الفصل الثالث

الخاطف

لا يوجد سجل بسابق نشرها تحت هذا العنوان.

***

مرَّ عام منذ أن استجدى لورد جيدرو مساعدة رجال العدالة الأربعة الذين كانوا يعيشون في مقرهم الذي يحمل شعار المثلث في شارع كيرزون. كان رجلًا ضيِّق الأفق؛ ففي أول مقابلة لهم معه كان رأي بويكارت فيه أنه بخيل بطبيعته. في المرة الأخيرة التي التقَوا فيها لم يعُد الأمر مجرد رأي، بل أصبح معلومة لا يمكن إنكارها؛ إذ تنصَّل فخامة اللورد بكل جرأة من فاتورة النفقات التي قدَّمها له بويكارت، على الرغم من أن مانفريد وجونزاليس خاطَرا بحياتهما من أجل استعادة ألماسته المفقودة.

لم يعمد ثلاثتهم إلى مقاضاته؛ فلم يكن أيٌّ منهم بحاجة إلى المال. أبدى مانفريد رضاه عن التجربة، وشعر بويكارت بنشوةٍ جمَّة؛ لأن نظريةً من نظرياته ثبتت صحتها، بينما وجد جونزاليس عزاءه في شكل رأس العميل.

قال مُتحمسًا: «ما رأيت انحسارًا للعظم الجداري وتشوُّهًا في القفا مُثيرًا للاهتمام مثل ما رأيته في هذا الرجل.»

كان رجال العدالة الأربعة يتقاسمون هِبةً غير عادية، تمثَّلت في ذاكرةٍ ضخمة للوجوه وبراعةٍ استثنائية في ربط تلك الوجوه بأسماءٍ سيئة السمعة. ومع ذلك لم يكن ثَمة فخر في تذكُّر رأس فخامته.

في إحدى ليالي الربيع، جلس مانفريد في غرفته الصغيرة المُطلة على شارع كيرزون، وكان في أشد حالات الاستغراق في التفكير عندما دخل بويكارت — الذي لم ينفكَّ عن تولِّي وظيفة كبير الخدم — يعرج كي يُعلن عن وصول اللورد جيدرو.

كان مانفريد تهكميًّا إلى حدٍّ كبير؛ إذ قال: «أليس هذا جيدرو من جالات تاورز؟ هل أتى كي يدفع الفاتورة؟»

ردَّ بويكارت في ورع: «الله أعلم. هل يدفع نبلاء المملكة فواتيرهم؟ لست مُهتمًّا الآن بشأن النبلاء بقدر ما أهتم بكاحلي؛ إن ليون بائسٌ مستهتر حقًّا. اضطررت أن أستقلَّ سيارة أجرة …»

ضحك مانفريد ضحكةً مكتومة، ثم قال: «سيندم وسيكون الاستماع إلى حديثه مُثيرًا؛ أعني فخامته، فلتُدخله.»

دخل اللورد جيدرو وهو مُتوتر قليلًا، وأخذ يرمش من الضوء الساطع المتَّقِد على طاولة مانفريد. من الواضح أنه كان مُضطربًا على نحوٍ غير عادي. كان فمه الواهن يرتعش، ولم يكن الضوء الساطع هو المسئول كليًّا عن السرعة التي كان يفتح بها عينيه ويُغلقهما. كان وجهه الطويل المليء بالتجاعيد يختلج ويتشنج، ومن حين لآخر كان يمرِّر أصابعه بين خصلات شعره الخفيفة ذات اللون الرمادي المائل إلى الحُمرة.

«أرجو يا سيد مانفريد ألَّا يكون لديك … اممم …»

أدخل يده في جيبه وأخرج قصاصة ورق مستطيلة ودفعها عبر المكتب. نظر مانفريد وتعجَّب. أما بويكارت، فراح يُراقب المشهد في اهتمام ما جعله ينسى دوره ككبير خدم. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن هناك حاجة إلى التظاهر بشخصيةٍ خلاف ما كان عليها.

أخذت عينا اللورد جيدرو تتنقَّلان من واحد إلى الآخر.

«كنت أرجو من صديقك … اممم …»

قال مانفريد مُتسائلًا في نفسه عما هو قادم: «السيد جونزاليس بالخارج وسيعود في وقتٍ لاحق في المساء.»

خرَّ فخامة اللورد مُنهارًا على الكرسي وهو يئن، وترك رأسه يسقط على ذراعيه المُمتدتين على المكتب.

اشتكى قائلًا: «يا ربي! هذا أفظع شيء مررت به. لا أحتمل التفكير في الأمر.»

انتظر مانفريد في صبر. وبعد قليل رفع الرجل المُسن رأسه.

قال: «لا بد أن أخبركم بالقصة من البداية يا سيد مانفريد. ابنتي أنجيلا، أظن أنك قابلتها؟»

هزَّ مانفريد رأسه نافيًا.

«لقد تزوَّجت هذا الصباح. تزوَّجت من السيد جانثايمر؛ مصرفي أسترالي فاحش الثراء، كما أنه شخصٌ لطيف للغاية.» ثم هزَّ رأسه ومسح دموع عينيه بمنديل.

بدأت الأمور تتكشَّف لمانفريد.

تابع فخامته قائلًا: «جانثايمر يكبر ابنتي بكثير، ولن أُخفي عليك حقيقة أن أنجيلا لديها اعتراضات بشأن التوافق بينهما. في الحقيقة، لقد وصلَت بحمقٍ شديد إلى نوعٍ من التوافق والتفاهُم مع شابٍّ يُدعى سايدوورث، وهو من أسرةٍ طيبةٍ وبه كل الصفات الحسنة، ولكنه لا يملك أي شيء. كان تصرُّفها هذا ضربًا من الجنون.»

باتت المسألة واضحةً لمانفريد تمامًا.

«اضطررنا للتعجيل بالزواج؛ لأن جانثايمر سيُغادر إلى أستراليا في وقتٍ مبكر عن الذي توقَّعه. ومن حسن حظي أن استجابت ابنتي لرغباتي المشروعة، وتزوَّجا هذا الصباح لدى مكتب أمين السجل، وكان مقرَّرًا أن تُغادر اليوم إلى جزيرة وايت في قطار الساعة الثالثة.

لم نذهب لتوديعها، والرواية الوحيدة التي لديَّ عمَّا حدث كانت من زوج ابنتي. قال إنه كان متَّجِهًا إلى عربته المحجوزة لهما، وفجأةً لم يجد ابنتي بجانبه. ظل ينظر من حوله وعاد أدراجه إلى الخلف، ولكنه لم يعثر لها على أثر. ظن أنها ربما ذهبت إلى العربة مباشرةً، فعاد إليها ولكنه وجدها فارغةً. عندئذٍ عاد إلى ما بعد الحاجز ولكنه لم يرَها، ولكن حامل الأمتعة الذي استأجره كي يحمل أمتعته وكان يتبعه قال إنه رآها في محادثةٍ جادَّة مع رجلٍ مُسنٍّ، وإنهما اتَّجها إلى صالة الحجز معًا ثم اختفيا. ورآهما حامل أمتعةٍ آخر في فناء المحطة وهما يركبان سيارة وانطلقا بها.»

كان مانفريد يدوِّن ملاحظاته في دفتر ملاحظاته. لم يرفع بويكارت عينه عن الزائر مطلقًا.

تابع فخامة اللورد حديثه: «القصة التي رواها حامل الأمتعة — أقصد حامل الأمتعة الذي كان بالخارج — تقول إن ابنتي بدَتْ غير راغبةٍ في الذهاب مع العجوز، وإنها ربما أُدخلت عَنوةً إلى السيارة التي لا بد أنها مرَّت به. لما اقتربت السيارة منه كان الرجل يُسدِل الستائر، ويقول حامل الأمتعة إنه لا يشكُّ في أن ابنتي كانت تُجاهد للتخلُّص من الرجل.»

مانفريد: «من الرجل المُسن؟»

أومأ اللورد جيدرو.

قال بصوتٍ مُنتحب: «سيد مانفريد، أنا لست ثريًّا، وربما من الحكمة أن أترك المسألة بين يدَي الشرطة، ولكنْ لديَّ إيمانٌ غير عادي بذكائكم وفِراستكم. أعتقد أنكم ستجدون الرقم الذي يحمله هذا الشيك مُناسبًا، وعلى الرغم من معرفتي بأتعابكم الباهظة فإنني أرغب في الاستعانة بكم. إنها ابنتي الوحيدة …» وتحشرج صوته.

«هل أخذ حامل الأمتعة رقم السيارة؟»

هزَّ اللورد جيدرو رأسه، وقال: «لا. وبالطبع أرغب في أن يبقى الأمر بعيدًا عن الصحافة.»

قال مانفريد: «أخشى أن تكون قد فشلت في إخفاء الأمر.» وأخذ ورقة من السلة التي كانت بجانبه، وأشار إلى فقرة في قسم آخر الأخبار.

بلاغ عن اختطاف عروس.

«اختُطفت عروس من قِبل رجل عجوز عنوةً قُبَيل مغادرتها واترلو لقضاء رحلة شهر العسل. وقد أُخطرَت شرطة سكوتلاند يارد بالحادث.»

أسند مانفريد ظهره إلى المقعد وقال: «سيتحدَّث حاملَا الأمتعة. هل لدى الشرطة نظرية بشأن الواقعة؟»

ردَّ اللورد بسرعة: «مطلقًا.»

«هل تحدَّث السيد سايدوورث مع أحد؟»

هزَّ اللورد جيدرو رأسه بقوة.

«بالطبع كان هذا هو أول ما يتبادَر إلى ذهني. أظن أن سايدوورث قد استدرج هذه الفتاة التعيسة …»

تساءل مانفريد بوميضٍ في عينه لم يفهمه سوى بويكارت: «هل هو رجلٌ مُسنٌّ؟»

ردَّ اللورد بسرعة: «بالطبع لا. لقد أخبرتك أنه شابٌّ. وفي الوقت الحالي يمكث مع بعضٍ من أعز أصدقائي في نيوبيري. أظن أنه ينظر إلى الزواج نظرةً سيئة. على أي حال، لقد قال صديقي إنه لم يُغادر ضيعة كينجشوت طوال اليوم، ولم يستخدم الهاتف على الإطلاق.»

حكَّ مانفريد أنفه المُتناسق مُفكرًا.

«وماذا عن السيد جانثايمر؟»

«مشتَّت بالطبع. لم أرَ أحدًا غاضبًا مثل غضبه. أوشك الحزن أن يُذهب عقله. هل يمكنكم أن تمنحوني أي أمل أيها السادة؟»

أخذت عينه تنتقل من واحد إلى الآخر، وتهلَّل وجهه النحيل مع إيماء مانفريد.

قطع بويكارت هذا الصمت بسؤاله: «أين يمكث السيد جانثايمر؟»

قال اللورد جيدرو: «في فندق جايبورو.»

مانفريد: «نقطةٌ أخرى، ما الهدية التي قدَّمها للعروس؟»

نظر الزائر مُتفاجئًا، ثم قال مُتباهيًا: «مائة ألف جنيه. السيد جانثايمر لا يعتدُّ بطُرُق الاتفاق القديمة لدينا. يمكنني القول إن الشيك الذي يحمل هذا المبلغ في جيبي الآن.»

مانفريد: «وماذا كانت هديَّتك للعروس؟»

أبدى اللورد جيدرو بضع إشارات تدلُّ على نفاد الصبر.

«صديقي العزيز، أنت تسير على المسار الخطأ. لم تُخطف أنجيلا من أجل الحصول على ما معها. صندوق المجوهرات الذي حوى ألماساتها كان مع جانثايمر. لم يكن بحوزتها شيءٌ ذو قيمة باستثناء بعض الجنيهات المُتبقية في حقيبة يدها.»

نهض مانفريد.

«أعتقد أن هذا كل ما أردت أن أسألك عنه يا لورد جيدرو. وما لم أكن مُخطئًا في تقديري، فستعود إليك ابنتك في غضون أربع وعشرين ساعة.»

أوصل بويكارت الرجل إلى سيارته بعدما اطمأنَّ قلبه، وعاد ليجد مانفريد يقرأ عمود الرياضة في إحدى الجرائد المسائية.

سأل بويكارت: «ماذا إذن؟»

أخفض الجريدة وتمدَّد وقال: «قضيةٌ غريبة، ومن النوع الذي تتراقص معه روحي. إذا جاء ليون، فهلَّا طلبت منه أن ينتظر عودتي ما لم يكن ثَمة أمرٌ عاجل اضطرَّه للخروج؟» رفع رأسه، ولما سمع صرير الفرامل قال: «أعتقد أنه هو.»

هزَّ بويكارت رأسه.

قال: «ليون لا يُحدِث كل هذه الضوضاء.» ثم نزل كي يُدخل شابًّا غاضبًا.

كان السيد هاري سايدوورث من الشباب الذين يروقون كثيرًا لمانفريد. جسدٌ نحيل ووجهٌ نضر، وكل صفاته لا تُعبر عن عمره.

قبل أن يدخل إلى الغرفة مباشرةً، قال: «ألست السيد مانفريد؟ لقد كنت في منزل ذلك الشيطان العجوز وأخبرني سكرتيره أن آتي إلى هنا، ولكن لأجل الرب لا تُخبر أحدًا أنه قال لي ذلك!»

«بالطبع أنت السيد سايدوورث؟»

أومأ الشاب بقوة. كان وجهه يشعُّ قلقًا، وكان أشعث الشعر؛ فقد كان أصغر من أن يستطيع إخفاء ما به من كرب.

بدأ قائلًا: «أليس رهيبًا أن تُعبر الكلمات …»

رمقه مانفريد بنظرةٍ حانية وقال: «سيد سايدوورث، لقد أتيت إلى هنا كي تسأل عن حبيبتك أنجيلا، وأنا أقول لك، كما قلت للورد جيدرو، إنني واثقٌ تمام الثقة بأنها ستعود إليك سالمةً. ثَمة شيءٌ أودُّ السؤال عنه: كم مرَّ على معرفتها بزوجها؟»

عبس وجه الشاب.

قال مُتذمرًا: «إنني أكره هذه الكلمة. هل تقصد جانثايمر؟ حوالَي ثلاثة أشهر. إنه ليس شخصًا سيئًا، وأنا لا أُكنُّ له أي كراهية باستثناء أنه تزوَّج من أنجيلا. وظن جيدرو العجوز أنني اختطفتها؛ فقد اتصل بالأشخاص الذين كنت أقيم معهم، وكان هذا أول علم لي باختفائها. لم يحدث لي شيءٌ مروِّع كهذا من قبل.»

مانفريد: «هل وصلتك أخبار منها مؤخرًا؟»

أومأ سايدوورث.

قال في كآبةٍ شديدة: «نعم، هذا الصباح. مجرد رسالة مُقتضَبة تشكرني فيها على هدية الزواج. لقد أهديتها صندوق مجوهرات …»

سأل مانفريد بحدة: «ماذا؟» ما جعل الشاب يحدِّق فيه مُتفاجئًا من حدته.

«صندوق مجوهرات؛ كانت أختي قد اشترت واحدًا منذ شهر، وأُعجبت به أنجيلا كثيرًا لدرجة أنني اشتريت لها واحدًا طِبق الأصل منه.»

أخذ مانفريد ينظر إليه وهو شارد الذهن.

قال بنبرةٍ مُتثاقلة: «أختك؟ أين تعيش أختك؟»

قال الشاب مُندهشًا: «إنها تعيش في ميدينهيد.»

نظر مانفريد في ساعته.

ثم قال: «الساعة الآن الثامنة. ستكون هذه الأمسية أمسيةً مُمتعة.»

كانت دقَّات الساعة تُعلن العاشرة والنصف عندما رنَّ جرس الهاتف في جناح السيد جانثايمر الخاص بصوتٍ هادئ. أوقف جانثايمر خطواته المُتململة عبر أرجاء الغرفة واتَّجه نحو الهاتف.

قال: «لا أستطيع أن أرى أحدًا. مَن؟» قطَّب جبينه ثم قال: «حسنًا، سأُقابله.»

كانت الأمطار تهطل بغزارة، واعتذر مانفريد عن مِعطفه الذي بلَّله المطر، وانتظر الدعوة كي ينزعه، ولكن من الواضح أن السيد جانثايمر كان مُنشغلًا بأفكاره السلبية بما جعله لا يعبأ كثيرًا بالقيام بواجبات الضيافة.

كان رجلًا طويلًا حسن الطلَّة، ولكن وجهه بات هزيلًا مُرهَقًا، وكانت اليد التي تُداعب الشارب الرمادي ترتعش قليلًا.

«أخبرني جيدرو أنه ذاهب لمقابلتك، ما تفسيرك لتلك الواقعة المروِّعة يا سيد مانفريد؟»

ابتسم مانفريد.

قال: «الحل غاية في البساطة يا سيد جانثايمر. إنه يكمن في الألماسة الوردية.»

سأل الآخر مذهولًا: «في ماذا؟»

مانفريد: «زوجتك لديها دبوس زينة جميل من الألماس. ما لم تكن معلوماتي مغلوطة، فالفص الثالث من نهاية الدبوس له لونٌ ورديٌّ مميَّز. هذا الدبوس ملك — أو كان ملكًا — لأمير كوميتار الهندي، وستجد كلمة «السعادة» مكتوبةً باللغة العربية على الجانب العلوي منه.»

ظل جانثايمر يُحملق فيه فاغرًا فاه.

«ما علاقة ذلك بالأمر؟»

ابتسم مانفريد مرةً أخرى: «إذا كانت زوجتك لديها ألماسةٌ وردية ومنقوش عليها الكلمة التي ذكرتها، فيمكنني أن أجدها في ست ساعات، وليس في أربع وعشرين ساعة.»

حكَّ جانثايمر ذقنه بأصابعه مُفكرًا.

قال: «من السهل حسم هذه المسألة. مجوهرات زوجتي في أمانات الفندق. فقط انتظِر.»

غادَر لمدة خمس دقائق، وعاد وهو يحمل علبةً صغيرةً ذات لون قرمزي. وضع العلبة على الطاولة وفتحها بمفتاحٍ أخرجه من جيبه. لما رفع الغطاء أخرج مسندًا صغيرًا من الشمواه، وكشف عن مجموعةٍ من الجواهر المُتلألئة على حامل.

قال بعد بحث: «لا يوجد أي دبوس زينة هنا.» ثم أخرج الحامل وفحص الجزء السفلي المبطَّن من العلبة.

كانت هناك دبابيس زينة عادية ومُستطيلة من جميع الأنواع. أشار مانفريد إلى واحدٍ منها وفحصه، ولكن لم يعثر على أي ألماسة وردية، ولم يكن لها وجودٌ في أي دبوس زينة آخر.

لما أغلق جانثايمر غطاء العلبة وقفله بالقُفْل، سأل: «هل هذا أفضل ما لديك في أعمال التحري الجنائي؟ أعتقد أن الحكاية كانت خياليةً قليلًا.»

فجأةً سمعا صوت كسر! اخترق النافذةَ حجرٌ مهشِّمًا الزجاج، ثم سقط على السجادة. التفَّ جانثايمر سريعًا وهو يتلفَّظ بالسِّباب.

«ما هذا؟»

انتزع صندوق المجوهرات الذي كان على الطاولة وجرى نحو النافذة. كانت هناك شرفة صغيرة أمام النافذة مُمتدة بطول المَبنى.

جانثايمر: «لا بد أن من قذف الحجر شخصٌ يقف في الشرفة.»

سُمِع صوت تكسير الزجاج في الردهة، ودخل اثنان من العاملين في الفندق وتفحَّصا التلف، ولكن من دون أن يقدِّما تفسيرًا لما حدث.

انتظر مانفريد حتى وضع العريس المشتَّت علبة المجوهرات في صندوقٍ قوي، وعندئذٍ تحسَّن مزاج جانثايمر.

قال: «لقد سمعت عنكم يا رفاق، وأعرف أنكم تتمتَّعون بذكاءٍ كبير، وإلا كنت سأعتقد أن قصة الألماسة الوردية محض هراء. لعلك ستُخبرني ما علاقة ذلك الأمير الهندي باختفاء أنجيلا.»

كان مانفريد يعضُّ على شفتيه مُفكرًا.

قال ببطء: «لا أريد أن أُزعجك، ولكن هل خطر لك يا سيد جانثايمر أنك قد تُشاركها قدرها؟»

مرةً أخرى، التفت سريعًا ولاحت على وجهه نظرة تخوُّف.

«لا أفهم ما ترمي إليه تمامًا.»

قال مانفريد: «كنت أتساءل إن كنت ستُشاركها قدرها.» ثم مد يده مُصافحًا، والتفت تاركًا مُضيفه المذهول وهو يحدِّق فيه من خلفه.

عندما وصل إلى شارع كيرزون، وجد جونزاليس يجلس في كرسيٍّ ذي ذراعين ويضع قدمه على كرسيٍّ آخر. من الواضح أن بويكارت — الذي وصل أولًا إلى المنزل — أخبره عن الزائرين؛ لأنه كان يتحدث بإسهاب عن النساء.

قال بصوتٍ حزين: «إنهن جامحات، ويفتقرن لرجاحة العقل. تتذكر يا جورج تلك المرأة في قرطبة، كيف أنقذناها من حبيبها، وكيف أنقذنا حياتها، وكيف أنقذنا حياتنا بالكاد من يديها بسبب غضبها؛ لا بد أن يُسَن قانونٌ يمنع النساء من حيازة الأسلحة النارية. وها هي قضيةٌ مُشابهة. ستُخبرك الجرائد غدًا عن القصة المروِّعة لعروسٍ انتُزعت من بين ذراعَي عريسها الوسيم. ستذرف العجائز الدموع على تلك المأساة من دون أن يعرفن شيئًا عن الألم الموجِع في قلب السيد هاري سايدوورث، ولا عن المتاعب التي تسبَّبت فيها هذه الواقعة الغريبة والمأساوية لجورج مانفريد ورايموند بويكارت وليون جونزاليس.»

فتح مانفريد الخِزانة الموجودة في أحد أركان الغرفة، ووضع فيها شيئًا أخرجه من جيبه. وعلى نحوٍ مُعتاد، لم يطرح جونزاليس أي أسئلة عن هذا الشيء، وكان من الغريب واللافت أن أحدًا لم يُناقش مسألة الألماسة الوردية.

مرَّ الصباح التالي بلا أحداث، باستثناء كثرة حديث ليون عن صلابة أريكة غرفة الاستقبال التي قضَوا ليلتهم عليها، وأنهى الرجال الثلاثة غداءهم، وكانوا جالسين يدخِّنون السجائر مع القهوة عندما دقَّ جرس الباب وخرج بويكارت إلى الردهة ليرى الطارق.

لما وصل صوت إليهم، قال جورج مانفريد: «جيدرو، وآتٍ بأخبارٍ سيئة.»

كان القادم هو اللورد جيدرو بالفعل، وأخذ يصيح بما لديه من معلوماتٍ هائلة.

«هل سمعتم الأخبار؟ اختفى جانثايمر! ذهب النادل إلى غرفته هذا الصباح، ولما لم يردَّ عليه أحدٌ فتح الباب بالمفاتيح التي معه ودخل. وجد السرير مرتَّبًا، وكل أمتعته موجودة، وعلى الأرض …»

أمسك مانفريد بجبهته وقال: «دَعْني أخمِّن، وُجدت علبة المجوهرات مهشَّمةً إلى قِطعٍ صغيرة، ولا توجد فيها قطعة مجوهرات واحدة! أم أنه …»

ولكن أنبأه وجه اللورد جيدرو أنه أصاب في تخمينه الأول.

قال مُتلهفًا: «كيف عرفت؟ لم يرِد هذا الخبر في الجرائد، يا إلهي، هذا مروِّع!»

وفي غمرة غضبه، لم يُلاحظ أن ليون جونزاليس قد انسلَّ من الغرفة، ولم يشعر بعدم وجوده إلا عندما التفت ليكتشف أنه لا يوجد سوى الرجل الذي وثق به لسببٍ ما غير عادي.

(قال جورج بعد ذلك: «جيدرو لم يثق بك ولا بي قط.»)

قال مانفريد مُبتسمًا: «أخجل من الاعتراف بذلك. لقد كان ذلك مجرد تخمين. يبدو أن أحدًا قد سطا على علبة المجوهرات؛ لا عجب في ذلك!»

تلعثم السيد النبيل: «ولكن … ولكن …» وفي تلك اللحظة فُتح الباب ووقف مذهولًا.

وجد فتاةً مُبتسمةً، وفي اللحظة التالية ارتمت في أحضانه.

قال ليون بهدوءٍ بالغ: «ها هي أنجيلا، ومع احترامي للجميع فلن آسف على النوم في سريري الخاص الليلة. جورج، يجب إعادة هذه الأريكة إلى اللصوص الذين جلبوها.»

ولكن كان جورج عند الخزانة يُخرج منها علبة مجوهرات من الجلد الأحمر.

مرَّ وقتٌ طويل قبل أن يهدأ جيدرو بما يكفي لسماع القصة.

قال مانفريد: «صديقي ليون جونزاليس يتمتع بذاكرةٍ قوية للوجوه، ونحن أيضًا لدينا هذه المزية، ولكن ليون لديه موهبةٌ خاصة في ذلك. كان ينتظر في واترلو كي يوصل صديقنا بويكارت إلى المنزل. ذهب رايموند إلى وينشيستر كي يرى جرَّاحًا صديقًا لنا بشأن الْتِواء في الساق. بينما كان ليون يجلس مُنتظرًا رأى جانثايمر وابنتك، وعلى الفور تعرَّف على جانثايمر الذي كان له أسماءٌ أخرى وهي: لانستري، أو سميث، أو ماليكين. خطيئة جانثايمر هي تعدُّد الزوجات، وتصادف أن كان ليون يعرفه جيدًا. طرحت بعض الاستفسارات على حامل الأمتعة، ولم يكتشف هوية ابنتك فحسب، بل عرف أن هذا الرجل تزوَّج في ذلك اليوم. تقرَّب إلى أنجيلا بحكايةٍ لا أصل لها، وهي أن شخصًا غير معروف ينتظر رؤيتها أمام المحطة. لن أقول إنها تخيَّلت أن ذلك الشخص المجهول هو هاري سايدوورث، ولكنها خرجت بكامل إرادتها على أي حال. أبدت بعض المقاومة عندما دفعها صديقنا ليون داخل السيارة وانطلق بها إلى مكانٍ بعيد …»

قاطَعه ليون: «سيتعاطف معي أي شخص جرَّب قيادة سيارة والتحكم في سيدةٍ غاضبة ومذعورة.»

تابَع مانفريد: «مع وصول الآنسة أنجيلا جيدرو إلى شارع كيرزون، كانت قد عرفت جميع الحقائق التي عرفها ليون. كان اعتراض ليون الوحيد هو تأجيل شهر العسل حتى يستطيع الاستعانة بشخصٍ ما ليتحقق من هوية جانثايمر. لم تُخبرنا السيدة الشابَّة شيئًا عن علبة المجوهرات خاصتها، ولكننا جميعًا توقَّعنا تقديم الشيك ذي المائة ألف جنيه إلى البنك لصرفه بعد فوات الأوان؛ فقبل صرف الشيك سيكون جانثايمر خارج البلاد مع أي غنيمة يستطيع جمعها — وهي ألماسات العائلة في تلك الحالة — وبالطبع بات القبض عليه سهلًا ليلة أمس. عندما جئت فخامتك ليلة أمس كان ليون بالخارج يُنهي تحرياته. وقبل أن يعود تمكَّنت من معرفة من أين يمكن الحصول على علبة مجوهرات طِبق الأصل مطابقة للعلبة الأخرى، وأجريت مكالمةً مع بويكارت عن صديقنا المتعدِّد الزيجات. كان بويكارت في البلكونة يستمع إلينا؛ وبناءً على كلمةٍ متَّفَق عليها كإشارةٍ حطَّم زجاج النافذة؛ مما أعطاني الفرصة التي أريدها بالضبط كي أبدِّل علبتَي المجوهرات. وفي وقتٍ لاحق، أفترض أن السيد جانثايمر فتح الصندوق ووجده فارغًا، وأدرك أن اللعبة قد انتهَتْ وهرب.»

سأل اللورد جيدرو: «ولكن كيف أقنعته بأن يُريك علبة المجوهرات؟»

ابتسم مانفريد ابتسامةً غامضة. كانت حكاية الألماسة الوردية غايةً في البساطة بحيث لا يمكن تكرارها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤