الفصل الثاني عشر

لغز السيد دريك

نُشرت للمرة الأولى في مجلة «توينتي ستوري»، عدد ديسمبر ١٩٢٧.

***

تأتي جميع الأحداث ثلاثًا. كان هذا رأي ليون جونزاليس المعتبَر. على سبيل المثال، كان هذا هو اللقاء الثاني له مع كورنيليوس مالان. كانت آخر مرة الْتَقى فيها السيد روس مالان — الأخ المُلتحي لكورنيليوس — في حفل كان الثالث، ولكن روس كان ميتًا الآن، غير أن ليون لم يكن على علم بهذه الحقيقة في الوقت الحالي.

لم يتعرض هذا الرجل اليقِظ والحذِر لحادث سير مطلقًا. وما يُثبِت ذلك هو حقيقة أنه على قيد الحياة؛ فهو لم يكن ليرضى مطلقًا إذا وقع مؤشر عداد السرعة في سيارته الرياضية الكبيرة دون علامة السبعين كيلومترًا. ومن المصادَفات العجيبة أنه كان يسير ذات مرة على سرعةٍ أقل من ثلاثين كيلومترًا حين انزلقت السيارة على البرد والثلج الذي يُغطي طريقًا مهجورًا في أكسفورد، وسقطت العجلة الخلفية في حفرةٍ قُطرُها أربع أقدام. كانت معجزةً أن السيارة لم تنقلب.

خرج ليون من السيارة ونظر حوله. كان للمزرعة الكبيرة التي تحتلُّ المكان خلف السور الحجري المُتاخم للطريق مظهرٌ مألوف. ابتسم ابتسامةً عريضة وهو يقفز من السور ويشقُّ طريقه عبر السطح الوعر لحقلٍ غير مزروع باتجاه المبنى. نبح عليه كلبٌ بصوتٍ غليظ، ولكنه لم يرَ أي إنسان. ولما طرق الباب لم يردَّ عليه أحد. لم يتفاجأ ليون؛ فقد كان كورنيليوس يحتفظ بالقليل من الخدم حتى في الصيف؛ فلم يكن من المحتمل أن يترك الكثير من الخدم في المنزل في أواخر أيام الخريف التي تقلُّ فيها الثمار.

تجوَّل في المنزل ومر عبر حديقة مُهمَلةٍ تنمو فيها الحشائش، ولكنه لم يزَل لا يرى أي علامة على وجود حياة في المكان. ومن باطن الأرض وعلى بُعدِ اثنتَي عشرة ياردة، نهض رجلٌ ضخمٌ عريض المنكبين. جاء من باطن الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة. ظل ليون مذهولًا للحظة، ثم أدرك أن الرجل خرج من بئر. كان كورنيليوس مالان مولِّيًا ظهره لزائره الذي لم يدعه أحد. رآه ليون وهو ينحني، وسمع صوت قعقعة الحديد وتكة قفل يُغلَق. نهض الرجل الضخم بعد قليل، ونفض الغبار عن ركبتيه، وتمطَّى ثم التفت واتجه مباشرةً إلى حيث كان ليون واقفًا. وحين رأى الغريب ازدادت حُمْرة وجه كورنيليوس العريض الأحمر.

قال بنبرةٍ غاضبة: «أنت!» ثم تعرَّف على زائره. قال: «آه! المحقق!»

تحدَّث بلغةٍ إنجليزيةٍ طليقة قلَّما بدا فيها أثر للكنةٍ غريبة، بخلاف أخيه المتوفَّى الذي كان بالكاد يتحدث الإنجليزية.

«ما الذي تريده؟ هل يعتقد آخرون بأن روس المسكين قد احتال عليهم؟ حسنًا، إنه ميت الآن، ولا يوجد ما تأخذه منه.»

كان ليون ينظر إلى ما وراء الرجل، ولا بد أن الرجل توقَّع ما كان يدور في ذهنه؛ ومن ثَم قال بسرعة: «توجد بئرٌ لعينة هنا، مليئة بالغاز. يجب أن أملأها.»

ابتسم ليون: «وفي الوقت الحالي أغلقته على نحوٍ مُناسب. أعتذر عن الدخول إلى هذه الحقول الزراعية يا سيد مالان، ولكن في الحقيقة وقعت سيارتي في حفرة وأردت المساعدة في إخراجها.»

كانت ثَمة نظرةٌ غريبة من الخوف على وجه الرجل، تلاشت عندما شرح ليون الهدف من زيارته.

قال مُتباهيًا: «يمكنني أن أُخرج سيارةً من أي حفرة. سترى.»

كان دمثًا ولطيفًا إلى حدٍّ كبير وهو يسير مع ليون عبر الحقل.

«لا أحب أهل لندن، وأنت على وجه الخصوص أيها السيد الذي لا أتذكَّر اسمه. أنت تُشبِه المحامي الذي احتال عليَّ وعلى أخي المسكين بموضوع بوتشيفستروم قبل سنوات عديدة، حتى إنني نسيت اسمه. روس المسكين! أنت وأمثالك من اقتدتموه إلى حتفه! مفتِّشو الضرائب والله أعلم. كنا فقيرَيْنِ نحن الاثنين، وما كان لدينا ما نقوله لهم.»

لما وصلا إلى السيارة وجد أن قوَّته لا تكفي لرفع السيارة؛ ومن ثَم عادا إلى المزرعة مرةً أخرى وجلبا عاملَيْنِ من مكانٍ خفيٍّ يبدو عليهما الجوع، وقد نجحوا في رفع سيارة البنتلي إلى مستوى الطريق باستخدام الحبال والألواح. وفي ذلك الوقت عاد كورنيليوس مالان إلى ذاته القديمة.

قال: «سيكلِّفك هذا جنيهًا يا صديقي. ليس لديَّ ما أدفعه لهذَيْنِ الرجلَيْنِ مقابل العمل الإضافي. أنا فقير، وروس ميت الآن، وهو الذي يعرف أنني قد لا أضطرُّ إلى أخذ تلك الخادمة الكسول من عند أختنا.»

أخرج ليون ورقة بقيمة جنيه إسترليني بمنتهى الجدية، وأعطاها للبخيل العجوز.

لما عاد إلى شارع كيرزون قصَّ تجربته.

قال: «أراهن أننا سنتقابل للمرة الثالثة. أمرٌ غريب، ولكنه حقيقة. يومًا ما سأكتب كتابًا عن قانون الصدفة؛ لديَّ كمٌّ لا يُحصى من البيانات.»

قال بويكارت وهو يُلقي إليه خطابًا عبر الطاولة: «أضِفْ هذا.»

فتح ليون الخطاب وكان أول شيء قرأه عنوان أكسفوردشير. التفت سريعًا إلى نهاية الخطاب ورآه موقَّعًا باسم «ليونورا مالان».

كان مانفريد يُراقبه بابتسامة في عينيه.

قال: «أتتك مهمة تُوافق هواك يا ليون.»

قرأ ليون الخطاب.

السادة الأعزاء

منذ وقت مضى حضرتم إلى المدينة لزيارة عمي، الذي وللأسف تُوفي؛ فهلَّا تفضَّلتم بمقابلتي صباح يوم الأربعاء بشأن أموال عمي الراحل؟ لا أفترض أن بإمكانكم مساعدتي، ولكن آمل في وجود ولو فرصة.

كان الخطاب موقَّعًا باسم «ليونورا مالان»، وكان يتضمَّن ملاحظةً في ذيل الرسالة.

«أرجو ألا تُخبروا عمي كورنيليوس أنني أرسلت لكم هذه الرسالة.»

حكَّ ليون ذقنه.

تمتم مانفريد: «ليون وليونورا. هذا وحده أساسٌ كافٍ لتأليف فصل كامل عن المصادَفات.»

حضرت الآنسة مالان في صباح يوم الأربعاء وكان الجو مُمطرًا وعاصفًا، وحضر معها شابٌّ، وكان هو المصادَفة الرابعة والأعظم على الإطلاق.

رجلٌ نحيل في الثلاثين من عمره، وذو ملامح غير متَّسِقة، وعينين لا تهدآن في مَحجرَيهما، قدَّمته باسم السيد جونز، المُدير السابق لدى عمها المتوفَّى.

كان جمال ليونورا مالان مُذهلًا. كان ذلك هو الانطباع الأول لليون عن ضيفته. توقَّع أن تكون بدينة وجمالها ليس لافتًا؛ إذ كان اسم ليونورا اسمًا يُخجَل منه. كان واضحًا أن مالان أفريقية. كان سيعرف هذا حتى لو لم يكن يعرف جنسية عمَّيها من واقع تجربته الشخصية معهما؛ فقد الْتَقى ذات مرة مع جابي ذي السمعة السيئة، والذي لم يكن يقلُّ دمامةً وبغضًا عن روس، وإن كان الآن قد صار أقل بغضًا؛ إذ انتقل إلى جوار ربه. وكان مفاجأةً سارَّةً له أن هذه الفتاة الممشوقة القوام ذات العيون البرَّاقة والبشرة الوردية قد خيَّبت كل أفكاره المسبقة بما أسعده كثيرًا.

دخلت معه إلى غرفة الاستقبال الصغيرة المُضيئة التي كانت أيضًا مكتبًا لثلاثتهم، وجلست على الكرسي الذي جلبه بويكارت من قبلُ عندما كان يتقمص دور كبير الخدم؛ ومن ثَم خرج مغلقًا الباب خلفه برزانة، ومن دون إحداث أي صوت.

نظرت إلى ليون بعينين لامعتين وابتسمت.

نظرت إلى رفيقها الدميم الذي أزعج جونزاليس نظرة ثقة، ثم قالت: «لا يمكنك أن تفعل شيئًا لي يا سيد جونزاليس، ولكن رأى السيد جونز أنني ينبغي أن أقابلك. بدايةٌ غير مبشِّرة، أليس كذلك؟ أظن أنك ستتساءل لماذا أُهدر وقتك إذا كنت أعتقد ذلك؟ ولكني الآن كمن يتعلَّق بقشة، و…»

ضحك ليون: «وأنا قشةٌ متينة للغاية.»

تحدَّث السيد جونز. كان صوته أجشَّ وغليظًا.

«هكذا يبدو الأمر. إن ليونورا تستحقُّ إرثًا يبلغ حوالَي ثمانية آلاف جنيه إسترليني. أعلم أن نصيبها كان موجودًا قبل وفاة العجوز. هل معك الوصية يا ليونورا؟»

أومأت بسرعة وتنهَّدت، وفتحت حقيبة يدها الصغيرة نصف فتحة، ومدَّت يدها تلقائيًّا إلى علبةٍ فضيةٍ بالية، ولكن سرعان ما سحبت يدها وأحكمت غلق الحقيبة. مد ليون يده إلى علبة السجائر وناوَلها إياها.

قالت وهي تأخذ سيجارة: «هل تعرف عمي؟ كان عمي المسكين روس يتحدث عنك كثيرًا.»

قال ليون: «أظنه كان يذمُّني، أنا متأكدٌ من ذلك.»

أومأت الفتاة.

«نعم، لم يحبك، بل كان يخافك وأنت كبَّدته أموالًا.»

ظهر روس مالان في واحدةٍ من أكثر القضايا الرتيبة التي تولَّاها ليون. كان روس وشقيقه كورنيليوس من المُزارعين المُوسِرين في جنوب أفريقيا، ثم اكتُشف الذهب في مزرعتهما وأصبحا فاحشَي الثراء فجأةً، وجاء كلاهما إلى إنجلترا واستقرَّا في مزرعتين مهجورتين في أكسفوردشير. كان روس هو من تبنَّى طفل أخته المتوفَّاة الرضيع، وكان كثير التذمر والشكوى؛ لأنه كان، مثل أخيه، من أندر أنواع البخلاء، فكان يُبغض إنفاق ولو أقل القليل من المال حتى على نفسه، ولكن الشقيقين كانا مُضاربين ماكرين، وفي بعض الأحيان ما يكون مكرهما هذا شديدًا. كانت قضيةً تغلَّب فيها جشعهما على فِطنتهما؛ وهذا ما أوقع ليون في طريقهما.

قالت الفتاة: «لم يكن عمي روس بهذا السوء الذي تظنُّه. بالطبع كان شديد البخل في مسألة المال، وحتى في الطعام الذي يؤكَل في المزرعة، وكانت الحياة معه صعبةً بعض الشيء. أحيانًا كان هو الطيبة ذاتها، وأشعر أنني جشعة ودنيئة لشعوري بالضيق بشأن أمواله اللعينة تلك.»

قال جونز في نفاد صبر: «لا تقلقي بشأنه.»

قاطَعه ليون وهو ينظر مرةً أخرى سريعًا في الخطاب الذي أرسلته له: «ألم تعثري على تلك الأموال اللعينة؟»

هزَّت رأسها.

قالت: «لا أفهم شيئًا.»

ردَّ جونز بسرعة: «أرِيه الوصية.»

فتحت حقيبتها مرةً أخرى وأخرجت ورقةً مطوية.

«هذه نسخة منها.»

أخذ ليون الورقة وفتحها. كانت وثيقةً مختصرة ومكتوبةً بخط اليد باللغة الهولندية، وكان تحتها الترجمة بالإنجليزية. في بضعة أسطر، ترك الراحل روس مالان «جميع ممتلكاتي لابنة أخي ليونورا ماري مالان».

قال جونز بارتياح لم يُحاول إخفاءه: «كل قرش يملكه. كنا سندخل عالم الأعمال أنا وليونورا في لندن. هي بمالها وأنا بأفكاري. هل تفهم ما أعنيه؟»

فهم ليون الأمر بوضوحٍ تام.

سأل: «متى تُوفي؟»

قطَّبت ليونورا جبينها وكأنها استحضرت ذكرى غير سعيدة: «منذ ستة أشهر. سوف تظنُّ أنني بلا قلب، ولكني حقًّا لا أُكنُّ له أي حب، على الرغم من أنني كنت مُغرَمة به كثيرًا في بعض الأحيان.»

قال ليون: «وماذا عن التَّرِكة؟»

قطَّبت جبينها.

«يبدو أن كل ما تركه هو المزرعة والأثاث. يقول المثمِّنون إن تلك التركة تُساوي خمسة آلاف جنيه، وإنها مرهونةٌ مقابل مبلغ أربعة آلاف جنيه. عمي كورنيليوس هو صاحب الرهن، ولكن عمي روس مالان كان فاحش الثراء بلا شك؛ فقد كان يحصل على عائداتٍ من ممتلكاته في جنوب أفريقيا، وقد رأيت المال في المنزل؛ لأنه كان يأتي كل ثلاثة أشهر، وكان يدفع دائمًا في شكل أوراق نقدية.»

قال جونز: «يمكنني شرح هذا الرهن. تبادل هذان البخيلان العجوزان البغيضان عمليتَي الرهن كي يحمي كلٌّ منهما الآخر حال حاولت السلطات التحايل عليهما! ذهب المال يا سيدي؛ قلبت المنزل رأسًا على عقب بحثًا عنه. توجد غرفةٌ منيعةٌ مبنية في زاوية القبو، استطعنا فتح هذا الباب، ولكننا لم نعثر على قرشٍ واحد. تحب عائلة مالان الغُرف المنيعة كثيرًا. أعرف أين يحتفظ كورنيليوس بأمواله هو الآخر. إنه لا يعرف ذلك، ولكن أُقسِم بالرب إذا لم يكن عادلًا مع هذه الفتاة …!»

بدت الفتاة مُحرَجةً بعض الشيء من رفقة الرجل. ظن أن الصداقة من جانبٍ واحد، وكان لديه انطباع بأن السيد جونز هو من كان يُخطط «لدخول عالم الأعمال».

ذكر له جونز خبرًا آخر. لم يكن أيٌّ من الأخوين يمتلك حسابات في البنك. على الرغم من كثرة مضارَباتهما في بورصة جنوب أفريقيا وحنكتهما في ذلك، كان دفع الأرباح أو شراء الأسهم يتمُّ بنقدٍ سائل، ودائمًا ما تُسدَّد المدفوعات النقدية بالطريقة نفسها.

«كان هذان الفاسدان يرفضان دفع أموال الضرائب، واستخدما جميع أنواع الحِيَل القذرة للتهرب من دفعها. كانا يشكِّكان في جميع البنوك؛ لأنهما كانا يعتقدان أنها تُخبر الحكومة بأعمال عملائها.»

هزَّت ليونورا رأسها مرةً أخرى في يأس.

«لا أظن أن بإمكانك فعل أي شيء يا سيد جونزاليس، وليتني لم أرسل لك الخطاب. المال غير موجود، ولا يوجد أي سجلات تُشير إلى وجوده يومًا. أنا لا أُبالي كثيرًا حقًّا؛ لأن بإمكاني العمل. لحسن الحظ أخذت دروسًا في الكتابة على الآلة الكاتبة، وحسنت سرعتي في الكتابة بالمزرعة، وكنت أكتب معظم مراسلات عمي.»

«هل كان كورنيليوس في المزرعة في مرضه الأخير؟»

أومأت الفتاة.

«طوال فترة المرض؟»

أومأت مرةً أخرى.

«وهل ترك …؟»

«بعد موت روس المسكين مباشرةً، لم أرَه مرةً أخرى، ولم يصِلني منه سوى خطاب واحد يُخبرني فيه أن عليَّ كسب لقمة عيشي، وأنني لا يمكن أن أعتمد عليه. ما الذي يمكنني فعله الآن؟»

فكَّر ليون في هذه المسألة لفترةٍ طويلة.

تابعت قائلةً: «سأكون صريحةً معك للغاية يا سيد جونزاليس. أنا متأكدةٌ من أن عمي كورنيليوس أخذ جميع الأموال التي كانت في المنزل قبل أن يُغادر. السيد جونز أيضًا يعتقد ذلك.»

قال الرجل ذو الوجه الطويل والنحيل بنبرةٍ تأكيديةٍ شديدة: «فكِّر في الأمر. أنا متأكد من ذلك! رأيته ذات مرة خارجًا من القبو ومعه حقيبة جلادستون كبيرة. كان من عادة روس العجوز الاحتفاظ بمفتاح غرفته المنيعة تحت وسادته. ولما مات لم يكن المفتاح في مكانه، ووجدته على رف المستوقد في المطبخ!»

لما همَّ الرجل والفتاة بالمغادَرة ظل ليون يُراوغهما بحيث كانت هي آخر من غادَر.

سأل بصوتٍ مُنخفض: «من هو جونز؟»

شعرت بقليلٍ من عدم الارتياح.

«كان مُدير مزرعة عمي. إنه لطيف للغاية، لطيف إلى حدٍّ بالغ.»

أومأ ليون، ولما سمع خطوات جونز وهو عائدٌ سأل عن خططها الحالية. قالت إنها ستمكث هذا الأسبوع في لندن لتعدَّ عدتها لكسب لقمة عيشها. وبعد أن دوَّن عنوانها وأوصلهما إلى الباب عاد، وهو يفكر في المسألة، إلى الغرفة المشتركة التي يلعب فيها رفيقاه الشطرنج، في لهوٍ غير مقبولٍ ممارستُه في الحادية عشرة صباحًا.

قال بويكارت دون أن يرفع نظره عن القطعة التي كان يحرِّكها بإصبعه: «إنها فاتنة الجمال، وجاءت بشأن إرثها، والرجل الذي معها ليس طيبًا.»

قال ليون بنبرة اتهام: «كنتما تتنصَّتان على الباب.»

قال بويكارت وهو «يكش» ملك مانفريد: «قرأت الجرائد المحلية، وأعرف أن السيد روس مالان مات مُفلِسًا. الأموال التي تركها لا تكفي أتعاب مفتِّش الضرائب. بلغ الرجلان مبلغًا عظيمًا من البخل على الرغم من ثرائهما الفاحش، وكان كلاهما في أشد الغضب من سومرست هاوس.»

تابَع جورج مانفريد: «وطبيعيٌّ أن تأتي إليك كي تُعِيد لها ثروتها. ماذا كان يريد الرجل؟»

اضطجع على كرسيه وتنهَّد.

«نحن محترمون للغاية، أليس كذلك؟ كان الأمر بسيطًا منذ عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. أعرف العديد من الطُّرق التي تجعل كورنيليوس يُخرِج ما لديه.»

قاطَعه ليون على الفور: «وأنا أعرف طريقةً منها. وإذا كانت كل نظرياتي وآرائي صحيحة — ولا يمكن أن أتخيَّل أنها غير ذلك — فسيستعيد لنا السيد دريك المال.»

نظر بويكارت بوجهٍ عابس للغاية: «تقول مَن؟»

قال ليون بأسلوبٍ عفوي: «السيد دريك عدوٌّ قديم لي. ظلِلْنا أعداءً لعشر سنين. إنه يعرف أحد أدق أسراري، وعِشت في رعبٍ مُميت منه، لدرجة أنني فكَّرت في الإطاحة به من مجال أعماله الحالية.»

نظر إليه جورج مفكرًا، ثم أشرق وجهه.

«يا إلهي، أظن أنني أعرف السيد دريك الغامض هذا. استغللناه من قبل، أليس كذلك؟»

وافَقه ليون الرأي في جدية: «بلى، ولكنه سيموت هذه المرة ميتة الكلاب!»

سأل بويكارت: «من جونز هذا؟ رأيته في المحكمة الجنائية المركزية، وكان له سيماء أهل دارتمور. تتذكر يا جورج هذه القضية المُزعجة التي حدثت منذ ثماني أو عشرة سنوات. ليس بالرفيق الذي يليق بالجميلة ليونورا.»

أخذ ليون سيارته في صباح اليوم التالي إلى سوقٍ مشهورة بالمدينة تبعد عن مزرعة السيد مالان بعشرة أميال. وهنا سعى إلى مقابلة مفتِّش الضرائب المحلي، وقابَله بالفعل، وأبرز له التفويض المختصر الذي أشار إلى ضرورة توقيع ليونورا عليه. كان الموظف المرهَق راغبًا بل متلهفًا لإعطاء ليون جميع المعلومات التي طلبها.

«أتولَّى تلك المهمة اللعينة في تحصيل ضرائب هؤلاء الأشخاص. نحن نعرف مصدر دخلهم الأساسي، وهو يأتي من جنوب أفريقيا كل ثلاثة أشهر، ولكن لديهم سجل أعمال أخرى في جنوب أفريقيا لا نستطيع تتبُّعه. عرفنا أنهما اعتادا استلام أموالهما نقدًا. من الواضح أن الرجلين كانا يدلِّسان على مصلحة الضرائب لسنوات، ولكننا لا نملك دليلًا ضدهما. إذا كان السيد مالان يحتفظ بدفاتر فإنه يُخفيها عن الأنظار جيدًا! منذ بضعة أشهر عيَّنَّا مُخبرًا لمراقبة كورنيليوس، وعثرنا على المكان الذي يُخفي فيه أشياءه. إنه يقع في بئرٍ مملوءة حتى النصف على عمق عشرين قدمًا في حديقته.»

أومأ ليون.

«وهذه الغرفة مبنية من الصخور الصلبة، ولها بابٌ فولاذي. تبدو وكأنها حكايةٌ خيالية، أليس كذلك؟ إنها واحدةٌ من الغُرف العديدة التي تخفَّى فيها تشارلز الثاني، وكان وجود هذه الغُرف الصخرية معروفًا منذ قرون. قام كورنيليوس بتركيب الباب الفولاذي، وبما أن البئر أسفل نافذته مباشرةً، ومُحكَمةٌ ببابٍ سري حديدي، ويمكن رؤيتها من الطريق، فهي أكثر أمانًا بكثير من أي خِزانة يمكن أن تكون لديه داخل المنزل.»

سأل ليون: «ولماذا لم تفتَّش الغرفة المنيعة؟»

هزَّ المفتش رأسه.

«ليس لدينا سلطة لذلك. أصعب شيء في العالم هو الحصول على إذن تفتيش، ولا تقدِّم مصلحة الضرائب طلبًا للحصول على مثل هذه السلطة إلا إذا كانت هناك إجراءاتٌ جنائية.»

ابتسم ليون ملء فيه.

ثم قال بأسلوبٍ غامض: «سيضطرُّ السيد دريك إلى منح الإذن لك.»

قطَّب الموظف الحائر جبينه.

«لا أفهم قصدك تمامًا.»

قال ليون الغامض: «ستحصل على ما هو أكثر من ذلك.»

لما مشى ليون طريق العربات الطيني أصبح يميِّز الأصوات؛ صوت عميق ومُجعجع، وآخر عالٍ وحاد. كانت الكلمات غير مترابطة، ولا يمكن تمييزها. انعطف عند زاوية مجموعة شُجَيرات مُهمَلة، ورأى الاثنين؛ كورنيليوس الضخم والسيد جونز ذا الوجه النحيل الذي كان شاحبًا من فرط الانفعال.

صاح بصوتٍ حادٍّ: «سأُمسك بك، أيها اللص الهولندي الملعون! أنت تسرق الفتاة اليتيمة، هذا ما تفعله. لن تكون هذه المرة الأخيرة التي تراني فيها.»

كانت كلمات كورنيليوس مُستعصيةً على الفهم؛ لأنه في غمرة غضبه ارتدَّ إلى لغته الأفريقية، التي تُعَد أكثر الوسائل قدرةً على التعبير عن الذم والطعن والشتم. لما وقعت عيناه على ليون اتَّجه نحوه مُهرولًا.

«أنت محقِّق. خذ هذا الرجل من هنا. إنه لص وأليف سجون. أعطاه أخي وظيفةً لأنه لم يجد غيره.»

انقلبت شفتا السيد جونز الرفيعتان سخريةً واستهزاءً.

أضاف بسرعة: «تبًّا لوظيفة هكذا! زريبة للنوم وطعام يتأنف هذا الخسيس أن يأكله. لا أعرف شيئًا عن هذا البخيل. كل ما يقوله هذا الرجل محض أكاذيب. إنه لص. لقد أخذ المال من خزانة روس العجوز.»

زمجر كورنيليوس: «وأنت أتيت وقلت: «أعطِني عشرة آلاف جنيه وسأخبر ليونورا بألَّا تنزعج بشأن الباقي.» أليس كذلك؟»

أدرك ليون أن الوقت ليس مُناسبًا كي يحكي قصة السيد دريك. يجب أن يقصَّها في وقتٍ آخر. قدَّم اعتذارًا على قدومه ثم عاد إلى الطريق برفقة جونز.

«لا تشغل بالك بما قاله يا سيدي؛ أعني حديثه بشأن محاولتي خيانة ليونورا. إنها فتاةٌ طيبة، وتثق بي حقًّا، وسأفعل ما في صالحها. لقد جعلها العجوز روس تحيا حياة الكلاب.»

تساءل ليون عن نوع الحياة التي سيوفِّرها هذا السجين السابق لليونورا مالان، وكان مُقتنعًا تمامًا أنه مهما حدث فيجب إنقاذ الفتاة من مثل هذه العلاقة.

عاوَد جونز الحديث من جديد: «ولما قال إنني كنت مسجونًا …»

ليون: «يمكنني أن أوفِّر عليك الكثير من المتاعب. رأيتك وأنت محكوم عليك.»

لما أتى على ذكر التهمة احمرَّ وجه الرجل ثم شحب.

«يمكنك العودة إلى لندن الآن، وحذارِ أن تقترب من الآنسة ليونورا مالان. وإن فعلت فلا تلومنَّ إلا نفسك.»

فتح جونز فمه وكأنه يريد قول شيء، ولكنه غيَّر رأيه وانطلق في طريقه. كان الوقت متأخرًا لما عاد ليون كي يحكي قصة السيد دريك.

وصل إلى مزرعة كورنيليوس مالان في الساعة التاسعة. كان الظلام حالكًا، والأمطار والثلوج تتساقط، ولم تبشر الأجواء في المنزل بأنه سيلقى الراحة من هذه المشقة؛ إذ لم يكن يوجد سوى شمعة توفِّر بصيصًا من الضوء من داخل النوافذ المُظلِمة. طرق الباب لبعض الوقت، ولكن لم يردَّ أحد، ثم سمع صوت أنفاس مُتثاقلة؛ كان ثَمة شخصٌ يتجه نحوه في الظلام، فالتفت للوراء.

سأل: «السيد كورنيليوس مالان؟» وسمع الرجل ينخر، ثم قال: «من أنت؟»

قال ليون بهدوء: «صديقٌ قديم.» وعلى الرغم من أن كورنيليوس لم يستطع أن يرى وجهه فلا بد أنه قد تعرَّف عليه.

«ماذا تريد؟» كان صوته حادًّا يتخلَّله القلق.

قال ليون: «أريد مقابلتك. إنها مسألةٌ غاية في الأهمية.»

تجاوزه الرجل كي يفتح الباب وسلك طريقه في الظلام. انتظر ليون عند عتبة الباب حتى رأى اللهب الأصفر لعود ثقاب، وسمع خشخشة مدخنة المصباح وهي تُرفَع.

كانت الغرفة كبيرة وخالية من الأثاث. لم يكن يوجد بها سوى لهيب نيران الخشب في المدفأة، ولكن من الواضح أنها كانت غرفة معيشة وغرفة نوم في الوقت ذاته؛ لأن سريره غير المرتَّب كان قابعًا في أحد أركانها. في منتصفها، كانت ثَمة طاولة من خشب الصنوبر بلا غطاء، وجلس عليها ليون من دون دعوة. وقف الرجل على الطرف البعيد من الطاولة ناظرًا إليه في عبوس، وكان وجهه شاحبًا وهزيلًا. تساءل مرةً أخرى: «ماذا تريد؟»

قال ليون مُترويًا: «المسألة متعلقة بجون دريك. إنه عدوٌّ قديم لي؛ ظلِلْنا يُلاحق أحدنا الآخر عبر ثلاث قارَّات في وقتٍ سابق، والليلة تقابلنا للمرة الأولى بعد عشر سنوات.»

ارتبك الرجل وتحيَّر: «ما شأني بهذا؟»

هزَّ ليون كتفه في لا مُبالاة: «الليلة فقط قتلته.»

رأى الرجل وقد فتح فمه في ذهول. قال وهو لا يكاد يصدِّق: «قتلته؟»

أومأ ليون، ثم قال وفي نبرته شيءٌ من الاستمتاع: «طعنته بسكينٍ طويل. ربما سمعت عن رجال العدالة الثلاثة، إنهم يفعلون مثل هذه الأشياء. وأخفيت الجثة في مزرعتك؛ فلأول مرة في حياتي أدرك أنني اقترفت خطأً وأعتزم تسليم نفسي للشرطة.»

نظر إليه كورنيليوس بازدراء.

قال بصوتٍ مكتوم: «في مزرعتي؟ أين وضعت الجثة؟»

لم تتحرك عضلةٌ واحدة في وجه ليون.

«أسقطتها في البئر.»

انفجر الآخر غاضبًا: «هذا كذب! من المستحيل أن يكون أنت من فتح الغطاء!»

هزَّ ليون كتفيه.

«يجب أن تبلِّغ الشرطة. على أي حال سيعرفون مني أني أسقطت الجثة في تلك البئر. وفي القعر وجدت بابًا نجحت في فتحه بمفتاحٍ هيكلي يفتح جميع الأقفال، وبالداخل تقبع جثة ذلك الرجل التعس.»

ارتعشت شفتا مالان.

ثم التفت فجأةً واندفع خارجًا من الغرفة.

سمع ليون صوت الرصاص؛ ومن ثَم جرى في الظلام وخرج من الباب. وفي الثانية التالية انبطح على جثة كورنيليوس روس.

لما حضرت الشرطة بعد ذلك وفتحت غطاء البئر عنوةً، وجدوا جثة رجل آخر مكوَّمة في قعر البئر حيث رماها كورنيليوس.

قال ليون: «لا بد أن جونز قد شُوهِد مُتلبسًا وهو يفتح البئر عنوةً؛ ومن ثَم أُطلقَ عليه الرصاص. أليس غريبًا أن يحدث هذا بعد حديثي عن دفن رجل في هذا المكان؟ لم أتوقَّع أكثر من أن يدفع كورنيليوس ما عليه بدلًا من البحث في البئر.»

قال مانفريد بنبرةٍ جافَّة: «غريب جدًّا، والأغرب هو اسم جونز الحقيقي.»

«ما اسمه الحقيقي؟»

قال مانفريد: «دريك. اتصلت الشرطة وأبلغتنا بهذه المعلومة قبل أن تأتي بنصف ساعة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤