الفصل العاشر

سيدة من البرازيل

نُشرت للمرة الأولى في مجلة «توينتي ستوري»، عدد أكتوبر ١٩٢٧.

***

بدأت الرحلة في عاصفةٍ من الأمطار واستمرَّت في الضباب. مرَّ المسافرون بالعديد من المطبَّات الهوائية مما أصابهم بالإعياء. اتصل الطيار بمركز القيادة وانخفض بالطائرة على ارتفاعٍ أقل من مائتَي قدم.

ثم جاء المُضيف بأنباءٍ صدح بها بصوتٍ علا فوق هزيم المحرِّكات.

«سنهبط في ليمبني. ضبابٌ كثيف يخيِّم على لندن. ستأخذكم الحافلات إلى لندن.»

مال مانفريد إلى الأمام نحو السيدة التي كانت تجلس في الجانب الآخر من الممر الضيِّق.

قال بصوتٍ لا يصل إلا إلى أذنها: «أنت سعيدة الحظ.»

رفعت السيدة المبجَّلة بيفيرسي نظارتها وتفحَّصته ببرود.

«معذرةً؟»

هبطت الطائرة بسلامٍ بعد فترةٍ وجيزة، ولما نزل مانفريد على سُلَّم طائرة باريس مد يده كي يساعد السيدة الجميلة على النزول.

«هل كنت تقول …؟»

حدَّقت فيه المرأة الرشيقة الجميلة ورمقته بنظرة عجرفة باردة.

مانفريد: «كنت أقول إنه من حسن حظكِ أن هبطنا هنا. اسمكِ كاثلين زيلينج، ولكنكِ مشهورة باسم «كلارو» ماي، ويوجد ضابطَا تحقيقٍ في انتظاركِ في لندن لاستجوابكِ بشأن عقدٍ من اللؤلؤ فُقِد في لندن منذ ثلاثة أشهر. إنني أفهم الفرنسية جيدًا جدًّا، وسمعت رجلَيْن من مديرية الأمن يتناقشان بشأن مستقبلكِ قبل أن نُغادر لو بورجيه مباشرةً.»

لم يعُد التحديق ينمُّ عن العجرفة، بل عن عدم الاهتمام. من الواضح أن نظرتها المُتمعنة في الرجل الذي أعطاها هذه المعلومة المُقلِقة قد طمأنتها فيما يتعلَّق بنزاهته وصدقه.

قالت بصوتٍ هادئ: «شكرًا لك، ولكني لست قلقةً على الإطلاق. فينيكر وإدموندز هما الرجلان اللذان تقصدهما، سأرسل برقيةً لهما كي يُقابلاني في الفندق. مظهرك لا يدل على أنك «شُرطي»، ولكني أظن أنك كذلك؟»

ابتسم مانفريد: «ليس بالضبط.»

نظرت إليه باستغراب.

«بالتأكيد تبدو أصدق من أن تكون ضابط شرطة. أنا بخير، ولكن شكرًا لك على أي حال.»

كانت هذه بمثابة إذن له بالانصراف، ولكن مانفريد ظل واقفًا لم يتزحزح من مكانه.

«إذا واجَهتْكِ مشكلةٌ من أي نوع فسيُسعدني أن تتصلي بي.» ثم أعطاها بطاقة، ولكنها لم تنظر فيها ولو نظرةً سريعة. «وإذا كنتِ تتساءلين عن سبب اهتمامي فيكفي أن تعرفي أنه قبل عامٍ كاد صديقٌ عزيز جدًّا لي أن يَلقى حتفه على يد عصابة فوريت التي انقضَّت عليه على حين غِرة في مونمارتر، وأنت فقط من تكرَّمت بمساعدته.»

بهذه المفاجأة قرأت البطاقة، ولما قرأتها تغيَّر لونها.

قالت في ارتباك وحرج: «يا إلهي! لم أكن أعرف أنك واحد من هذه الفِرقة؛ رجال العدالة الأربعة؟ إني أخافكم كثيرًا! كان اسمه ليون، يعقبه اسمٌ إيطالي …»

قال مانفريد: «جونزاليس.» فأومأَتْ له.

«هذا صحيح!»

كانت تنظر إليه الآن باهتمامٍ جديد.

«في الحقيقة، لا تُواجهني مشكلة بشأن مسألة عقد اللؤلؤ. وفيما يتعلَّق بصديقك فقد أنقذني. ما كان أن يدخل في شجار مع العصابة إلا لأنه أراد مساعدتي لما خرج من الملهى الليلي.»

«أين تُقِيمين في لندن؟»

أخبرته بعنوانها، وفي تلك اللحظة جاء ضابطٌ من ضباط الجمارك وقطع حديثهما. لم يرَها مانفريد مرةً أخرى؛ فلم تكن في الحافلة المُغلَقة التي نقلته إلى لندن.

في الحقيقة، لم يكن لديه رغبةٌ كبيرة في مقابلتها مرةً أخرى. كان الدافع وراء تصرُّفه هو الفضول والرغبة في مساعدة امرأة قدَّمت مساعدةً كبيرة لليون جونزاليس، وهي المناسبة التي تكشفت فيها القصص المزيَّفة عن ليون.

لم يكن مانفريد يتعاطف مع المُجرمين ولا يمقتهم. كان يعرف أن ماي مُحتالةٌ دولية على نطاقٍ واسع، وكان مُقتنعًا إلى حدٍّ كبير بأن الشرطة الإنجليزية ستعتني بها جيدًا.

ندم مانفريد خلال رحلته إلى لندن لأنه لم يطلب منها المزيد من المعلومات عن جاري، على الرغم من أنهما لم يلتقيا مطلقًا.

أزال جورج مانفريد، المعروف ضِمنًا بكَوْنه الروح القائدة لرجال العدالة الأربعة، ثلاثًا وعشرين درنةً اجتماعية من جميع الأنشطة البشرية على مدار حياته.

أهدت الحرب له ولرفاقه عفوًا عن الجرائم التي عُرِف أنهم ارتكبوها والانتهاكات التي يُشتبَه في تورُّطهم فيها، ولكن في المقابل أخذت السلطات التي منحته العفو عهدًا عليه بأن يلتزم بالقانون نصًّا وروحًا، وقد قطع هذا العهد على نفسه بالنيابة عن نفسه وبالأصالة عن رفاقه. ولم يندم على هذا العهد إلا مرةً واحدة، وكان ذلك عندما أصبح جاري ليكسيفيلد تحت مراقَبته.

لم يحترم جاري القانون في حياته قط. كان رجلًا في الثلاثين من عمره، طويل القامة، وذا وجه واضح الملامح، وحسن المظهر نوعًا ما. كانت النساء يرينه ساحرًا جذَّابًا، وكن يُدركن ذلك من واقع تجارب شخصية مؤلمة معه؛ إذ كان من النوع القاسي المُتحجر القلب، وكان أناس في غاية اللطف يدعونه إلى منازلهم، حتى إنه وصل إلى مجلس إدارة شركة شهيرة في ويست إند.

كان أول لقاء جمع بين مانفريد وجاري على خلفية مسألة تافهة للغاية. كان السيد ليكسيفيلد مُنخرطًا في نقاش على إحدى نواصي شارع كيرزون حيث كانت شقته تقع هناك. كان مانفريد عائدًا في وقتٍ متأخر، ورأى رجلًا وامرأةً يتحادثان، وكان الرجل يتحدث بعنف، وكانت المرأة خائفة بعض الشيء. مرَّ بهما وهو يعتقد أنه شجارٌ من النوع الذي ينبغي ألَّا يأبه له الرجل الحكيم، ثم سمع صوت ضربة وصراخ خافت. التفت ورأى المرأة جاثيةً بجانب سور الممر المؤدي إلى قبو المنزل؛ ومن ثَم عاد بسرعة.

سأل: «هل ضربت المرأة؟»

«هذا ليس من شأنك.»

قلبه مانفريد من قدميه وأسقطه من أعلى سور المنزل. وعندما التفت كانت المرأة قد تبخَّرت.

قال مانفريد أسفًا: «كان بإمكاني قتله.» وبدا لليون جونزاليس أن الأمر لا يستدعي كل هذا الأسف الذي ظهر على وجه مانفريد.

«ولكنك لم تقتله، ما الذي حدث؟»

قال مانفريد مُعترفًا: «لما وجدته نهض على قدميه ولم ينكسر فيه شيء، انسحبت. لا بد أن أحترس من هذه الدوافع المفاجئة. لا بد أن تقدُّمي في العمر أثَّر في تقديري للأمور.»

إذا كان بويكارت لديه معرفةٌ تامة بعالم الجريمة القذر، فإن مانفريد كان موسوعةً حية لكل المُحتالين الأفَّاقين المُختبئين خلف الثياب الأنيقة، ولكن لسبب أو لآخر لم يكن السيد ليكسيفيلد ضمن نطاق معرفته. أجرى ليون تحريات؛ ومن ثَم أعدَّ تقريره.

«لقد طُرد من الهند وأستراليا. إنه «ليس مطلوبًا» إلا في نيوزيلندا في حال عودته إليها مرةً أخرى. تخصَّص في الجمع بين الزوجات من العائلات التي تمنعها سُمْعتها المرموقة من المجازَفة بفضيحة. ولا يعرفه مجتمع المُحتالين المتأنِّقين في لندن إلا من خلال الشائعات. لديه زوجةٌ حقيقيةٌ تبِعته إلى لندن، وربما كانت هي الدافع وراء زيارته إلى المنطقة.»

وصل السيد جاري ليكسيفيلد إلى مستوًى ملكي، وكان الحظ حليفه؛ إذ وصل إلى مونروفيا في سيدني دون جلبة وباسمٍ مُستعار. كان يملك السحر والجاذبية اللذين يُعتبران ثلاثة أرباع أصول اللص الحاذق. استطاع بسحره هذا أن يأخذ ما يقرُب من ثلاثة آلاف جنيه من جيوب أستراليين ثريين من أصحاب العقارات، وجذب إليه ابنة شخص ثالث بدت عليه هو الآخر مظاهر الثراء.

عندما وصل كان خاطبًا، وبفضل حسن حظه والعناية الإلهية أُصيبت عروسه المنتظرة بالمرض في يوم وصولها بالتهابٍ حادٍّ في الزائدة الدودية. وقبل أن تُغادر المَشفى الذي كانت تُقِيم به علِم أن أباها الذي كان مُحتالًا مُغتصبًا للأراضي، ولم يكن مليونيرًا من الأساس، يُواجه مشكلاتٍ ماليةً ضخمة.

ولكن الحظ حالَفه؛ إذ جنى ثروةً صغيرةً خلال زيارة إلى مونت كارلو وإن كان قد جناها بطُرقٍ غير سوية؛ فقد الْتَقى هناك بإلسا مونارتي التي تلقَّت تعاليمها في أحد الأديرة، وفُتنت به بكل سهولة حين تودَّد إليها. أرسلتها أختها، التي لم يكن لها أقرباء سِواها، إلى سان ريمو، ومن الغريب أنها كانت تتعافى من مرضٍ ألمَّ بها، ثم ضلَّت الطريق من الحدود والتقت السيد ليكسيفيلد الوسيم — ولم يُفشِ عن هذا الاسم بالطبع — في الردهة الكبيرة للمَسكن. كانت بحاجة إلى تذكرة دخول؛ ومن ثَم تفضَّل جاري بشهامته بإحضارها. أخبرته عن أختها التي كانت مُديرة وشريكة في مصنعٍ كبير لتصميم الملابس في شارع لا بيه. وثقةً بثقةٍ أخبرها جاري عن ثراء والدَيه الأرستقراطيين، ووصف لها حياةً أسطوريةً مِثل حياتها.

عاد إلى لندن وحده، ووجد نفسه مقيَّدًا على نحوٍ مُزعج للغاية مع المرأة الوحيدة التي كانت الأنسب في العالم كي تحمل اسمه وهي جاكسون؛ وهي امرأةٌ عنيدة وإن كانت جميلة، ولم تكن له أي مشاعر خاصة، ولكنها كانت مُتلهفة لاسترداد القليل من الثروة التي بدَّدها من أجل طفليه المُهملين.

وفي لحظةٍ من لحظات العناد الشديد كاد أن يدفع مبلغًا جيدًا عن طِيب خاطر من أجل التخلص منها لولا بخله المتأصِّل فيه.

مرَّ أسبوع على تجربته الصادمة حين وجد نفسه مُلقًى على سورٍ مرتفع نوعًا ما في منطقةٍ كانت من حسن حظه سطحيةً، وظلَّ يعرج عندما جاء ليون جونزاليس، الذي كان يحقِّق في قضيته، بالقصة الكاملة لأفعاله السيئة.

قال مانفريد آسفًا: «لو كنت أعرف أنه هو لألقيته بمزيدٍ من القوة. الشيء الغريب أنه في اللحظة التي رفعته فيها — وتلك حيلة لن تنجح في اكتسابها مطلقًا يا ليون — علِمت أنه إنسانٌ سيئ الخُلق. سنضطرُّ إلى إبقاء عيننا على السيد جاري ليكسيفيلد. أين يُقِيم؟»

قال ليون: «لديه شقةٌ فخمة في شارع جيرمين. قبل أن تُخبرني بأنه لا توجد شُققٌ فخمة في شارع جيرمين، أودُّ أن أقول إن الشقة تُوحي بمظاهر البذخ. لقد كنت مُهتمًّا أيَّما اهتمام بهذا الرجل، حتى إنني ذهبت إلى مقر سكوتلاند يارد وتحدَّثت مع ميدوز. إن ميدوز يعرف كل شيء عنه، ولكن ليس لديه دليل يَدِينه. إنه يمتلك أموالًا طائلة، ولديه حساب في بنك لندن آند ساوذرن، واشترى سيارةً عصر اليوم.»

أومأ مانفريد مفكرًا.

قال: «رجلٌ سيئ للغاية. أما من فرصة للوصول إلى زوجته؟ أظن أنها السيدة البائسة التي كانت معه.»

«إنها تعيش في شارع ليتل تيتشفيلد، وتُطلِق على نفسها اسم السيدة جاكسون، وربما هو اسم صديقنا هذا. ميدوز متأكدٌ من ذلك.»

كان السيد جاري ليكسيفيلد أكثر فطنةً من ألا يعلم أنه تحت المراقَبة، ولكن جرائمه كانت من النوع الذي يستعصي على الكشف. كان أسلوبه اللطيف وسيارته، بالإضافة إلى تدبيره المنظَّم لحادث لمركبه على أحد الروافد العليا لنهر التايمز، كل ذلك ضمِن له معارف وعضويةً فخرية في نادٍ نهري يقتصر رُواده على علية القوم؛ ومن هناك صار قابَ قوسين أو أدنى من منازل كان ليُحظَر عليه الاقتراب منها.

أمضى شهرًا مُربحًا لما أدخل اثنين من سماسرة البورصة الأثرياء في خفايا وطلاسم البوكر، التي لازَمه سوء الحظ فيها لخمس ليالٍ مُتتالية، وخسر حوالَي ٦٠٠ جنيه إسترليني لمُضيفيه الذين عبَّروا عن أسفهم تجاهه. لم تكن ثَمة ضرورة لاعتذارهم كما اتَّضح بعد ذلك؛ ففي اليومين السادس والسابع ربح ما يقرُب من ٥٠٠٠ جنيه إسترليني؛ الأمر الذي قد يبدو مُذهلًا ولا يُصدَّق، وترك مُضيفيه ولديهم انطباع أسف عن كَوْنه السبب في خسارتهم.

لما علم مانفريد بذلك، قال: «هذا مُثير للغاية.»

بعد ذلك، وفي ذات ليلة عندما كان ليكسيفيلد يتناول العشاء في فندق ريتز كارلتون مع شابٍّ تعرَّف عليه في وقتٍ قصير، رأى ثروته الكبرى.

سأل رفيقه بصوتٍ مُنخفض: «أتعرفها؟»

«أتقصد تلك السيدة؟ يا إلهي، نعم! أعرفها منذ سنوات. كانت تُقِيم مع أسرتي في سومرست؛ إنها مدام فيلاسكيز. إنها أرملة رجل برازيلي فاحش الثراء.»

نظر السيد ليكسيفيلد مرةً أخرى إلى السيدة الجميلة السمراء الجالسة على الطاولة المُجاورة. ربما كانت مُزْدانةً أكثر من اللازم قليلًا بالجواهر، على النحو الذي يُرضي أكثر الناس تأنقًا؛ فقد طوَّقت صفوفٌ من الأساور الماسية ذراعها من المعصم إلى آخر ذراعها، واستقرَّت على صدرها ألماسةٌ تلألأت بحجرٍ ضخم من الزمرد. كانت ترتدي ملابس رائعة وكأنها من العائلة الملكية.

تابَع مُخبره ثرثرته: «إنها فاحشة الثراء. أخبرني الكولونيل الذي أعمل لديه ويعرفها أكثر مني بكثيرٍ أن زوجها ترك لها ستة ملايين جنيه إسترليني. من الفساد أن يمتلك الناس كل هذا القدر من المال.»

كان جاري ليكسيفيلد يرى أن من الفساد أن يجد شخصٌ كل هذا القدر من المال ولا يستطيع «استقطاع» نصيبه منه.

قال: «أريد أن أقابلها.» وبعد دقيقة جرى التعارف بينهما، ونسي جاري تخطيطه لتجريد هذا الحارس الشاب من ماله في تلك الليلة في غمرة ما انتابه من إثارة وشوق بمقابلة صيد أكبر.

وجدها امرأةً جذَّابة إلى حدٍّ بعيد. كانت لغتها الإنجليزية جيدة، وإن كان بها قليل من الركاكة. بدت سعيدة بمقابلته. رقص معها أكثر من عشر مرات، وطلب منها أن تسمح له بزيارتها في الصباح، ولكنها كانت مغادرة إلى مسقط رأسها في سيتون ديفيريل.

قال بابتسامته الساحرة المعهودة: «شيءٌ غريب. سأتوجَّه إلى سيتون ديفيريل السبت القادم.»

والتقطت الطُّعم؛ ما أسعده كثيرًا. وفي ظهيرة يوم السبت انطلق بالسيارة إلى منزل هانفورد.

بعد أسبوع، جاء ليون بأخبارٍ مُفزِعة.

«لقد خطب هذا الرجل أرملةً ثرية من أمريكا الجنوبية يا جورج. لا يمكننا أن نسمح بتطور الأمر لأكثر من ذلك. لنعُد إلى عربدة الفوضى والخروج عن القانون. لنختطف هذا اللص ونضعه على سفينة لنقل الماشية. يوجد رجل في طريق دوك إيست إنديا سيُنجز المهمة مقابل خمسين جنيهًا.»

هزَّ مانفريد رأسه.

قال: «سأقابل ميدوز. لديَّ فكرةٌ يمكن أن تجعلنا نُمسك بهذا الشخص.»

لم يكن السيد جاري ليكسيفيلد يحلِّق فوق سبع سموات من الفرح والبهجة مِثلما هو مفترَض بين العُشاق، ولكنه كان راضيًا تمام الرضا عن نفسه وهو يُشاهد اللمسات الأخيرة تُوضَع على مائدة العشاء في شقته.

أضْناه إقناع السيدة فيلاسكيز؛ إذ أبدت شكًّا غير عادي، وطلبت منه أن يعرِّفها بوالديه اللذين كانا في تلك اللحظة يتولَّيان شئون أملاكهما الضخمة في كندا.

قالت وهي تهزُّ رأسها الجميل في ارتياب: «إنها خطوةٌ خطيرة للغاية يا عزيزي جاري. إنني أحبك بشدة بالطبع، ولكني أخاف من الرجال الذين يرغبون في المال فقط دون الحب.»

قال مُعترضًا بشدة: «عزيزتي، أنا لا أريد المال. لقد أطلعتك على دفتر شيكاتي. إنني أمتلك تسعة آلاف جنيه في البنك، بخلاف العقارات.»

تجاهلت هذا الأمر. كانت السيدة ذات طبع غريب، فلا تستقرُّ في حالةٍ مزاجيةٍ واحدة لأكثر من ساعة.

كانت قد جاءت إلى العشاء بصحبة وصيفة؛ كانت فتاة لا تتحدث كلمةً واحدة بالإنجليزية، وهذا ما أثار انزعاجه. كان السيد ليكسيفيلد رجلًا صبورًا للغاية؛ ما دفعه إلى إخفاء غضبه.

جلبت السيدة أخبارًا جعلته ينسى أمر الوصيفة التي لم يرتَح لها. كانا يحتسيان القهوة في غرفة الاستقبال الصغيرة المزجَّجة بالزخارف، حين أخبرته قائلةً:

«لقد التقيت رجلًا لطيفًا جدًّا اليوم. أتى إلى منزلي في الريف.»

لم يكن جاري يشعر بسعادةٍ غامرة، إلا أنه ابتسم قائلًا: «ليس لطيفًا فحسب، بل محظوظ أيضًا.»

ابتسمت قائلةً: «وتحدَّث عنك.»

سرعان ما تنبَّه جاري ليكسيفيلد؛ فلم يكن أحد في إنجلترا يعرفه جيدًا بما يكفي ليجعله محور حديثه. وإذا كان ذلك قد حدث فلا بد أن المناقشة لم تكن في صالحه بدرجةٍ كبيرة.

سأل: «من كان هذا الرجل؟»

«كان يتحدث الإسبانية بطلاقة، وله ابتسامةٌ تفيض بالبهجة! وقال العديد من الأشياء المُضحكة التي أضحكتني.»

سأل: «هل هو برازيلي؟»

هزَّت رأسها.

قالت: «في البرازيل نتحدث بالبرتغالية. لا، اسمه السيد جونزاليس.»

قال بسرعة: «جونزاليس؟ أليس هو ليون جونزاليس؟ واحد من هؤلاء الرجال؛ رجال العدالة الثلاثة؟»

رفعت حاجبيها في دهشة.

«هل تعرفهم؟»

ضحك.

«سمعت عنهم. أوغاد كان يجب شنقهم منذ سنوات. إنهم قتَلة ولصوص. يا لَجرأته التي جعلته يأتي لمقابلتك! أظنه قد قال عني أشياء سيئةً للغاية، أليس كذلك؟ في الحقيقة لقد كنت عدوًّا لهم لسنوات.»

ومضى يُخبرها بقصةٍ خيالية عن لقاءٍ سابقٍ جمعه مع الرجال الثلاثة، وأنصتت له بشدة.

قالت في النهاية: «يا لها من قصةٍ مُثيرة! بلى، لم يقل عنك سوى أنك رجلٌ سيئ، وأنك تريد مالي، وأنك … ماذا قال؟ آه، من أرباب السوابق. استشطت غضبًا حقًّا، خاصةً لما أخبرني أن لديك زوجةً، وأنا أعرف أن هذا غير صحيح؛ لأنه ما كنت لتخدعني. سيأتي هذا السيد جونزاليس مرةً أخرى غدًا؛ فقد راقني حقًّا وقتما لم أكن غاضبة. هلَّا تناولت الغداء معك وأخبرك بما قاله؟»

غضب جاري، وانزعج انزعاجًا شديدًا. لم يكن من الصعب تحديد موقع وهُوية الرجل الذي اتخذ معه مِثل هذا الإجراء العاجل، وبمجرد تحديد الموقع قرَّر أن ينأى بنفسه عن هؤلاء الرجال الذين يعيشون خلف الباب ذي المثلَّث الفضي. كان لديه من الحكمة ما يكفي لكي يعرف أنه ينبغي ألا يستعديهم، وتمنَّى من أعماق قلبه ألا يكون تعقبهم له حثيثًا مِثلما فعل بينما كان يسعى لتحديد هُويتهم.

غيَّر موضوع المحادثة، وأصبح أحنَّ العاشقين وأكثرهم لوعة واشتياقًا على الرغم من وجود عذول. استجمع كل أساليبه وخبرته في تلك اللحظة؛ إذ كانت بين يديه غنيمةٌ تفُوق أحلامه.

كان هدفه المباشر الحصول على مبلغ ٢٠ ألف جنيه، جاء إلى السيدة على هيئة أرباح أسهم. أظهرت قدرًا من العجز وقلة الحيلة فيما يتعلَّق بالمال، على الرغم من شكوكه في أن لديها قدرًا كبيرًا من الحنكة والدهاء. كان جاري ليكسيفيلد يستطيع الحديث في أمور السوق والتجارة بعفوية وطلاقة كبيرين؛ فقد كانت تلك هي دراسته الأثيرة إليه، وكانت سبب دماره المستمر كذلك. ما من لص لم يفتخر بحنكته في الأمور المالية، وكان جاري يدخل ويخرج من السوق من وقت لآخر خلال حياته القصيرة والمشينة، مُتسببًا لنفسه في نتائج كارثية.

أوصل السيدة ومُرافِقتها الصامتة إلى السيارة ثم عاد، وحين اختلى بنفسه في شقته جلس يفكر في التهديد الجديد والمُزعج الذي تمثَّل في الاهتمام الذي أظهره رجال العدالة الثلاثة بأنشطته.

استيقظ مُتأخرًا كعادته، وكان يرتدي بيجامته حينما رنَّ جرس الهاتف. أخبره صوت عامل تحويل المكالمات الهاتفية بوجود مكالمة دولية له، وكانت المكالمات الدولية في تلك الأيام تعني أن فيلاسكيز الجميلة هي المتصل.

قالت بصوتٍ مُتلهف: «لقد رأيت جونزاليس. جاءني وأنا على مائدة الإفطار. يقول إنهم سيُلقون القبض عليك غدًا بسبب فعلة ارتكبتها في أستراليا. وتقدَّم اليوم أيضًا بطلب لتجميد حسابك ومنع سحب أموالك من البنك.»

قال جاري بسرعة: «تجميد حسابي؟ هل أنت متأكدة؟»

«متأكدة تمامًا! سيذهبون إلى أحد القضاة في غرفة المشورة ويحصلون على الإذن. هل آتي على الغداء؟»

قال بسرعة: «بالتأكيد، الساعة الواحدة.» نظر إلى الساعة الصغيرة على رف المدفأة؛ كانت الساعة الحادية عشرة والنصف.

«وفيما يتعلَّق باستثماراتك أعتقد أنه يمكنني إصلاح كل شيء اليوم. أحضِرْ دفتر الشيكات معك.»

لم يصبر حتى تُنهي هي المحادَثة، وفي النهاية كان هو من أنهاها على نحوٍ مُفاجئ نوعًا ما، وأغلق السماعة سريعًا وطار إلى غرفة نومه وبدأ في ارتداء ملابسه.

كان البنك في شارع فليت، وبدت الرحلة إليه بلا نهاية. ومن سوء حظه أن شارع فليت كان شديد القرب من المحكمة. ربما يكون الأمر القضائي قد استُصدر بالفعل.

دفع الشيك من أسفل الشبكة النحاسية فوق مِنضدة الصرَّاف، وحبس أنفاسه وهو يسلِّم الورقة إلى المُحاسب كي يتحقق منها. وبعد لحظات انتابته راحةٌ غامرة لما فتح الصرَّاف الدرج، وأخرج حفنةً من الأوراق المالية، وعدَّ المبلغ المدوَّن على الشيك.

قال: «هذا الشيك لا يترك سوى بضع جنيهات في حسابك يا سيد ليكسيفيلد.»

جاري: «أعلم، سأُودِع شيكًا بمبلغٍ كبير في الحساب بعد الغداء، وأريد منك الحصول على مخالصةٍ خاصة.»

عندها أدرك أنه بحلول ذلك الوقت سيكون الأمر القضائي نافذًا. لا بد أن يجد طريقةً أخرى لصرف شيك السيدة فيلاسكيز.

شعر براحةٍ كبيرة لدرجة أنه لم يستطع التحدث بهدوء. حصل على مبلغٍ أقل قليلًا من ٩٠٠٠ جنيه، وأسرع عائدًا إلى شارع جيرمين، وتزامَن وصوله مع وصول السيدة فيلاسكيز.

قالت بأسلوب حديثها المُتقطع: «كم كان ذلك الرجل فكاهيًّا! ولا يخفى عليك ذلك! ظننت أنه يجب أن أضحك في وجهه. لقد أخبرني أنك لن تكون هنا في الغد، وهو ما أراه عبثًا!»

قال جاري بنبرة هدوء: «إنها عملية ابتزاز. لا تشغلي بالك بجونزاليس. لقد ذهبت إلى شرطة سكوتلاند يارد للإبلاغ عنه. والآن، فيما يتعلَّق بهذه الأسهم …»

كان عليهما الانتظار عشر دقائق قبل أن يصبح الغداء جاهزًا، وكانت تلك الدقائق العشر مليئة بالعديد من النقاشات. أحضرت دفتر الشيكات الخاص بها، ولكن تمكَّن منها الخوف قليلًا. فكَّر أن زيارة جونزاليس ربما تكون قد أثارت في نفسها بعض الشكوك. لم تكن مستعدة لاستثمار ٢٠ ألف جنيه إسترليني، هو كل ما تملكه. أخرج الأوراق ومستندات الميزانيات العمومية التي كان يعتزم إطلاعها عليها في الليلة السابقة، وشرح الموقف المالي السليم للشركة التي يرغب في أن تستثمر فيها أموالها، وكانت لديه قدرة على الشرح بسهولة واستيفاء، والتي كانت من أنجح الشركات في راند.

قال بنبرة انبهار: «سترتفع قيمة هذه الأسهم في غضون أربع وعشرين ساعة بنسبة عشرة بالمائة على الأقل. لقد حجزت مجموعة أسهم لك، ولكن يجب أن أشتريها بعد ظهر اليوم. وفِكرتي أن تُحضري لي شيكًا غير مسطَّر بعد الغداء مباشرةً. سأشتري الأسهم وأُعيدُ الشيك إليك مرةً أخرى.»

سألت ببراءة: «ولكن لماذا لا أشتريها أنا بنفسي؟»

قال جاري بجديةٍ شديدة: «هذه مسألةٌ شخصية. السيد جون يسمح لي بشراء هذه الأسهم باعتبار ذلك خدمةً شخصيةً كبيرة منه.»

ومن حسن حظه أن قبِلت هذا الضمان، وبالفعل كتبت شيكًا بقيمة ١٢٥٠٠ جنيه إسترليني على مائدة الغداء، واستطاع بالكاد أن يستجمع ما لديه من صبر حتى ينتهي من وجبته.

لم يكن أصحاب الشقق التي كان يقضي فيها فترة سكنه القصيرة أسخياء فيما يوفِّرونه له من الطعام، ولكن الوقت القصير الذي مضى قبل أن تأتي مرحلة التحلية كان عصيبًا؛ فقد عادت للسؤال مرةً أخرى عن استثماراتها وبدت مُتشككة، وأشارت مرةً أخرى إلى جونزاليس وتحذيره لها.

«ربما من الأفضل أن أنتظر يومًا، هل تتفق معي؟»

جاري: «عزيزتي، هذا عبث! أعتقد حقًّا أن هذا الرجل الذي جاءكِ هذا الصباح قد أخافك! سأجعله يندم على ذلك!»

همَّ بالنهوض عن المائدة، ولكنها أمسكت بذراعه.

توسَّلت إليه قائلةً: «أرجو ألا تتعجل.» ومن ثَم وافق على مضض. لم يكن البنك يُغلق أبوابه حتى الساعة الثالثة؛ ومن ثَم كان لا يزال الوقت كافيًا له للوصول إلى دوفر بالسيارة واللحاق بقارب الساعة الخامسة.

لكن البنك كان يقع في المدينة، ويجب ألا يترك هامشًا ضيقًا من الوقت؛ فاستأذن للحظة وخرج باحثًا عن الخادم الذي أحضره معه، وأعطاه بعض التعليمات البسيطة والعاجلة. ولما عاد وجدها تطلع على الميزانية العمومية.

قالت: «أنا لا أفهم شيئًا في تلك الأمور.» ورفعت رأسها فجأةً. ولما أُغلق الباب بقوةٍ سألت: «ماذا كنت تفعل؟»

«إنه خادمي؛ أرسلته في مهمةٍ صغيرة.»

ضحكت والقلق ينخر بداخلها.

قالت وهي تدفع قهوته إليه: «أنا في عجالةٍ من أمري كما تقولون. الآن أخبِرْني مرةً أخرى يا عزيزي جاري، ما معنى سهم بدون قسيمة ربح؟»

شرح المسألة شرحًا مطوَّلًا، واستمعت إليه مُنتبهةً. وبينما كانت لا تزال تستمع إليه همَّ بالنهوض على قدميه وهو يشعر بغصةٍ مُفاجئة واختناق؛ ليسقط على الكرسي ثم يتدحرج على الأرض بغير حول منه ولا قوة. أخذت السيدة فيلاسكيز فنجان قهوته الذي فرغ نصفه، وحملته على مهل إلى المطبخ، وأفرغت محتوياته في الحوض. لقد وفَّر عليها السيد جاري ليكسيفيلد قدرًا كبيرًا من المتاعب حين أرسل خادمه إلى الخارج.

دحرجت الرجل الفاقد للوعي على ظهره، وبحثت بسرعة وبيدٍ ماهرة جيبًا تلو الآخر حتى عثرت على المغلف السمين الذي وضع فيه جاري أوراقه النقدية.

سمعت طَرقًا على الباب الخارجي. خرجت دون تردُّد، وفتحت الباب للحارس الشاب الذي تفضَّل بتعريف السيد ليكسيفيلد بها.

قالت: «كل شيء على ما يُرام، ذهب الخادم. تفضَّل مائتَي الجنيه الخاصة بك يا توني، وأشكرك شكرًا جزيلًا.»

ابتسم توني.

«أضمرت له الكراهية لأنه ظنَّني أبله. هؤلاء المُحتالون الأستراليون …»

قالت في اقتضاب: «لا تتكلم، خذ المال.»

عادت إلى غرفة الطعام وفكَّت زر ياقة جاري ورابطة عنقه، ووضعت وسادةً تحت رأسه وفتحت النافذة. كان متوقعًا أن يستفيق بعض الشيء في غضون عشرين دقيقة، وسيكون خادمه قد عاد.

وجدت الشيك الذي أعطَتْه إياه وحرقته في الموقد الفارغ، ثم ألقت نظرةً أخيرة حولها وغادرت.

كان هناك رجلٌ طويل ينتظر خارج المطار. رأتْه يشير إلى سائق السيارة للوقوف.

قال مانفريد مُتهكمًا: «وصلتني رسالتك. أنا واثقٌ من أنك حصلت على غنيمةٍ كبيرة، أليس كذلك؟ أنا مَدين لك بمبلغ خمسمائة جنيه.»

هزَّت رأسها ضاحكةً. كانت لا تزال البرازيلية الجميلة ذات البشرة القمحية، كان الأمر سيستغرق أسابيع حتى يزول الصباغ من وجهها.

«لا، شكرًا يا سيد مانفريد. أدَّيت المهمة بدافعٍ من الحب، وقد حصلت على مبلغٍ كبير من المال. والمنزل المفروش الذي أخذته في الريف لم يكن مكلفًا للغاية. أوه، إن الأمر مُجزٍ للغاية لي.» أخذت النقود التي أعطاها إياها ووضعتها في حقيبتها وعينها على الطائرة المنتظرة. «كما تعلم يا سيد مانفريد، عرفت جاري منذ مدة طويلة عن طريق تناقُل الأحاديث. وأرسلت أختي إلى مونت كارلو كي تتحسَّن صحتها. وقد وجدت جاري هي أيضًا.»

فهم مانفريد. انتظر حتى عبرت الطائرة الضباب واختفت عن الأنظار، ثم عاد إلى شارع كيرزون وهو راضٍ تمامًا.

لم تذكر الصحف المسائية شيئًا عن السرقة التي وقعت في شارع جيرمين، وهو ما كان مفهومًا. لقد كان السيد جاري ليكسيفيلد أبيًّا مُتغطرسًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤