الفصل الأول

الرسالة السرية

نُشرت تحت عنوان «رجال العدالة الأربعة» في مجلة «ديتكتيف ستوري»، عدد ٢ يوليو، ١٩٢٧.

***

وردت في مجلة «ذا ميجافون»، في واحدة من أشد حالات التشاؤم والاستغراب، عباراتٌ تدوِّن غرابة ذلك الزمن من دون استهجان. تقول هذه العبارات:

حتى فريق رجال العدالة الأربعة أصبح مؤسسةً جديرة بالاحترام. منذ خمسة عشر عامًا فقط، كانوا يندرجون تحت مسمَّى «تنظيم إجرامي»، وعُرِضت المكافآت بُغيةَ القبض عليهم. أما اليوم، فيمكن أن تنزل إلى شارع كيرزون وستجد مثلثًا فضيًّا مثبتًا على الباب الرصين الذي يميز مقرَّات مكاتبهم. لقد انقلب بهم الحال من الملاحقة والمطاردة إلى أكبر وكالة حصرية معنية بالتحقيقات. لا يسعنا سوى أن نأمل في أن تتبدَّل طرائقهم العنيفة نوعًا ما إلى حالٍ أفضل بكثير.

في بعض الأحيان تنطوي رؤية مراقب محتمل على مخاطر.

تساءل مانفريد وهو يقشِّر بيضة على الإفطار: «ما الذي يخشاه السيد لويس ليثرسون؟» كان وجهه الوسيم الحليق مُصطبغًا بلونٍ خمري؛ إذ عاد مؤخرًا من شمس سويسرا وثلوجها.

جلس ليون جونزاليس في الجهة المقابلة مُستغرقًا في قراءة جريدة «ذا تايمز»، وعند نهاية الطاولة جلس رايموند بويكارت بوجهٍ مُكفهرٍّ وعابس. ووصفت أقلامٌ أخرى غيري صفاته وشغفه بزراعة الخضراوات.

رفع عينيه ونظر إلى جونزاليس.

سأل: «هل هو الرجل الذي كان يضع رجالًا لمراقبة هذا المنزل الشهر الماضي؟»

ارتسمت ابتسامة على شفتَي ليون وطوى ورقات جريدته مرتبةً.

قال: «نعم هو، سأُحاوره هذا الصباح. وفي هذه الأثناء سُحِب المحقِّقون الذين عيَّنتْهُم وكالة أوتيس للتحقيقات.»

قال بويكارت مُومئًا ببطء: «إذا كان يُراقبنا فإنه يُضمِر نيةً سيئة. سأهتمُّ بمعرفة جميع الأخبار عن هذا الأمر.»

كان السيد لويس ليثرسون يقطن في شارع لاور بيركلي، في منزلٍ ضخم وباهظ الثمن. كان الخادم الذي فتح الباب لليون يرتدي زيًّا شائعًا في الأفلام التاريخية، ولكن لم يعُد يرتديه أحد في شارع لاور بيركلي؛ فكان يرتدي الحرير وسروالًا قصيرًا حتى الركبة ويتزين بالذهب. حملق فيه ليون مندهشًا.

قال الرجل: «سيُقابلك السيد ليثرسون في المكتبة.» كان يبدو مُدركًا للباسه المُتأنِّق، هكذا فكَّر ليون في نفسه.

كان منزلًا فخمًا تميَّز بأثاثه الثمين وزخارفه الفخمة. ولما كان يصعد درجات السُّلم العريضة لمح امرأةً جميلة تمرُّ عبر بسطة الدرج، رَمَتْه بنظرة ازدراء عابرة، ومرَّت مخلفةً وراءها رائحةً هادئة لعطرٍ أجنبي.

ربما يظن المرء خطأً أن الغرفة التي دخلها ما هي إلا غرفة نوم؛ بسبب تنوُّع زخارفها وجمال محتوياتها وتجهيزاتها.

نهض السيد ليثرسون من خلف المكتب الإمبراطوري الفخم ومدَّ يده نحوه وكانت بيضاء. كان نحيف الجسد، أصلع الرأس بعض الشيء، وكانت تجاعيد وجهه تُرسل إيحاءً بأنه على قدرٍ من الثقافة.

قال: «السيد جونزاليس؟» كان صوته رفيعًا حادًّا، ولم يكن لطيفًا للدرجة. «هلَّا جلست؟ لقد وصلني استفسارك ويبدو أن هناك سوء فهم.»

جلس مرةً أخرى. على الرغم من أنه ربما كان يُحاول إخفاء عدم ارتياحه بهذه اللامُبالاة التي أبداها، فإنه لم يتمكن من إخفاء ارتباكه تمامًا.

«أعرفك بالطبع، ولكن من السخافة أن أعيِّن رجالًا لمراقبة منزلك، لماذا؟»

كان جونزاليس يُراقبه باهتمامٍ شديد.

قال: «هذا ما جاء بي إلى هنا، وأعتقد أنه سيكون من العدل أن أخبرك بأننا لا نشكُّ في أنك تُراقبنا. نعرف الوكالة التي استعنت بها، ونعرف الأتعاب التي دفعتها والتعليمات التي أعطيتها لهم. السؤال الوحيد هو: ما الذي يدفعك إلى مراقبتنا؟»

تململ السيد ليثرسون في مقعده من دون ارتياح وابتسم. «في الحقيقة … أظن أن الحكمة تقتضي عدم إنكار أنني قد استعنت بمحقِّقين بالفعل. الحقيقة هي أن رجال العدالة الأربعة منظمةٌ ضخمة، كما أنني … كما أنني رجلٌ ثري …»

لم تُسعِفه الكلمات لكي يُكمِل حديثه.

انتهى الحوار على نحوٍ غير مُرضٍ بعبارات طمأنة مهذَّبة من الجانبين كليهما. ورجع ليون جونزاليس إلى شارع كيرزون وهو غارق في التفكير.

«إنه يخشى أن يستشيرنا أحد، وعُيِّن المخبرون لمنع ذلك الشخص. تُرى، من يكون؟»

جاءت الإجابة في الليلة التالية.

كانت ليلةً ظلماء من ليالي أبريل الباردة الرطبة. كانت المرأة التي تسير مُتباطئةً في شارع كيرزون، لتتفقَّد الأرقام على الأبواب، موضع شك لدى الشُّرطي الواقف عند ناصية شارع كلاريدج. كانت في الثلاثينيات من العمر تقريبًا، ذات جسدٍ نحيلٍ بعضَ الشيء، يتوارى تحت مِعطفٍ مُتهالك ومُبتلٍّ. كان وجهها باهتًا ونحيلًا قليلًا. تأمَّلها ليون جونزاليس وهو يرمقها من خلف الستارة الشبكية التي تُغطي النافذة وقال: «كانت امرأةً جميلة يومًا ما. امرأة عاملة لا يشغل بالَها سوى أن تكسب قُوت يومها.»

كان لديه وقت كافٍ لمراقبتها؛ إذ وقفت لمدةٍ طويلة بجوار الرصيف وهي تنظر إلى الشارع يَمنةً ويَسرةً في يأس.

«لاحَظ غياب مظاهر التأنُّق المُغْري من أي نوع، على الرغم من أنه في هذا الوقت يجد حتى أفقر الناس وشاحًا أو زوجًا من القفازات.»

نهض مانفريد عن الطاولة التي كان يتناول عليها وجبته الخفيفة وانضمَّ إلى المُراقِب المتحمِّس.

قال ليون متأملًا: «أظن أنها من بيئةٍ قروية. من الواضح أنها غريبة على ويست إند. إنها آتية إلى هنا!»

وبينما كان يتحدث، استدارت المرأة ودقَّقت قليلًا في الباب الأمامي. وبعدها سمعا جرس الباب يدقُّ.

«أسأت الفهم؛ إنها لم تضلَّ الطريق؛ لقد كانت تستجمع شجاعتها كي تدقَّ الجرس، وإن لم تكن تلك المرأة هي البعبع الذي يخشاه ليثرسون فلا تصدِّقني بعد الآن!»

سمِع خطوات بويكارت المُتثاقلة في الممر؛ فقد كان بويكارت يتقمص دور كبير الخدم وكأنه كذلك في الحقيقة. وبعد قليل دخل وأغلق الباب من خلفه.

قال بنبرته الجادَّة المُعتادة: «لديَّ مفاجأة.» هكذا كان بويكارت؛ شخصًا غريب الأطوار يقول أشياء غامضة بنبرةٍ جادَّة.

قال ليون مُنفعلًا: «عن المرأة؟ أنا أرفض المفاجآت. لقد فقدت شيئًا ما؛ زوجًا أو ساعة أو شيئًا آخر. مظهرها يُوحي بذلك؛ كأن هالةً من يأسٍ غامض تُحيط بها. هذه علامات لا تُخطئها عين!»

قال مانفريد: «اطلب منها أن تدخل.» ومن ثَم خرج بويكارت.

بعد لحظة، أُدخِلت ألما ستامفورد إلى الغرفة.

كان هذا اسمها. كانت قادمة من إدجوير، وكانت أرملة. وقبل أن تنتهي من المقدمات بوقتٍ طويل، بزغت المفاجأة التي وعد بها بويكارت؛ فهذه المرأة التي ترتدي ملابس تستنكف الخادمة أن ترتديها، ظهرت في عباراتها الرقَّة والثقافة. كانت حصيلتها اللغوية واسعة، وتحدَّثت عن ظروف عيش لا تخرج إلا من امرأةٍ اعتادت النعمة.

ترمَّلت المرأة من رجلٍ استشفُّوا من ثنايا حديثها أنه لم يكن نِعْم الزوج طوال حياته. كان ثريًّا على نحوٍ يتجاوز المعنى المألوف للكلمة؛ إذ كان له عقارات في يوركشير وسومرست، وكان عاشقًا مِقدامًا لصيد الثعالب بصحبة كلاب الصيد، ولكنه لقي حتفه في مِضمار الصيد.

قالت: «نشأ زوجي في ظروفٍ خاصة؛ فقد تُوفي والداه في سنٍّ مُبكرة وربَّاه عمه. كان عجوزًا شنيعًا وسكِّيرًا وفظًّا لأقصى درجة، ويغار من أي تدخُّل خارجي من أي شخص. حرفيًّا لم يرَ مارك أحدًا حتى أَحضرَ له عمُّه العجوز، في آخر عام من حياته، رجلًا يُدعى السيد ليثرسون، وكان شابًّا يكبر مارك قليلًا كي يكون مُعلمًا خصوصيًّا له؛ إذ كان مارك مُتخلفًا في دراسته لأقصى درجة. كان زوجي في عامه الحادي والعشرين عندما مات عمه، ولكنه أبقى على رجلٍ نبيل كي يكون رفيقًا وسكرتيرًا له.»

بادَرها ليون قائلًا: «السيد لويس ليثرسون.» فأطلقت المرأة زفرةً من المفاجأة.

وأردفت قائلةً: «لا يمكنني أن أخمِّن كيف عرفت، ولكن هذا هو اسمه. وعلى الرغم من أننا لم ننعم بحياةٍ زوجيةٍ سعيدة، فإن موته أصابني بصدمةٍ مُفجِعة. ولم تكن الصدمة من وصيته أقل فَجْعًا؛ فقد أوصى بنصف ثروته للسيد ليثرسون والنصف الآخر لي بعد خمسة أعوام من وفاته؛ بشرط أن أنفِّذ البنود الواردة في الوصية، ومنها ألا أتزوَّج خلال تلك المدة، وأن أعيش في منزل في هارلو، وألَّا أغادر حي هارلو مطلقًا. مُنِح السيد ليثرسون السلطة المُطلَقة للتصرف في نصيبي من التركة بصفته المُنفذ الوحيد للوصية. وعِشت في هارلو حتى هذا الصباح.»

قال ليون وعيناه المُتوهجتان مركِّزتان على السيدة: «السيد ليثرسون متزوجٌ بالطبع، أليس كذلك؟»

«بلى، هل تعرفه؟»

هزَّ ليون رأسه.

«أنا لا أعرف سوى أنه متزوج، وأنه يحب زوجته كثيرًا.»

ذُهلت المرأة لما سمعته.

«لا بد أنك تعرفه. نعم، تزوَّج قبل مَقتل مارك بمدةٍ وجيزة. إنها فتاةٌ مجريةٌ فاتنة الجمال؛ أحد والدَيها مجريٌّ، وأعتقد أنه يعشقها. سمعت أنها مُبذرة؛ فأنا لم أرَها سوى مرةٍ واحدة.»

كان السؤال التالي من نصيب بويكارت المُراقب الصامت: «ماذا حدث في هارلو؟»

رأى شفتَي المرأة ترتجفان.

قالت بصوتٍ مُختنق: «لقد كان كابوسًا. كان المنزل صغيرًا وجميلًا، يبعد عن هارلو بضعة أميال، ويبعد عن الطريق العمومي. عِشت فيه مدة سنتين وكأني سجينة بالمعنى الحرفي للكلمة. كانت خطاباتي تُفتح وأُحبس كل ليلة في غرفتي تحت رقابة واحدة من المرأتين اللتين أرسلهما السيد ليثرسون للاعتناء بي، بالإضافة إلى الرجال الذين يجُوبون الحديقة ليلَ نهار.»

سأل مانفريد: «إذن فدلالة ذلك أنكِ لستِ في حالةٍ عقليةٍ طبيعية، أليس كذلك؟»

بدت مذهولةً من ذلك.

سألته سريعًا: «أنت لا تعتقد ذلك، أليس كذلك؟» ولما هزَّ رأسه نافيًا أضافت قائلةً: «حمدًا للرب على ذلك! نعم، هذه هي الحكاية التي قالوها. ما كان يُفترض أن أقرأ الجرائد على الرغم من توافُر جميع الكتب التي كنت أريدها. وفي يومٍ ما، وجدت قصاصة ورق بها خبر عن جريمة احتيال في بنكٍ كنتم أنتم من اكتشفتموها، وكانت تضمُّ نبذةً مختصرة عن تاريخكم. لقد احتفظت بها لأن عنوانكم كان مُدرَجًا في تلك الفقرة. بدا الهروب مستحيلًا؛ فلا مال لديَّ وما وجدت منفذًا للهروب من الحديقة، ولكن توجد امرأةٌ من طرفهم كانت تأتي للقيام بالأعمال الشاقَّة مرتين في الأسبوع. أظن أنها من القرية. تمكَّنت من كسب تعاطُفها، وأحضرت لي هذه الملابس بالأمس. غيَّرت ملابسي باكرًا هذا الصباح، وغادرت غرفة نومي من النافذة وتجاوزت الحارس. والآن، سأحكي لكم لُغْزي الحقيقي.»

وضعت يدها في جيب معطفها المبتل وأخرجت رزمةً صغيرة، ثم أفرغتها من لفتها.

«نُقل زوجي إلى المستشفى الريفي بعد الحادث، ثم تُوفي في وقتٍ مبكِّر من صباح اليوم التالي. لا بد أنه استعاد وعيه من دون أن تعرف الممرِّضات؛ لأن الجزء العُلوي من الملاءة كان مغطًّى برسوماتٍ صغيرة. رسم هذه الرسومات بقلم رصاصٍ غير قابل للمحو كان مُرفَقًا مع مخطَّط درجة الحرارة ومعلَّقًا أعلى رأسه؛ لا بد أنه وصل إليه وأخذه من المخطط.»

فرشت قطعة القماش المتَّسِخة المصنوعة من الكتان على الطاولة.

«كان مارك المسكين مُغرَمًا للغاية برسم الأشكال التي يحب أن يرسمها الأطفال والكسالى ممَّن ليس لديهم مهارةٌ حقيقية في الرسم.»

سأل ليون: «كيف وصلت إليك هذه القماشة؟»

«قطعَتْها رئيسة الممرضات لي.»

قطَّب مانفريد وجهه وقال: «هذه أشياء يمكن أن يرسمها أي شخص في حالة هذيان.»

قال ليون بصوتٍ هادئ: «على النقيض من ذلك، إنها واضحة كضوء النهار بالنسبة إليَّ. أين عُقِد زواجكما؟»

«في مكتب تسجيل عقود الزواج بويستمنستر.»

أومأ ليون.

«عُودي بالذاكرة إلى الوراء؛ هل تتذكَّرين أي شيء لافت للنظر فيما يتعلَّق بالزواج؟ هل أجرى زوجك محادثةً شخصية مع أمين السجل؟»

اتَّسعت عيناها الزرقاوان الكبيرتان عند سماعها السؤال.

«نعم، تحاور معه السيد ليثرسون وزوجي في مكتبه الخاص.»

ضحك ليون ضحكةً مكتومة، لكنه سرعان ما استعاد جدِّيته.

«سؤال آخر. من الذي صاغ الوصية؟ هل هو مُحامٍ؟»

هزَّت رأسها.

«زوجي. لقد كتبها بخط يده من بدايتها وحتى نهايتها. كان خطه جميلًا، ويسهل تمييزه عن أي خط آخر.»

«هل فُرضت أي شروط أخرى عليكِ في وصية زوجك؟»

تردَّدت في الإجابة، ورأى الجالسون سحابةً داكنة تُغطي وجهها.

«نعم، كان شرطًا مهينًا لم أذكُره لكم. إنه الشرط الأساسي، وهو أنه لا يجوز لي أن أحاول في أي وقتٍ أن أعلن أنني تزوَّجت من مارك زواجًا قانونيًّا. لم أستطع تفسير هذا الشرط؛ لا يمكن أن أصدِّق أنه قد سبق له الزواج، ولكنه مر بأحداثٍ جِسام في بداية حياته مما يجعلني أتوقَّع أي شيء.»

كان ليون يبتسم مسرورًا؛ ففي مثل هذه اللحظات يصبح كأنه طفلٌ حصل على لعبةٍ جديدة ومسلِّية.

قال: «سأُريح بالك. لم يسبق لزوجكِ الزواج من قبل!» وكان ردُّه مثار اندهاش لها.

كان بويكارت مُنكبًّا على فحص الرسومات.

سألها: «هل يمكنكِ الحصول على مخطَّطات أملاك زوجك؟» وضحك ليون مرةً أخرى.

قال مُتعجبًا: «ذلك الرجل يعرف كل شيء يا جورج! بويكارت، صديقي القديم، أنت لا مثيل لك!» ثم التفت سريعًا إلى السيدة ستامفورد. «سيدتي، أنت بحاجةٍ إلى الراحة وتغيير ملابسكِ، وإلى الحماية. الشيء الأول والأخير مُتوافران في هذا المنزل، إذا كانت لديكِ الجرأة للمُكوث في ضيافتنا. أما بالنسبة إلى الثاني، فسأُحضره لكِ في غضون ساعةٍ بالإضافة إلى خادمةٍ مؤقَّتة.»

نظرَتْ إليه في شيءٍ من الحيرة والارتباك. وبعد خمس دقائق، كان بويكارت الخَجول يقُودها إلى غرفتها، وكانت مربِّية يعرفها ليون تُسرِع إلى شارع كيرزون ومعها حقيبةٌ مُمتلئة عن آخرها؛ فقد كان ليون ضعيفًا أمام المربِّيات، ويعرف منهن ما لا يقل عن مائة بالاسم.

برغم أن الوقت كان متأخرًا، فقد أجرى عدة مكالمات، كان من بينها مكالمة إلى ستروبيري هيل، حيث يعيش رجل يعمل مساعدًا لأمين سجل لتوثيق عقود الزواج.

كانت الساعة الحادية عشرة في تلك الليلة، عندما دقَّ جرس باب المنزل الأنيق الكائن في شارع أبر بيركلي. كان من أدخله خادمٌ آخر.

«هل أنت السيد جونزاليس؟ السيد ليثرسون لم يعُد بعدُ من المسرح، ولكنه اتَّصل هاتفيًّا وطلب أن تنتظره في المكتبة.»

قال ليون مُمتنًّا: «شكرًا لك!» على الرغم من أنه لم يكن هناك داعٍ للشكر؛ لأنه هو من أجرى هذا الاتصال الهاتفي.

أُدخلَ إلى هذا الحرم المزخرَف وتُرِك وحده.

وما كاد الخادم يُغادر الغرفة حتى دخل ليون إلى هذا المكتب الإمبراطوري وأخذ يقلِّب في الأوراق بسرعة. وفي النهاية وصل إلى الورقة التي كان يبحث عنها على النشاف، ووجدها مقلوبة على وجهها.

خطابٌ موجَّه إلى شركة لتجارة النبيذ يتضمَّن شكوى من وجود عيب في شحنة شمبانيا. مرَّر عينه على الخطاب سريعًا — إذ لم يُكتب سوى نصفه — وطوى الورقة ووضعها في جيبه.

فتَّش في أدراج المكتب بعناية وبسرعة، فوجد اثنين مغلقين بقُفل، ولكن الدرج الأوسط لم يكن مُحكَم القفل. أثار اهتمامَه ما عثر عليه، وشغل تفكيره بعض الشيء. وما كاد ينتهي حتى سمع سيارةً تتوقَّف أمام المنزل، ولما نظر من خلف الستائر رأى رجلًا وامرأةً يترجَّلان منها.

كان الظلام يعمُّ المكان، ولكنه تعرَّف على مُضيفه الذي لا يعلم بوجوده، وكان يجلس في وقار ورزانة على حافَّة أحد الكراسي عندما دخل ليثرسون إلى الغرفة، وقد هرب الدم من وجهه من الغضب.

أغلق الباب بعنفٍ من خلفه، ثم تساءل: «ما الذي يجري هنا بحق الجحيم؟ والله لأطلبنَّ الشرطة لتعتقلك بتهمة انتحال شخصيتي.»

ابتسم ليون جونزاليس: «خمَّنت أنني اتصلت هاتفيًّا؛ يُعجبني ذكاؤك.»

ابتلع الرجل ريقه.

«ما سبب مجيئك إلى هنا؟ أظن أن الأمر يتعلَّق بالمرأة البائسة التي هربت من مستشفًى للأمراض العقلية اليوم، لقد سمعت الخبر قبل أن أخرج مباشرةً.»

ليون: «هكذا استنتجنا من حقيقة أن مُراقبيك كانوا يعملون على مراقبتنا مرةً أخرى الليلة، ولكنهم تأخَّروا قليلًا.»

ازداد وجه الرجل شُحوبًا.

سأل وهو يرتعش: «هل رأيتها؟ وأظن أنها قصَّت عليك حكايةً لا أصل لها عني، أليس كذلك؟»

أخرج ليون من جيبه قطعة قماش باهتة من الكتان وفردها.

سأل: «ألم ترَ هذه؟ عندما مات مارك ستامفورد وُجدت هذه الرسومات على ملاءته. تمكَّن من رسم هذه الأشياء الصغيرة الغريبة، أمَا علِمت ذلك؟»

لم يُجب لويس ليثرسون.

«هلَّا أخبرتك ما هذا؛ إنها وصيته الأخيرة!»

تذمَّر الآخر: «هذا كذب!»

أومأ ليون في صرامة: «إنها الوصية الأخيرة. هذه المعينات الغريبة الثلاثة هي مخططاتٌ تقريبية لتركته التي تنقسم إلى ثلاثة أشياء. ذلك المنزل عبارة عن صورةٍ واضحة للمنشآت على الضفة الجنوبية والدوائر الصغيرة هي الأموال.»

لم ينفكَّ ليثرسون عن التحديق في الرسومات.

وحين تمكَّن من الحديث قال: «لن تأخذ أي محكمة بهذا الهراء.»

ضحك ليون ضحكةً كئيبة أظهرت نواجذه.

سأله: «وهل ستأخذ المحكمة بكلمة «الفل» التي يُقصد بها «الكل»، أم بالخطوط الأربعة التي يُقصد بها «من أجل»، أم باسم «مارجريت»، أم باسم «مارك»؟»

استعاد ليثرسون رباطة جأشه بصعوبة وقال: «عزيزي، الفكرة عبقرية، ولكنه كتب وصية بخط يده.»

وقف ليون ورأسه مُشرئبٌّ إلى الأمام؛ ومن ثَم فهم ليثرسون في ذلك الوقت.

اصفرَّ لون ليثرسون حينما قال ليون بصوتٍ هادئ:

«لم يكن يستطيع الكتابة! لقد استطاع رسم هذه الصور، ولكنه لم يكن يستطيع كتابة اسمه. لو اطَّلعت زوجة السيد ستامفورد على الوثيقة التي أصدرها أمين السجل، لرأت أن التوقيع كان عبارة عن صليب؛ وهذا هو السبب في وضعك العقبة الخاصة بعدم محاولة إثبات زواجها وإبقائها سجينةً في منزل هارلو تحسُّبًا لأن تسعى لإجراء تحقيقات مُستقلة.»

اندفع ليثرسون فجأةً إلى مكتبه وفتح أحد الأدراج مُرتعشًا. وفي ثانيةٍ ظهر سلاح أوتوماتيكي في يده. وعاد مُسرعًا إلى الباب وفتحه بركلةٍ من قدمه.

صرخ: «النجدة! قاتل!»

دارَ حول جونزاليس الذي وقف ساكنًا، وأشهَر سلاحه نحوه وضغط على الزناد. لم يُصدِر سوى صوت تكتكة ولا شيء آخر.

قال ليون بصوتٍ هادئ: «لقد أفرغت الخزانة؛ ومن ثَم أصبحت المأساةُ التي رتَّبت لها بعنايةٍ مسرحيةً هزلية. هل أتصل بالشرطة أم تتصل أنت؟»

ألقى رجال سكوتلاند يارد القبض على لويس ليثرسون وهو يقفز على القارب في مدينة دوفر.

قال مانفريد وهو يقرأ الخبر في الجرائد المسائية: «قد يكون ثَمة صعوبة في إثبات الوصية، ولكن هيئة المحلِّفين لن تستغرق وقتًا طويلًا كي تضع الصديق لويس في المكان الذي يستحقُّه.»

عندما استجوبوا ليون لاحقًا — إذ كان بويكارت يكرِّس نفسه لتدوين سِماته النفسية — اضطرَّ للتنازل وتوضيح الأمر.

«لقد أخبرتني الرسالة السرية بما لم يستطع كتابته، كما كشفت لي حقيقة أن الوصية لم تشترط على زوجة السيد ستامفورد أن تتزوج من لويس، إنه مُتزوج وإنه يحب زوجته. والباقي كان غايةً في السهولة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤