الفصل الثالث

قضايا التأويل

تتجلى ثنائية الظاهر والباطن في القرآن كما تتجلى في الوجود والإنسان. هذه الثنائية يمكن أن ننظر إليها من زوايا فكرية عديدة ومختلفة، ولكنها ترتد جميعًا في أصولها إلى ثنائية الظاهر والباطن. يمكن النظر إليها من خلال ثنائية المحكم والمتشابه، أو التنزيه والتشبيه، أو الجبر والاختيار، أو الرحمة والعذاب، أو الرؤية والحجاب، أو الذات والألوهة. وإذا كانت ثنائية الظاهر والباطن على مستوى الوجود والإنسان قد أمكن لابن عربي حلُّها على المستوى الوجودي بفكرة البرزخ، وعلى المستوى الإنساني برحلة العارف الخيالية، فإن ثنائيات القرآن يمكن حلها أيضًا بالجمع بين طرفي كل ثنائية من هذه الثنائيات؛ انطلاقًا من الموازاة التي أشرنا إليها بين القرآن والوجود من جهة، والقرآنِ والإنسان من جهة أخرى.

إن القرآن هو الوجود الجامع الصغير، أو هو كلمات الله المرقومة الموازية لكلماته المسطورة في رَق منشور الوجود. وإذا كان الوجود والإنسان لا تعلُّقَ لهما بالذات الإلهية أصلًا، بل تعلقهما إنما يكون بمرتبة الألوهة، فإن القرآن يشير إلى الألوهة بجوانبها المختلفة والمتعددة، ولا يشير إلى الذات إلا بضمير الهوية الذي يدل على الغير؛ كما سبقت لنا الإشارة. من هذا المنطلق يحوِّل ابن عربي ثنائية الجلال والجمال إلى ثلاثية هي: الجلال الذي يدل على الذات الإلهية، وجلال الجمال الذي يدل على صفات التنزيه والتقديس والمفارقة والقهر، والجمال الذي يدل على النزول الإلهي. الجلال صفة لا يرجع إلى الخلق منها شيء، وجلال الجمال تقابله منَّا صفةُ الأُنس والبسط التي تؤدي إلى الاعتدال والتوازن. أما صفة الجمال فلا بدَّ أن تقابلها منا صفة الهيبة والقبض؛ «فإن الجمال مباسطة مع الحق لنا، والجلال عزته عنَّا، فنقابل بسطه معنا في جماله بالهيبة؛ فإن البسط مع البسط يؤدي إلى سوء الأدب، وسوء الأدب في الحضرة سبب الطرد والبعد.»١
وقد عبَّر القرآن عن هذين الجانبين في الألوهة: جانب الجلال (بمعنى جلال الجمال)، وجانب الجمال، وقابَل بينهما في أماكن كثيرة: «واعلم يا أخي أن الله تعالى لمَّا كانت له الحقيقتان، ووصف نفسه باليدين، وعرَّفَنا بالقبضتين، خرج على هذا الحد الوجود؛ فما في الوجود شيء إلا وفيه ما يقابله. وغَرَضُنا من هذه المقابلة ما يرجع إلى الجلال والجمال خاصة، وأعني بالجلال جلالَ الجمال، فليس في الحديث المأثور عن المخبرين عن الله تعالى شيء يدل على الجلال إلا وفيه ما يقابله من الجمال، وكذلك في الكتب المنزلة وفي كل شيء كما أنه ما من آية في القرآن تتضمن رحمة إلا ولها أخت تقابلها تتضمن نقمة؛ كقوله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ، يقابله: شَدِيدِ الْعِقَابِ، وقوله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يقابله وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وقوله: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ الآيات، يقابلها: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ الآيات. وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ يقابلها: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، وقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ يقابله: وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً الآيات، يقابله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ يقابله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. وإذا تتبعت القرآن وجدته كله في هذا النوع على هذا الحد، وهذا كله من أجل الرتبتين الإلهيتين٢ في قوله: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وقوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وقوله في المعطي المُصَدِّق: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، ويقابله في البخيل المكذِّب قولُه: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى فاعلم، وهكذا أيضًا آيات الجلال والجمال في كتاب الله.»٣

إن هذا التقابل بين آيات القرآن يعكس ثنائية الظاهر والباطن في الوجود وفي الإنسان معًا. ولكن هذه الثنائية تعدُّ — كما سبقت الإشارة — ثنائيةً من زاوية إدراكية ومعرفية خاصة؛ هي زاوية الخبرة اليومية والمعرفة الحسية المباشرة. وتصور ابن عربي للوجود يقوم على نفي الثنائية والتقريب بين طرفيها عن طريق وسائطَ وجودية متعددة. وليس التأويل — فيما يتصل بالنص القرآني — إلا الوسيط الذي يُقَرِّب بين طرفي ثنائية النص القرآني المشار إليها في نص ابن عربي السابق، كما يقرب بين كل الثنائيات الأخرى في النص.

(١) ثنائية التنزيه والتشبيه (البُعد المعرفي)

يمكن القول إن معضلة التنزيه والتشبيه — وهي الوجه الآخر لمعضلة المحكم والمتشابه — تعدُّ في أحد جوانبها طرحًا دينيًّا لمعضلة اللغة من زاوية خاصة. إن اللغة — في رؤيتنا المعاصرة — نتاج بشري، ومن ثَم فهي تعكس الخبرة الإنسانية لجماعة بشرية معينة في ظرف تاريخي خاص وتعبر عنها. وحين تعبِّر هذه اللغة عن المطلق أو المتعالي فهي إنما تعبر عنه بمفاهيم المحدود والمتعين والمحسوس. إن الله — بعبارة أخرى — ليس إلا بشرًا نُفيت عنه كل صفات النقص والتحدد، وأُكدت فيه كل صفات الكمال والإطلاق، والنفي والإثبات ليسا سوى أدوات لغوية لها طابعها البشري.

وللمعضلة جانبها المعرفي الذي لا ينفصل عن بُعدها اللغوي. وإذا كان علماء الكلام المسلمون قد انقسموا إلى مُنزِّهة ومشبِّهة، وانقسموا في تصورهم للُّغة إلى أهل التوقيف وأهل الاصطلاح كما سبقت الإشارة، فإن هذا الخلاف كان يعكس — بدوره — مواقفَ متباينة من الواقع. وقد أشرنا في الفصل السابق إلى أن ابن عربي ينظر للغة من خلال منظور وجودي شامل يؤكد مصدرها الإلهي ولا ينفي بُعدها الإنساني. وقد انعكس هذا الموقف بدوره على رؤيته لمعضلة المعرفة، وتصوره لمعضلة التنزيه والتشبيه.

إن الوجود لا يقوم في حقيقته على أي ثنائية أو كثرة، فالكثرة في الصور لا في الأعيان؛ أي: إنها كثرة حسية مشهودة تقوم على وحدة باطنية عميقة. وإذا كانت هذه الكثرة مدرَكة، فإن هذا الإدراك يمثل بُعدًا لا يمكن إنكاره أو تجاهله، والناظر لهذه الكثرة لا يمكن إلا أن يقع في التشبيه، ولكن هذه الكثرة التي تؤدي إلى التشبيه لا تمثل إلا بُعدًا واحدًا، أو جانبًا خاصًّا من جوانب الحقيقة هو جانبها الظاهر. وجانبها الآخر الباطن هو الوحدة، والناظر إلى هذه الوحدة لا بد أن يتحيز لجانب التنزيه، وهذا التحيُّز — أيضًا — يمثل أحد جانبي الحقيقة.

إن الحقيقة في إطلاقها ولاتحدُّدِها لا تُدرك أو تُعقَل أو تُتوهم؛ إن إدراكها هو الحيرة فيها؛ كما قال الصِّديق: العجزُ عن دَرْك الإدراك إدراك. هذه الحيرة يعبر عنها ابن عربي على مستويات عديدة؛ بادئًا من مستوى التنزيه والتشبيه منتهيًا إلى مستوى الوحدة والكثرة. يقول: «وهذه الحضرة وإن كانت جامعةً للحقائق كلها فأخصُّ ما يختص بها من الأحوال الحيرةُ والعبادة والتنزيه. فأما التنزيه، وهو رفعته عن التشبُّه بخلقه، فهو يؤدي إلى الحيرة فيه، وكذلك العبادة، فأعطانا قوة الفكر لننظر بها فيما يعرِّفنا بأنفسنا وبه، فاقتضى حكم هذه القوة أنْ لا مماثلة بيننا وبينه سبحانه وتعالى من وجه من الوجوه إلا استنادنا إليه في إيجاد أعياننا خاصة. وغاية ما أعطى التنزيه إثبات النِّسب، بكسر النون، بنا لما نطلبه من لوازم وجود أعياننا، وهي المسماة بالصفات. فإن قلنا: إن تلك النِّسب أمور زائدة على ذاته، وإنها وجودية ولا كمال له إلا بها، وإن لم تكن كان ناقصًا بالذات كاملًا بالزائد الوجودي، وإن قلنا: ما هي هو ولا هي غيره، كان خُلْفًا من الكلام، وقولًا لا روح فيه يدل على نقص عقل قائله وقصوره في نظره أكثرَ من دلالته على تنزيه. وإن قلت: ما هي هو ولا هي غيره، كان خُلْفًا من الكلام وقولًا لا روح فيه يدل على نقص عقل قائله وقصوره في نظره أكثرَ من دلالته على تنزيهه. وإن قلت: ما هي هو ولا وجود لها، وإنما هي نِسب والنسب أمور عدمية، جعلنا العدم له أثر في الوجود، وتكثَّرت النسب لتكثُّر الأحكام التي أعطتها أعيان الممكنات. وإن لم نقل شيئًا من هذا كله عطَّلنا حكم هذه القوة النظرية. وإن قلنا: إن الأمور كلها لا حقيقة لها، وإنما هي أوهام وسفسطة لا تحوي على طائل، ولا ثقة لأحد بشيء منها لا من طريق حسي ولا فكري ولا عقلي، فإن كان هذا القول صحيحًا فقد عُلم، فما هذا الدليل الذي أوصلنا إليه؟ وإن لم يكن صحيحًا فبأي شيء علمنا أنه ليس بصحيح؟ فإذا عجز العقل عن الوصول إلى العلم بشيء من هذه الفصول رجعنا إلى الشرع، ولا نقبله إلا بالعقل، والشرع فرع عن أصلِ عِلْمنا بالشارع، وبأي صفة وصل إلينا وجود الشرع وقد عجزنا عن معرفة الأصل؟ فنحن عن الفرع وثبوته أعجز. فإن تعامَيْنا وقبلنا قوله إيمانًا؛ لأمر ضروري في نفوسنا لا نقدِر على دفعه سمعناه ينسُب إلى الله أمور تقدح فيها الأدلة النظرية، وبأي شيء منها تمسكنا قابله الآخر. فإنْ تأوَّلنا ما جاء به لنرده إلى النظر العقلي فنكون قد عبدنا عقولنا، وحملنا وجوده تعالى على وجودنا وهو لا يدرك بالقياس. فأدَّانا تنزيهنا إلهَنا إلى الحيرة؛ فإن الطرق كلها قد تشوشت، فصارت الحيرة مركزًا إليه ينتهي النظر العقلي والشرعي.»٤

إن المعضلة — كما يطرحها ابن عربي — معضلة معرفية في المحل الأول. ومن خلال هذا الطرح ينقُد ابن عربي ثنائية العقل والشرع، وهي الثنائية التي انقسم على أساسها الفكر الكلامي والفلسفي، فالاعتماد على العقل — فيما يرى ابن عربي — قد أقام وجود الله على أساس من الوجود الإنساني. وحين يريد العقل أن ينزِّه، فإنه يعتمد على التأويل الذي يحاول أن يدرك الله بالقياس العقلي. والاعتماد على الشرع — من جانب آخر — لا يجوز دون العقل؛ إذ الإيمان بالشرع فرع على معرفة الشارع، وهي معرفة نظرية. إن الحيرة هي مركز المعرفة وغايتها التي تنتهي إليها.

وليست الحيرة تسليمًا بالعجز عن المعرفة، بل هي تسليم بعجز الوسائل والأدوات التي ناقشها ابن عربي في النص السابق. والحيرة التي يقصدها ابن عربي هي حيرة العارف المتحقق الذي أخلى قلبَه من الشواغل وتجرَّد عن علائق الدنيا وملذَّات الحس؛ حتى أفصح الوجود عن نفسه في قلبه، فيدرك الوحدة في الكثرة والتنزيه في التشبيه.

إن الحيرة هي تقلُّب القلب مع تنوُّع الحقيقة في الصور المختلفة؛ إنها إدراك الثبات في التنوع والتنوع في الثبات. إن تجليات الحق في الصور المختلفة لا تنحصر ولا تنضبط ولا تتقيد، وقلب العارف وحده هو القادر على إدراك هذا التنوع. أما العقل فإنه — من حيث طبيعته الخاصة — يحدد ويضبط ويحصر من خلال مقولاته الخاصة، والحقيقة تَنِدُّ عن الحصر والضبط والتقييد. والشرع — من جانب آخر — يحدَّد ويُضبط؛ لأنه يتوسل باللغة، ويتوجه إلى كل البشر. إن القلب بهذه المثابة قادر على الجمع بين العقل والشرع؛ أي: بين التنزيه والتشبيه.٥ القلب هو الذي يسع الحقيقةَ في إطلاقها ولاتحدُّدِها؛ إنه بيت الرحمن أو عرشه الذي يسعه، وقد ضاقت عنه السموات والأرض: «ولمَّا خلق الله أرض بدنك جعل فيها كعبة، وهو قلبك، وجعل هذا البيت القلبي أشرف البيوت في المؤمن، فأخبر أن السموات — وفيها البيت المعمور — والأرض — وفيها الكعبة — ما وسِعتْه وضاقت عنه، ووَسِعه هذا القلبُ من هذه النشأة الإنسانية المؤمنة، والمراد هنا بالسعة العلمُ بالله سبحانه.»٦
إن الجمع بين العقل والشرع، والتنزيه والتشبيه، والوحدة والكثرة، والظاهر والباطن، وكل الثنائيات؛ ليس صيغة تلفيقية لحل المعضلة، ولكنه استبعاد للحصر والتحديد والتقييد؛ وذلك لحساب الإطلاق واللاتحدد واللاتناهي. إنه — بعبارة أخرى — إلغاء للثنائية، لا بالتوحيد بين طرفيها توحيدًا ميكانيكيًّا، ولكن عن طريق خلق وسيط قادر على استيعابهما معًا؛ هو القلب، محل المعرفة وعضو التأويل كما سبقت الإشارة. «فلا يسعه سبحانه إلا أن يَقْلِب ما عندك. وقلب ما عندك هو أنك علَّقت المعرفة به عز وجل، وضبطت عندك في علمك أمرًا ما. وأعلى أمر ضبطته في علمك به أنه لا ينضبط سبحانه ولا يتقيد ولا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، فلا ينضبط مضبوط لتميُّزه عمَّا ينضبط، فقد انضبط ما لا ينضبط، مثل قولك: العجز عن دَرْك الإدراك إدراك. والحق إنما وَسِعه هذا القلب، ومعنى ذلك ألا يُحكَم على الحق تعالى بأنه يقبل ولا يقبل، فإن ذات الحق وإنيته مجهولة عند الكون، ولا سيما وقد أخبر جلَّ جلاله عن نفسه بالنقيضين في الكتاب والسنة، فشبَّه في موضع، ونزِّه في موضع ﺑ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وشبَّه بقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فتفرقت خواطر التشبيه، وتشتَّت خواطرُ التنزيه، فإن المنزِّه على الحقيقة قد قيَّده وحصره في تنزيهه، وأخلى عنه التشبيه. والمشبه أيضًا قيَّده وحصره في التشبيه وأخلى عنه التنزيه. والحق في الجمع بالقول بحكم الطائفتين، فلا يُنَزَّه تنزيهًا يخرج عن التشبيه، ولا يُشَبَّه تشبيهًا يخرج عن التنزيه، فلا تطلق ولا تقيد لتميزه عن التقييد. ولو تميَّز تقيَّد في إطلاقه، ولو تقيد في إطلاقه لم يكن هو، فهو المقيِّد بما قيَّد له نفسه من صفات الجلال، وهو المطلِق بما سمى به نفسه من أسماء الكمال، وهو الواحد الحق الجليُّ الخفي لا إله إلا هو العلي العظيم.»٧
إن التنزيه والتشبيه جانبان مختلفان لحقيقة واحدة، ولا يمكن تجاهل أحد الجانبين إذا أردنا معرفة الحقيقة، ولا ندركها إلا بالقلب الجامع لكل ثنائيات الوجود؛ بحكم أنه الموطن الإلهي في الجسد الإنساني. إن العارف صاحب المعرفة القلبية هو الخبير الذي يعلم معنى استواء الرحمن على العرش حسب منطوق الآية القرآنية؛ لأن قلب العارف هو عرش القرآن: «فيعلم لذوقه وخبرته اتصاف الرحمن بالاستواء على العرش ما معناه. وأَمْرُ من ليس يعلم ذلك أن يسأل من يعلمه عِلمَ خبرة من نفسه لا علم تقليد، فقال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا؛ أي: فالمسئول الذي بهذه الصفة من الخبرة يعلم الاستواء كما يعلمه العرش الذي استوى عليه الرحمن؛ لأن قلبه كان عرشًا لاستواء القرآن.»٨

والفارق بين صاحب القلب وصاحب النظر في فَهم الاستواء على العرش أن صاحب النظر «انتقل من شرح الاستواء الجسماني عن العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالاستواء السلطاني الحادث، وهو الاستيلاء على المكان الإحاطي الأعظم أو على المُلْك، فما زال في تنزيهه عن التشبيه، فانتقل من التشبيه بمحدَث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فوقه في الرتبة. فما بلغ العقل في التنزيه مبلغ الشرح في قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. ألا تراهم استشهدوا في التنزيه العقلي في الاستواء بقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
وأين استواءُ بشر على العراق مِن استواء الحق على العرش؟! لقد خسر المبطلون. أين هذا الروح من قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فاستواء بشر من جملة الأشياء. لقد صدق أبو سعيد الخرَّاز وأمثاله حيث قالوا: لا يعرف اللهَ إلا الله.»٩
وتتجلى معضلة التنزيه والتشبيه — في جانبها المعرفي — من خلال ثنائية أخرى هي ثنائية الله والعالم؛ فالله من حيث ذاته له التنزيه المطلق، ومن حيث صفاته التي ترتبط بالعالم له التشبيه والتنزيه؛ التنزيه من حيث صفة الغنى والإطلاق والأوَّلية، والتشبيه من حيث النزول في صور أعيان الممكنات والتجلي في الصور المختلفة المتعددة. وقد جاءت الشريعة بالجانبين معًا، وجمعت بينهما في آيات كثيرة في القرآن ونصوصٍ في الآثار النبوية. وإذا كانت الآيات المحكمات تدل على التنزيه، والآيات المتشابهات تدل على التشبيه، فهما وجهان لحقيقة واحدة لا تتكثر إلا بالنظر والاعتبار، «أصعب العلم بالله إثبات الإطلاق في العلم به لا من كونه إلهًا. وأما من كونه ذاتًا أو من حيث نفسه فالإطلاق في حقه عبارة عن العجز عن معرفته، فلا يُعلَم ولا يُجهَل، ولكن يُعجَز. وأما من كونه إلهًا فالأسماء الحسنى تقيِّده والرتبة تقيده. ومعنى تقييده طلب المألوه له بما يستحق من التنزيه، والتنزيه تقييد. والعلم به من كونه إلهًا يثبت شرعًا وعقلًا؛ فللعقل فيه التنزيه خاصةً فيقيده به، وللشرع فيه التنزيه والتشبيه، فالشرع أقرب إلى الإطلاق في الله من العقل، والعارف ينظر فيحكم فيه بحسب ما أضيف إليه.»١٠
إن ثنائية التنزيه والتشبيه يمكن حلها — في نظر ابن عربي — من خلال الشرع نفسه، وعلى أساس من أولية الشرع على العقل. إن العقل ببراهينه وأدلته ونظره لا يسعه سوى التنزيه المطلق لله عن أي مشابهة للبشر أو العالم، وهو من ثَم يقف مع آيات التنزيه؛ لأنها تتفق مع براهينه وأدلته. أما آيات التشبيه فالعقل لا يستطيع أن يقبلها على ظاهرها دون تأويل. لقد عبَّر الشرع عن جانبي الحقيقة، ووقف العقل عند جانب واحد منها. أما الصوفي صاحب المعرفة القلبية الذي تحقق بجانبي الحقيقة فهو الذي يدرك مغزى الجمع — جمع الشرع — بين التنزيه والتشبيه، ويرى تعبير الشرع عن الجوانب المختلفة للحقيقة، «اعْلَمْ أن للحق سبحانه في مشاهدة عباده إيَّاه نسبتين: نسبة تنزيه، ونسبة تَنزُّل إلى الخيال بضرب من التشبيه، فنسبة التنزيه تجلِّيه في: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، والنسبة الأخرى تجليه في قوله عليه السلام: «اعبد الله كأنك تراه»، وقوله: «إن الله في قِبلة المصلِّي»، وقوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وثَمَّ ظرف، ووجه الله ذاته وحقيقته، والأحاديث والآيات الواردة بالألفاظ التي تطلق على المخلوقات باستصحاب معانيها إيَّاها. ولولا استصحاب معانيها إيَّاها المفهومة من الاصطلاح ما وقعت الفائدة بذلك عند المخاطب بها؛ إذ لم يَرِد عن الله شرح ما أراد بها مما يخالف ذلك اللسان الذي نزل به هذا التعريف الإلهي، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، يعني: بِلُغَتهم ليعلموا ما هو الأمر عليه. ولم يشرح الرسول المبعوث بهذه الألفاظ هذه الألفاظَ بشرح يخالف ما وقع عليه الاصطلاح.»١١
إن المتشابه يجب أن يُفهَم على ظاهره دون حاجة للتأويل العقلي؛ ذلك أنه تعبير عن نسبة من نسب الحق تُغاير نسبة التنزيه، فالتشبيه أحد جانبي الحقيقة. إن التشبيه الذي تعبِّر عنه الآيات المتشابهات تعبير عن الجانب الظاهر من هذه الحقيقة، وهو الجانب الذي لا يدركه سوى العامة؛ الذين لا يستطيعون إدراك الحقيقة إلا بضرب من التخيُّل والتوهُّم. من أجل هؤلاء نزلت الآيات المتشابهات، وهذه الآيات — بالنسبة للخاصة — تعبير عن جانب واحد من الحقيقة ينفُذون من خلاله إلى باطنها، ولكنهم ينفُذون إلى الجانب الباطن من خلال تلويحات وإشارات يدركون بها الحقيقة في إطلاقها ولاتحدُّدِها: «فالعامة حظوظهم خيالية لا يقدرون على التجريد عن المواد في كل ما يلتذُّون به من المعاني في الدنيا والبرزخ والآخرة، بل قليل من العلماء من يتصور التجريد الكلي عن المواد. ولهذا أكثر الشريعة جاءت على فهم العامة، وتأتي فيها تلويحات للخاصة؛ مثل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ١٢
ويتجاوز ابن عربي هذه القسمة الثنائية للشريعة إلى تنزيه وتشبيه ومحكم ومتشابه؛ لكي يرى في القرآن درجاتٍ متفاوتةً من التعبير عن الحقيقة تُناسب أمزجة الخلق ودرجاتِهم المعرفية، فهناك في البشر العالِم والأعلم، والفاضل والأفضل، أو هناك العامة والخاصة وخاصة الخاصة وخلاصة خاصة الخاصة، أو بعبارة أخرى: أهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل الحد وأهل المطلع، أو الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون. وقد نزلت الشريعة تتضمن مستوياتٍ من التعبير تناسب كلَّ مرتبة من مراتب المعرفة والفهم: «فلما اختلفت الأمزجة كان في العالَم العالِم والأعلم والفاضل والأفضل، فمنهم مَن عرَف الله مطلقًا من غير تقييد، ومنهم من لا يقدر على تحصيل العلم بالله حتى يقيِّده بالصفات التي لا توهِم الحدوث، فيدخله تحت ظرفية الزمان وظرفية المكان والحد والمقدار. ولما كان الأمر في العلم بالله في العالم في أصل خلقه، وعلى هذا المزاج الطبيعي المذكور؛ أنزل الله الشرائع على هذه المرتبة حتى يعُمَّ الفضلُ الإلهي جميعَ الخلق، فأنزل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وهو لأهل العلم مطلقًا من غير تقييد، وأنزل قوله تعالى: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، واللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وهذا كله في حقِّ من قيَّده بصفات الكمال. وأنزل الله من الشرائع قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، ووَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، وتَجْرِي بِأَعْيُنِنَا، ولَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا، فعمَّت الشرائع أمزجة العالم. ولا يخلو المعتقِد من أحد هذه الأقسام. والكامل المزاج هو الذي يعمُّ هذه الاعتقادات، ويعلم مصادرها ومواردها، ولا يغيب عنه منها شيء.»١٣
وهكذا تبدو المعضلة معضلةً معرفية في المحل الأول. وجمعُ الشريعة بين التنزيه والتشبيه ليس مجرد حِليةٍ لاقتناص قوة الفكر البشري وتوظيفِها في حل هذه المعضلة كما تصور المتكلمون.١٤ بل إن هذا الجمع انعكاسٌ لمعضلة المعرفة نفسها، وهي معضلة قائمة في موضوع المعرفة نفسه؛ لأنه لا ينضبط ولا يتقيد ولا ينحصر، فالحصر والتقييد قائمان في الذوات العارفة وفي مراتب العارفين. إن ما نعرفه ليس في النهاية سوى معرفتنا بأنفسنا؛ بمعنى أننا لا ندرك من الحقيقة إلا الجانب الذي ندركه من أنفسنا؛ وذلك على أساس أننا لسنا إلا مَجالٍ مختلفةً لهذه الحقيقة. والعارف الكامل المحقق هو الذي يدرك الحقيقة في تجلياتها المختلفة وصورها المتعددة المتكثرة، مع التسليم بأن ما يدركه في هذه التجليات أو الصور ليست «الحقيقة» بألف ولام العهد، بل هي صورة من صورها وبُعدًا من أبعادها، ولذلك تتجلى هذه الجوانب المختلفة للحقيقة في الاعتقادات والمِلَل المختلفة، حيث تُرَكِّز كل عقيدة أو ملة على الجانب الذي يدركه أصحابها من هذه الحقيقة. وهذا الجانب هو ما يطلِق عليه ابن عربي «الإله المجهول في المعتقدات»؛١٥ مفرقًا بينه وبين «الله» بألف ولام العهد، وهو المعبود على الحقيقة في كل ما يُعبَد، وهو الذي لا يحصره حد أو تقييد ولا تضبطه معرفة.
إن قلب الصوفي هو وحده القادر على إدراك تنوع الحقيقة في الصور المختلفة؛ مع ثباتها في عينها ووحدتها الذاتية؛ ولذلك فالصوفي يؤمن بكل العقائد، ويرى نسبتها من الحقيقة المطلقة؛ وذلك لأن مُعتقَده فوق كل الاعتقادات، ويسعها جميعًا: «الحق وإن كان واحدًا فالاعتقادات تنوِّعه وتفرِّقه، وتجمعه وتصوره وتصنعه، وهو نفسه لا يتبدل، وفي عينه لا يتحول، ولكن هكذا يُبْصره العضو الباصر في هذه المناظر، فيحصره الأين ويحُدُّه الانقلاب من عين إلى عين، فلا يحار فيه إلا النبيه، ولا يَتفطَّنُ إلى هذا التنبيه إلا مَن جمع بين التنزيه والتشبيه. وأما من نزَّه فقط أو من شبَّه فقط فهو صاحب غلظ. وهو كصورة خيال بين العقل والحس، وما للخيال محل إلا النفس؛ فإنها البرزخ الجامع للفجور والتقوى.»١٦
وعلى ذلك يجب التفرقة بين مراتب الأخبار الإلهية على أساس أنها تعبر عن مراتب مختلفة وتجليات متعددة للحقيقة الإلهية: «فإنه لكل خبر مرتبة ينزل ذلك الخبر فيها … فكن على بيِّنة من ربك، لم نقل: من عقلك؛ لأنه لا يُحيلك إلا على نفسه؛ لأنه خلقك له فلا يَعْدل بك عنه … وإذا تجلى لك في الشرع أبان لك عن التفاوت في مراتب العالم فتجلى لك في كل مرتبة، فقلِّد في ذلك الشرعَ حتى يُكشف لك، فترى الأمور على صورة ما أنت به، فقلَّدت ربك فرأيته مشبَّهًا ومنزَّهًا، فجمعت وفرَّقت، ونزَّهت وشبَّهت، وكل ذلك لأنه تجلٍّ إلهي في المراتب.»١٧

(١-١) التنزيه والتشبيه (البُعد الوجودي)

إن معضلة التنزيه والتشبيه في جانبها المعرفي ترتدُّ إلى أصل وجودي في علاقة الله بالعالم. ومن الضروري الإشارة إلى أن التشبيه الذي يعبر عنه القرآن، والذي يرى ابن عربي ضرورةَ الجمع بينه وبين التنزيه؛ ليس هو تشبُّهَ الله بالخلق أو مشابهتَه للبشر كما اعتقد المشبِّهة والمنزِّهة، بل التشبيه يعني وجود العالم والإنسان على صورة الله. ومعنى ذلك أن المشابهة تقوم على أوَّلية الله، وهي أوَّلية يعبر عنها ابن عربي بقوله: «إن الحق المنزه هو الخلق المشبَّه.»١٨ وهذه العبارة يشرحها العطار على الوجه التالي: «وقوله: إن الحق المنزَّه يعني الصورة الإلهية التي هي مجموع الأسماء والصفات القدسية، لا ذات الحق الأحدية؛ فإنه لا كلام فيها هنا أبدًا ولا تعرُّضَ إليها بحال في هذا العلم. وقوله: عين الخلق المشبه؛ يعني أن الخلق الذي صفاتُه سِمات الحدوث والتشبيه تمامه ومجموعه مطابِق للصورة الأسمائية الإلهية من حيث الجمع الكمالي. فما خرج شيء من العالم إلا وله مظهر ولو ذرَّة من ذرات الأكوان، وأن هذا المجموع الكوني من حيث إنه مظاهر الأسماء والصفات طِبْق المجموع الأسمائي والصفاتي الصورةُ الإلهية الظاهرة بالمظاهر، فالكلُّ إنْ حقيقةٌ إلهية أو كونية ما خرج عن أن يكون اسمًا إلهيًّا، فكان الحق المنزه هو الخلق المشبه. فمن نظر إلى هذا المجموع الكوني فقد نظر إلى المجموع الأسمائي الإلهي. ومن فاته شيء من الأكوان فقد فاته شيء بقَدْرِه من أفراد الصورة الإلهية، فالنظر إلى الكل جملة أو تفصيلًا نظر للآخر كذلك. فتطابق الصورتان بلا مِرْية، فالعالم بتمامه هو النسخة الإلهية، فلهذا أحال تعالى معرفة ذاته من حيث ألوهيته على العالم؛ قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وقال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، وقال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ١٩
وهذه العلاقة بين الله والعالم وإن قامت على المشابهة، فإنها مشابهة العالم لله، لا مشابهة الله للعالم. وهذه العلاقة تقوم — من جانب آخر — على أوَّليَّة الله؛ بمعنى أن هذه العلاقة يمكن أن تماثل علاقة الجوهر بالأعراض والصور المختلفة. وهذه العلاقة تفترض أولية التنزيه على التشبيه، والشرع على العقل؛ لأن الشرع — كما سبقت الإشارة — جاء بالتنزيه الذي لا يستطيعه العقل: «فإن أردتَ السلامة فاعبد ربًّا وصف نفسه بما وصف ونفى التشبيه، وأثبت الحكم كما هو الأمر عليه؛ لأن الجوهر ما هو عين الصورة، فلا حكم التشبيه عليه، ولهذا قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لعدم المشابهة، فإن الحقائق ترمي بها، وهو السميع البصير إثباتًا للصورة؛ لأنه فصل حي، فمن لم يعلم ربَّه من خبره عن نفسه فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا. وأدنى درجته أن يكون مؤمنًا بالخبر في صفاته كما آمن أنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وكلا الحكمين حقٌّ نظرًا عقليًّا وقَبولًا، والله يقول: إنه بكل شيء محيط وعلى كل شيء حفيظ. أتراه يحيط به وهو خارج عنه؟ ويحفظ عليه وجوده من غير نسبةٍ إليه؟ فقد تداخلت الأمور واتحدت الأحكام وتميزت الأعيان، فقيل مِن وجه: هذا ليس هذا؛ عن زيد وعمرو، وقيل مِن وجهٍ: هذا عين هذا؛ عن زيد وعمرو، وإنهما إنسان، كذلك نقول في العالم من حيث جوهره ومن حيث صورته كما قال الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يعني هذا الذي ليس كمثله شيء، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وحكم السمع ما هو حكم البصر، ففصل ووصل، وما انفصل ولا اتصل.»٢٠
إن علاقة الجوهر بالصور تمثيلًا لعلاقة الله بالعالم تؤكِّد أن المشابهة — في نظر ابن عربي — هي مشابهة العالم والإنسان لله، فالعالم ليس إلا ظلًّا للوجود الحق؛ «لأنه ما ثَم موجودٌ لا يغيب له عينٌ ولا يحصره أينٌ إلا الله، فجميع الصور الحسية والمعنوية مظاهره، فهو الناطق من كل صورة لا في كل صورة، وهو المنظور بكل عين، وهو المسموع بكل سمع. وهو الذي لم يُسمع له كلام فيُعقَل، ولا نظَر إليه بصرٌ فيُحد، ولا كان له مظهر فيتقيَّد، فالهو له لازم لا إله إلا هو العزيز الحكيم … فعِلم الدليل ينفيه إذ لم يكن بيده منه ولا له تعلُّق بسوى صفات السلب والتنزيه، وعلم الكشف يُثبته ويُبقيه، ولا يبدو له مظهر إلا ويراه فيه، والعلمان صحيحان، فهو لكل قوة مدرِكة بحسبها.»٢١
وعلى هذا يرى ابن عربي أن أعلى تفسير لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «أي: ليس في الوجود شيء يماثل الحق أو هو مثلٌ للحق؛ إذ الوجود ليس غير عين الحق، فما في الوجود شيء سواه يكون مثلًا له أو خلافًا، هذا ما لا يُتصوَّر. فإن قلت: فهذه الكثرة المشهودة، قلنا: هي نِسَب وأحكام استعدادات الممكنات في عين الوجود الحق، والنسب ليست أعيانًا ولا أشياء، وإنما هي أمور عدمية بالنظر إلى حقائق النسب. فإذا لم يكن في الوجود شيء سواه فليس مثله شيء؛ لأنه ما ليس له مثل، فافهمْ وتحقق ما أشرنا إليه، فإن أعيان الممكنات ما استفادت إلا الوجود، والوجود ليس غير عين الحق؛ لأنه يستحيل أن يكون أمرًا زائدًا، ليس الحق، لما يعطيه الدليل الواضح. فما ظهر في الوجود بالوجود إلا الحق، فالوجود الحق وهو واحد، فليس ثَم شيء هو له مثل؛ لأنه لا يصح أن يكون ثَم وجودان مختلفان أو متماثلان، فالجمع على الحقيقة كما قررناه أن تجمع الوجود عليه، فيكون هو عين الوجود.»٢٢

مثل هذا التصور لا بد أن يردَّ كل شيء إلى الله، وينفي كل شيء عن العالم. وإذا كانت معضلة التشبيه قائمة على أساس مشابهة العالم والإنسان لله، فمن الطبيعي أن تكون الأسماء كلها لله بالحقيقة والأصالة، تستوي في ذلك أسماء التنزيه والتشبيه التي وردت في القرآن. وهذه الأسماء اكتسبها الخلق بالإعارة والإضافة لا بالحقيقة والاستحقاق. ويتسق مثل هذا التصور تمامًا مع ما سبقت الإشارة إليه في الفصل السابق من أن اللغة ذات أصل إلهي، كما أنه يتسق — من جانب آخر — مع رفض ابن عربي لتأويلات المتكلمين؛ لأن تأويلاتهم كلها قائمة على أساس نفي مشابهة للبشر. وهذا التصور — من جانب ثالث — يحل ثنائية المحكم والمتشابه على أساس أن المتشابه هو في حقيقته محكم في حق الله. ويكون معنى اتِّباع المتشابه هو الميل به إلى جانب الخلق والعالم، وهذا الميل هو الذي يؤدي إلى الزيغ والضلال.

(٢) ثنائية المحكم والمتشابه

إن الإنسان الكامل صاحب المعرفة القلبية هو وحده القادر على إدراك الحقيقة في ثباتها وتنوعها، ووحدتها وكثرتها؛ وذلك لأنه على صورة الحق، وهو بذلك يجمع بين وحدة الحق (الروح) وكثرة الصور (الجسد)، ولذلك فهو المختصر الجامع، والبرزخ بين الله والعالم. وهو من حيث برزخيته له وجهان: وجه إلى الحق ووجه إلى العالم، فهو قادر على الجمع بين المتقابلات، فيدرك الوحدة في الكثرة، والثبات في التنوع، والجوهر الواحد في الصور الكثيرة. وهو أيضًا قادر على إدراك وحدة المحكم والمتشابه والجمع بين التنزيه والتشبيه دون حاجة إلى تأويل.

أما الإنسان العادي، أو الإنسان الحيوان، فعليه أن يقنع بالتسليم بما جاء به الشرع دون محاولة للتأويل أو إعمال العقل حتى لا يزيغ؛ يكفيه أن يقلد الشرع فيلزم جانب الأمان من الزيغ والضلال: «وأما العلم النافع في ذلك أن نقول: كما أنه سبحانه لا يشبه شيئًا كذلك لا تشبهه الأشياء. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على نفي التشبيه وإثبات التنزيه من طريق المعنى. وما بقي الأمر إلا في إطلاق اللفظ عليه سبحانه الذي أباح لنا إطلاقه عليه في القرآن أو على لسان رسوله. فأما إطلاقه عليه فلا يخلو إمَّا ان يكون العبد مأمورًا بذلك الإطلاق فيكون إطلاقه طاعةً فرضًا، ويكون المتلفظ به مأجورًا مطيعًا، مثل قوله في تكبيرة الإحرام: الله أكبر، وهي لفظة وزنها يقتضي المفاضلة، وهو سبحانه لا يُفاضَل. وإمَّا أن يكون مخيَّرًا فيكون بحسب ما يقصده المتلفِّظ وبحسب حكم الله فيه. وإذا أطلقناه فلا يخلو الإنسان إمَّا أن يطلقه ويصحب في نفسه في ذلك الإطلاق المعنى المفهومَ منه في الوضع بذلك اللسان، أو لا يطلقه إلا تعبدًا شرعيًّا على مراد الله فيه، من غير أن يتصور المعنى الذي وُضع له في ذلك اللسان؛ كالفارسي الذي لا يعلم اللسان العربي وهو يقرأ القرآن ولا يعقل معناه وله أجر التلاوة، كذلك العربي فيما تشابه من القرآن والسنة يتلوه أو يذكر ربه به تعبدًا شرعيًّا على مراد الله فيه، من غير ميل إلى جانب بعينه مخصَّص، فإن التنزيه ونفي التشبيه يطلبه إن وقف بوهمه عند التلاوة لهذه الآيات. فالأسلم في حق العبد أن يَرُدَّ علم ذلك إلى الله في إرادته إطلاق تلك الألفاظ عليه؛ إلا إنْ أطلعه الله على ذلك، وما المراد بتلك الألفاظ من نبي أو ولي مُحدَّث مُلهَم على بينة من ربه فيما يُلهَم فيه أو يُحدَّث، فذلك مباح له، بل واجب عليه أن يعتقد منه ذلك الذي أخبر به في إلهامه أو حديثه. وليعلم أن الآيات المتشابهات إنما نزلت ابتلاءً من الله لعباده، ثم بالغ سبحانه في نصيحة عباده في ذلك، ونهاهم أن يتَّبعوا المتشابه بالحكم، أي: لا يحكم عليه بشيء، فإن تأويله لا يعلمه إلا الله. وأما الراسخون في العلم إنْ علموه فبإعلام الله لا بفكرهم واجتهادهم، فإن الأمر أعظم من أن تستقلَّ العقول بإدراكه من غير إخبار إلهي، فالتسليم أولى والحمد لله رب العالمين.»٢٣

إن المتشابه في حقيقته محكم، ويجب ألا تُفهَم الأسماء الإلهية التي توهم التشابه بين الله وخلقه في إطار البُعد الوضعي الاصطلاحي للغة، بل يجب على المؤمن أن يؤمن بهذه الأسماء ويتلوها دون استصحاب معانيها الوضعية في نفسه، فيكون كالفارسي الذي يقرأ القرآن تعبُّدًا دون أن يفهمه؛ لأن فهم المعاني الحقيقية الباطنة لهذه الأسماء لا يكون إلا لأهل الله الذين يدركون البُعد الإلهي للغة. ومثال الفارسي الذي يقرأ القرآن دون فَهْم يستدعي إلى الذهن الصورة المشابهة للإنسان العربي — العادي الذي لا يفهم كلمات الوجود، فيكون كالفارسي الذي لا يدرك معنى هذه الكلمات الوجودية سوى أصواتها مجردةً عن أي دلالة، والإنسان الكامل وحده هو الذي يفهم اللغة الإلهية، ويفهم دلالة كلمات الله الوجودية واللفظية على السواء.

ولعل في ذلك ما يفسِّر موقف ابن عربي من التأويل والمؤوِّلة خاصة المعتزلة، فهو يرفض التأويل القائم على أساس الفكر والعقل والقياس من جهة، وعلى أساس الإيمان بوضعية اللغة واصطلاحية دلالتها من جهة أخرى. وفي هذا الضوء يمكن أن نفهم إصرار ابن عربي الدائب على أن عقيدة المؤمن — يعني المؤمن العادي — يجب أن تؤخذ من القرآن الذي يدل بظاهره دون حاجة لتأويلات المتكلمين ومجادلاتهم وخلافاتهم: «ففي القرآن العزيز للعاقل غُنية كبيرة، ولصاحب الدَّاء العضال دواءٌ وشفاء؛ كما قال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ومَقنعٌ شافٍ لِمن عزم على طريق النجاة ورغب في سمو الدرجات، وترك العلوم التي تورِد عليه الشُّبَه والشكوك، فيضيع الوقت ويخاف المقت، إذ المُنتحل لتلك الطريقة قلَّما ينجو من التشغيب، أو يشتغل برياضة نفسه وتهذيبها، فإنه مستغرق الأوقات في إرداع الخصوم الذين لم يوجد لهم عين، ودفع شُبَه يمكن أنْ وقعت للخصم ويمكن أن لم تقع، فقد تقع وقد لا تقع، وإذا وقعت فسيف الشريعة أردع وأقطع.»٢٤
على المؤمن العادي أن يَقنَع بظاهر النص، وهو يدل على التنزيه والتشبيه معًا، وعليه أن يقنع بفَهم هذا الظاهر في إطار فهمه لِلُغته دون تشبيه، فالقرآن نزل للعامة بلغتهم: «ففيه ما في اللسان العربي. ولمَّا كانت الأعراب لا تعقل ما لا يُعقَل إلا حتى ينزل لها في التوصيل بما تعقله؛ لذلك جاءت هذه الكلمات على هذا الحد؛ كما قال: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. ولمَّا كانت الملوك عند العرب تُجْلِس عبدها المقرَّب المُكرَّم منها بهذا القدر في المساحة، فعقلت عن هذا الخطاب قُربَ محمد من ربه، ولا تبالي بما فهمت من ذلك سوى القرب.»٢٥
أما الصوفي العارف فهو يعرف المعنى الحقيقي الباطن وراء هذه الألفاظ والعبارات الموهمةِ التشبيه؛ وذلك بتخلية القلب والاستعداد للفهم عن الله؛ «وذلك بأن نُفْرِغ قلوبنا من النظر الفكري، ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيؤ لقَبول ما يَرِد علينا منه تعالى؛ حتى يكون الحق تعالى يتولى تعليمنا على الكشف والتحقيق.»٢٦ وبهذا الكشف يمكن للصوفي تأويلُ هذه الآيات تأويلًا يردُّها إلى أصلها في العلم الإلهي، والتأويل بهذا المعنى — من الأَوْل؛ وهو الرجوع — هو ردُّ الأشياء إلى أصولها وحقيقتها الباطنة.
إن تأويل ابن عربي للمتشابه يقوم على أساس مشابهة العالم والإنسان لله كما سبقت الإشارة. من هذا المنطلق تكون كل الصفات والأسماء التي تطلق على الله في القرآن أسماءً وصفاتٍ له في الحقيقة، ويكون تسمِّي العالم والإنسان ببعض هذه الأسماء تسميةً بالإعارة والإضافة، فالله هو الوجود الحق مصدر كل وجود، وليس وجود العالم والإنسان إلا وجودًا في هذا الوجود الحق. ويعتمد ابن عربي على حديث هام عند المتصوفة، هو قول الرسول: «كان الله ولا شيء معه»، ويرى ابن عربي أن آخر الحديث وهو «وهو الآن على ما عليه كان» قد أُدرج فيه للشرح والتوضيح؛ لأن «كان» فعل وجودي لا يدل على الزمان في هذا الحديث، فالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن، والعالم مجرد مَجلًى أو مرآة يتجلى فيها الحق فيظهر بصور الموجودات. وعلى ذلك فالعالم يكتسب أسماءه من أسماء الحق، وتكون هذه الأسماء مُعارةً للعالم أصيلة لله: «إن النعوت التي نعَت الحقُّ بها نفسه من المسمى أخبارَ التشبيه وآيات التشبيه على ما يزعُم علماء الرسوم، وأنه نزول إلهي رحمةً بالعباد ولطف إلهي، وهو عندنا نعت حقيقي لا ينبغي إلا لله، وإنه في العبد مستعار كسائر ما يتخلَّق به من أسمائه … إن هذه النعوت بحكم الأصالة لله، وما ظهرت في العبد الإلهي إلا لكونه خُلِق على الصورة من جميع الوجوه. ولمَّا عرف العارفون هذا ورأَوْا قوله تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ — وهذه النعوت الظاهرة في الأكوان التي يعتقِد فيها علماءُ الرسوم أنها حق للعبد من جملة الأمور التي ترجع إلى الله — تركوها لله لاستحيائهم من الله حق الحياء.»٢٧
إن الاستعارة في اللغة لم تَعُد تبدأ من لغة الإنسان للدلالة على المطلق، أو ما هو خارج عن الإنسان، بل الأحرى القول إنها تبدأ من لغة المطلق وتُستعار للتعبير عن العالم والإنسان. وليست اللغة الإنسانية إلا المستوى الظاهر المُدرَك لهذه اللغة الإلهية المطلقة. من هذا المنطلق يتأكد رفض ابن عربي الذي أشرنا إليه لوجود المجاز في القرآن، فكله حق وكلماته صدق. إن القضية هنا لا تناقَش في إطار الطرح القديم لمعضلة اللغة في التراث الإسلامي، ولكنها تُطرح من خلال منظور وجودي أشمل. «إن عين العبد لا تستحق شيئًا من حيث عينه لأنه ليس بحقٍّ أصلًا، والحق هو الذي يستحق ما يستحق، فجميع الأسماء التي في العالم ويُتخيَّل أنها حق للعبد حق لله، فإذا أضيفت إليه وسُمِّي بها على غير وجه الاستحقاق، كانت كفرًا وكان صاحبها كافرًا. قال الله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، فكفروا بالمجموع، هذا إذا كان الكفر شرعًا، فإن كان لغةً ولسانًا فهو إشارة إلى الأُمناء من عباد الله الذين علموا أن الاستحقاق بجميع الأسماء الواقعة في الكون الظاهرة الحكم إنما يستحقها الحق، والعبد يتخلَّق بها، وأنه ليس للعبد سوى عينه، ولا يقال في الشيء إنه يستحق عينه، فإن عينه هويَّتُه، فلا حق ولا استحقاق. وكل ما عرض أو وقع عليه اسم من الأسماء إنما وقع على الأعيان من كونها مظاهر، فما وقع اسم إلا على وجود الحق في الأعيان، والأعيان على أصلها لا استحقاق لها، فهذا شرح قوله: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ يشهد له بصدق هذه النسبة أنه عين بلا حكم، وكونه مظهرًا حكمًا لا عينًا، فالوجود لله، وما يوصف به من أية صفة كانت إنما المسمى بها هو مسمى الله، فافهم أنه ما ثَم مسمًّى وجودي إلا الله، فهو المسمى بكل اسم، والموصوف بكلِّ صفة، والمنعوت بكل نعت.»٢٨
إن للأسماء الإلهية — ولكل الأسماء في اللغة — في ظل هذا التصور جانبين: جانبًا مطلقًا من حيث إنها تدل على الوجود الحق وجود الله، وجانبًا نسبيًّا من حيث إنها تدل على الإنسان والعالم. والعلاقة بين هذين الجانبين هي علاقة الاشتراك، فالأسماء الإلهية تعيَّنت بظهور أعيان الموجودات بعد أن كانت باطنةً في الذات الإلهية، فالأعيان هي التي أظهرت الأسماء. والأسماء — من جانب آخر — هي التي توجهت على الموجودات فأظهرتْها من ثبوتها العدمي. إن علاقة الاشتراك بين الله والعالم تنعكس في اللغة، فتعبر اللغة في جانبها المطلق عن الله، وفي جانبها النسبي عن العالم والإنسان. من هذه الزاوية فمدلول الاسم من جانبه الإلهي المطلق غير محدود، ومدلوله من جانبه الإنساني النسبي محدود. إن التحديد هنا لا يقع في الاسم نفسه، وإنما يقع في المدلول. إن الأسماء من شيمتها الاشتراك، وهي تتحدد مِن ثَم طبقًا لمدلولها الذي تشير إليه، فاللفظ أو الاسم إذا أُطلق على الله لا يتحدد ولا يشتبه، والعكس يحدث إذا أُطلق نفس الاسم على الحادث كونًا كان أم إنسانًا. «وأسماؤه كلها لها الفردية، فإنها له نِسبٌ لا أعيان، فيأخذ الحد الاسم إذا دل على الحادث، ولا يأخذه الحدُّ إذا سميت به الله تعالى، فتحد اللفظ ولا تحد مدلولَه إلا إذا كان مدلوله حادثًا لا غير. ولا يلزم من الاشتراك في اللفظ الاشتراكُ في المعنى؛ لأن اللفظ لله لا له، وأنت مشترك فيك، فلهذا قيل اللفظ الاشتراك، ألَا ترى الألفاظ المشتركة كالمشتري ليس الاشتراك إلا في إطلاق الاسم، ولهذا يقع التفصيل إذا طولب بالحد صاحبُه، فيقال: أي مشترٍ تريد؟ المشتري الذي هو كوكب في السماء أو المشتري الذي هو عاقد للبيع؟ فإذا حدَّه تميز كل عين عن صاحبتها، فليس في اللفظ من ماهية المدلول شيء، فبهذا تقول في الحق: سميعٌ بصير، وله يد ويدان أو أيدٍ وأعين ورجل، وجميع ما أطلقه على نفسه مما لا يتمكن للعقل أن يطلقه عليه؛ لأنه لم يعلم ذلك الإطلاق إلا على المحدثات. ولولا الشرع والأخبار النبوية والإلهية ما جاءت بها، ما أطلقناها عقلًا عليه. ومع هذا فننفي التشبيه، ولا يتناول أمرًا بعينه لجهلنا بذاته، وإنما نفينا التشبيه لقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لا بما أعطاه الدليل العقلي حتى لا يحكم عليه إلا كلامه، وبهذا نحب أن نلقاه إذا لقيناه.»٢٩
إن علاقة الاشتراك بين جانبي الدلالة اللغوية في الألفاظ يمكن أن تحل ثنائية المحكم والمتشابه وثنائية التشبيه والتنزيه. ولكن علينا أن نكون على وعي بأن هذا الاشتراك يرتبط باللغة الإنسانية التي هي ظل وصورة للغة الإلهية التي حلَّلنا جوانبها المختلفة في الفصل السابق، وذلك على أساس أن الوحي نزل — في مستواه الظاهر — على مواصفات اللغة في بُعدها الإنساني. من هذا المنطلق يكون المحكم «من الأسرار التي يدركها عين الفهم»، بينما الآيات المتشابهة «تُدرَك بالتعريف لا بالتأويل».٣٠ بمعنى أن المحكم من الآيات هو ما يتعلق به الفهم الإنساني، بينما لا يستطيع العقل وحده فَهْم المتشابه؛ إذ يحتاج في فهمه للتعريف الإلهي.
إن للمتشابه وجهين: وجهًا إلى الحق، ووجهًا إلى الخلق؛ لأنه مشترك، وهذا هو سرُّ تشابهه وغموضه. وغاية المعرفة المرجوَّة لهذا المتشابه أن نعرف هذين الجانبين وألا نميل به — بالتأويل العقلي — إلى أحد جانبيه، فنُخْرجه عن تشابهه المقصود والمعنيِّ بنزوله: «ولولا البيان ما فصل بين المتشابه والمحكم ليعلم أن المتشابه لا يعلمه إلا الله، والمحكم يتعلق به علمنا. فلو لم ينزل المتشابه لنعلم أنه متشابه لكوننا نرى فيه وجهًا يشبه أن يكون وصفًا للمخلوق، ويشبه أن يكون وصفًا للخالق، فلا يعلم معنى المتشابه إلا الله، فلو لم ينزل المتشابه لم يعلم أن ثَم في علم الله ما يكون متشابهًا. وهذا غاية البيان؛ حيث أبان لنا أن ثَم ما يُعلَم وثَم ما لا يعلمه إلا الله، وقد يمكن أن يُعلمه الله من يشاء من خلقه بأي وجه شاء أن يعلمه.»٣١

إن المتشابه بهذا المعنى لا يعني الغامض الذي يقبل الوضوح بالجهد العقلي لتفسيره في ضوء المحكم، وإنما المتشابه بيان في ذاته، قُصِد به إبراز التشابه بين الله والعالم، وهو تشابه لا يعلمه إلا الله أو من يُعلمه الله من عباده سرَّ هذا التشابه. في هذا الإطار يصبح المحكم والمتشابه — كالتنزيه والتشبيه — وجهين لحقيقة واحدة، عبر عنها مرةً بالإثبات ومرة بالنفي، النفي يعني الإحكام والتنزيه، والإثبات يعني المتشابه والتشبيه. وغاية العلم بالمتشابه أن نعلم تشابهه؛ أي: أن نعلم وجهيه اللذين يدل عليهما، وبذلك يزول تشابهه ويصير محكمًا؛ أي: محكمًا في تعبيره عن التشابه والاشتراك.

إن المتشابه كالمحكم كلاهما يحتاج للفهم، ولا يحتاج المتشابه للتأويل. إن التأويل يعكس عند المتكلمين إحساسًا بثنائية العلاقة بين المحكم والمتشابه وتضادِّها في نفس الوقت، وهو إحساس عُبِّر عنه عندهم من خلال ثنائية الحقيقة والمجاز، حيث ربط المحكم بالحقيقة، وفُهم المتشابه في إطار المجاز على خلاف المتكلمين في تحديد المحكم وتحديد المتشابه.٣٢ واستخدموا التأويل سلاحًا لرفع هذا التناقض المتوهَّم. أما ابن عربي والمتصوفة فيكتفون بإدراك معنى المتشابه في المتشابهات، وهو كونها تدل على وجهين أو جانبين، ولا يميلون بالمتشابه — بالتأويل — إلى أحد جانبيه؛ إذ الميل إلى أحد الجانبين بالتأويل زَيْغٌ بنص القرآن، والزيغ ميل عن الحق الصراح: «ولهذا نُهينا عن اتباع المتشابه. وذكر أنه لا يتبعه إلا من في قلبه زيغ؛ أي: ميل عن الحق الصراح … فإن علمت أنه متشابه ولم تتعدَّ به حده، ولا أخرجته بميلك إليه ونظرك فيه عن المتشابه، فلا حرج عليك. وإنما الخوف والحذر أن تُلْحِقه أحد الطرفين، وما ذلك حقيقته، وإنما حقيقته أن يكون له وجهان؛ وجه إلى كل طرف، وجه إلى الحِلِّ، ووجه إلى الحُرمة. ويتعذر الفصل بين الوجهين وتخليصه إلى أحد الطرفين، فهو عند العارف من المحكم بهذا الوجه لتَميُّزه عن كل واحد من الطرفين. فإذا اتَّبعه اتباعَ من لا يُزيله عن حقيقته فما ثَم زيغ.»٣٣
إن التأويل المذموم الذي نصَّت عليه الآية القرآنية والذي يستهدفه الذين في قلوبهم زيغ؛ هو محاولة رد المتشابه إلى أحد وجهيه وإغفالُ الوجه الآخر. والتأويل الحقيقي غير المذموم هو العلم بدلالة هذا المتشابه وتشابهه، وهو التأويل الذي يرده محكمًا. وإذا كانت الآية تنفي العلم بالتأويل عن غير الله، فإنها تنسُب للراسخين في العلم الإيمانَ بهذا المتشابه والتسليمَ بأنه — مثل المحكم — من عند الله. إن الراسخين في العلم — في تفسير ابن عربي — هم العارفون الذين تلقَّوا علمهم عن الله، ومن هذا العلم يعلمون مآل المتشابه أو تأويله، لا بالمعنى المذموم الذي نصَّت عليه الآية، بل بمعنى أنه يرجع إلى وجهيه اللذين يدل عليهما، وبذلك يصير في حكم المحكم: «أخبر الحق أنه لا يتبِع المتشابه من الكتاب ويتأوَّله على ما يعطيه نظرُه إلا من في قلبه زيغ؛ أي: ميل عن الحق. وأخبر أنه ما يعلم تأويله إلا الله، وأن الراسخين في العلم يقولون: آمنَّا به كل من عند ربنا. ومن جعله معطوفًا فيكون الراسخون في العلم مَن أَعلمَهم الله بتأويل ما أراد بذلك.»٣٤
وهكذا يخرج ابن عربي من مأزق العطف والاستئناف في الآية؛ إذ يرى أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله فعلًا، ولا يعلمه أحد بعقله ونظره، وهذا يتفق مع قراءة الآية على الوقف والاستئناف. وهو يرى — من جانب آخر — أن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه بتعليم الله، وهذا يتفق مع قراءة الآية على الوصل والعطف. ويفهم ابن عربي التأويل هنا فَهمًا خاصًّا يتباعد به عن وقوع الذم عليه، فالتأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم بتعليم الله «هو ما يؤوَّل إليه حكم هذا المتشابه، فهو محكم غير متشابه عند من يعلم تأويله، وليس إلا الله. والراسخ في العلم يقول: آمنَّا به كل من عند ربنا، يعني متشابهَه ومحكَمَه. فإذا أشهده الله مآله فهو عنده محكم، وزال عنه في حق هذا العالِم التشابه، فهو عنده كما هو عند الله من ذلك الوجه. وهو عنده أيضًا متشابه لصلاحيته إلى الطرفين من غير تخليص، كما هو في نفس الأمر بحكم الوضع المصطلح عليه، فهو وإن عُرِف تأويله فلم يزُل عن حكمه متشابهًا، فغايةُ علم العالم الذي أعلمه بما يئول إليه علمُه بالوجه الواحد لا بالوجهين، فهو على الحقيقة ما زال عن كونه متشابهًا؛ لأن الوجه الآخر يطلبه بما يدل عليه ويتضمنه كما طلبه الوجه الذي أعلم الله به هذا الشخص.»٣٥

ليس التأويل بهذا المعنى — كما هو عند المتكلمين — سلاحًا لرفع تناقض متوهَّم بين آيات القرآن، فالتناقض لا وجود له في القرآن، بل هو قائم في الفكر البشري الذي لا يرى من الحقيقة سوى بُعدٍ واحد من أبعادها. التأويل عند ابن عربي هو معرفة مآل الشيء وحقيقته، وهو أصله الذي منه بدأ وإليه يعود. التأويل — على مستوى الوجود — هو النفاذ من الظاهر الحسي إلى الباطن الروحي، والتأويل — على مستوى النص — هو تجاوز إطار اللغة العرفية الإنسانية في محدوديتها واصطلاحيتها إلى إطار اللغة الإلهية في إطلاقها ودلالتها الذاتية. ولا يعني التأويل بهذا المعنى تجاوز الظاهر وإنكاره، بل يعني البدْءَ به لأنه غطاء الباطن وقشرته ومظهره.

إن علاقة الظاهر بالباطن لا تقوم على التناقض والتضاد، بل تقوم على التفاعل والتداخل. وعلى ذلك فتأويل المتشابه هو فك أسراره وحلُّ رموزه وإدراك وجهَي دلالته واشتراكه بين الحق والخلق؛ وذلك من خلال تجربة الصوفي التي تبدأ — على مستوى الوجود والنص معًا — من الظاهر: «فمن أراد أن يعلم ذلك فلا يخُض في تلك الأسرار، ولْيتعمَّل في الطريق الموصلة إلى الله، وهو العمل بما شرع الله له بالتقوى، فإن قال تعالى إنه يتيح لصاحبه علم فرقان، فإذا عمِل به تولَّى الله تعليمَه تلك الأسرارَ الأعجمية. فإذا أنالها إياه صارت عربيةً في حقه، فيعلم ما أراد الله بها، ويزول عنه فيها حكمُ التشابه الذي كانت توصف به قبل العلم بها؛ لأن الله جلاها متشابهةً لها طرفان في الشبه، فلا يدري صاحب النظر ما أراد منزِّلًا بها في ذلك التشابه، فإنه لا بد من تخليصه إلى أحد الطرفين من وجه خاص. وإن جمعت بين الطرفين، فلكل طرف منهما ما ليس للآخر من ذلك المخلوق أو من ذلك المُنزِل إن كان من صور كلام الله.»٣٦

إن تعبير ابن عربي عن المتشابه بالأسرار الأعجمية التي تزول عنها العُجمة في حق الصوفي وتصير عربية؛ يذكرنا بحديثه عن معنى الكلام الوجودي الذي لا يفهمه غير العارف، ويكون إزاء كالفارسي الذي لا يفهم العربية. ويذكرنا — من جانب آخر — بنصيحته للإنسان العادي أن يقرأ الآيات المتشابهات دون أن يصحب في نفسه معاني ألفاظها في العرف واللسان، فيكون كالفارسي الذي يتلو القرآن تعبُّدًا دون أن يفهم معانيه. والعارف وحده هو القادر على فهم معنى الكلام الوجودي الذي يُفهم النص في إطاره ومن خلال دلالته. ولعل في كل ذلك ما يكفي للدلالة على أن مفهوم التأويل عند ابن عربي معناه ردُّ الشيء إلى أصله وباطنه على مستوى الوجود، ورد معنى كلمات الله اللفظية إلى معانيها الوجودية، فالتأويل مأخوذ عنده بالمعنى اللغوي القديم لا المعنى الاصطلاحي المتأخر، كما أشرنا في التمهيد.

إن ثنائيتَي المحكم والمتشابه والتنزيه والتشبيه ليستا سوى انعكاس للثنائية الأساسية في فكر ابن عربي، وهي ثنائية الذات الإلهية والعالم. وإذا كانت الألوهة هي الوسيط الذي يتوسط جانبي هذه الثنائية الأصلية، فإن التأويل — على أساس الاشتراك اللفظي — هو الذي يتوسَّط بين ثنائيتي المحكم والمتشابه والتنزيه والتشبيه، وهذا هو مقام الجمع. أما في مقام التفرقة، فالتنزيه ينصبُّ على الذات الإلهية، والتشبيه ينصب على العالم، وكذلك المحكم هو «ما يخلُص لك أولُه، والمتشابه ممتزج، فنسب الزيغ لمن يتبع المتشابه، وهو الميل به إلى الوجه الذي فيه التشابه … ولا يُعلم علم المتشابه إلا من العين والحق.»٣٧
وإذا كان التنزيه يتعلق بالذات والتشبيه يتعلق بالعالم، فليس العالم سوى ظهور الأسماء الإلهية. من هنا يتعلق التشبيه بالألوهة وحقائقها وأسمائها: «طهارة الحضرة الإلهية من حيث ذاتها تنزيه، وطهارتها من حيث أسماؤها تشبيه.»٣٨ وعلى هذا الأساس تنقسم الأسماء في القرآن إلى أسماء تنزيه وأسماء تشبيه؛ «فالأسماء التي تطلب التنزيه هي الأسماء التي تطلب الذات لذاتها، والأسماء التي تطلب التشبيه هي الأسماء التي تطلب الذات لكونها إلهًا، فأسماء التنزيه كالغني والأحد وما يصح أن ينفرد به، وأسماء التشبيه كالرحيم والغفور وكلِّ ما يمكن أن يتصف به العبد حقيقةً من حيث ما هو مظهر لا من حيث عينه؛ لأنه لو اتصف من حيث عينه لكان له الغنى، ولا غنَى له أصلًا. فإذا اتَّصفت هذه الأعيان التي هي المظاهر بمثل الغنى وتسمَّت بالغني، فيكون معنى ذلك الغنى بالله عن غيرها من الأعيان، لا أن العين غني بذاته. وكذا كل اسم تنزيه فلها هذه الأسماء من حيث ما هي مظاهر.»٣٩

(٣) التأويل بين التنزيه والتشبيه والإحكام والتشابه

إن التنزيه لا يخلص خلوصًا تامًّا، بل يظل مرتبطًا بالتشبيه بنوع ما من الارتباط والتداخل. ويتجلى الاشتراك والاختلاط بين جانبي التنزيه والتشبيه في أشد آيات القرآن تعبيرًا عن الإحكام والتنزيه؛ وهي قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ كما يتجلى في آيات سورة الإخلاص كلها، والتي تعبِّر — في نظر ابن عربي — عن نَسَب الرب؛ وذلك استنادًا إلى سبب نزولها، وهو سؤال اليهود لمحمد وطلبهم منه أن ينسُب لهم ربه.

أما قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو منتهى ما بلغه الشرع في التنزيه،٤٠ فهو يعتمد على النفي نفيِ المثلية عن الله تعالى. وآخر الآية وهو قوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فهي تتضمن الإثبات إثباتَ صفتي السمع والبصر. النفي: تنزيه، والإثبات: تشبيه، «والآية تقتضي عموم الإثبات في عين النفي»،٤١ أي: إنها تتضمن التشبيه في عين التنزيه. لقد وقف المتكلمون — خاصة المعتزلة — عند الجزء الأول من الآية مستدلين به على الإحكام والتنزيه، ولكن ابن عربي جمع بين جزأي الآية فوجد التنزيه في التشبيه والتشبيهَ في التنزيه. وإذا كان المفسرون قد أجمعوا تقريبًا على أن الكاف في «كمثله» زائدة للتأكيد، أي: لتأكيد نفي المماثلة، كما يرون أن كلمة «مثل» لا تعني وجود المثل، وإنما جرى التعبير في الآية على أسلوب العرب في كلامها كقول القائل: «مثلك لا يفعل كذا» أي: أنت لا تفعل، فإن ابن عربي يرى أن الكاف ليست زائدة، بل هي كاف الصفة والتشبيه، ويرى أيضًا أن المثلية موجودة في الإنسان الكامل الذي هو على صورة الحق، ويكون معنى الآية على هذا: ليس مثلُ مثلِه شيء، أي: ليس مثل الإنسان الكامل شيء يماثله.٤٢
ومع التسليم بزيادة الكاف «فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ — على زيادة الكاف — رفع للمناسبة الكيفية، وتمام الآية، وهو السميع البصير، إثبات للمناسبة، والآية واحدة والكلمات مختلفة، فلا نعدل عن هذه المحجة، فهي أقوى حُجة، وهي ما ذهبنا إليه من تقليد الحق، فإنه طريق العلم والنجاة في الدنيا والآخرة.»٤٣
وإذا كان الشرع قد جاء بالتشبيه والتنزيه في آية واحدة، فلا بد من اتباع الشرع في الجمع بينهما دون ميل إلى أحد الجانبين وإهمال للجانب الآخر؛ «لأن الكل من عند الله؛ قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وقال تعالى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فنزَّه تعالى نفسه وشبَّه، فالوقوف عند أحدهما تنزيهًا أو تشبيهًا تحديدٌ وتقييد، والقول بهما عملٌ بما أنزل الله تعالى، وإن المؤوِّل لأجل التنزيه إمَّا جاهل أو غافل قليل الأدب، حيث أرجع الشيء إلى غير ما ذكر الله وأخبر به عن نفسه. ولكن لا بد، والحالة هذه، من الاعتراف بجهل النسبة كما أسلفناه، فننسُب إليه تعالى كل ما نسبه إلى نفسه من غير تأويل، ونَكِلُ علم نسبة ذلك إليه تعالى لا غير. وهذا كله مأخوذ من الأسرار القرآنية والأحاديث النبوية.»٤٤
قد يقف ابن عربي أحيانًا إلى جانب التنزيه ويرفض التشبيه، ولكن علينا أن نلاحظ دائمًا سياقَ مثلِ هذا الموقف. إن التركيز على جانب التنزيه دون التشبيه في كتابات ابن عربي إنما يكون في إحدى حالتين: في مواجهة المشبِّهة الذين يحددون الله تحديدًا غليظًا، أو في سياق توجيه النصح للمريد في أول طريقه: «وأمَّا تنزيهه فهو آكَدُ عليك من أجل المشبِّهة والمجسِّمة؛ فإنهم ظاهرون في هذا الزمان، فاعقِدْ يا أخي على قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وحسْبُك هذا، فكل وصف يناقض هذه الآية فهو مردود إلى ما يليق بهذه. ولا تَزِدْ ولا تَبْرَح عن هذا الموطن. وكذلك جاء في السُّنة: كان الله ولا شيء معه. وزاد العلماء: وهو الآن على ما عليه كان. فلم يرجع إليه سبحانه من خلق العالم وصفٌ لم يكن عليه ولا عالم موجود، فاعتقِدْ فيه من التنزيه مع وجود العالم ما تعتقده ولا عالم ولا عرش ولا شيء سواه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا. وكل آية أو حديث عن النبي يوهم التشبيه بما يعطيه ابتداءً كلام العرب أو كلام من أُنزِل عليه شيء من ذلك التبليغ والتوصيل، فيجب عليك الإيمان به على حدِّ ما يعلمه الله وما أنزله، لا على ما تتوهمه، واصرِفْ علم ذلك إلى الله. وما بعد: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ما ينزهه به منزِّه؛ إذ قد نزَّه نفسه بأنزهِ ما ينبغي له.»٤٥
إن التركيز على جانب التنزيه في هذا السياق متوجِّهٌ للمريد في أول سلوكه الطريق، إنه نصيحة يتسلَّح بها حتى لا يقع في شُبهة التجسيد والتحديد؛ وذلك حتى يُفتح له باب العلم الإلهي، فيفهم مراد الله من آياته المتشابهات عن الله بدلَ أن يفهمها عن وهمه ومن خلال مواصفات اللغة. إن التنزيه الخالص هو عصمة المريد حتى لا يقع في التأويل العقلي، وهو نوع من التجسيد فيما يرى ابن عربي: «فإن التنزيه له درجات في العقل ما دونه تنزيهٌ بتشبيه، وأعلاه عند العقل تنزيهٌ بغير تشبيه، ولا سبيل لمخلوق إليه إلا برد العلم فيه إلى الله تعالى. والتنزيه بغير تشبيه وردت به الشريعة أيضًا وما وجد في العقل، فغاية النظر العقلي في تنزيه الحق مثلًا عن الاستواء أنه انتقل عن شرح الاستواء الجسماني عن العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالاستواء السلطاني الحادث.»٤٦
ويميل ابن عربي في مواجهة المشبهة والظاهرية إلى التركيز على جانب التنزيه. يتضح ذلك وضوحًا كافيًا في رسالة صغيرة له بعنوان: «كتاب رد معاني الآيات المتشابهات إلى معاني الآيات المحكمات»؛ حيث يقول في أوله: «سألتَني، أرشدني الله وإيَّاك، عن أمرٍ عظُم في هذا الزمان خَطبُه، وعمَّ ضرره، وهو ما تظاهر به بعض المبتدعة المنتسبين إلى الحديث والفقه، وأشاعه في العامة والخاصة من اعتقاد ظواهر الآيات المتشابهة في أسمائه تعالى وصفاته من غير تعرُّض لصرفها عمَّا يوهم التشبيه والتجسيم، ويزعم أنه في ذلك متمسك بالكتاب وماشٍ في طريقة السلف الصالح، ويشنِّع على من تعرَّض إلى شيء منها بتأويل أو صرَفه عن ظاهره بدليل، وينسبه في ذلك إلى مخالفة الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين؛ لكونهم ما نُقل عنهم التعرض لشيء من ذلك. وقد ضلَّ وأضلَّ كثيرًا، وما يضلُّ به إلا من هو قاصر الفهم ضعيف النور.»٤٧
ومن الواضح أن ابن عربي مشغول بالرد على الظاهرية الذين يرفضون أي فهم للنصوص يتجاوز مدلولها اللغوي المباشر. ومن الطبيعي أن نتوقع من ابن عربي تحقيقًا لهذا الهدف أن يميل إلى جانب التنزيه منكرًا التشبيه. ومع ذلك فالرسالة لا تخلو من إشارات صوفية متناثرة هنا وهناك، تتفق إلى حد كبير مع تأويلات ابن عربي التي نجدها في كتبه ورسائله الأخرى: «وليس المقصود ذكر البراهين التي هي مدونة في الكتب الكلامية، وإنما المقصود رد المتشابه إلى المحكم على القواعد اللغوية، وتلويحات وتصريحات من الكتاب والسنة.»٤٨
وعلى ذلك يستخدم ابن عربي في تأويله للآيات المتشابهة في هذه الرسالة بعض وسائل التأويل البلاغية؛ كالمثل والمجاز والاستعارة، وذلك رغم إنكاره الذي أشرنا إليه لوجود المجاز في القرآن؛ يستخدم مصطلح «المثل» في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، وكذلك في تأويل الحديث القدسي: «فإن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا … الحديث.» يقول: «وإنما المراد تمثيل التقريب لدنو الذاكر من المذكور في مجالس النجوى والذكر، وتجلِّي سر معية القلب.»٤٩ أما الدنو في الآية فهو «دنو تجلٍّ وكشف؛ لأنه ذكره في قصة الإسراء بالروح … ثم دنا عن الأفق الأعلى في نعيم الرؤية وفي بيان الحق.»٥٠
ويستخدم مصطلح «المجاز» في تأويل قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ «أي: بواسطة مظاهره الجسمانية، وهي أصوات العباد وحروفهم، وإطلاق كونه سامعًا لكلام الله بذلك مجاز؛ لِمَا قدمناه أن المظاهر الجسمانية ليست منسوبة إلى الله تعالى لغةً ولا شرعًا.»٥١ ومن المهم أن نلاحظ أن ابن عربي لا يُؤوِّل كلام الله على أنه مجاز على طريقة المعتزلة، بل يؤوِّل التلاوة الصادرة عن الإنسان لكلامه تعالى ونسبتها إلى الله. ويرى ابن عربي أن المتكلم على الحقيقة هو الله من خلال المظاهر الجسمانية الحسية، وإنما وقع المجاز في نسبة هذه المظاهر إليه.
المثال الآخر الذي يستخدم ابن عربي في تأويله مصطلح المجاز هو قوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا: «وأما نسبة العين إليه سبحانه فهي اسم لآياته المبصرة، فنسب البصرَ للآيات على سبيل المجاز تحقيقًا؛ لأنها المراد بالعين المنسوبة إليه. وقال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمن أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمن عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وعلى هذا ينزل قوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا؛ أي: بآياتنا تنظر بها إلينا وننظر بها إليك. ويؤيد أن المراد بالأعين هنا الآيات كونُه علَّل بها للصبر لحكم ربه، وعلَّله بآيات القرآن صريحًا في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وقال تعالى في سفينة نوح : تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أي: بآياتنا؛ بدليل قوله تعالى: ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، وقال تعالى في موسى : وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي أي: على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. ويؤيد أن المراد ذلك كونُه جعل ظرفَ صُنْعِه على عينه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى من يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، فمن تأمل ذلك علم صحة ما قلناه، وفُتِح له باب عظيم في تفسير كلام الله بعضه ببعض.»٥٢

ومن المهم ملاحظة كيفية الربط بين الآيات وصولًا إلى التأويل الذي يقصده ابن عربي؛ لأن هذا الربط يعد ظاهرةً لافتة للانتباه في كتب ابن عربي كلها كما سبقت الإشارة. إن ابن عربي يرى أن نسبة العين إلى الله في قوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا نسبة مجازية، والعين في حقيقتها هنا اسم لآيات الله. ويستدل ابن عربي على هذا التأويل بآية أخرى استخدمت كلمة «بصائر» للدلالة على الآيات؛ وهي قوله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا. ويثير مثل هذا التأويل والترابط بين الآيتين مجموعةً أخرى من الآيات بعضُها يجمع بين الصبر والأعين، والبعض الآخر يجمع بين الصبر والآيات. وبالمقابلة والربط بين هذه الآيات يؤكد ابن عربي تأويله على النحو التالي:

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا / / إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ. إن المقابلة والموازاة بين الصبر الوارد في الآيتين — بنفس الألفاظ تقريبًا — معناه — عند ابن عربي — التقابلُ بين الأعين في الآية الأولى والقرآن في الآية الثانية.

ويمكن بالمثل إقامةُ مثل هذا التقابل والموازاة بين آيتي سفينة نوح:

تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا  / / بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا

في الآية الأولى تجري السفينة بعين الله أو أعيُنه، ويكون مجراها في الآية الثانية باسم الله. وكان المفروض — تمشيًا مع منطق ابن عربي وموازياته — أن تكون الأعين في الآية الأولى موازيةً لاسم الله في الآية الثانية، وهو التأويل الذي يذهب إليه في الفتوحات؛ على أساس أن الأعين هي أعين المسيِّرين للسفينة من حيث الظاهر، وأعين الله من حيث الحقيقة والباطن، كما سبقت الإشارة. ولكن ابن عربي يماثل هنا بين الأعين واسم الله على أساس أن كليهما يعني آيات الله. والحقيقة أن تأويله هنا لا يتعارض مع تأويله للآية في الفتوحات، فأسماء الله هي آياته الظاهرة في الكون.

ويمكن بالمثل أن نضع آيات قصة موسى على النحو التالي:
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي  / /  وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى (الآية).

فجَعْلُ عين الله ظرفًا لصنع موسى يوازي الوحي الذي أوحاه الله إلى أمه. وهذا الصُّنع كان تحقيقًا لهذا الوحي الذي آل — في النهاية — إلى أن تقَرَّ عينُ أم موسى ولا تحزن، وبذلك تلتقي الآية الأولى بالآية الثالثة؛ وهي قوله تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ. تلتقي الآيتان الأولى والثالثة عن طريق الآية الثانية، فلكي يُصْنَع موسى بآيات الله (العين) أوحى الله إلى أمه بما أوحى، والوحي هو الآيات. وكان نتيجة هذا الوحي صُنعَ موسى من جهة، وتحقيق الوحي الذي قرَّت به عين أم موسى من جهة أخرى. وإذا كانت نسبة العين إلى أم موسى نسبة حقيقية، فالتعبير عن الراحة والرضا بمآل موسى وعودته إلى أمه لكي تكفُلَه وترضعه بقرار العين تعبيرٌ مجازي يوازي التعبير المجازي في الآية الأولى على تأويل ابن عربي. هذا الرضا (قرار العين) كان تحقيقًا للوحي الإلهي للأم وللوعد الإلهي بالصنع على العين.

إذا تجاوزنا مصطلح المجاز، وهذه العلاقات المتشابكة التي يقيم ابن عربي تأويله على أساسها، وجدناه يستخدم مصطلح «الاستعارة» لتأويل نسبة الأيدي إلى الله. وهو لا يؤوِّل الأيدي بالقدرة أو النعمة كما درج على ذلك المتكلمون، بل يرى أن «نسبة الأيدي إليه استعارة لحقائق أنوار علوية يظهر عنها تصرفه وبطشه بدءًا وإعادة، وتكون تلك الأنوار متفاوتة في روح القرب، وعلى حسب تفاوتها وسعة دوائرها تكون رتبة التخصيص لما ظهر عنها.»٥٣ وعلى ذلك يفرِّق ابن عربي بين نسبة اليدين إلى الله في خلق آدم في قوله تعالى لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ونسبتها إليه سبحانه بصيغة الجمع في خلق الأنعام في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا، فاليدان في الآية الأولى «استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله، ولنورها القائم بصفة عدله. ويؤيد ذلك قوله في الحديث الصحيح: يمين ربي مَلاءٌ سَخاءٌ لا يَغيضُها الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض.»٥٤
يؤوِّل ابن عربي هنا الآية على ضوء هذا الحديث، فاليدان اللتان توجَّهتا على خلق آدم هما يدا الفضل والعدل. والحديث يعبر عن هاتين اليدين بالعطاء والسخاء تعبيرًا عن الفضل الإلهي من جانب، وهما يمثلان إحدى اليدين، وبرفع الميزان وخفضه باليد الأخرى تعبيرًا عن العدل الإلهي من جانب آخر. ولا بد أن يجد ابن عربي في القرآن ما يدل على أن اليدين في خلق آدم استعارةٌ للفضل والعدل، وهما من حقائق الأنوار العلية. أما تعبير إحدى اليدين عن الفضل فيجده ابن عربي في قوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، والفضل يمكن — من جانب آخر — أن يعبِّر عن القرآن؛ لأن القرآن هو عطاء الله الأكبر؛ سواءٌ فهمناه بمعنى الوجود أو بمعنى النص. وهذا الفضل الأكبر هو النور الأكبر، «ومما يحقق أن اليد استعارة لنوره سبحانه قولُه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ فاستعار اليدين للقرآن، ثم نبَّه على أنه استعارهما لِمَا اشتمل عليه من نور الفضل ونور العدل تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فالحكيم صاحب نور العدل والحميد صاحب نور الفضل.»٥٥
ويكمن الفارق بين اليدين اللتين توجهتا على خلق آدم والأيدي التي توجهت على خلق الأنعام في درجة النورية؛ «لأن حقائق أنوار الأيدي الخالقة للأنعام ليست في روح القلب كحقائق اليدين اللتين في خلق آدم ٥٦ والمقصود بروح القلب هو النور الأصلي الذي هو النَّفَس الإلهي الذي توجه مباشرةً على خلق آدم في قوله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فالنور الذي توجه على خلق آدم — المعبَّر عنه باليدين استعارة — نور أكثر صفاءً وقربًا من الأصل من نور الأيدي التي توجهت على خلق الأنعام، فليس بين الإنسان والله من الحجب ما بين الله وغير الإنسان من الكائنات والموجودات.
وتُعد الأنامل في الأحاديث النبوية أيضًا استعارة ترجع في حقيقتها إلى النور الإلهي الذي تجلى في صورة اليد، خاصة حديث الرؤية، رؤية الرسول لربه في المنام حيث ضربه بيده بين كتفيه، فأحس برد أنامله بين ثدييه، فعلم عِلمَ الأولين والآخرين. الأنامل — في هذا الحديث — هي «ظل الشريعة السمحة التي هي أحسن الشرائع. وحقائق صفاتها كلها متنوعة من روح لا إله إلا الله، فيدها العليا هي صاحبة الخير في قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وفي قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وأناملها الخمس هي الخمس التي بُني عليها الإسلام، ومنها أنملة الشهادة. وبهذا يُفهَم السر في وضعها بين كتفيه — وهو موضع خاتم النبوة — وفي ثمارها العلم بكل شيء؛ لأن جميع فروع العلم لا إله إلا الله، ويُفهَم السر في وجوده لبردها بين ثدييه، وهو صدره لانشراحه للإسلام، فهو على نور من ربه، وعلى برد الرضى والتسليم للقضاء … وفي صورة هذه اليد الإسلامية ظهرت يد قيوميته بالسموات والأرض في قوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وفيها ظهر سر العهد والمبايعة في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، وفيها ظهر سر إجازته وعصمته بقوله تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ؛ لأن من قال لا إله إلا الله عُصِم دمه وماله.»٥٧

إن حركة التأويل هنا تنطلق من الحديث النبوي لفهم آيات من القرآن وتأويلها؛ وذلك على عكس الحركة في المثال السابق؛ حيث تؤوَّل آيات القرآن على ضوء الحديث. وإذا كان ابن عربي قد توقف في المثالين السابقين مؤوِّلًا اليدين والأيدي بصيغتي المثنى والجمع، فإنَّ توقُّفَه هنا أمام اليد بصيغة المفرد وما يرتبط باليد من أنامل. إن اليد في الحديث الذي يتوقف أمامه ابن عربي تعبير مجازي عن ظل الشريعة السمحة، وهي النور الإلهي. ويتسق هذا التأويل مع نفس الحديث على وضع اليد بين الكتفين، وهو موضع خاتم النبوة، والنبوة هي وسيط الشريعة، والشريعة هي الخير. وهنا يستشهد ابن عربي بالقرآن: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ والخير هنا بمعنى الإسلام، وقوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ يجعل تأويل اليد بالإسلام والشريعة أمرًا مشروعًا. ويواصل ابن عربي الإشارة إلى إسلام مَن في السموات ومن في الأرض؛ دلالةً على قيومية الله، وإن كان الإسلام بالمعنى اللغوي — الانقياد — لا بالمعنى الشرعي الاصطلاحي. كما يشير إلى سر المبايعة باليد؛ لأنها كانت مبايعةً على نصرة الإسلام. وإذا كان الإسلام يعصم الدم والمال، أي: يجير مِن القتل، فهو يد الله التي بها ملكوت كل شيء وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ.

وبعد أن يُحكِم ابن عربي تأويله لليد بأنها الإسلام من خلال استشهاده بمجموعة من الآيات يربطها بعضها ببعض، يحلل الأنامل الخمس التي تكوِّن هذه اليد، وهي من خلال هذا التأويل الدعائم الخمس التي يقوم عليها الإسلام؛ بدءًا بالشهادة وانتهاءً بالحج لمن استطاع إليه سبيلًا. وتعد أنملة الشهادة — شهادة لا إله إلا الله — هي أنملة العلم لاحتواء الشهادة على كل العلوم؛ ولذلك وجد الرسول بَرْدَها بين ثدييه فعلِم عِلمَ الأولين والآخرين. ويشير المكان هنا — بين الثديين — إلى الصدر؛ مما يستدعي في ذهن ابن عربي قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وإن لم يذكر نص الآية؛ وذلك للربط بين العلم ووجود الأنامل بين الثديين وانشراح الصدر من جهة، والربط بين برد الأنامل الذي أحسَّه الرسول والرضى والتسليم بقضاء الله وقدره من جهة أخرى. وقد مر بنا في الباب الأول كيف ربط ابن عربي — في سياق آخر — بين البرد والعلم؛ اعتمادًا على هذا الحديث وهو بصدد الموازاة بين حقائق الألوهة وحقائق الطبيعة.

ولعلنا لاحظنا من خلال هذه النماذج كيف يربط ابن عربي بين آيات كثيرة من القرآن في سياق تأويله لكلمة واحدة، كما يربط بين القرآن والحديث النبوي في حركة دائمة تعطي للنصوص معانيَ محددةً في سياق خاص، وهذه المعاني تتغير في سياق آخر؛ مما يؤكد ما أشرنا إليه من أن المعنى في القرآن ليس معطًى ثابتًا محددًا سلفًا، بل هو إن شئنا الدقة: معنًى في حالة من التوتر الدائم تتوقف على سياق المفسِّر وحاله من جهة، وعلى العلاقات التي يمكن أن يقيمها بين الآيات والأحاديث من جهة أخرى.

وإذا كنا قد اعتمدنا في هذه النماذج على كتاب صغير يبدو من عنوانه التسليم بثنائية العلاقة بين المحكم والمتشابه، فلعلنا قد لاحظنا أن مسلك ابن عربي التأويلي هنا لا يختلف عن مسلكه التأويلي في كتبه الأخرى، كما عرضنا كثيرًا منها على طول البحث. هذا إلى جانب أنه لا يردُّ تأويل المتشابهات إلى آيات خاصة يعتبِرُها محكمةً كما هو صنيع المتكلمين ويؤوِّلها على ضوئها، بل يتجاوز هذا الموقف الثنائي إلى النظر إلى هذه الآيات من خلال منظور أوسع وأشمل وجوديًّا ومعرفيًّا.

إن استخدام ابن عربي في تأويله لمصطلحات المثل والاستعارة والمجاز في هذا الكتاب؛ لا يُعدُّ تناقضًا مع إنكاره — الذي أشرنا إليه — لوجود المجاز في القرآن، فالمجاز الذي ينكره ابن عربي هو المجاز الذي ينكر حقائق العبارات والألفاظ على أساس مشابهةِ الله للبشر، وعلى أساس البدء بوضعية اللغة. أما المجاز الذي يردُّ هذه العبارات إلى حقائقَ وأنوارٍ عُلوية، كما رأينا في الأمثلة التي حللناها، فهو مجاز واستعارة في إطار اللغة الإلهية. وإنكار ابن عربي للمجاز — من جانب آخر — يستهدف رفض تأويل المتكلمين الذين يرفضون الظاهرَ المجازي لحساب الباطن الحقيقي، أما التأويل الذي ينفُذُ إلى الباطن من خلال الظاهر، فهو التأويل المشروع غير المذموم.

من خلال هذا التصور رأينا كيف أمكن لابن عربي حلُّ ثنائية التنزيه والتشبيه وثنائية المحكم والمتشابه،٥٨ فماذا عن ثنائية الجبر والاختيار؟

(٤) الجبر والاختيار

الأساس الذي ينطلق منه ابنُ عربي لحل هذه المعضلة هو نفس الأساس الذي يحل من خلال ثنائيتي التنزيه والتشبيه والمحكم والمتشابه، فالجبر جانب واحد من جانبي الحقيقة، وهو الجانب الذي ننظر من خلاله إلى الفعل الإنساني من زاوية الله. من هذه الزاوية فالله هو الفاعل على الحقيقة؛ لأنه هو الروح الساري في الصور المتكثرة، وهي أعيان الموجودات، ومن هذه الزاوية ليس للخلق فعل ولا اختيار. وإذا نظرنا من جانب الصور — جانب الخلق والعالم — آمنا بالاختيار الإنساني؛ لأننا ندرك في الشاهد صدورَ الفعل الإنساني عن جوارح الإنسان. ولكن هذين الجانبين لعلاقة الله والعالم، كما تتجلَّى في معضلة الجبر والاختيار، لا يمكن النظر إليهما منفصلين، بل يجب الجمع بينهما، فنرى الجبر في الاختيار والاختيارَ في الجبر. إن علاقة الله بالعالم يمكن أن تماثل علاقة القلب بجوارح وأعضاء الجسد الإنساني، فالقلب هو الفاعل من حيث إنه محركُ هذه الجوارح بحركته وحياته الذاتية السارية في أنحاء الجسد، والجوارح هي المنفذة المتحركة التي تباشر الفعل. من هذا التماثل فإن الخلق هم المنفذون لمشيئة الله وإرادته، فهو الفاعل على الحقيقة من خلال صور العالم: «إن الله جلَّت حكمته ضرب لنفسه مثلًا في دوائر ملكه مثلًا بالقلب في دائرة بدنه، ومن المعلوم لكل أحد أن المتصرف في دائرة بدنه هو قلبه، ونوره شامل لجميع أجزائه، وروح الحياة فيه شائعة في سائر أقطاره، وأن الجوارح مظاهر لأنوار القلب وتصرفاته، فبنوره تبصر العين وتسمع الأذن ويذوق اللسان وينطق، وتلمس الجوارح وتبطش، مع العلم الضروري بأن الجوارح صفات للبدن وليست صفات للقلب، ولا تعلق لها به، ولا تُنسَب إليه إلا نسبة الأتباع والعبيد للملِك المطاع. ثم إن القلب إنْ غلب عليه التوجه إلى عالم الشهادة تصرَّف في الجوارح؛ فصار يرى بالعين ويسمع بالأذن ويبطش باليد، وهو مثل قوله: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ، وإن غلب على القلب التوجه إلى عالم الغيب استتبع الجوارح فصارت هي متصرفة به؛ فتصير العين تُبصر بالقلب، وكذلك باقي الحواس والجوارح، وهو مثل لقوله: «كنت سمعه الذي يسمع به» إلى آخره، فافهمه إنه بديع … وبهذا يتسع فَهْم ما جاء من الجوارح منسوبًا إلى أفعاله تعالى، فلا تشتبه بعد هذا عليك، فلا تفهَمْ من نسبتها إليه تشبُّهًا ولا تجسُّمًا، بل تفهم أن مَثَل النسبة إليه فيها كمثل نسبة الجوارح للقلب، فإن ذاته المقدسة متعالية عن الاتصاف بها؛ لأن الجوارح يلزمها الحدوث، وذاته واجبة القِدم، وكل ما كان واجب القدم استحال عليه الحدوث.»٥٩
يشير ابن عربي في هذا النص إلى فكرتين أساسيتين في حل معضلة الجبر والاختيار؛ وذلك من خلال هذه الموازاة التي يقيمها بين علاقة الله بالعالم من جهة، وعلاقة القلب بجوارح وأعضاء الجسد الإنساني من جهة أخرى. تؤكد الفكرة الأولى أن الله هو الفاعل في الحقيقة؛ كما أن القلب إذا توجه إلى عالم الشهادة فَعَل بالجوارح الظاهرة. وعلى أساس هذه الفكرة يمكن فَهْم قوله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ، وكذلك قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ، وكذلك قوله لنبيه: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، فالله — من هذه الزاوية — هو الفاعل من خلال صور المخلوقات الظاهرة. وهذه هي المعرفة الحقة في نظر ابن عربي، أدركها الإنسان أم لم يدركها.٦٠
أما الفكرة الثانية فهي تَختص بالعارفين من أهل الله الذين يعلمون يقينًا أن أعضاءهم لا تفعل بنفسها؛ وذلك أن العارف يتقرَّب من الله حالةَ توجه قلبه لعالم الغيب؛ فيصير الله عينه وسمعه ويده وقدمه، وهي حالة المعرفة الكاملة القائمة على الكشف والمشاهدة. ومن خلال هذه المعرفة يفعل العارف ما يفعله بالله؛ حيث يُكشف له عن عينه الثابتة في العدم، فيكون علمه بنفسه كعلم ربه به وبأحواله.٦١
يستغل ابن عربي هاتين الفكرتين المحوريتين ليؤكد الجبرَ من جانب، أي: فيما يختص بالإنسان العادي، والاختيارَ من جانب آخر، أي: فيما يختص بالإنسان الكامل الذي يرى نفسه مجبرًا في اختياره؛ لأنه يتبع أحوال عينه الثابتة في علم الله القديم: «ليس في الوجود فاعل إلا الله تعالى، وأفعال العباد بجملتها عند أهل السنة والجماعة منسوبة الوجود والاختراع إلى الله تعالى بلا شريك ولا مُعين، فهي على الحقيقة فِعْله، وله بها عليهم الحجة؛ لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون. ومن المعلوم أن لصفاته تعالى في تجلياته لعباده مظهرين: عبادي سفلي منسوب لعباده، وهو الصور والجوارح الجسمانية، ومظهر حقيقي علوي منسوب إليه. وقد أجرى عليه أسماء المظاهر المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لأفهامهم والتأنيس لقلوبهم. ونبَّه تعالى في كتابه العزيز على التنبيهَين، وأنه منزَّه عن الجوارح في الحالين. ونبَّه على الأول بقوله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ؛ وذلك يُفْهِم أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه وفِعْل له، وأن جوارحنا مظهَر له وواسطة فيه، فهو على الحقيقة الفاعل بجوارحنا، مع القطع الضروري لكل عاقل أن جوارح العبد ليست بجوارح لربنا تعالى ولا صفاتٍ له. ونبَّه على الثاني بقوله فيما أخبر به عنه نبيه في صحيح مسلم وغيره: ولا يزل عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمْعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطش بها، ورِجلَه التي يمشي بها؛ «الحديث». وقد حقَّق الله تعالى لنبينا ذلك بقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، بعد قوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، وبقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فنزَّل يد نبيه منزلةَ يده في المبايعة وأخْذ الصدقات والرمي في قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى. ذلك كله يُفهَم من أن العبد إذا صار محمودًا صارت أفعالُه ناشئةً عن أنوار علوية روحانية من عند ربه سبحانه تكون له بمثابة الجوارح، وأن الله سبحانه يكون له بواسطتها سمعًا وبصرًا ويدًا ورِجلًا، مع القطع الضروري أن الله تعالى لا يكون جارحةً لعبده.»٦٢
من هذه الزاوية لا يمكن أن يكون الإنسان خالقًا لأفعاله، وقول الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ — وهي الآية التي استند إليها المعتزلة لتأكيد أن الإنسان خالق أفعاله — يمكن تأويله من جانب ابن عربي على أساس أن هناك نسبةً جامعة بين الحق والخلق، وهي مقام البسط الإلهي الذي منه أطلق لفظ الخالق على الإنسان وإن كان الله هو الخالق على الحقيقة لفعل الإنسان.٦٣ ومقام البسط يستدعي في الذهن صفة الجمال التي يجب أن تُقابَل من الإنسان بالقبض؛ لأن الجمال مباسطة لا يصح أن نقابلها منا بالمباسطة، وإلا كان هذا من سوء الأدب كما سبقت الإشارة. ومعنى ذلك أن الله إذا كان قد تبسَّط معنا فسمانا خالقين في قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فيجب أن نقابل هذا البسط بالأدب ونردَّ أفعالنا كلَّها إليه؛ لأن هذه هي الحقيقة.
ولكن كيف يكون الله فاعلًا لأفعالنا ثم يحاسبنا عليها فيعذِّب ويعاقب؟ وما معنى أن له الحجة البالغة علينا؛ كما ذكر ابن عربي في النص السابق؟ للإجابة عن هذا السؤال الثاني يلجأ ابن عربي إلى فكرة الأعيان الثابتة في العدم ليحل من خلالها هذه المعضلة: «وعندنا ما كانت الحجة البالغة لله على عباده إلا من كون العلم تابعًا للمعلوم، ما هو حاكم على المعلوم، فإنْ قال المعلوم شيئًا كان لله الحجةُ البالغة عليه بأن يقول له: ما علمتُ هذا منك إلا بكونك عليه في حال عدمك، وما أبرزتك في الوجود إلا على قدر ما أعطيتني من ذاتك بقبولك، فيعرف العبد أنه الحق، فتندحضُ حجة الخلق في موقف العرفان الإلهي الخاص.»٦٤
هكذا يمكن أن يحل ابن عربي معضلة العدل الإلهي في إطار نظريته الجبرية، فالإنسان وإن كان مجبورًا في فعله، لأن الله هو الفاعل على الحقيقة، إلا أن حقيقته وعينه الثابتة في العدم هي التي حكمت عليه بالفعل الذي أدى به إلى العقاب. وقد تعلق علم الله بالفعل الإنساني على ما هو عليه في عينه الثابتة؛ لأن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فلم يحكم عليه علم الله، بل عينه الثابتة هي الحاكمة عليه وهي المؤثرة في علم الله به. من هذه الزاوية ينتفي الظلم عن الله وتثبت الحجة له على خلقه، ولا يتوجه اللوم إلا على الإنسان نفسه أو على حقيقته وعينه الثابتة.٦٥
وليس معنى ذلك أن عصيان العبد لأوامر الله وتكاليفه وقع على غير مراد الله؛ وإلا أدَّى ذلك إلى معضلة أخرى، فالمعصية ليست معصية في حقيقتها، بل هي كذلك «من حيث حكم الله فيها بذلك، فجميع أفعال الله حسنةٌ من حيث ما هي أفعال.»٦٦
وترتد معاصي العباد — من جانب آخر — إلى نزاع الأسماء الإلهية وتعارض معانيها من حيث الظاهر، وإن كانت كلها تدل من حيث الحقيقة والباطن على الله؛ من حيث دلالته على جمعية الألوهة كما سبقت الإشارة. إن الموازاة بين الله والإنسان تقابلها موازاة بين الفعل من حيث كونه فعلًا، ومن هذه الزاوية يُنسب لله، والفعل من حيث كونه معصيةً ينسب إلى الخلق. وتمثل الأسماء الإلهية — وهي حقائق الألوهة — علة التنازع — من حيث تقابُلُها وتضادُّها وتنوعها — ووقوع المعاصي في العالم؛ وذلك طلبًا لحقائقها المتنوعة والمختلفة. إن للأسماء الإلهية — كما سبقت الإشارة — جانبي: جانبًا تدل منه على الله، وجانبًا تدل منه على العالم والإنسان. من هذا الجانب الأخير تختلف حقائق الأسماء ويقع التنازع في العالم، «فصاحب الأدب ما هو منازع، وإنما هو ترجمانُ منازِع، والمترجَم عنهم هم الأسماء الإلهية التي منها نشأ النزاع في العالم، ومن أجلها وضع الميزان الشرعي في الدنيا والميزان الأصلي في الآخرة، فإن المعزَّ والمذلَّ خصم، والنافع والضار خصم، والمحيي والمميت خصم، والمعطي والمانع خصم، وكل اسم له مقابل من الأسماء في الحكم. والميزان الموضوع بين هذه الأسماء الاسم الحكم والميزان العدل في القضاء، فينظر في الحكم استعداد المحل، فيحكم له بحسب استعداد المحل فيجعله في حزب أحد الاسمين المتقابلين المتنازعين.»٦٧
إن الأسماء الإلهية من حيث أحكامها تمثِّل التنازع، ومن حيث ميزانها وتعادلها وتوحدها في الألوهة تمثل التعادل، وكذلك الفعل الإنساني من حيث إنه فعل هو عدل إلهي حسن، ومن حيث كونه معصيةً فهو مجرد حكم يعكس هذا التنازع. من هذا المنطلق ينفي ابن عربي عن الله إرادة المعصية: «فالمعصية حكم في الفعل أظهره استعداد الممكن من حيث عينه الثابتة، قال تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، فالإذن الذي تشترك فيه الطاعة والمعصية هو الإذن الإلهي في كون المأذون فيه فعلًا، فلا يكون الحاكم مأمورًا به. والمحكوم به وعليه هو المراد والمأمور به، فلا يصح الإذن في الطاعة والمعصية من حيث إنها طاعة ومعصية، قال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ من حيث إنها فعل، فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، فأنكر عليهم أن تكون السيئة من عند محمد ، كما قال في موسى: يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فقال لهم: ما أصابك من سيئة فمِن نفسك ولا من محمد ، فاحتجاجنا في مسألتنا إنما هو بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، والكل خير، وهو بيده، والشر ليس إليه.»٦٨

هذه التفرقة بين جانبي الفعل الإنساني تماثل — كما أشرنا — التفرقةَ بين جانبي الأسماء الإلهية، فمطلق الفعل حسَن من حيث نسبته إلى الله، كما أن دلالة الأسماء كلها على الله دلالةٌ مطلقة. والفعل من حيث نسبته إلى العبد مقيَّد بالحكم، كما أن الأسماء الإلهية من حيث علاقتها بالعالم ليست سوى أحكام أعيان الممكنات. وعن طريق هذه التفرقة يحاول ابن عربي الحفاظَ على عدل الله وعدم إرادته للمعاصي؛ رغم نظريته الجبرية في الفعل الإنساني. وقد سبق أن أشرنا إلى أن التفرقة بين جانبي الأسماء من حيث الدلالة هي التي حاول عن طريقها ابن عربي حلَّ معضلتي التشبيه والتنزيه والمحكم والمتشابه؛ الأمر الذي يؤكد ما ذهبنا إليه في التمهيد من أن الوحدة في فكر ابن عربي تقوم على خلق وسائطَ ذهنية وفكرية تتوسط بين جانبي كل ثنائية، وهذا بدوره يؤكد توفيقية فكر ابن عربي التي حاولنا تفسيرها في ضوء ظروف عصره.

ومن الضروري الإشارة إلى أن جبرية ابن عربي لا يخفف منها أنه يرد الفعل الإنساني إلى استعداد عين صاحبه الثابتة؛ إذ ينشأ عن مثل هذا التصور مجموعةٌ من المعضلات الفلسفية لا ينجح ابن عربي في حلِّها. يمكن القول — مثلًا — إن ردَّ الفعل الإنساني إلى العين الثابتة من شأنه أن يخلق تعارضًا بين ذاتين جوهريتين: هما الذات الإلهية من جانب، وذات الممكن الثابتة في العدم من جانب آخر. وقد يردُّ ابن عربي بأن الأعيان الثابتة للممكنات ثابتة في علم الله لا تبْرحُ عنه ولا تفارقه، وأنها في ذواتها معدومة، ولكن هذا الرد من شأنه أن يُلغي فعالية هذه الأعيان الثابتة ويعيدنا من جديد إلى دائرة الجبر الحاد الغليظ.

إن تأرجح ابن عربي بين الجبر والاختيار، ورغبته في إقامة التوازن والتوفيق بينهما؛ لا ينجح تمامًا، أو لنقُل: لا ينجح بنفس القدر الذي حققه في القضايا التي تعرضنا لها على مدار هذا الفصل خاصة، وعلى مدار البحث كله بصفة عامة. ونتيجة لذلك فإن تأويله للآيات المتصلة بمعضلة الجبر والاختيار لا يتسم بنفس العمق والشمول الذي لاحظناه قبل ذلك؛ فهو مثلًا حين يقارن بين مشيئة الله ومشيئة الإنسان وهو بصدد تأويل قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ يذهب إلى أولية مشيئة الله على مشيئة الإنسان، لا بالمعنى الذي ذهب إليه المفسرون من نفاذ مشيئة الله رغم مشيئة العبد، بل بمعنى أن مشيئة الله تتعلق بمشيئة الإنسان؛ أي: تتعلق بوقوع المشيئة من العبد، ووقوع المشيئة من العبد يَتْبعه وقوع الفعل: «إن المشيئة الإلهية لمَّا كان لها الأثر في الفعل لهذا، نُفي تعلُّقها بما لا يقبل الانفصالَ من حيث مرجِّحُه لا من حيث نفسه؛ بخلاف مشيئة العبد، فإنها إذا وقعت وتعلَّقت بالمُشاء قد يكون المشاء وقد لا يكون. ولهذا شُرع لنا إذا قلنا نفعل كذا أن نقول: إن شاء الله، حتى إذا وقع ذلك الفعل الذي علَّقناه على مشيئة الله كان عن مشيئة الله بحكم الأصل، ولم يكن لمشيئتنا فيه أثرٌ في كونه، لكن لها فيه حكم؛ وهو أنه ما شاء سبحانه تكوين ذلك الشيء إلا بوجود مشيئتنا إذ كان وجودها عن مشيئة الله، فلا بد من وجود عين مشيئتنا وتعلُّقِها بذلك الفعل، وهو قوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ يعني: أن تشاءوا.»٦٩

إن ابن عربي يحاول جاهدًا أن يربط بين الفعل الإنساني ومشيئة العبد ليصحَّ له الاختيار، ولكنه — من جانب آخر — يربط مشيئة العبد بمشيئة الله، حيث لا يشاء العبد إلا بعد أن تتعلق المشيئة الإلهية بوقوع مشيئته، فيتعلق وقوع الفعل بمشيئة العبد بحكم الفرع، ويتعلق بمشيئة الله بحكم الأصل، وهكذا ينتهي ابن عربي إلى الجبر.

ويفرِّق ابن عربي — أيضًا — بين جانبين للأمر الإلهي يتوازيان مع تفرقته بين جانبي الأسماء الإلهية وجانبي الفعل الإنساني. هذان الجانبان هما الأمر التكويني، أو الأمر الإلهي برفع الوسائط، والأمر التكليفي أو الأمر الإلهي من خلال الوسائط. في الجانب الأول من جانبي الأمر الإلهي لا يُتصور وقوع المعصية، أما في الجانب الثاني — وهو الأمر التكليفي — فيمكن أن تقع الإجابة بالطاعة أو المخالفة بالمعصية؛ وذلك بسبب حجاب الوساطة بين الآمر والمأمور: «أمْره سبحانه برفع الوسائط لا يُتصوَّر أن يُعصى؛ لأنه ﺑ «كن»؛ إذ كن لا تقال إلا لمن هو موصوف ﺑ «لم يكن»، وما هو موصوف ﺑ «لم يكن» ما يُتصوَّر منه إباية. وإذا كان الأمر الإلهي بالوساطة فلا يكون ﺑ «كن»، فإنها من خصائص الأمر العدمي الذي لا يكون بواسطة، وإنما يكون الأمر بما يدل على الفعل، فيؤمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فيقال لهم: أقم الصلاة لذكري، فاشتق له من اسم الفعل اسم الأمر، فيطيعه من شاء منهم ويعصيه من شاء.»٧٠
وليس معنى العصيان هنا قيام المحدث للقديم ومعارضته له، فقد عصى الأمر الإلهي التكليفي، لكنه أطاع الأمر الإلهي التكويني الذي وقع الفعل استجابةً له، أو لنقُل: إن العاصي عصى الأمر التكليفي وأطاع المشيئة التي تعلقت بمشيئة العصيان من جانب العبد، وهي المشيئة التي وقع بها الفعل بمشيئة الله. من هذا المنطلق فكل عصيان في حقيقته وباطنِه طاعة، وإن كان لا يعرف ذلك إلا العارفون الكُمَّل من أهل الله. وقد سُئِلَ أحد العارفين — فيما يروي ابن عربي — هل يعصي الولي؟ فكان رده: وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، فالوليُّ قد يرتكب المعصية طاعةً لمشيئة الله؛ لأنه يُكشف له عن عينه الثابتة في العدم فيراها بعين خياله، ويرى ما قُدِّرَ عليها في الأزل، فيأتي المعصية طاعة لأمر الله. أما غير العارفين فيكفيه أن يأتي المعصيةَ وهو يعلم أنها معصية، فيغفر الله له ويرجع عليه بالتوبة؛ «وهم من الذين قال الله فيهم: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فهذا معنى المخالطة، فالعمل الصالح هنا الإيمان بالعمل الآخر أنه سيِّئ، و«عسى» من الله واجبة، فترجع عليهم بالرحمة، فيغفر لهم تلك المعصية بالإيمان الذي خلطها به، فمتعلق «عسى» هنا رجوعه سبحانه عليهم بالرحمة لا رجوعهم إليه، فإنه ما ذكر لهم توبة كما قال في موضع آخر: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا. وهنا جاء بحكم آخر ما فيه ذكرُ توبتهم بل فيه توبةُ الله عليهم.»٧١

ومن الطبيعي ما دام ابن عربي قد انتهى إلى الجبر المطلق أن يرى عموم الرحمة الإلهية لجميع البشر في نهاية الأمر والمآل، وأن يكون له من الوعيد موقف متسامح جدًّا، وأن يكون له كذلك من أهل الأديان الأخرى موقف متسامح لا يُستبعد من خلاله أن يَئول مصير الجميع إلى الرحمة كغيرهم من عصاة المؤمنين. ويعتمد ابن عربي في مثل هذا التصور على مجموعة من الأفكار سبق أن أشرنا في ثنايا البحث إلى بعضها، وهذه الأفكار يمكن مناقشتها من خلال محورين أساسيين: أحدهما وجودي، والآخر معرفي.

(٥) الرحمة الإلهية الشاملة

يقوم المحور الوجودي على أساس أن العالم وُجد في العماء الناتج عن النَّفَس الإلهي. وكان هذا النفس بدوره تنفيسًا عن شوق الأسماء الإلهية للظهور في أعيان صور الممكنات. ومعنى ذلك أن هذا النَّفَس كان لرحمة الأسماء الإلهية من بطونها وتفريجًا لكربها، فنشأ الوجود من الرحمة، ولا يبعد أن يكون مآله إلى الرحمة في النهاية، فالرحمة وَسِعت العالم كله، وهذا هو ما يعبر عنه قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.٧٢
وللرحمة الإلهية — كما لكل شيء في الوجود عند ابن عربي — جانبان: رحمة الوجوب؛ وهي الرحمة التي كتبها الله على نفسه وأوجبها، ورحمة الامتنان؛ وهي الرحمة الوجودية التي أعطى الله بها كلَّ موجود خلْقه وأوجده على حد علمه به. هاتان الرحمتان يعبر عنهما الاسمان الإلهيان «الرحمن، الرحيم»، وهما الاسمان اللذان وردا في البسملة مقارنَين للاسم الإلهي الجامع «الله»، «فامتن بالرحمن، وأوجب بالرحيم. وهذا الوجوب من الامتنان، فدخل الرحيم في الرحمن دخولَ تضمُّن، فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ليكون ذلك للعبد، بما ذكره الحق من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد، حقًّا على الله تعالى أوجبه له على نفسه يستحق بها هذه الرحمة.»٧٣
وإذا كانت رحمة الوجوب هي الرحمة التي كتبها الله على نفسه، فهي جزء من الرحمة الامتنانية وهي الرحمة الوجودية. وهذا ما يعبر عنه ابن عربي بتضمُّن معنى الاسم «الرحيم» المعبِّر عن رحمة الوجوب في معنى الاسم «الرحمن» المعبِّر عن الرحمة الوجودية رحمةِ الامتنان. وإذا كان وجودنا بالرحمة الامتنانية قيَّد وجود الحق وأظهر حقائق الألوهة، فإن رحمة الوجوب التي كتبها الله على نفسه وأوجبها قد قيَّدتْه أيضًا من الإطلاق، حيث أدخل نفسه سبحانه في حد الواجب؛ استجابةً لفعل العبد.٧٤ وإذا كان الفعل الذي يستحق به العبدُ الرحمةَ الوجوبية — كما سبقت الإشارة — ليس في حقيقته وباطنه إلا فعلًا إلهيًّا، فمعنى ذلك أن الله هو الذي قيَّد نفسه بنفسه وجوديًّا في رحمة الامتنان، ووجوبًا في الرحمة الوجوبية، فالتقييد واقع على الأسماء الإلهية التي ظهرت أحكامها في أعيان صور الموجودات (الرحمة الوجودية الامتنانية)، وهي المرحومة برحمة الوجوب؛ لأنها هي الفاعلة من خلف حجاب الصور. وهكذا يرتدُّ جانبَا الرحمة إلى أساس وجودي واحد: «فقيَّد رحمة الوجوب وأطلق رحمة الامتنان في قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ حتى الأسماء الإلهية والنسب الربانية. ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا، وأعلمنا أنه هويتنا؛ لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه، فما خرجت الرحمة عنه، فعلى من امتنَّ وما ثَم إلا هو»؟٧٥

وهكذا يرتدُّ جانبَا الرحمة إلى أساس وجودي واحد، ويصبح الاسمان الإلهيان المُعَبِّران عن جانبي الرحمة اسمًا واحدًا من حيث التضمن، فالرحيم مضمَّن في الرحمن بحكم أن رحمته بنا — وجودًا ووجوبًا — ليست في الحقيقة والباطن إلا رحمته بالأسماء الإلهية.

وإذا كان الوجود كله قد نشأ من الرحمة، فالرحمة هي بدء الوجود ومآله في نفس الوقت. فإذا انتقلنا إلى الوجود اللفظي، وهو القرآن، كانت البسملة في مفتتح القرآن وفي مفتتح كل سورة من سوره دليلًا إلهيًّا على هذه الرحمة الشاملة. أمَّا أن البسملة تساوي الرحمة التي افتتح بها وجود العالم، فذلك ما يقدمه لنا ابن عربي بالتأويل الإعرابي للبسملة على أنها خبر ابتداء محذوفٍ تقديرُه ظهور العالم: «لذلك كان بسم الله الرحمن الرحيم عندنا خبر ابتداء مُضمَر، وهو ابتداء العالم وظهوره، كأنه يقول: ظهور العالم بسم الله الرحمن الرحيم؛ أي: بسم الله الرحمن الرحيم ظهر العالم.»٧٦
ومما يؤكد هذا التأويل ويَعضُده أن البسملة لم تتضمن من الأسماء الإلهية سوى أسماء الرحمة التي تعبر عن جانبي هذه الرحمة، وهما الاسمان الرحمن والرحيم. وقد وردا في البسملة مقترنَين ومسبوقين بالاسم الإلهي الجامع «الله»، وبذلك تكون البسملة منشورًا إلهيًّا يعلن الرحمة الإلهية الشاملة: «إن اختصاص البسملة في أول كل سورة تتويج الرحمة الإلهية في منشور تلك السورة أنها تنال كل مذكور فيه؛ فإنها علامة الله على كل سورة أنها منه كعلامة السلطان على مناشيره. فقلت للوارد: فسورة التوبة عندكم؟ فقال: هي والأنفال سورة واحدة قسمها الحق على فصلين، فإن فصلها وحكم بالفصل فقد سماها سورة التوبة؛ أي: سورة الرجعة الإلهية بالرحمة على من غضِب عليه من العباد. فما هو غضب أبدي، لكنه غضبُ أمد، والله هو التوَّاب، فما قرن بالتواب إلا الرحيم؛ ليئول المغضوب عليهم إلى الرحمة، أو الحكيم؛ لضرب المدة في الغضب وحكمها فيه إلى أجل، فيرجع عليه بعد انقضاء المدة بالرحمة. فانظر إلى الاسم الذي نعت به التواب تجد حُكمه كما ذكرناه. والقرآن جامع لذكر من رضي عنه وغضب عليه، وتتويج منازله بالرحمن الرحيم، والحكم للتتويج؛ فإن به يقع القَبول.»٧٧

إن ورود البسملة في مفتتح القرآن دلالةٌ على الرحمة الامتنانية الوجودية، وورودها في مفتتح كل سورة من سور القرآن دلالة على رحمة الوجوب الشاملة؛ لأنها كالتوقيع السلطاني الملازم لكل منشور؛ فهي كالعلاقة الإلهية المصاحِبة لكل مراتب الوجود، ولكل منازل القرآن. وليس عدم ورودها في أول سورة التوبة مخلًّا بهذا المعنى الذي يُضفيه ابن عربي على ورودها، فسورة التوبة تعني الرجعة؛ أي: رجعة الغضب الإلهي إلى الرحمة في النهاية؛ لأن الرحمة سبقت الغضب. ويستدل ابن عربي على ذلك بأن صفة التوَّاب وردت مقترنة في القرآن دائمًا إما بالاسم الرحيم أو بالاسم الحكيم؛ يدل الرحيم على الرجوع بالرحمة على جميع الموجودات، ويدل الحكيم على مدة الغضب التي تنتهي ثم تَعقُبُها الرحمة من الاسم الرحيم. هذا كله على اعتبار أن سورة التوبة سورة شبه مستقلة، لا على اعتبار أنها مع سورة الأنفال سورة واحدة؛ كما قال الوارد لابن عربي.

وليس معنى رجعة الله بالرحمة على العباد انتفاءَ العذاب بالكلية، فقد تقع الرحمة بعد انتهاء أمد العذاب الذي يقع من صفة الغضب الموقوتة. ولا يختلف المعنى إذا نظرنا لسورة التوبة على أساس أنها سورة مستقلة تمامًا منفصلة عن سورة الأنفال، وليست فصلًا منها، فسورة النمل تعوض النقص الموجود في سورة التوبة؛ إذ وردت البسملة في مُفتتَحها كما وردت في صُلبها.٧٨
وهكذا ينتهي ابن عربي من خلال هذه التأويلات النحوية والدلالية إلى تأكيد عموم الرحمة الإلهية؛ وذلك من خلال البسملة التي تدل على افتتاح الوجود: «البسملة جعلها الله في أول كل سورة من القرآن، فهي للسورة كالنية للعمل، فكل وعيد وكل صفة توجب الشقاء المذكور في تلك السورة، فإن البسملة بما فيها من الرحمن في العموم والرحيم في الخصوص تحكم على ما في تلك السورة من الأمور التي تعطي من قامت به الشقاء؛ فيرحم الله ذلك العبد إما بالرحمة الخاصة، وهي الواجبة، أو بالرحمة العامة، وهي رحمة الامتنان، فالمآل إلى الرحمة لأجل البسملة، فهي بشرى. وأما سورة التوبة على من يجعلها سورةً على حِدَة منفصلة عن سورة الأنفال، فسماها سورة التوبة؛ وهي الرجعة الإلهية على العباد بالرحمة والعطف، فإنه قال للمسرفين على أنفسهم ولم يخُصَّ مسرفًا من مسرف: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فلو قال: إن الرحمن لم يعذب أحدًا من المسرفين، فلمَّا جاء بالاسم الله قد تكون مغفرة قبل الأخذ، وقد تكون بعد الأخذ، ولذلك ختم الآية بقوله: إنه هو الغفور الرحيم، فجاء بالرحيم آخرًا؛ أي: مآلُهم، وإن أوخذوا، إلى الرحمة، وإن الرجعة الإلهية لا تكون إلا بالرحمة، لا يرجع على عباده بغيرها.»٧٩

وإذا كانت الرحمة هي المآل في النهاية، فليس من المستبعد أن يتجاوز الله عن وعيده ويحقق وعده: «الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيُثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز: فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، لم يقل: وعيده، بل قال: وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ؛ مع أنه توعَّد على ذلك. وقد زال الإمكان في حق الحق لِمَا فيه من طلب المرجح.

فلم يبقَ إلا صادقُ الوعد وحده
وما لوعيدِ الحقِّ عينٌ تُعايَنُ
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذةٍ فيها نعيمٌ مباينُ
نعيمُ جنان الخلد فالأمر واحدٌ
وبينهما عند التجلِّي تَبايُنُ
يُسمَّى عذابًا من عذوبة طعمه
وذاك له كالقشر والقشر صاين»٨٠
إن التجاوز عن الوعيد أمر ممكن، بل هو الحقيقة ما دامت الرحمة هي أصل الوجود ومآله. وليس معنى ذلك أن الله خلق النار عبثًا، فلا بد من العذاب الذي يميز الخبيث من الطيب، فالإنسان العاصي — في نظر ابن عربي — وحتى المشرك الكافر فيه بعض الخير؛ هو السر الإلهي الناتج عن النَّفَس الإلهي الذي هو أصل الوجود، لذلك قد يكون هناك نوع من العذاب يخلِّص العاصي والمشرك من الشر الذي امتزج بروحه؛ نتيجةَ التركيب والامتزاج بين الجسد والروح. ولكن هذا العذاب موقوت بمُدَد معينة على حسب قدر الشر الذي خالط الروح،٨١ ثم يئول هؤلاء الكفار المشركون خاصةً إلى الخلود في النار، ولكن عذابهم يتحول إلى نوع من النعيم أو العذوبة — ولاحظ اعتماد ابن عربي على التماثل الصوتي بين العذاب والعذوبة — فينتهي عذاب أهل النار الخالدين فيها إلى الاستعذاب، كما يلتذُّ الأجرب بحكِّ جلده.٨٢ «ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم، وليس وجودٌ إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي الممكنات عليه في أنفسها وأعيانها، فقد علمت مَن يلتذُّ ومن يتألم، وما يعقب كل حال من الأحوال وبه سمي عقوبة وعقابًا، وهو سائغ في الخير والشر، غير أن العُرف سماه في الخير ثوابًا، وفي الشر عقابًا.»٨٣

وهكذا ينتهي ابن عربي — وجوديًّا — إلى اعتبار الثواب والعقاب والخير والشر والنعيم والعذاب، وكل الثنائيات المرتبطة بوجود العالم والإنسان، وجهين لحقيقة وجودية واحدة. ويئول أمر الوجود إلى الرحمة التي بدأ منها في النَّفَس الإلهي، الذي به رحِم الله الأسماء من بطونها وأظهر حقائقها، فالرحمة ما كانت إلا له من حيث أسماؤه في البداية، والرحمة لا تكون إلا له في المآل والنهاية.

وليس البعد المعرفي، الذي يقيم ابن عربي الرحمة الإلهية الشاملة على أساسه، منفصلًا عن البعد الوجودي الذي كنا بصدد مناقشته في الصفحات السابقة؛ فالوجود في حركة مستمرة نتيجة للتجليات الإلهية التي لا تنقطع ولا تتوقف آنًا بعد آنٍ. وإذا كان قلب الإنسان الكامل هو القادر على إدراك ثبات الحقيقة مع تنوعها وتجليها في الصور المختلفة، فإن البشر العاديين لا يستطيعون الوصول إلى هذا الإدراك. وغاية ما تصل إليه معرفتهم إدراكُ بُعد واحد أو أكثر من أبعاد هذه الحقيقة وجوانبها المختلفة. من هذا الموقف الوجودي والمعرفي المشكل اختلفت الشرائع لاختلاف النِّسَب الإلهية: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، واختلفت النِّسَب الإلهية لاختلاف الأحوال والتجليات: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وسَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ. واختلفت الأحوال والتجليات لاختلاف أحوال الزمان وأحوال الخلق، واختلفت أحوال الزمان وأحوال الخلق لاختلاف الحركات الفلكية، واختلفت حركات الأفلاك لاختلاف التوجهات الإلهية على هذه الأفلاك، واختلفت التوجهات لاختلاف المقاصد الإلهية، واختلفت المقاصد لاختلاف الشرائع.

وهكذا يدور أمر الوجود والمعرفة في دائرة لا ندري بدايتها من نهايتها، «وقولنا: إنما اختلفت التجليات لاختلاف الشرائع، فإن لكل شريعة طريقًا موصلة إليه سبحانه؛ وهي مختلفة، فلا بد أن تختلف التجليات كما اختلفت العطايا. ألا تراه عز وجل إذا تجلَّى لهذه الأمة في القيامة، وفيها منافقوها، وقد اختلف نظرهم في الشريعة، فصار كل مجتهد على شرع خاص هو طريقه إلى الله، ولهذا اختلفت المذاهب وكل شرع في شريعة واحدة، والله قد قرر ذلك على لسان رسوله عندنا، فاختلفت التجليات بلا شك؛ فإن كل طائفة قد اعتقدت في الله أمرًا ما إنْ تجلى لهم في خلافه أنكرته. فإذا تجلى لهم في العلامة التي قررتها تلك الطائفة مع الله في نفسها أقرَّت به؛ فإذا تجلى للأشعري في صورة اعتقادِ مَن يخالفه في عقده في الله، وتجلى للمخالف في صورة اعتقاد الأشعري مثلًا، أنكره كل واحد من الطائفتين كما ورد، وهكذا في جميع الطوائف. فإذا تجلى لكل طائفة في صورة اعتقادها فيه تعالى؛ وهي العلامة التي ذكرها مسلم في صحيحه عن رسول الله ، أقرُّوا له بأنه ربهم وهو لم يكن غيره. فاختلفت التجليات لاختلاف الشرائع.»٨٤
وتتجاوز المعضلة إطار الفرق الإسلامية إلى أهل الأديان الأخرى وإلى المشركين والكفار؛ ما دام الله يتجلى في كل الصور الوجودية والاعتقادية على السواء. وهذا التجلي يؤدي — كما سبقت الإشارة — إلى الحيرة، والحيرة ضلال؛ وعلى ذلك فقد ضل من ضل بسبب هذه الحيرة: «الأمر غامض ومحير، والمعرفة بالنفس التي هي أصل المعرفة بالله ساحلٌ لا شاطئ له، فالمعرفة بالله — وهي الأصل الذي نسعى إليه — أغْمَض. وهذا من المكر الإلهي، ولأجله ستعُمُّ الرحمة الجميع في الآخرة.»٨٥
وما دامت الحيرة هي الأصل المعرفي، فعلى الإنسان الكامل أن يرى الله في كل المعتقدات؛ لأنها جميعًا تستند إلى حقيقة إلهية من تجلي الله في الصور المختلفة؛ وجودية كانت أم معرفية اعتقادية: «فالكامل من يرى اختلاف الصور في العين الواحدة، فهو كالحرباء، فمن لم يعرف الله معرفة الحرباء فإنه لا يستقر له قَدم في إثبات العين، فأصحاب التجلي عُجِّلت لهم معرفة الآخرة، فهم في الدنيا أعمى وأضل سبيلًا من أصحاب النظر؛ لأنه ليس وراء التجلي مطلب آخر للعلم به ولا يُتصوَّر.»٨٦
إن العمى والضلال هما الحيرة في الله الذي يتجلى في كل الصور. وهذه الحيرة في نظر ابن عربي هي المعرفة الكاملة التي لا تُتاح إلا لأهل التجلي. هذه المعرفة القائمة على الحيرة تؤدي بالعارف إلى إنكار وقوع الخطأ في معرفة العالم بالله ونفيه تمامًا: «فإذا كان هكذا فما تصنع، أو كيف يصحُّ لي أن أُخطِّئ قائلًا؟ ولهذا لا يصح خطأٌ مِن أحد فيه. وإنما الخطأ في إثبات الغير؛ وهو القول بالشريك، فهو القول بالعدم؛ لأن الشريك ليس ثم، ولذلك لا يغفره الله؛ لأن الغَفْر السَّتر ولا يستر إلا من له وجود، والشريك عدمٌ فلا يُستر، فهي كلمة تحقيق، إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ؛ لأنه لا يجده، فلو وجده لصحَّ وكان للمغفرة عين تتعلق بها.»٨٧
إن رفع الخطأ عن كل الاعتقادات الموجودة في معرفة العالم بالله يستند إلى معضلة وجودية؛ هي كثرة الأسماء الإلهية في العالم، «فالناصح نفسه ينبغي له أن يبحث في دنياه على جميع المقالات في ذلك، ويعلم من أين أثبت كلُّ واحد ذو مقالة مقالته. فإذا ثبتت عنده من وجهها الخاص بها الذي به صحَّت عنده، وقال بها في حق ذلك المعتقد، ولم ينكرها ولا ردَّها؛ فإنه يجني ثمرتها يوم الزيارة (زيارة الحق لأهل الجنة)، كانت تلك العقيدة ما كانت، وهذا هو العلم الإلهي الواسع. والأصل في صحة ما ذكرناه أن كل ناظر في الله تحت اسم من أسماء الله، فذلك الاسم هو المتجلِّي له، وهو المعطي له ذلك الاعتقادَ بتجلِّيه له من حيث لا يشعرون. والأسماء الإلهية كلها نسبتها إلى الحق صحيحة، فرؤيته في كل اعتقاد مع الاختلاف صحيحة ليس فيها من الخطأ شيء. هذا يعطيه الكشف الأتم.»٨٨
ويعتمد ابن عربي لتأكيد مثل هذا التصور على قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وقضى بمعنى حكم، فكل عابد أو معتقِد ما عبد إلا الله في الحقيقة، وما اعتقد إلا فيه؛ أيًّا كانت الصورة التي عبدها أو اعتقد فيها الألوهة، فهو لم يعبد الصورة من حيث طبيعتها الذاتية، بل عبدها لاعتقاده فيها الألوهة، فقد عبد في الحقيقة اعتقادَه الألوهةَ في تلك الصورة. وبذلك ترتبط جبرية ابن عربي في الفعل الإنساني بجبرية اعتقادية واضحة. هاتان الجبريتان تؤدِّيان في النهاية إلى الرحمة الإلهية الشاملة، ما دامت كلتاهما تعتمد على أصل وجودي: «فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله. في المحمديين: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي: حكَم، فالعالِمُ يعلم من عُبد، وفي أي صورة ظهر حتى عُبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عُبد غير الله في كل معبود. فالأدنى مَن تَخَيَّل فيه الألوهة، فلولا هذا التخيل ما عُبد حجر ولا غيره. ولهذا قال: قُلْ سَمُّوهُمْ فلو سمَّوهم لسمَّوهم حجارةً وشجرًا وكوكبًا. ولو قيل لهم: من عبدتم؟ لقالوا: إلهًا، ما كانوا يقولون: الله ولا الإله. والأعلى ما تخيل بل قال: هذا مجلًى إلهي ينبغي تعظيمه؛ فلا يقتصر. فالأدنى صاحب التخيل يقول: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى، والأعلى العالم يقول: فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا حيث ظهر وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ؛ الذين خَبَت نار طبيعتهم، فقالوا إلهًا ولم يقولوا طبيعة، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا أي: حيَّروهم في تَعداد الواحد بالوجوه والنسب.»٨٩
إن الأصل المعرفي للرحمة الإلهية الشاملة أن كل معبود هو على الحقيقة «الله»، ولكنه عُبد من نسبة خاصة ومن تجلٍّ إلهي خاص باسم خاص لهذا العابد، وإن كان لا يعرفه. والأصل الوجودي لهذه الرحمة أن كل الموجودات في قبضة الله؛ لأنه ما من دابة في الأرض إلا هو آخذٌ بناصيتها. وإذا كان الله الآخذَ بالنواصي على صراط مستقيم، فكل دابة — والبشر من جملة الدواب — على صراط مستقيم: «فكل ماشٍ فعلى صراط الرب المستقيم، فهو غير المغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون. فكما كان الضلال عارضًا كذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي السابقة. وكل ما سوى الحق دابة، فإنه ذو روح. وما ثَم مَن يدبُّ بنفسه وإنما يدبُّ بغيره، فهو يدبُّ بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم، فإنه لا يكون صراطًا إلا بالمشي عليه.»٩٠

ومن الجدير بالملاحظة أن تأويلات ابن عربي في سياق النصوص التي استشهدنا بها في هذه القضية تدور كلها حول البعد الدلالي، فالغفر والمغفرة من الستر، والعذاب من العذوبة، والمُخبِتون هم الذين خبت نار طبيعتهم، والتوبة هي الرجوع، والتوَّاب هو الراجع على العبد بالرحمة، والضلال هو الحيرة. ونلاحظ في كل هذه التأويلات الدلالية تجاوز ابن عربي معانيَ الكلمات الاصطلاحية الشرعية والعودة إلى دلالتها اللغوية المباشرة، والاعتماد في بعض الأحيان على التشابه الصوتي بين اللفظ وما يدل عليه. هذا بالطبع إلى جانب التأويل الذي يعتمد على التركيب والسياق، كما رأينا في تأويله الإعرابي لموقع البسملة في مفتتح القرآن.

في هذا الإطار يفسِّر ابن عربي نسيان الله للإنسان الذي نسيه تفسيرًا خاصًّا، فنسيان الإنسان لله في الواقع نسيان ظاهري؛ لأنه يفتقر للأشياء والأسباب. هذه الأشياء والأسباب المفتقَر إليها ليست سوى مجالٍ إلهية، وافتقار الإنسان إليها في الظاهر هو في حقيقته وباطنه افتقار إلى الله، فكيف يقال: إن الإنسان ينسى الله؟ وعلى ذلك فإن نسيان الله للإنسان عقوبةً على نسيانه له هو ترْكُه وعدم مؤاخذته أو معاقبتِه: «نسوا الله فنسيهم أي: تركوا حق الله فترك الله الحق الذي يستحقونه بإجرامهم، فلم يؤاخذهم ولا آخذهم أخْذَ الأبد، فغفر لهم ورحمهم. وهذا يخالف ما فهمه علماء الرسوم؛ فإنه من باب الإشارة لا من باب التفسير؛ لأن الناسي إذا لم ينسَ إلا حق الله الذي أمره بإتيانه شرعًا فقد نسي الله، فإنه ما شرعه له إلا الله، فترك حق الله، فأظهر الله كرمه فيه فترك حقه. ولم يكن حق مثل هذا إلا ما يستحقه، وهو العقاب، فعفا عنه تركًا بترك مقولًا بلفظ النسيان.»٩١
ويمكن أن تُفهم هذه الآية نفسها — في سياق آخر — فهمًا مختلفًا، وإن كان هذا الفهم المختلف يعتمد أيضًا على أن النسيان بمعنى الترك. ويكون معنى الآية في سياق عدم تسرمد العذاب على أهل النار؛ «أي: تُترك في جهنم إذ كان النسيان الترك، وبالهمز التأخر؛ فأهل النار حظُّهم من النعيم عدمُ وقوع العذاب.»٩٢
وبناءً على هذه التأويلات الدلالية تكون البشرى في قوله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ هي نفس البشرى في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ؛ وذلك على أساس الاشتراك اللفظي، فالبشرى — لغويًّا — هي الأثر الذي يحدث في بشرة الإنسان. ومن هذا المنطلق يفرِّق ابن عربي بين المعنى اللغوي والمعنى العرفي، «فأما البشرى من طريق العرف فالمفهوم منها الخيرُ ولا بد. ولما كان هذا الشقي ينتظر البشرى في زعمه لكونه يتخيل أنه على الحق قيل: بشِّره لانتظاره البشرى، ولكن كانت البشرى له بعذابٍ أليم. وأما من طريق اللغة فهو أن يقال له ما يؤثر في بشرته؛ فإنه إذا قيل له خير أثَّر في بشرته بسْطَ وجهٍ وضحكًا وفرحًا واهتزازًا وطربًا. وإذا قيل له شرٌّ أثَّر في بشرته قبضًا وبكاءً وحزنًا وكمَدًا واغبِرارًا وتعبيسًا؛ ولذلك قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، فذكر ما أثَّر في بشرتهم، فلهذا كانت البشرى تنطلق على الخير والشر لغةً، وأما في العرف فلا، ولهذا أطلقها الله تعالى ولم يقيِّدها، فقال في حق المؤمنين: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، ولم يقل بماذا، فإن العرف يعطي أن ذلك بالخير وقرينة الحال.»٩٣

إن فَهْم البشرى في بُعْديها اللغوي والعرفي يستند — عند ابن عربي — إلى الاستشهاد بآيات كثيرة من القرآن تدل على تغير وجوه أهل السعادة بالاستبشار، وتغيُّر وجوه أهل الشقاء بالاغبرار؛ وذلك لتأكيد المعنى اللغوي ذي البعدين للبشرى. أما المعنى العرفي فيدل على الخير خاصة، فهو معنًى مقيَّد بالخير وقرينة الحال. وهذا الفَهم يسمح لنا أن نقول مع ابن عربي: إن البشرى لأهل الشقاء بشرى حقيقية وإنْ قيَّدها الله بالعذاب الأليم الذي لا يدوم ولا يتسرمد عليهم؛ إذ ينتهي بهم الأمر إلى الرحمة التي يئول إليها كل شيء.

والحق أن هذا التصور لرحمة الله الشاملة في النهاية يقوم عند ابن عربي على أساس نزعة تفاؤلية شاملة لا ترى في الوجود شرًّا أو جهلًا أو نقصًا،٩٤ فالوجود مع كثرته الظاهرة يرتدُّ إلى مبدأ واحد هو الله؛ الخير المطلق والكمال المطلق والجمال المطلق. ومن هذا التصور الوجودي يتسع قلب العارف عامةً وقلب ابن عربي خاصةً ليَسعَ كل الأديان والاعتقادات، ويضمَّها في دين واحد هو دين الحب كما يقول:
لقد صار قلبي قابلًا كل صورةٍ
فمرعًى لغزلانٍ ودَير لرهبان
وبيت لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ
ركائبُه فالحبُّ ديني وإيماني٩٥

وهكذا حاول ابن عربي — كما قلنا في التمهيد — أن يتجاوز إطار تناقضات الواقع وصراعاته. وكانت فلسفته بكل جوانبها — خاصةً جانبها التأويلي — محاولةً لإزالة كل هذه التناقضات وحلِّ كل هذه الصراعات على مستوى الفكر والعقيدة. وانتهى ابن عربي إلى عقيدة الحب الشاملة والدين العالمي المفتوح والرحمة الإلهية التي فُتح بها الوجود وإليها يئول. ومع ذلك كله فقد ظلت حلول ابن عربي حلولًا فكرية أخذت طابع الحُلم الكبير؛ الحلم الذي تُفيق منه فيَفجؤك قبحُ العالم وشراسة الصراع الذي يخوضه البشر على جميع المستويات. لقد أراد ابن عربي أن يقود العالم ويهديه ويرشده، ولكنه أدار ظهره له وبنى لنفسه عالمًا آخر مفارقًا له قوانينَه وحُكَّامه ورعيته، عالَمًا منسجًا متناغمًا كاملًا يحكمه الإنسان الكامل، ظلُّ الله وصورته، بكل قوانين العدل والرحمة والحب، أو لنقُلْ: يحكمه ابن عربي خاتم الولاية المحمدية الخاصة انتظارًا لخلاص العالم بنزول خاتم الولاية العامة عيسى عليه السلام، الذي يعيد للعالم توازنه وللأمور نِصابها.

١  كتاب الجلال والجمال  ٤.
٢  في الأصل: الرقيبتين الإلهية.
٣  كتاب الجلال والجمال ٤-٥.
٤  الفتوحات ٤ / ١٩٧.
٥  انظر: الفتوحات ٤ / ١٦٤.
٦  الفتوحات ٣ / ٢٥٠، وانظر أيضًا: مواقع النجوم ١٣٠.
٧  الفتوحات ١ / ٢٨٩-٢٩٠.
٨  الفتوحات ٣ / ١٢٨.
٩  الفتوحات ١ / ٦٨١.
١٠  الفتوحات ٤ / ٤٢٣.
١١  الفتوحات ٢ / ٣.
١٢  الفتوحات ٢ / ٨٦.
١٣  الفتوحات ٢ / ٢١٩-٢٢٠.
١٤  انظر: الاتجاه العقلي في التفسير، «دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م.
١٥  انظر: فصوص الحكم ١١٣، ١٢٢، ١٢٣-١٢٤.
١٦  الفتوحات ٤ / ٣٩٣.
١٧  الفتوحات ٣ / ١٦٠.
١٨  فصوص الحكم ٧٨.
١٩  الفتح المبين  ٥٣-٥٤.
٢٠  الفتوحات ٣ / ٤٥٣.
٢١  الفتوحات ٢ / ٦٦١.
٢٢  الفتوحات ٢ / ٥١٦-٥١٧. ومن الضروري الإشارة إلى أن هذه الآية تفسَّر تفسيراتٍ عديدة في سياق أفكار ابن عربي، وتدل — أحيانًا — على وجود المثل؛ وهو الإنسان الكامل الذي لا يماثله شيء، وهذا آكد في نفي المثلية عن الله. انظر: الفتوحات ١ / ٦٢، ٩٧، ١١١، ٢ / ١٢٩، ٥٤١، ٥١٠، ٣ / ٣٤٠، ٤١٢، ٤٩٢، ٤ / ١٤١، ٣٠٦، ٣١١، ٤٣١.
٢٣  الفتوحات ١ / ١٩٤-١٩٥.
٢٤  الفتوحات ١ / ٣٥.
٢٥  الفتوحات ١ / ٨٨.
٢٦  الفتوحات ١ / ٨٩.
٢٧  الفتوحات ٢ / ٢٢٤.
٢٨  الفتوحات ١ / ٥٤، ولاحِظ تأويل ابن عربي للآية، فهي — في ظاهرها — تعبِّر عن كفر اليهود الذين قالوا هذا القول، وكفرهم كان بالجمع بين وصف الله بالفقر ووصف أنفسهم بالغنى، فالفقر الإلهي — من حيث الباطن والإشارة — حقيقي؛ لأن أسماءه تعالى فقيرة إلى وجود الخلق لإظهار حقائقها وآثارها. ويمكن أن تدل الآية — من هذا الجانب الباطن — على حقيقة غنى العارف عن التسمي بأسماء الحق؛ لأنه يعرف أن الأسماء كلها لله أصالة، ويكون معنى الكفر على هذا التأويل الستر، وهو المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي. انظر: الفتوحات ٢ / ٥١١.
٢٩  الفتوحات ٢ / ٢٩١.
٣٠  الفتوحات ٣ / ٥١٧.
٣١  الفتوحات ٢ / ٦٧٢.
٣٢  انظر: «الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، دار التنوير، بيروت ١٩٨٢.
٣٣  الفتوحات ٤ / ٤٣٠.
٣٤  الفتوحات ٤ / ٥٢٧. «ما أراد» في الأصل «من أراد».
٣٥  الفتوحات ٣ / ٥٤٢.
٣٦  الفتوحات ٣ / ٥١٧.
٣٧  العبادلة ٥٠.
٣٨  العبادلة ١٥٦.
٣٩  الفتوحات ٢ / ٥٧.
٤٠  انظر: الفتوحات ١ / ٦٨١.
٤١  الفتوحات ٣ / ١٦٥.
٤٢  السابق نفسه.
٤٣  الفتوحات ٢ / ٢٩٠-٢٩١.
٤٤  العطار، الفتح المبين ٥٣.
٤٥  كُنْه ما لا بد للمريد منه ٥٧-٥٨.
٤٦  الفتوحات ١ / ٦٨١.
٤٧  رد معاني الآيات المتشابهات ٢.
٤٨  السابق ٦.
٤٩  رد معاني الآيات المتشابهات ٤٢.
٥٠  السابق ٤١.
٥١  السابق ٢٧.
٥٢  رد معاني الآيات المتشابهات ٢١-٢٢.
٥٣  رد معاني الآيات المتشابهات ٢٢.
٥٤  السابق  ٢٢-٢٣. وانظر تأويلًا آخر لليدين — من خلال سياق خلق آدم على الصورة — حيث تعبِّران عن الجانبين: الظاهر الكوني والباطن الإلهي. الفصوص ٥٥.
٥٥  رد معاني الآيات المتشابهات ٢٣.
٥٦  السابق ٢٢.
٥٧  رد معاني الآيات المتشابهات ٢٦.
٥٨  انظر كيف يحل ابن عربي معضلة التنزيه والتشبيه في الفص النوحي: الفص ٦٨ وما بعدها.
٥٩  رد معاني الآيات المتشابهات ٦. وكلمة «الحدوث» هي في الأصل «القدم».
٦٠  انظر: فصوص الحكم ١٨٥.
٦١  انظر: فصوص الحكم ٦٠-٦١.
٦٢  رد معاني الآيات المتشابهات ٥، وانظر أيضًا: فصوص الحِكم ٨٠-٨١، حيث يعبِّر ابن عربي عن هذه العلاقة بين الله والعالم من خلال تأويل كلمة «خليل» في النص الإبراهيمي. وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ٧٧١، ٣ / ٥٤٩، ٤ / ٣٣-٣٤. ويعود ابن عربي للفكرة مرة أخرى — الجبر والاختيار — في الفصوص ١٥١-١٥٢.
٦٣  انظر: الفتوحات ٢ / ٥١١.
٦٤  الفتوحات ٤ / ٧٢. وانظر أيضًا: فصوص الحكم ٨٢-٨٣.
٦٥  انظر: الفتوحات ٤ / ١٥، ١٦، ٦٢ حيث يؤوِّل ابن عربي «سبق الكتاب» على أساس أنه حكم العين الثابتة مؤكدًا عدل الله.
وانظر أيضًا: فصوص الحكم ٨٢-٨٣ حيث يربط ابن عربي بين المشيئة الإلهية والعلم، ويرى استحالة تعلق المشيئة إلا بما عليه العلم؛ تأويلًا لقوله تعالى: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، ويرتكز التأويل على المعنى اللغوي لأداة الشرط «لو».
٦٦  الفتوحات ٢ / ٣٤٢.
٦٧  الفتوحات ٣ / ٩٨.
٦٨  الفتوحات ٢ / ٦٦. وقد سبق أن أشرنا إلى تفرقة ابن عربي بين الإرادة والمشيئة، وهي تفرقة تتفق مع جانبي الفعل، فالله يريد كلَّ ما يقع في الكون من حيث كونه أفعالًا، ولكنه لا يشاء وقوع المعاصي من حيث هي أحكام في الفعل أعطتها أعيان الممكنات.
٦٩  الفتوحات ٣ / ٨٤.
٧٠  الفتوحات ٢ / ٥٥٨، وانظر أيضًا: فصوص الحكم ١٦٥.
٧١  الفتوحات ٤ / ٤٧٦-٤٧٧.
٧٢  انظر: فصوص الحكم ١١٩، ١٧٧.
٧٣  الفصوص ١٥١، وانظر أيضًا: ٤ / ٢٧٤.
٧٤  انظر: الفتوحات ٣ / ٧٢، ٤ / ٢٠٥.
٧٥  فصوص الحكم ١٥٢-١٥٣.
٧٦  الفتوحات ١ / ١٠٢.
٧٧  الفتوحات ٣ / ١٠٠-١٠١، وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ٤٢٣، ٣ / ٩.
٧٨  الفتوحات ١ / ٢٧٠.
٧٩  الفتوحات ٣ / ١٤٧-١٤٨.
٨٠  فصوص الحكم ٩٣-٩٤، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٤٧٤.
٨١  انظر: الفتوحات ١ / ١٦٩.
٨٢  انظر: الفتوحات ٣ / ٤٦٢-٤٦٣.
٨٣  فصوص الحكم ٩٦.
٨٤  الفتوحات ١ / ٢٦٦.
٨٥  الفتوحات ٢ / ١٢١.
٨٦  الفتوحات ٤ / ١٨٦، وانظر أيضًا: الفتوحات ٣ / ٤٨٩-٤٩٠.
٨٧  الفتوحات ٤ / ١٠٧.
٨٨  الفتوحات ٢ / ٨٥.
٨٩  فصوص الحكم  ٧٢، وانظر أيضًا: الفتوحات ٤ / ١٥٨.
وانظر فيما ينبغي على العارف من تعظيم وإجلال لكل مظاهر الوجود: تأويل ابن عربي لقوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، وكذلك تأويله لقوله: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ: الفتوحات ٢ / ٦٧٢، ٤٧٧، ٤ / ٢٤١.
٩٠  فصوص الحكم ١٠٦، وانظر تأويلات الصراط ودلالاته المختلفة: الفتوحات ١ / ٤٢٦، ٢ / ٢١٧، ٢١٨، ٣ / ٤١١، ٤١٢، ٤١٣.
٩١  الفتوحات ٣ / ٢٥٢.
٩٢  الفتوحات ١ / ١٦٩.
٩٣  الفتوحات ٣ / ٥، وانظر أيضًا: فصوص الحكم ١١٧-١١٨.
٩٤  انظر: محمود قاسم، محيي الدين بن عربي وليبنتز  ٦٦–٧٥، ٧٦–٨٩.
٩٥  ترجمان الأشواق ٤٣-٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤