًا دلالتها الوجودية والمعرفية، ويرى أن لكل أداة من هذه الأدوات «حقائق إلهية لولا التطويل لذكرناها فصلًا فصلًا، فتركناها لمن يقف على كلامنا من العارفين.»٨١
وإذا كان نداء الله للكافرين يرمز إلى هذا البعد المعرفي المتوهم، فإن نداء الله للمؤمنين وأمْرَه إياهم أن يؤمنوا أو يصبروا أو يوفوا بالعقود؛ لا يمكن أن يدل على البُعد، كما لا يمكن أن يدل على خلوِّ المؤمنين المنادَينَ عن الأمر المطلوب منهم تحقيقُه. إن نداء الله للمؤمنين وأمْرَه إياهم بما أمرهم به يعني طلب الثبات على الإيمان أو المأمور به؛ أيًّا كان فيما يستقبل من الزمان: «واعلم أن التأيُّهَ والنداء مؤذِنٌ بالبعد عن الحالة التي يدعوه إليها من يناديه من أجلها، فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا، فلِبُعدهم مما أيَّه بهم أن يؤمنوا به؛ لذلك أيَّه بهم. فإن كانوا موصوفين في الحال بما دعاهم إليه، فيتعلق البُعد بالزمان المستقبل في حقهم؛ أي: اثبتوا على حالكم الذي ارتضاه الدين لكم في المستقبل؛ كما قال يعقوب لبنيه: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، في حال حياتهم، فأمرهم بالإسلام في المستقبل؛ أي: بالثبوت عليه. والاستقبال بعيد عن زمان الحال، فيكون التأيه أيضًا بما هو موجود في الحال: أن يكون باقيًا في المستقبل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، وهم في حال الوفاء بعقد الإيمان، فإنه نعَتَهم في تأيُّهِه بهم بالإيمان، فكان البُعد في العقود إذا قَبِلوهم متى قبلوها.»٨٢

إن البُعد في هذه الآيات كلها بُعد زماني، والأمر المطلوب تحقيقه هو الثبات عليه والدوام في المستقبل؛ لأنه متحقِّق في المنادى عليهم حالَ النداء. وفي هذا التأويل يكتسب البُعد اللغوي الذي تعبِّر عنه أدوات النداء معانيَ رمزيةً تتجاوز البُعد بالمعنى المكاني الذي تدل عليه اللغة الوضعية، فالبُعد قد يكون معرفيًّا في حق الكفار المحجوبين، وقد يكون بُعدًا زمانيًّا في حق المؤمنين، يرتبط بتحقيق المأمور به في المستقبل والدوام عليه، وإن كان متحققًا في الحال.

وننتهي من البُعد التركيبي للغة بالإشارة للدلالات المعرفية التي يضيفها ابن عربي على حروف المعاني، فمن هذه الحروف ما يشبه الإنسان «وهو أكثرها، ومنها ما يشبه الملائكة والجن — وكلاهما جن — وهو أقلها، كالباء الخافضة، واللام الخافضة والمؤكِّدة، وواو القسم وبائه وتائه، وواو العطف وفائه، والقاف من قِ، والشين من شِ، والعين من عِ إذا أمرت بها؛ من الوقاية والوشي والوعي. وما عدا هذا الصنف المفرد فهو أشبه بالإنسان.»٨٣

ولعل في كل ما سبق ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن اللغة بجوانبها المختلفة وأبعادها الثلاثة تتحول عند ابن عربي إلى شفرة تعكس كلَّ حقائق الوجود من عالم الألوهة إلى العالم الحسي المشهود. في ظل هذا التصور للغة تتسع أدوات التأويل عند ابن عربي اتساعَ أبعاد اللغة، ويتحول القرآن بدوره إلى مجموعة من الرموز تتجاوز إطار اللغة الوضعية الاصطلاحية؛ لتدل على حقائق الكون والوجود. وإذا كنا في الأمثلة السابقة التي تعرضنا لها في الفصلين السابقين من هذا الباب، وفي البابين اللذين قبله، قد لاحظنا مدى تشعُّب قضايا التأويل وتداخلها، ومدى اتساع الأدوات وشمولها لجوانب اللغة، فمن المفيد أن نتوقف في الفصل الثالث والأخير من هذا الباب عند بعض القضايا التأويلية المحورية؛ محاولين الكشفَ عن جوانبَ لم تتضح بقدر كافٍ في الصفحات السابقة كلها.

١  انظر: الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ١ / ٢٠٥–٢٢٤؛ والسيوطي، الإتقان في علوم القرآن ٢ / ٨–١٢.
٢  انظر: ابن خلدون، المقدمة ٤٢٨.
٣  انظر: محمد كمال جعفر، من التراث الصوفي ١ / ٣٥٩.
٤  انظر: سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران ٣٧.
٥  المقدمة ٤٢٩-٤٣٠.
٦  هناك دراسة ينقصها كثير من الدقة بسبب شمولها للتراث الصوفي كله، العربي والفارسي والتركي، ولكنها تَلفت الانتباه بشدة إلى أهمية هذه القضية في تأويل النص القرآني، وفي الفن الإسلامي في نفس الوقت، انظر:
Annemarie Schimmel; Mystical Dimensions of Islam, pp. 411–425.
٧  فصل في القرآن ٣٧٢ ضمن كتاب محمد كمال جعفر، من التراث الصوفي، الجزء الأول. وانظر في نفس الجزء: رسالة الحروف ٣٦٦–٣٧١؛ وتعليقات المحقق  ٣٧٦–٣٩٢. والحق أن هذه الرسائل تحتاج لدراسة مستقلة تكشف عن كثير من غموض أفكارها في ضوء ما يكشف عنه تحليلنا لابن عربي.
٨  انظر على ترتيب الأسماء: كتاب الميم والواو والنون  ٥، ٤، ٢، ٧، ١٠، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٥٨١، ١ / ١٦٩.
٩  الفتوحات ١ / ١٦٨.
١٠  رغم اتساع قضية الحروف عند ابن عربي وشمولها في كتاب الفتوحات وفي رسائله، فإنه دائم الإشارة والإحالة إلى كتاب له عن الحروف بعنوان: «المبادئ والغايات فيما تحوي عليه حروف المعجم من العجائب والآيات». [الفتوحات ١ / ٥٣، ٧٧، كتاب الميم والواو والنون ص٢، وكتاب الألف ١٣]. وقد ظنت — أو ظنَّ — عزة حصرية محققة كتاب «روح القدس» أنها عثرت على هذا الكتاب ضمن أحد مخطوطات «روح القدس». والحقيقة أن ما عثرت عليه ليس إلا مجموعة من الأبيات الشعبية عن الحروف موجودة كلها في الفتوحات [١ / ٥٣ وما بعدها] كما تشير المحققة نفسها (ص١٦٤). ورغم أن ابن عربي يشير إلى أنه ألحق بالكتاب — روح القدس — هذه الأبيات تنبيهًا وزيادة للفائدة لمن يهدي إليه الكتاب — أو هذه النسخة من الكتاب — ويشير أيضًا إلى ما كتبه في الفتوحات عن الحروف، كما يشير إلى كتاب: «المبادئ والغايات»؛ مما يدل دلالة قاطعة على استحالة أن تكون هذه الأبيات هي كتاب الحروف، رغم ذلك كله تؤكد المحققة أن ما عثرت عليه هو كتاب «المبادئ والغايات»، بل وتذهب إلى اتهام كل نشرات «روح القدس» السابقة على نشرتها بالنقص؛ لخلوها من كتاب الحروف الذي اعتبرته جزءًا لا ينفصل من كتاب «روح القدس». ولو قرأت الباحثة باب الحروف في الجزء الأول فقط من الفتوحات، لأدركت أن كتاب الحروف يجب أن يكون أكثر اتساعًا من هذا النص على الأقل، ولأعفت نفسها من هذه الدعوى العريضة، وأعفتنا من عناء الرد.
١١  انظر تخطيطًا دائرًا شاملًا لهذا التصور في:
Laleh Bakhtiar, Sofis, Expressions of The Mystical, Quest p. 52.
١٢  الفتوحات ٢ / ٣٩٥، ٤٢١–٤٦٩.
١٣  سقط هذا الاسم في النص، وهو الاسم الذي توجه على إيجاد الجوهر الهبائي في المرتبة الرابعة، انظر: الفتوحات ٢ / ٤٣١-٤٣٢.
١٤  المفروض أن تكون الهمزة أولًا ثم الهاء حسب ترتيب ابن عربي؛ لأن الهمزة تقابل العقل والهاء تقابل النفْس.
١٥  مَلَك القاف هو مَلَك الجبل الذي يحيط بالأرض كما يحيط العرش بالأفلاك، والقاف تقابل مرتبة العرش. انظر: هنري كوربان، الخيال الخلَّاق في تصوف ابن عربي ٥٩-٦٠.
١٦  الفتوحات ٢ / ٤٤٨.
١٧  انظر: الفتوحات ١ / ٥٨، ٢ / ٤٢١–٤٦٩، ٣٩٥.
١٨  انظر: عثمان يحيى، مقدمة السفر الأول ٣٥؛ والنص نفسه ٢٣٤–٢٤٩.
١٩  الفتوحات ١ / ٥٣.
٢٠  الفتوحات ١ / ٥٣-٥٤.
٢١  الفتوحات ١ / ٥٣.
٢٢  الفتوحات ١ / ٥٤.
٢٣  الفتوحات ١ / ٥٣.
٢٤  الفتوحات ١ / ٥٤. هذا هو تقسيم الحروف عند عامة العقلاء كما يقول ابن عربي. أما تقسيم عالم الحروف عند المحققين فهو على ست مراتب يجعل فيها النون للحضرة الإلهية، والميم للحضرة الإنسانية ثم مرتبة الجن — النوري والناري — وهي الجيم والواو والكاف والقاف، والمرتبة الرابعة للبهائم، وهي الدال والذال والغين والشين. أما المرتبة الخامسة فهي للنبات، وحروفها الألف والهاء واللام، ومرتبة الجماد هي المرتبة السادسة، وحروفها هي الباء والحاء والطاء والياء والفاء والراء والتاء والثاء والخاء والظاء. انظر: الفتوحات ١ / ٥٦-٥٧.
٢٥  الفتوحات ٤ / ٩٠.
٢٦  انظر: الفتوحات ١ / ٥٨-٥٩، وانظر ما يوازي ذلك من تقسيم العارفين ٢ / ٧٣-٧٤.
٢٧  انظر أهمية «الباء» في تأويل البسملة: الفتوحات ١ / ١٠٢، وسنعرض لها بعد ذلك.
٢٨  الفتوحات ٢ / ٥٩١. وانظر أيضًا: كتاب الميم والواو والنون ٦.
٢٩  الفتوحات ١ / ٧٩-٨٠.
٣٠  الفتوحات ١ / ٨٠.
٣١  الفتوحات ٢ / ٣٩١.
٣٢  الفتوحات ٢ / ٣٩٤-٣٩٥.
٣٣  الفتوحات ١ / ١٠٦. وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٣٩١.
٣٤  كتاب الألف ١٣.
٣٥  الفتوحات ٢ / ١٢٢-١٢٣.
٣٦  الفتوحات ١ / ٦٢.
٣٧  كتاب الميم والواو والنون ٥.
٣٨  كتاب الميم والواو والنون ١٠.
٣٩  الفتوحات ١ / ٧٨، وانظر أيضًا: الفتوحات ٤ / ٢٩١-٢٩٢.
٤٠  الفتوحات ١ / ٧٨.
٤١  انظر: كتاب الميم والواو والنون ١٣-١٤؛ توجهات الحروف  ﺣ من مقدمة الناشر. انظر أيضًا: تأويل البسملة في الفتوحات ١ / ١٠٨؛ حيث تدل الميم في «بسم» على آدم، والميم في «الرحيم» على محمد. ولاحِظ التأويل الإعرابي الوجودي، فالباء في «بسم» هي حقيقة محمد، وقد عملت في ميم آدم الجر، وهذه الميم — بدورها — عملت الجر في ميم محمد، وهذا هو تبادل العمل بين محمد وآدم إعرابيًّا ووجوديًّا ومعرفيًّا. الفتوحات ١ / ١٠٩.
٤٢  انظر: الفتوحات ١ / ٧٩، ٢ / ٤٥١.
٤٣  انظر: الفتوحات ١ / ١٠٣، وقارن بتأويل البسملة ص١٠٢.
وانظر أيضًا: كتاب الميم والواو والنون  ٨-٩.
٤٤  الفتوحات ١ / ١٢٣.
٤٥  الفتوحات ٢ / ٦٠٣، وانظر أيضًا: الفتوحات ٣ / ٣١٩، ٤ / ٢٦٣.
وانظر فيما يرتبط بالدلالة المعرفية والوجودية للام ألف: الفتوحات ٢ / ٥٨٦؛ حيث تعبِّر اللام ألف عن التناسب والالتفاف بين الأرواح والأجساد والله والعالم.
وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٤١٢؛ حيث تنتج معرفة أسرار اللام ألف كثيرًا من العلوم.
٤٦  الفتوحات ٢ / ٦٤١-٦٤٢.
٤٧  الفتوحات ١ / ٧٧.
٤٨  انظر استشهاد ابن عربي بهذه الآيات: الفتوحات ١ / ٥٧.
٤٩  الفتوحات ٢ / ٣٣١-٣٣٢.
٥٠  الفتوحات ١ / ١٦٩.
٥١  الفتوحات ١ / ١٠٢.
٥٢  السابق نفسه.
٥٣  انظر: عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي ٨٥–٩١.
وانظر أيضًا: الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م.
٥٤  الفتوحات ٤ / ٤٠٢.
٥٥  الفتوحات ٤ / ٦٥.
٥٦  الفتوحات ٣ / ٢٨٣.
٥٧  الفتوحات ٢ / ٣٩١.
٥٨  الفتوحات ٣ / ٢٨٤.
٥٩  الفتوحات ١ / ١٦٨.
٦٠  الفتوحات ١ / ٤٢٦، ٢ / ١٩٥، ٢٣٢، ٥٠٩-٥١٠.
٦١  الفتوحات ٢ / ١٥٧-١٥٨.
٦٢  الفتوحات ١ / ٧٨-٧٩.
٦٣  يمكن الرجوع إلى هذا الخلاف في تفسير الطبري ١ / ١٢٢–١٢٦؛ والزمخشري ١ / ٣٥–٣٨؛ وكذلك تعليق الشريف الجرجاني على الكشاف ١ / ٣٥؛ والقاموس المحيط، مادة «أله».
٦٤  انظر: الفتوحات ١ / ٥٨.
٦٥  انظر في العلاقة بين الهاء والواو خطًّا ولفظًا وعددًا، والمقارنة بينما من حيث دلالتهما معًا على الهوية: كتاب الميم والواو والنون ٥، ٨–١٠، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٣٩٥-٣٩٦.
٦٦  الفتوحات ٤ / ١٤٨-١٤٩.
٦٧  الفتوحات ١ / ٥٣١، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٣٠١، ٤ / ٣١٨.
٦٨  الفتوحات ٤ / ١٤٢.
٦٩  الفتوحات ١ / ١٤٢.
٧٠  الفتوحات ١ / ٥٣١. وانظر في ترجيح هذه القراءة: ابن جني، المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها ٢ / ٣٠٠، وانظر أيضًا: جولد تسيهر، مذاهب التفسير الإسلامي  ٢٨٣.
٧١  الفتوحات ٢ / ٥٩٤.
٧٢  الفتوحات ٢ / ٥٩٤.
٧٣  الفتوحات ٣ / ٢٨٩. وانظر عن أهمية العنصر الأنثوي في التصوف:
Annemarie Schimmel. Mystical Dimensions of Islam, pp. 426–453.
٧٤  الفتوحات ٢ / ٦٤٣-٦٤٤.
٧٥  انظر: الفتوحات ٣ / ٣٣.
٧٦  الفتوحات ١ / ٨٦.
٧٧  الفتوحات ٤ / ٤١. وتكتسب وقاية العبد للحق — في فكر ابن عربي — معاني كثيرة، فهو يؤوِّل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بقوله: «اجعلوا ما ظهر منكم وقايةً لربكم، واجعلوا ما بطن منكم — وهو ربكم — وقايةً لكم، فإن الأمر ذمٌّ وحَمْد، فكونوا وقايته في الذم، واجعلوه وقايتكم في الحمد؛ تكونوا أدباء عالمين.» فصوص الحكم ٥٦.
٧٨  الفتوحات ٤ / ٢٤٧.
٧٩  الفتوحات ٤ / ٢١٣.
٨٠  انظر: الفتوحات ٢ / ١١٨، ٣ / ٣٤٠، ٤ / ٢٤٤، ٢٥٤، ٢٧٧، ٣٠٦، ٣٤٠.
٨١  الفتوحات ٢ / ٥٩٣.
٨٢  الفتوحات ٢ / ٥٩٢.
٨٣  الفتوحات ١ / ٨٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤