الفصل الخامس

لغز سلين

لا يوجد سجل بسابق نشرها تحت هذا العنوان أعيدت الطباعة في «مجلة ذا سانت»، طبعة المملكة المتحدة، يوليو ١٩٦٢.

***

بات مقتل برنارد سلين لغزًا من الألغاز الغامضة التي تسرُّ الصحافة وتُقلق الشرطة. كان السيد سلين سمسارًا ثريًّا في البورصة، ولم يسبق له الزواج، وكان شخصًا جيدًا. تناول العشاء في نادي بال مول ولما كانت سيارته في الورشة لإجراء بعض أعمال التصليح أخذ سيارة أجرة، وأمر السائق أن يُوصله إلى شقته في مجمع شقق ألبرت بالاس مانشنز، وكان بواب المجمع قد أخذ المصعد إلى الطابق الخامس وقت وصول السيد سلين.

كان النذير الأول بوجودِ خَطبٍ ما عندما نزل البواب، ووجد السائق يقف في الردهة وسأل عما يريده.

قال السائق: «لقد أوصلت رجلًا إلى هنا لتوِّي؛ السيد سلين، القاطن في رقم سبعة. لم يكن لديه أي نقود فكة؛ ومن ثَم ذهب لإحضارها.»

كان هذا محتملًا بدرجةٍ كبيرة؛ لأن سلين كان يقطن في الطابق الأول ويستخدم السُّلم دائمًا. تحدَّث السائق والبواب معًا لنحو خمس دقائق، وبعدها تطوَّع البواب بالصعود لإحضار الأجرة.

كان مجمع ألبرت بالاس مانشنز يختلف عن أي مجمع سكني آخر من نوعه؛ إذ كان يوجد في الطابق الأول والأغلى شقةٌ واحدةٌ صغيرة تتكون من أربع غُرَف يعيش فيها سلين.

ظهر ضوء من خلال العارضة، ولكنه ظل متَّقِدًا طوال الليل. دقَّ البواب جرس الباب وانتظر، ودقه مرةً أخرى، ثم طرق على الباب، ولكن دون أي إجابة، فعاد إلى السائق.

قال: «لا بد أنه خلد إلى النوم، كيف كانت حالته؟»

قصد بهذا السؤال الاستفسار عمَّا لو كان سمسار البورصة مخمورًا أم لا؛ فقد كان سلين في الحقيقة يُعاقر الخمر بإفراطٍ نوعًا ما، وعاد إلى المنزل أكثر من مرة في حالةٍ استدعَتْ مساعدة البواب الذي يعمل في المناوبة الليلية لإيصاله إلى فراشه.

أقرَّ السائق — وكان اسمه رينولدز — بأن الراكب كان معه في حالةٍ جيدة، وربما أكثر من جيدة. أعاد البواب الكرَّة مُحاولًا الحصول على ردٍّ من صاحب الشقة، ولكن لم يُفلح؛ ومن ثَم دفع للسائق أجرته من جيبه، وكانت أربعة شلنات وستة بنسات.

ظل البواب في مناوَبته طوال الليل، وصعد خلالها إلى الشقة ونزل عدة مرات. ومن خلال الحاجز القضباني المفتوح في الطابق الأول، أُتيحت له رؤية الشقة رقم ٧. وذكر في أقواله أنه لم يرَ السيد سلين نهائيًّا في تلك الليلة، وأنه يستحيل أن يُغادر سمسار البورصة المبنى دون أن يراه.

في الساعة الخامسة والنصف من صباح اليوم التالي، رأى شُرطيٌّ كان يجوب منتزه جرين بارك في نوبة حراسته، رجلًا يجلس على مقعد في حديقة مُنكفئًا على نفسه. كان يرتدي سترةً ليلية، وأثارت وضعيته الشكوك؛ مما دفع الشرطي إلى القفز من فوق الحواجز واجتياز حيز الحشائش الذي تخلَّل الطريق بين الممر والمقعد القريب من أجمةٍ من شُجَيرات الورد. اقترب من الرجل ليجد لهواجسه ما يسوِّغها. كان الرجل ميتًا؛ تعرَّض للضرب المبرِّح بآلةٍ غير حادَّة، وبالبحث في جيوبه تبيَّن أنه السيد برنارد سلين.

كان يوجد بالقرب من مسرح الجريمة بوابةٌ حديديةٌ مقحَمة داخل الحواجز تؤدي إلى المركز التجاري، ووُجد القفل الذي كان على هذه البوابة محطَّمًا. حضر ضباط المباحث من شرطة سكوتلاند يارد على الفور إلى مسرح الحادث، واستُجوِب بواب مجمع ألبرت بالاس السكني، وأُرسلَ أمرٌ يطلب من السائق رينولدز الحضور إلى مركز الشرطة. حضر إلى مركز الشرطة بحلول الثانية عشرة، ولكنه لم يستطع إلقاء أي ضوء من شأنه حل خيوط اللغز.

كان رينولدز رجلًا يحظى بالاحترام وليس له سوابق، وكان أرمل يعيش في مرأب بالقرب من ميدان دورست في شارع بيكر.

قال ليون جونزاليس وهو يضع مرفقيه على مائدة الإفطار ورأسه بين يديه: «جريمةٌ مسلِّية للغاية.»

تساءل جورج: «ولماذا مسلِّية؟»

واصَل ليون القراءة مُحركًا شفتيه، وكانت خدعةً من خدعه، وهو يلتهم كل سطر مكتوب. بعد برهة اتَّكأ بظهره على كرسيه وفرك عينيه.

قال: «إنها مسلية بسبب فاتورة الفندق التي وُجدت في جيب القتيل.»

وضع إصبعه على إحدى الفقرات، وسحب مانفريد الجريدة نحوه وقرأ ما يأتي:

«عثرت الشرطة في الجيب الأيمن من مِعطف القتيل على ورقةٍ ملطَّخة بالدماء تبيَّن أنها فاتورة فندق، صادرة من فندق بليج بأوستيند منذ خمس سنوات. أُصدرت الفاتورة باسم السيد ويلبراهام وزوجته بقيمة ٧٥٠٠ فرنك.»

دفع مانفريد الجريدة مُعيدًا إياها.

سأل: «أليس اللغز يكمن في سبب مغادرة هذا الرجل الشِّبه ثَمِل شقتَه، والرجوع إلى منتزه جرين بارك الواقع على مسافةٍ بعيدة من مجمع ألبرت بالاس؟»

هزَّ ليون رأسه ببطء، وكان يُحملق في شرود إلى الجدار البعيد، ثم غيَّر الموضوع بسرعة بطريقته المعهودة.

قال: «ثَمة مزايا كثيرة تدعم القانون الذي يحظر نشر تفاصيل معيَّنة في قضايا الطلاق، ولكن أعتقد أن الملابَسات التي أحاطت بزيارة السيد ويلبراهام وزوجته إلى فندق بليج كانت ستتكشَّف كاملةً لو نُظرت القضية أمام المحكمة.»

«هل تشكُّ في أن الجريمة ارتُكبت بدافع الانتقام؟» هزَّ ليون كتفيه وغيَّر الموضوع. اعتاد جورج مانفريد أن يقول إن ليون يتمتع بعقلٍ ذي قدرة استيعابية مُذهِلة لكل التفاصيل وتصنيفها، وإنه من حسن حظه أن الْتَقى به؛ فنادرًا جدًّا ما يحتاج إلى الرجوع إلى الملاحظات والبيانات الضخمة التي جمعها في حياته، وملأت إحدى الغُرف في ذلك المنزل الصغير، وجعلتها غير قابلة للسكنى.

كان يوجد رجل في سكوتلاند يارد، يُدعى المحقِّق ميدوز، يحظى بعلاقةٍ طيبة للغاية مع الرجال الثلاثة. كان من عادته تدخين غليون — أو العديد من الغلايين في الحقيقة — في المساء في المنزل الصغير الكائن في شارع كيرزون. وقد جاء في تلك الليلة وفي جعبته الكثير عن لغز مقتل سلين.

قال: «كان سلين رجلًا سريعًا في شئون حياته. بناءً على الأدلة التي وُجدت في منزله، يتبيَّن أنه كان الرجل الوحيد في لندن الذي لا يفترض أن يُطلَق عليه وصف أعزب، في حين أن هناك أربعًا وعشرين امرأة لهن حقوق لديه! بالمناسبة، لقد تتبَّعنا السيد ويلبراهام وزوجته. بالطبع تبيَّن أن ويلبراهام هو سلين. العثور على السيدة ليس سهلًا. أظن أنها واحدة من علاقاته العابرة.»

قال جونزاليس: «ولكنها الفتاة الوحيدة التي كان يرغب في الزواج بها.»

سأل المحقِّق المُندهش: «وكيف عرفت ذلك؟»

ضحك ليون ضحكةً خافتة.

«من الواضح أن الفاتورة أُرسلت كي تكون بيِّنة على وجود العلاقة الزوجية. فلم يُطلقها الزوج؛ إما لأنه كان يرغب في منح زوجته فرصةً أخرى أو لأنه كان كاثوليكيًّا رومانيًّا.» ثم انحنى إلى الأمام على الطاولة وابتسم للمحقِّق وقال: «والآن أخبِرني؛ عندما توقَّفت السيارة الأجرة أمام باب مجمع ألبرت بالاس السكني، هل نزل منها سلين على الفور؟ يمكنني أن أخبرك أنه لم يفعل.»

قال المحقق مُتشككًا: «يبدو أنك كنت تُجري تحريات. لا، انتظر فيها. ولما كان السائق لبقًا وكيِّسًا، رأى أن من الأفضل أن يُبقيه داخل السيارة إلى أن صعد الأشخاص الذين كانوا في الردهة في المصعد، الذي يمكن رؤيته من الباب.»

«بالضبط. هل كانت فكرة السائق أم فكرة سلين؟»

قال ميدوز: «فكرة السائق. لقد كان سلين شِبه نائم عندما أخرجه السائق.»

«سؤالٌ آخر: عندما أخذ عامل المصعد هذا الرجل إلى الطابق الخامس، هل نزل على الفور؟»

هزَّ المفتِّش رأسه.

«لا، بل ظل بالطوابق العُلوية يتحدث إلى المُستأجرين. سمع صوت باب شقة سلين يُغلَق بقوة، وكانت تلك أول إشارة تلقَّاها بأن شخصًا ما دخل إلى الشقة.»

تقوقع ليون في كرسيه، وعلى وجهه ابتسامة ابتهاج.

قال مُخاطبًا بويكارت صاحب المزاج السيئ: «ما رأيك يا رايموند؟»

قال الآخر: «ما رأيك أنت؟»

تنقَّل ميدوز ببصره من بويكارت إلى جونزاليس.

«هل لديكما أي افتراض عن سبب خروج سلين مرةً أخرى؟»

قال الرجلان في صوتٍ واحد: «إنه لم يخرج مرةً أخرى.»

لاحظ ميدوز الابتسامة التي التمعت في عينَي جورج مانفريد.

«إنهما يُحاولان إرباكك يا ميدوز، ولكن ما يقولانه صحيح. من الواضح أنه لم يخرج مرةً أخرى.»

نهض وتمطَّى.

«سأخلد إلى النوم، وأودُّ مراهَنتك على خمسين جنيهًا بأن ليون سيعثر على القاتل غدًا، وإن كنت لن أُقسِم أنه سيُسلِّمه إلى سكوتلاند يارد.»

في الثامنة من صباح اليوم التالي، كان السائق رينولدز يُجري فحصًا نهائيًّا لسيارته وهو يدخِّن سيجارةً قبل أن يخرج بها ليبدأ يوم عمله، عندما دخل ليون جونزاليس إلى الإصطبلات.

كان رينولدز رجلًا في الأربعين من عمره يتَّسم بالهدوء وحسن المظهر. كان له صوتٌ رقيق، وكان بشوشًا رقيق الجانب.

ارتسمت على شفتيه ابتسامةُ حزن وسأل: «أنت لست محققًا آخر، أليس كذلك؟ لقد أجبت على أكبر عدد حرصت على الإجابة عنه من الأسئلة الحمقاء.»

أشار ليون برأسه إلى العربة اللامعة وسأل: «هل هذه السيارة مِلك لك؟»

السائق: «نعم، إنها ملكي. امتلاك سيارة أجرة ليس منجم ذهب كما يعتقد البعض. وإذا حدث أن تورَّطت في قضية كهذه، ينخفض عائدك منها إلى النصف.»

شرح ليون موقفه باختصارٍ شديد.

«وكالة تريانجل. أها، نعم، أنا أتذكر؛ أنتم رجال العدالة الأربعة، أليس كذلك؟ يا إلهي! لقد أوكلَتْ لكم شرطة سكوتلاند يارد القضية، أليس كذلك؟»

بادَله ليون الابتسامة وقال: «لقد تولَّيت القضية لمتعتي الخاصة. ثَمة مسألة أو اثنتان لم أتبيَّنهما، وأتساءل إن كنت لا تُمانع في أن تُخبرني بشيءٍ يبدو أن الشرطة لا تعرفه.»

تردَّد الرجل ثم قال: «تعالَ معي إلى غرفتي.» وصعد به عبر السُّلم الضيق.

كانت الغرفة مؤثثة جيدًا على نحوٍ مُثير للدهشة. لاحَظ ليون وجود قطعة أو قطعتين قديمتين، لا بد أن قيمتهما كانت مرتفعة للغاية. على طاولةٍ قابلة للطي في وسط الغرفة، كانت هناك حقيبة، وكان هناك صندوق بالقرب من الطاولة. لا بد أن السائق لاحظ أن عينَي ليون لم تتزحزحا عن الصندوق والحقيبة؛ إذ سارع يقول: «إنهما يخصَّان أحد زبائني. سآخذهما إلى المحطة.»

استطاع ليون من موضع وقوفه أن يرى أنهما موجَّهتان إلى غرفة الأمانات في تيتلي كي تُسلما من هناك. لم يعلِّق على هذا، ولكن من الواضح أن ملاحظته أربكت مُضيفه؛ إذ تغيَّرت طريقته.

«الآن يا سيد جونزاليس، أنا رجلٌ عامل؛ ولذا أخشى أنني ليس لديَّ الوقت الكافي لك. ما الذي تريد أن تعرفه؟»

قال ليون: «أريد أن أعرف على وجه الخصوص إن كان اليوم الذي أوصلت فيه السيد سلين إلى منزله كان يومًا مُزدحمًا بالنسبة إليك أم لا؟»

قال السائق: «كان يومًا مُربحًا للغاية. وقد قدَّمت للشرطة بالفعل كشفًا بالركاب الذين استقلُّوا معي السيارة، بمن فيها حالة المستشفى، ولكن أظن أنك تعرف هذا.»

«أي حالة مستشفًى؟»

تردَّد الرجل.

«لا أريدك أن تظنَّ بأنني أفتخر بفعل شيء كهذا؛ فما دفعني لذلك سوى الإنسانية. امرأةٌ صدمَتْها حافلةٌ في شارع بيكر، أخذتها وأوصلتها إلى المستشفى.»

«هل كان بها إصاباتٌ بالغة؟»

«لقد ماتت.» كانت نبرة صوته فظة.

نظر إليه ليون مفكرًا. وانصرفت عينه إلى الصندوق مرةً أخرى.

قال: «شكرًا لك. هلَّا أتيت إلى شارع كيرزون الليلة الساعة التاسعة؟ هذا عنواني.» وأخرج بطاقة من جيبه.

«لماذا؟» كان في صوته نبرة استخفاف.

قال ليون: «لأنني أريد أن أسألك عن شيءٍ أظن أنك ستسعد بالإجابة عليه.»

كانت سيارته الكبيرة تنتظر في نهاية الإصطبلات، وانطلق بها مُسرعًا باتجاه المستشفى في شارع وولمر. لم يعرف هناك أكثر مما توقَّع، فعاد إلى شارع كيرزون وقد خيَّم عليه الصمت التام، ولم يبُح بأي شيء.

في الساعة التاسعة من تلك الليلة جاء رينولدز، وبقي مع ليون جونزاليس بمفردهما في الغرفة الصغيرة الكائنة في الطابق السفلي لنحو ساعة. لحسن الحظ أن ميدوز لم يرَ ضرورةً للحضور؛ فلم يأتِ إلا بعد أسبوع، وبحوزته معلومة لم تُفاجئ أحدًا سواه.

«حدث شيءٌ غريب؛ السائق الذي أوصل سلين إلى شقته اختفى؛ لقد باع عربته وغادَر. لا توجد علاقةٌ تربطه بجريمة القتل، وإلا كنت أصدرت أمر ضبط له. لقد كان صريحًا منذ البداية.»

اتفق مانفريد مُتأدبًا مع هذا الرأي. حملق بويكارت في بلاهة. أما ليون جونزاليس، فتثاءب وبدا أنه سئم هذه الألغاز كلها.

لما تنازل جونزاليس وقص الحكاية كاملةً، قال: «من الغريب أن الشرطة لم تهتمَّ مطلقًا بالبحث في حياة سلين في تيتلي. لقد كان لديه منزلٌ كبير هناك لبضع سنوات. لو كانوا حقَّقوا في الأمر، فلا بد أنهم كانوا سيسمعون قصة الطبيب الشاب جرين وزوجته الجميلة التي هربت منه. اختفت هي وسلين معًا، وبالطبع كان واقعًا في غرامها بشدة ومُستعدًّا للزواج منها، ولكن في ذلك الوقت كان سلين من النوع الذي يُغرَم بالأشخاص لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا، وما لم تتم مراسم الزواج على الفور تتضاءل فرصة الفتاة البائسة في أن تصبح زوجةً له.

عرض الطبيب على زوجته أن تعود له، ولكنها أبَتْ واختفَتْ من حياته. اعتزل الطب وجاء إلى لندن، واستثمر مدَّخَراتِه في جراجٍ صغير، وبات مُفلسًا كما يحدث لكل أصحاب الجراجات إذا لم يكونوا مدعومين برأس مال جيد، ولما اضطرَّ إلى أن يقرِّر ما إذا كان سيعود إلى مهنة الطب أم لا، ويُلملم كل ما فقده في السنوات التي كان يحاول فيها نسيان زوجته، اختار المهنة الأقل إرهاقًا له وهي مهنة السائق. أعرف رجلًا آخر فعل الشيء ذاته، سأخبركم عنه في أحد الأيام.

لم يرَ زوجته قط مجددًا على الرغم من أنه كثيرًا ما رأى سلين. قام رينولدز، أو جرين كما سأُسميه، بحلق شاربه، وغيَّر مظهره بوجهٍ عام، ولم يتعرف عليه سلين مطلقًا. بات جرين مشغولًا بتتبُّع غريمه ومعرفة تحركاته وعاداته. العادة الوحيدة التي اكتشفها والتي تبيَّن أنها ذاتها سبب دماره هي تناول العشاء في نادي ريل كلوب في مركز بول التجاري مساءَ كل أربعاء، ومغادرة النادي في الحادية عشرة والنصف في تلك المناسبات.

لم يستفد من هذا الاكتشاف ولم يتوقع أنه سيستفيد منه، حتى ليلة الجريمة. كان يقود سيارته في المنطقة الشمالية الغربية، ورأى امرأةً صدمتها حافلة، وكاد هو نفسه أن يدهس جسدها المُلقى على الأرض. لما أوقف سيارته قفز منها، وأصابه الرعب حين رفعها، ووجد نفسه يُحملق في وجه زوجته الضامر. أدخلها إلى السيارة وسار بأقصى سرعة إلى أقرب مستشفًى. وبينما كانا في غرفة الانتظار قبل وصول الجرَّاح، أخبرته السيدة المحتضرة ببضع كلمات مُتقطعة ومُضطربة كمن يهذي؛ قصة الانحدار الذي آلت إليه، وماتت قبل نقلها إلى غرفة العمليات، وكان في ذلك رحمة لها كما تبيَّن.

عرفت كل هذا قبل أن أذهب إلى المستشفى، واكتشفت أن شخصًا مجهولًا قرَّر دفنها في تيتلي، وأجرى ترتيباتٍ فخمةً للغاية لنقلها ودفنها. خمَّنت هذا قبل أن أرى حقيبة جرين مجهَّزة لتلك المأساة. غادَر المستشفى والجنون يضربه والكراهية تملأ صدره. كان المطر غزيرًا. تحسَّس طريقه ببطء إلى مركز بول التجاري، وحالَفه الحظ؛ إذ في اللحظة التي خرج فيها البواب ليجد سيارة أجرة شاغرة، كان جرين مُتوقفًا أمام الباب.

بحجة انفجار الإطار توقَّف في مركز التسوق، وفتح إحدى البوابتين المؤديتين إلى المتنزه عنوةً، وانتظر حتى لم يعُد هناك مُشاة على مرمى البصر، ثم سحب الرجل نصف المخمور إلى الحدائق. كان الرجل يقظًا بما يكفي قبل أن يُنهي جرين قصته. يُقسِم جرين أنه أعطاه فرصة عمره، ولكن سلين صوَّب مسدسًا نحوه؛ ومن ثَم اضطرَّ جرين إلى قتله دفاعًا عن نفسه. قد يكون هذا حقيقيًّا أو لا.

لم يفقد أعصابه قط. وعندما وصل إلى سيارته من دون أن يلحظه أحد، اتَّجه بالسيارة إلى مجمع ألبرت بالاس، وانتظر حتى ارتفع المصعد ثم صعد مُسرعًا عبر السُّلم. كان قد أخذ مفاتيح سلين، وفي الطريق اختار المفتاح الذي عرف أنه سيفتح الباب. كان أول ما انتوى هو البحث في الشقة عن كل شيء يُفشي علاقة الرجل بزوجته، ولكنه سمع البواب بالأعلى يُلقي تحية المساء، وبعد أن أغلق الباب بقوةٍ هُرع إلى أسفل بحيث كان هناك عندما وصل الرجل إلى الطابق الأرضي.»

قال مانفريد بنبرةٍ جادَّة: «لن نُخبر الشرطة بهذه الأحداث، أليس كذلك؟»

انطلق بويكارت الذي كان على الطرف الآخر من الطاولة يُقهقه بصوتٍ عالٍ.

قال: «إنها قصةٌ جميلة للغاية، لدرجة أن الشرطة لن تُصدِّقها مطلقًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤