الفصل الثاني

المسافرون السعداء

لا يوجد سجل بسابق نشرها تحت هذا العنوان أعيدت الطباعة في مجلة «ذا سانت»، طبعة المملكة المتحدة، أبريل ١٩٥٩.

***

من بين الرجال الثلاثة الذين اتخذوا من شارع كيرزون مقرًّا لهم، كان جورج مانفريد هو الأوسم على الإطلاق. كانت ملامحه واتِّزانه يجعلانه يبدو أرستقراطيًّا. كان يبرز وسط أي حشد، ليس بسبب طول قامته فحسب، ولكن بسبب الشيء المجهول الذي يميِّز أصل الإنسان ونسبه.

قال ليون جونزاليس في إحدى المناسبات: «يبدو جورج كأنه حِصان سباق وسط قطيع من مُهور شيتلاند!» وهو ما كان يُقارب الصواب إلى حدٍّ كبير.

ولكن ليون كان قادرًا على جَذْب المرأة المتوسِّطة الجمال، وحتى النساء ذوات الجمال فوق المتوسط. كان خطأً قاتلًا أن يُرسَل لحلِّ قضيةٍ أحد أطرافها امرأة؛ ليس لأنه نفسه كان مُعتادًا على المغازلة، ولكن لأنه كان من المؤكَّد أنه سيعود مخلفًا وراءه عذراء واحدة على الأقل تتنهَّد وتُرسل له عشرات الخطابات المطوَّلة.

وهذا الأمر جعله تعيسًا نوعًا ما.

اشتكى ذات مرة قائلًا: «أنا عجوز بما يكفي لأكون في مقام الأب لهن، وطوال حياتي لم أقُل لأيٍّ منهن أكثر من «صباح الخير». ولو أمسكت يدها أو تغنَّيت ببعض الكلمات في أذنها الجميلة، لَما كنتُ لأعفي نفسي من الذنب، ولكني أحلف لك يا جورج …»

ولكن لم يستطع جورج أن يكتم ضحكته.

ومع ذلك كان ليون يستطيع أن يلعب دور العاشق المثالي. كان في قرطبة ذات مرة وعمد إلى مغازلة امرأة بعينها، وتشهد ثلاث ندبات بالسكين في صدره جهةَ اليمين على نجاح مغازلته. أما الرجلان اللذان هاجماه، فهما ميتان الآن؛ لأنه بمغازلته لهذه المرأة استدرج الرجل الذي كانت تبحث عنه الشرطة في إسبانيا وفرنسا.

وفي صباح يوم من أيام فصل الربيع، تدفَّقت مشاعره بقوةٍ تجاه سيدة رشيقة وجميلة ذات عينين سوداوين قابلها في هايد بارك. انتفض واقفًا عندما رآها تسير على مهلٍ مارَّةً به بمفردها دون رفيق. كانت امرأةً ذات قوام ممشوق، وفي عقدها الرابع، وذات بشرة صافية وعينين رماديتين مائلتين إلى السواد.

لم يكن لقاؤهما من قبيل الصدفة؛ إذ كان ليون يتعقَّب حركاتها لأسابيع.

قال: «لقد استجيبت دعواتي أيتها الجميلة.» وكانت مجاملته المُغالى فيها فصيحةً وعفوية؛ إذ كان يتحدث الإيطالية.

ضحكت ضحكةً خفيفة ورمقته بنظرةٍ سريعة وفضولية من تحت أهدابها الطويلة، وأشارت إليه بأن يرتدي القبعة التي كانت في يده وقتئذٍ.

ابتسمت وسلَّمت عليه بيدها الصغيرة ذات القفاز: «صباح الخير يا سيد كاريلي.» كانت ترتدي ملابس بسيطة، ولكنها باهظة الثمن. وما كانت ترتدي من المجوهرات سوى سلسلة من الأحجار الكريمة حول عنقها الأبيض.

قالت: «أراك في كل مكان. رأيتك تتناول العشاء في كارلتون ليلة الإثنين، وقبلها كنت رأيتك في مقصورة بأحد المسارح، وقابلتك بالأمس بعد الظهيرة!»

ضحك ليون ملءَ فيه ضحكةً مُبهجة أظهرت أسنانه البيضاء.

قال: «هذا صحيح أيتها السيدة الفاتنة، ولكنكِ لم تُشيري إلى بحثي في لندن عن شخصٍ يقدمني لك، ولم تُشفقي على يأسي وأنا أتبعكِ لأمتع عيني بجمالك، ولا على الليالي التي جفاني النوم فيها.»

كان كل ما قاله يفيض بمشاعر مُتأججة لشابٍّ ولْهان، وكانت تستمع من دون أن تبدر منها إشارةٌ تدل على النفور.

قالت بنبرة ملكةٍ تمنح امتيازًا كبيرًا: «ستمشي معي.»

ابتعدا عن الزحام واتَّجها إلى المساحات المفتوحة في المتنزَّه، وتحدَّثا عن روما وموسم الصيد، وعن الجولات في كامباجنا، وعن حفلات الأميرة ليبنيتز سافالو؛ فقد قرأ ليون أعمدة المجتمع في الصحافة الإيطالية باهتمامٍ كبير، وكان يتذكر كل ما قرأه.

في النهاية وصلا إلى مكانٍ تملؤه الأشجار وكراسي حديقة مُريحة. دفع ليون للحارس اليقظ فتركهما وانصرف بعيدًا.

بدأ حديثه مُبتهجًا: «ما أجمل أن يجلس المرء وحده مع كل هذا الجمال الربَّاني! أنا أقصدكِ أنت بهذا الحديث يا سيدتي.»

تحدَّثت السيدة هذه المرة باللغة الإنجليزية بصوتٍ جمع ما بين البرود والقوة، وقالت: «أخبِرني شيئًا آخر يا سيد ليون جونزاليس. لماذا تتبعني مثل ظلي هكذا؟»

إذا كانت قد توقَّعت أنها بذلك ستُربكه؛ فذلك لأنها لم تكن تعرف ليون.

قال بهدوء: «لأنك امرأةٌ شديدة الخطورة يا مدام كوسكينا، والأخطر أن الرب قد وهبكِ شفتين تُغْريان أي شخص لتقبيلهما إلى جانب قوامٍ ممشوق. ما أكثر الشباب المُرهَفين من ملحقي السفارات الذين اكتشفوا فيكِ كل هذه المفاتن!»

ضحكَتْ لما سمعت وبدَتْ سعيدةً للغاية به.

قالت: «لقد كنت عاكفًا على القراءة جيدًا. لا يا سيد جونزاليس، أنا بعيدةٌ كل البعد عن السياسة؛ فهي تُزعجني. إن إيفان المسكين في روسيا يُعاني في عمل اللجنة الاقتصادية، ويعيش في رعبٍ بسبب آرائه الليبرالية المعروفة، وأنا في لندن، وهي مدينةٌ رأسمالية مُبهجة ومُريحة! صدِّقني، لينينجراد ليست بالمكان الذي يستهوي النساء!»

كانت إيزولا كوسكينا اسمها إيزولا كابريفيتي قبل أن تتزوج من ملحقٍ دبلوماسي روسي شاب. كانت ثوريةً منذ ولادتها، وصارت لديها الآن حماسةٌ متَّقِدة للثورة وصلت إلى حد التعصُّب.

ابتسم ليون.

«توجد أماكن أسوأ من لينينجراد للنساء. يؤسفني حقًّا يا عزيزتي إيزولا أن أراكِ تحيكين قمصانًا خشنةً في سجن أيلسبيري.»

نظرت إليه نظرةَ تكبُّر دون أن ترفع عينها عنه.

«هذا تهديد، والتهديدات تُضجرني. في إيطاليا تعرَّضت للتهديد بجميع أنواع الأشياء المروِّعة عندما كنت أظهر في الجانب الخطأ في ممرِّ سيمبلون. وأنا حقًّا أكثر شخص مُسالم في العالم يا سيد جونزاليس. بالطبع أنت تعمل لدى الحكومة، كم يظهر عليك الاحترام! أي حكومة تعمل لديها؟»

ابتسم ليون ولكنه استعاد جديته في ثانية.

قال: «أُغلقت الحدود الإيطالية عمليًّا منذ المحاولة الأخيرة؛ فأنت وأصدقاؤك تتسبَّبون في الكثير من المشاكل للجميع. ومن الطبيعي أن تهتمَّ الحكومة؛ فهي لا ترغب في أن يأتي يوم وتجد نفسها متورِّطة، وأن قاتلًا نجح في الفرار من … إنجلترا، أليس هذا صحيحًا؟»

هزَّت السيدة كتفيها الجميلتين مستهجنةً وقالت: «يا لها من دراما! ولذلك لا بد لإيزولا كوسكينا المسكينة أن يُراقبها محقِّقون وقتَلة تائبون، أظن أنك ورفاقك الكرام قد استقمتم!»

اتَّسعت الابتسامة المُرتسمة على وجه ليون جونزاليس النحيل: «لو لم نكن استقمنا يا سيدتي الجميلة، فما الذي كان سيحدث؟ هل ينبغي أن أجلس هنا وأتبادل معكِ حديثًا متكلَّفًا؟ ألن تُنتشل جثتكِ من نهر التايمز في لايمهاوس والبرد والرطوبة ينخران في عظامكِ في صباح يومٍ ما، وترتمي على طاولة المشرحة حتى تُصدِر هيئة محلِّفي محقِّق الوفَيات حكمًا مفاده «تم العثور عليها غريقة»؟»

رأى الدم يهرب من وجهها ولاح الخوف في عينيها، ثم قالت: «من الأفضل أن تهدِّد إيفان.»

«سأرسل إليه؛ إنه ليس في لينينجراد، ولكنه يعيش في برلين باسم بيترسون؛ مارتن لوثرستراسي ٩٠٤. ما أسهل الأمر لو أننا لم نستقم! رجلٌ ميت في بالوعة، وشُرطي يفتِّش جيوبه بحثًا عن بطاقة هُوية.»

نهضت على عجل، وشحب لون شفتيها.

قالت: «أنت لا تروق لي.» وأشاحت بوجهها عنه وانصرفت سريعًا.

لم يُحاول ليون تتبُّعها؛ فقد وصله الخطاب المنتظَر بعد يومين من هذه المقابلة. كان العديد من الناس قد أرسلوا إلى منظمة رجال العدالة الأربعة، وكانت بعض الخطابات تتضمَّن إساءات، والكثير منها يحوي حماقات، لكن بين الحين والآخر كان من الممكن استنتاج وجود مشكلة صغيرة جدًّا من المراسلات الصباحية. وكان الخطاب المتَّسِخ بآثار الأصابع والطيات يستحقُّ المبلغ الذي تقاضاه ساعي البريد؛ لأنه أتى من دون طابع بريد. كان العنوان المكتوب عليه هو:

رجال العدالة الأربعة، شارع كيرزون، ماي فير، ويست إند، لندن.

كان واضحًا من الخط أن صاحبه أُمِّيٌّ، وكان كالآتي:

سيدي العزيز

من المفترض أنكم تهتمون بحل الألغاز، حسنًا، إليكم هذا اللغز. لقد كنت اعمل في صناعة الغلايات في هولينجز، لكنني الآن عاطل عن العمل، وفي أحد أيام الأحد، سيدة أجنبية التقطت لي صورة جاءت أمامي معها كاميرا والتقطت الصورة. كانت الحديقة مليئة بالشباب ولكنها لم تلتقط صورًا إلا لي. ثم سألتنى عن اسمى وعنوانى وسالت ان كنت أعرف رجل دين معين. وعندما قلت نعم، كتبت اسم القس جيه كرو، ثم قالت انها سترسل لي صورة يا سيدي ولكنها لم ترسل أي صوره الا انها طلبت ان انضم إلى «المسافرين السعداء» للذهاب الى سويسرا وروما وغيرهما ولن ادفع شيء لان جميع المصروفات مدفوعة (عشره جنيه) واشترت لي أطقم ملابس على أحدث موضة. استعديت يا سيدي، وقامت هي بكل الترتيبات بما يقارب العشرة جنيه واحضرت التذاكر… الخ. ولكن السيدة الآن تقول أن أذهب إلى ديفونشير وانا لا امانع. وأصبح هذا لغز يا سيدي لأنني قابلت لتوي سيد نبيل من ليدز التُقِطت له صورة وانضم الى المسافرين السعداء وسيذهب الى كورنوول، وسالته السيدة التي التقطت له الصورة عن رجل دين وكتبت اسمه. والان، ما السر في ذلك، وهل للأمر صلة بالدين؟

مع خالص التحية
تي بارجر

قرأ جورج مانفريد هذا الخطاب المكتوب على عجل والمليء بالأخطاء الإملائية، وألقى بالخطاب عبر مائدة الإفطار إلى ليون جونزاليس.

قال: «اقرأ لي هذه الأحجية يا ليون.»

قرأ ليون الخطاب وقطَّب جبينه.

«المسافرون السعداء، ما هذا؟ شيءٌ غريب.»

انتقل الخطاب إلى رايموند الذي قرأه بإمعان من دون أن تظهر أي تعبيرات على وجهه.

سأل ليون وهو ينظر إليه: «هل فهمت شيئًا يا رايموند؟»

قال رايموند وهو يُومئ ببطء: «أعتقد ذلك.»

سأل مانفريد: «هل لي أن أعرف هذا «اللغز»؟»

ضحك ليون ضحكةً خافتة.

«لا يوجد لغز على الإطلاق يا عزيزي جورج. سأرى تي بارجر هذا، وأنا متأكدٌ أن اسمه «توماس»، وسأعرف منه تفاصيل محدَّدة؛ مثل لون عينيه، والتصريح الذي تلقَّاه من وزير الخارجية.»

غمغم جورج مانفريد وهو يرتشف قهوته: «لغز فوق لغز.» على الرغم من أن المسألة لم تعُد لغزًا بالنسبة إليه في الواقع؛ فقد كان في الإشارة إلى وزير الخارجية توضيحٌ كبير للمسألة.

قال ليون: «بالنسبة إلى السيدة …» ثم هزَّ رأسه.

أحدثت سيارته البنتلي الكبيرة ضجةً خفيفة في الشارع الذي يعيش فيه تي بارجر. كان الشارع يقع بالقرب من مرفأ إيست إنديا، وتبيَّن أن تي بارجر — وكان اسمه الأول تيوفيلوس — رجلٌ طويلٌ داكن البشرة في عقده الرابع، له شاربٌ أسود صغير، وحاجبان أسودان كثيفان نوعًا ما. من الواضح أنه كان يرتدي «أطقمه» الجديدة، وأنفق على الأقل جزءًا من «الجنيهات العشرة» على المشروبات الكحولية؛ لأنه كان في مزاجٍ من الصخب والثقة.

قال بصوتٍ غليظ: «سأغادر غدًا إلى توركواي؛ كل شيء مدفوع. مُسافر وكأنني من علية القوم، في الدرجة الأولى. أنت واحد من رجال العدالة الأربعة!»

أقنعه ليون بالدخول إلى المنزل.

قال السيد بارجر: «لا أفهم لماذا فعلت ذلك. مسافرٌ سعيد — هذا ما أنا عليه. لربما كانت أخذتني إلى الخارج — كنت أودُّ أن أرى الجبال، ولكنها أخبرتني أنني لو لم أكن أتحدَّث اللغة السويسرية فسأُستبعد. على أي حال، ما الخَطب بتوركواي؟»

«هل سيذهب الرجل الآخر إلى كورنوول؟»

أومأ السيد بارجر بجدية. «ورفيقه ذاهب إلى سومرست — كم كان غريبًا أن ألتقيه …» وشرح المصادفة التي تتعلق بحانةٍ عامة دُعي فيها السيد بارجر لتناوُل شراب.

«ماذا كان اسمه؟»

«ريجسون، هاري ريجسون. أخبرته باسمي، وأخبرني باسمه. هل تقصد الرجل الآخر؟ صديق هاري؟ أدعوه هاري — نحن صديقان — والآن دعني أفكِّر يا سيدي.»

تركه ليون يفكِّر.

«إن له اسمًا غريبًا، كوك. لا، سوك، لوكلي! هذا هو اسمه؛ جو لوكلي.»

طرح ليون بضعة أسئلة أخرى بدت في ظاهرها بعيدةً عن الموضوع، ولكنها لم تكن كذلك.

قال تيوفيلوس الذي كان صريحًا ولم يُبدِ أي تحفُّظ في حديثه: «بالطبع كان على اللجنة أن تقبلني. فبحسب كلام هاري، لقد صوَّرت هذه السيدة أحد أصدقائه، ولكنه لم يجتز اللجنة.»

ليون: «أفهم ذلك. متى تنطلق إلى ديفونشير؟»

«في صباح الغد، الساعة السابعة. وقتٌ مُبكر قليلًا، أليس كذلك؟ ولكن هذه السيدة تقول إن المسافرين السعداء يجب أن يستيقظوا من النوم مُبكرًا. سيذهب هاري على متن القطار ذاته، ولكن في عربةٍ مختلفة.»

عاد ليون إلى شارع كيرزون وهو راضٍ تمام الرضا. كان السؤال الذي عليه حسمه هو: هل إيزولا تستيقظ مبكرًا هي الأخرى؟

قال رايموند بويكارت: «لا أظن ذلك. لم تكن لتجازف؛ خاصةً إذا كانت تعرف أنها تحت المراقبة.»

في تلك الليلة كانت شرطة سكوتلاند يارد تعمل بلا كلل أو ملل، ولم يغمض لليون جونزاليس جفن. من حسن الحظ أن إيزولا كانت تحت مراقبة الشرطة، وكانت شرطة سكوتلاند يارد تعرف كل حي زارته إيزولا في إنجلترا الشهر الماضي. بحلول منتصف الليل، أيقظت الشرطة المحلية ألفَي رجل دين من نومهم مُطالبين إياهم بالإدلاء بتفاصيل ومعلومات معيَّنة.

ذهبت إيزولا لتناول العشاء والرقص في تلك الليلة، وكان رفيقها شابًّا لطيفًا للغاية، طويل القامة وذا وجه داكن البشرة. اختارت مَلهى لورينت، وهو أرقى الملاهي الليلية وأكثرها خصوصيةً، لا يرتاده سوى علية القوم. انشغل الرجال والنساء بالإعجاب بجمالها أو بانتقاده عند دخولها؛ إذ وجدوا أمامهم امرأةً مُتألقة ترتدي فستانًا قرمزيًّا وشالًا ذهبيًّا غير لامع. زادت الألوان من بهاء وجهها الجميل، وكان في كل حركة من حركاتها التواءاتٌ وانحناءاتٌ رشيقة كجسد أفعى.

كانا قد وصلا إلى ركن الحلوى عندما وضعت إصبعين فجأةً على مفرش الطاولة.

سأل رفيقها دون اكتراث لما رأى إشارة الخطر: «من هذا؟»

«الرجل الذي أخبرتك عنه؛ إنه يجلس على الطاولة المقابلة لنا مباشرةً.»

نظر الرجل ذو البشرة الداكنة في الحال.

«إذن هذا هو جونزاليس المشهور! رجلٌ تافه يمكنني أن أحطِّمه.»

قاطعته قائلةً: «إنه رجلٌ تافهٌ استطاع أن يحطِّم جبابرة يا إيميلو. هل سمعت عن ساكوريفا؟ أما كان جبَّارًا؟ هذا الرجل قتله؛ أطلق عليه الرصاص في مقره على الرغم من وجود حراسة من الإخوة الثوريين متأهِّبين فور النداء ثم هرب!»

تعجَّب إيميلو: «أهو ضد الثوريين؟»

هزَّت رأسها: «كان الرفيق ساكوريفا شديد الحماقة مع النساء. لقد أنهى علاقته بفتاة صاحبها ثم تركها. إنه ينظر إلينا؛ سأدعوه للجلوس معنا.»

نهض ليون مُتكاسلًا بعد أن رأى إشارة الدعوة، وجاء عبر حلبة الرقص المكتظَّة.

قال بنبرة يأس: «سيدتي، أظنكِ لن تُسامحيني أبدًا! ها أنا أُراقبكِ مرةً أخرى! ولكن لم آتِ إلى هنا إلا لشعوري بالضجر.»

قالت بابتسامتها الشديدة العذوبة: «وتضجرني أنا أيضًا.» ثم تذكَّرت رفيقها وقالت: «السيد هالز، من ليبزيج.»

التمعت عينا ليون.

ثم قال: «إن أصدقاءك يغيِّرون جنسياتهم بعدد المرات التي يغيِّرون فيها أسماءهم. أنا أتذكَّر السيد هالز من ليبزيج عندما كان اسمه إيميلو كازيني من تورينو!»

بدا عدم الارتياح على إيميلو، ولكن بدت إيزولا مُستمتعةً.

«هذا الرجل لا يخفى عليه شيء! هلَّا رقصت معي يا سيد جونزاليس، وعِدْني بأنك لن تقتلني!»

أخذا يتراقصان معًا عبر حلبة الرقص قبل أن يتحدث ليون. قال: «لو كان لي وجهك الجميل وقوامك وشبابك، لقضيت وقتًا مُمتعًا، وما شغلت نفسي بالسياسة.»

ردَّت بصوتٍ مُرتعش: «ولو كانت لي حكمتك ودهاؤك، لأزحت الطغاة من مناصبهم العالية.»

كان هذا كل ما قيل. عند الخروج إلى الردهة اكتشف ليون أن الفتاة ورفيقها مُنتظران. كان المطر يهطل بغزارة، ولم تجد إيزولا سيارتها.

ابتسم ليون ابتسامةً جذَّابة وقال: «هلَّا أوصلتكما يا سيدتي الجميلة؟ سيارتي لا تليق بمقامك، ولكنها تحت تصرُّفك.»

تردَّدت إيزولا.

قالت: «شكرًا لك!»

أصرَّ ليون الذي يتمثَّل الأدب في شخصيته على أن يأخذ أحد المقاعد التي تجعل ظهره متَّجهًا نحو السائق. لم تكن سيارته الخاصة. كان عادةً ما يتوتَّر من وجود سائقين آخرين، ولكنه لم يُبالِ الليلة.

عبروا ميدان ترافالجار.

قالت إيزولا بحدةٍ سريعة: «السائق يتخذ مُنعطفًا خاطئًا.»

ليون: «هذا هو الطريق الصحيح إلى سكوتلاند يارد. نحن نُطلِق على هذا الطريق اسم «طريق المسافرين السعداء»؛ أبعِدْ يدك عن جيبك يا إيميلو. لقد قتلت رجالًا على استفزازاتٍ أقل، وأنا لم أغفل عنك منذ أن خرجنا من الملهى!»

في الساعات الأولى من الصباح الباكر، أُرسلت برقيات إلى أقسام الشرطة في فولكستون ودوفر:

«هذه إشارة بإلقاء القبض على تيوفيلوس بارجر وجوزيف لوكلي وهاري ريجسون.» وتبع هذه الأسماءَ خمسةُ أسماء أخرى «المسافرون إلى أوروبا بالقارب إما اليوم أو غدًا.»

لم تكن هناك حاجة لإعطاء تعليمات بشأن إيزولا؛ فلم يكن سلوكها كامرأةٍ مثاليةٍ رائعةٍ مسوَّغًا.

قال ليون أسفًا: «لقد أضرَّت بسمعتها. لم أرَ في حياتي واحدًا من أفراد المسافرين السعداء مغمومًا كما رأيتها عندما أوصلناها إلى شرطة سكوتلاند يارد.»

عند مناقشة المسألة في المؤتمر الصباحي الذي كان جزءًا من الروتين اليومي في شارع كيرزون، مال مانفريد إلى اعتبار المكيدة ساذجةً تفتقر إلى أي حبكة معقَّدة.

ليون: «إذا تحدَّثت باستخفاف عن عبقريتي وقدرتي على الاستنتاج، فسأنفجر في البكاء. يعتقد رايموند بأنني كنت ذكيًّا؛ ولن أسمح بالطعن في ذلك الحكم. إنك تتقدم في العمر يا جورج وتتذمر من أتفه الأشياء.»

سارَع مانفريد إلى استرضاء صديقه المُبتسم: «كانت طريقة اكتشاف المكيدة ذكيةً.»

قال ليون في إصرار: «وكانت الخطة ذكيةً، بل بالغة الذكاء مثل إيزولا. في يوم من الأيام ستفعل شيئًا مُبتكرًا للغاية، وستقتل رميًا بالرصاص. من الواضح أن ما خطَّطت له هو جمع سبعة رجال يحملون قدرًا من التشابه مع أفراد عصابتها للاغتيالات. وعندما وجدتْهُم استصدرت لهم جوازات سفر. وهذا بالطبع سبب سؤالها عما إذا كانوا يعرفون رجل دين أم لا؛ لأن توقيع قسٍّ على الصورة ونموذج التقديم له قوة توقيع المُحامي. سبعة رجال أبرياء فقراء يحملون جوازات سفر سلَّمتها لأصدقائها بينما يُرسَل المسافرون السعداء إلى أماكن بعيدة؛ فقد كانت توجِّه العصابة إلى إيطاليا؛ إذ حصلت جميع جوازات السفر على تأشيرات لذلك البلد.»

مانفريد: «أخبِرني، هل ألقَوا القبض على تي بارجر المزيف في دوفر؟»

هزَّ ليون رأسه.

«الرجل الذي كان من المفترض أن يسافر بجواز سفر تي بارجر يُدعى إيميلو كازبيني؛ رصدت التشابه على الفور. كانت إيزولا في غاية البذاءة، ولكني أخمدت حدَّتها عندما ألمحت لها بأن زوجها ربما يرغب في معرفة صداقتها مع إيميلو. لقد كنت أراقب إيزولا منذ وقت طويل، ورأيت أشياء كثيرة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤