الطيران … غَربًا

كانت الطائرة الصغيرة من طراز «دي هافيلاند» تقف وحيدةً في طرف مطار القاهرة الدولي … ووقف المغامرون الخمسة ينظرون إليها، وكلٌّ منهم يُفكِّر أن هذه الطائرة ستحملهم بعد قليلٍ بعيدًا عن ضجيج القاهرة إلى سكون الصحراء …

وقال «عاطف» مُقاطعًا: إنها تُشبه عصفورًا صغيرًا بين النسور!

وكان مع «عاطف» كل الحق أن يقول هذا … فعلى الممرَّات الأُخرى في المطار كانت تقِف مجموعةٌ من الطائرات النفَّاثة العملاقة من طراز «بوينج ٧٤٧» و«تراي ستار» أحدث طائرة رُكَّاب في العالم، و«دي. سي. نساين» الكبيرة … وفعلًا بدَت الطائرة «الدي هافيلاند» كالكتكوت الصغير بين عددٍ من الديكة والدجاج.

كانوا جميعًا في انتظار خال «تختخ» المهندس الجيولوجي «رضوان» … الذي عرض عليهم هذه الرحلة إلى الصحراء الغربية لمشاهدة بئر البترول الاستكشافية الجديدة. وقد كانوا جميعًا متشوِّقين إلى إلقاء نظرة على آبار البترول وكيف تُكتشف، فرغم أنهم مرُّوا بعشرات المغامرات والألغاز … فإنهم لم يُشاهدوا مطلقًا بئرًا للبترول إلا في الصور أو على شاشة التليفزيون.

ونظر «محب» إلى ساعته، ثم قال: الثامنة إلا عشر دقائق!

قال «تختخ»: سيصل خالي في الثامنة تمامًا … إنه سيمر على مستر «كوكس» مندوب شركة «فيلبس» التي تتولَّى البحث في الصحراء الغربية.

ولم يكَد «تختخ» ينتهي من جملته حتى ظهر المهندس «رضوان» بقامته العملاقة وبشرته التي لوَّحَتها شمس الصحراء، وبجواره ظهَر مستر «كوكس» الأشقر ذو العينَين الزرقاوَين.

وتقدَّم الرجلان، وقام المهندس «رضوان» بواجب تعريف المغامرين الخمسة بالمستر «كوكس» الذي رحَّب بهم قائلًا: لقد رحَّبتُ بفكرة انضمامكم إلينا في هذه الرحلة … إن على شباب مصر أن يتعرَّفوا على وطنهم بمثل هذه الرحلات.

رضوان: هيَّا بنا!

وتقدَّموا جميعًا من الطائرة … وكان عددٌ من رجال الصيانة يكشفون على أجهزة الطائرة المختلفة … وصعد المغامرون ومعهم «زنجر» الذي كان يبدو متردِّدًا قليلًا … فهذه هي المرة الأولى التي يُغادر فيها الأرض إلى السماء.

وحيَّاهم الطيَّار وأغلق باب الطائرة … ثم جلس إلى كرسيه، وبدأَت آلات الطائرة تدور، وقالت «لوزة»: إنها طائرة صغيرة حقًّا … كنتُ أتصوَّر أن مثل هذه الطائرة لم تعُد موجودة!

ردَّ المهندس «رضوان» على هذه الملاحظة قائلًا: إن استخدام الطائرات الصغيرة من هذا الطراز له مَيزة … إنها لا تحتاج إلى مطارٍ لهبوطها … إنها تنزل في أي مكان متسع وبدون برج إرشاد.

نوسة: معنى هذا أنه ليس هناك مطار في الصحراء حيث نذهب!

رضوان: مطلقًا … أرض منبسطة فقط … وتنزل الطائرة!

أخذَت «نوسة» تتأمَّل الطائرة من الداخل … كانَت طائرةً قديمة … حتى إن بعض أجزاء السقف كان مُرقَّعًا … والكراسي من الحديد الصلب … وقد وُضع في وسط الطائرة عدد كبير من أقفاص الخَضراوات والبيض وعلب الزيت والسمن.

وابتسمَت «نوسة» … فلولا أنها متأكِّدة أنها طائرة … لظنَّت أنها عربة كارو من عربات الخضار … أو محل من محلَّات البقالة.

وفي نفس الوقت كان «عاطف» يميل على «محب» قائلًا: من غرائب الصدف أن تكون أول طائرة نركبها … هي هذه البقالة الطائرة!

ابتسم «محب» وقال: معك حق؛ فقد كنتُ أتوقَّع طائرةً ضخمة، ومضيفةً جويةً تبتسم، وأحزمةً تُربط … وإشارات حمراء وخضراء … وهذه الأشياء الظريفة التي نراها في أفلام السينما عندما تُقلع طائرة!

عاطف: إنها تُشبه أوتوبيس ٨٢ الذي يذهب إلى سوق الخضار!

محب: المهم أن تصل بنا إلى وجهتنا.

كان معهم في الطائرة بالإضافة إلى المهندس «رضوان» والمستر «كوكس» ثلاثة رجال آخرون … يجلسون في نهاية الطائرة، وقد انهمكوا في الحديث.

بدأَت سرعة محرِّك الطائرة الوحيد تتزايد … ثم تحرَّكَت متجهةً إلى نهاية الممر … ووقفَت قليلًا وقد ارتعد هيكلها القديم، وسارَت مسرعةً إلى نهاية الممر، ثم قفزَت إلى الفضاء.

نظرَت «لوزة» من النافذة المستديرة الضيِّقة … فوجدَت الأرض تبتعد بسرعة، وأحسَّت ببعض الخوف … ثم مدَّت وأمسكَت يدها بيد «تختخ» الذي كان يجلس بجوارها، فربت على يدها مشجِّعًا …

اندفعَت الطائرة إلى الأمام، وحلَّقَت حول المطار، ثم استجمعَت قوَّتها وعاودَت الارتفاع، وأخذَت «لوزة» ترقب عمارات مصر الجديدة وهي تتضاءل تدريجيًّا … والسيارات وقد أصبحَت في حجم الكتب … وصعدَت الطائرة مرةً أخرى … وازداد بُعْد الأرض والمساكن … وبدَت «القاهرة» مدينةً ضخمةً رائعة … وأخذَت «لوزة» تنظر هنا وهناك محاوِلةً العثور على المعادي … لعلَّها ترى منزلهم من هذا الارتفاع … وقد استطاعَت أن تُحدِّد مكان المعادي … والتفتَت إلى «نوسة» التي كانَت تجلس خلفها وأشارت إلى المعادي وصاحَت: المعادي!

وسمعها «عاطف» فقال: هل ترَين النملة التي تقف على سور حديقتنا؟

وتضايقَت «لوزة» من هذا التعليق اللاذع … وواصلَت الطائرة صعودها، ثم استوَت على ارتفاعٍ مُعيَّن، واندفعَت تسير فوق مجرى النيل.

قال «تختخ» لخاله «رضوان»: إننا نتجه إلى الصعيد وليس إلى الصحراء!

ردَّ «رضوان»: هذا هو خط السير فوق النيل حتى قرب الأقصر … ثم ننحرف غربًا إلى الصحراء.

ومضَت الطائرة الصغيرة تشق طريقها فوق المساحات الخضراء من مجرى النيل.

وأحسَّت «لوزة» أن الطائرة لا تُغادر مكانها … فقد كان المشهد الذي تحتها لا يتغيَّر، وخوفًا من تعليقٍ لاذع من «عاطف» … مالَت على «تختخ»، وهمسَت في أذنه بملاحظتها، فقال «تختخ» مبتسمًا: من الصعب أن يتغيَّر المشهد سريعًا على هذا الارتفاع … ومن ناحيةٍ أخرى … فإن السرعة تبدو واضحةً عند مقارنة شيء متحرِّك بشيءٍ ثابت … فنحن نُحس سرعة القطار … عندما نمر بأعمدة التليفون … أكثر ممَّا لو أغلقنا النافذة.

وهزَّت «لوزة» رأسها موافقة … فقد لاحظَت ذلك فعلًا عندما كانَت تركب القطار أو السيارة في الطريق الزراعي.

مضَت نحو ساعة والطائرة ما زالت فوق وادي النيل الأخضر … ثم بدأَت تُغيِّر اتجاهها إلى الغرب … ولاحظَت «لوزة» ذلك … وبدأَت تُطل على الصحراء المترامية، وأدركَت أنهم يقتربون من هدفهم.

وتذكَّرَت «لوزة» كيف بدأَت هذه الدعوة لزيارة الصحراء … فقد كان مُقرَّرًا أن يُسافر «تختخ» وحده … ولكنه رفض أن يُسافر إلا إذا سافر بقية المغامرين معه … وكيف تمَّ الاتصال بين عائلات المغامرين الخمسة حتى حصلوا جميعًا على الموافقة بالسفر مع «تختخ» على أساس أنهم سيقضون ليلتَين فقط، ثم تعود بهم الطائرة إلى «القاهرة».

شيئًا فشيئًا ابتعدوا تمامًا عن الشريط الأخضر … وغاصَت الطائرة في سماء الصحراء … كانَت الطائرة الصغيرة تتعرَّض للاهتزاز بين فترة وأخرى عندما تُقابل المطبات الجوية الناشئة عن تخلخل الهواء … وهكذا … عندما اهتزَّت في لحظةٍ كانَت «لوزة» تقف فيها لتربت على ظهر «زنجر» الذي كان ينبح بهدوءٍ مشوبٍ بالحزن … ظنَّت «لوزة» أنها هزة مثل بقية الهزَّات التي تعرَّضَت لها الطائرة خلال التسعين دقيقةً السابقة … ولكن الهزة هذه المرة كانَت أقوى … حتى إن «لوزة» أسرعَت إلى كرسيها والتصقَت به … وأمسكَت بمسند المقعد الأمامي حتى لا تسقط … وانتظرَت «لوزة» أن تعتدل الطائرة … ولكن الهزة استمرَّت … وكأن الطائرة سيارة تسير على طريق غير ممهَّد!

التفتَت «لوزة» إلى «تختخ»، فابتسم لها ابتسامةً مُشجِّعة … وفي هذه اللحظة سمع كلُّ من في الطائرة صوت المحرِّك يتغيَّر … بدلًا من الصوت الرتيب المرتفع الذي كان يصدر عنه … بدأ الصوت يرتفع وينخفض في غير انتظام.

لم يكن بين «كابينة» القيادة وبقية الطائرة باب مغلق كالطائرات الكبيرة … لهذا كان صوت المحرِّك واضحًا … وكانَت «لوزة» تستطيع من مقعدها أن ترى ذراع الطيَّار وجزءًا من رأسه.

استمرَّ صوت المحرِّك المتقطِّع فترةً من الوقت … وبدا واضحًا أن شيئًا ما قد حدث … وقام مستر «كوكس» … ثم المهندس «رضوان» ودخلا «كابينة» القيادة، وتبادل المغامرون الخمسة النظرات.

وظهر المهندس «رضوان» بعد قليل … كان وجهه مُتصلِّبًا، وبدا واضحًا أنه أدرك أن شيئًا خطيرًا قد حدث … ولكن عندما التقَت عيناه بعيون المغامرين ابتسم ابتسامةً مُشجِّعة، واقترب من «تختخ» وقال له: ثمَّة خلل في المحرِّك … ولكن ليس هناك خطر.

مضَت بضع دقائق وما زال الاضطراب يسود صوت المحرِّك، وأخذَت الطائرة تترنَّح في الجو … وظهر المستر «كوكس» وقال: سنهبط هبوطًا اضطراريًّا.

ونظرَت «لوزة» إلى «تختخ» … ولكنه لم يتكلَّم … لقد أصبح الموقف خطيرًا حقًّا …

وقالَت «لوزة»: ماذا يقصد؟

ردَّ «تختخ»: سنهبط الآن … بعيدًا عن المكان الذي كان مُقرَّرًا أن نهبط فيه. سكتَ المحرِّك وأخذَت الطائرة تهبط بسرعةٍ غير منتظمة … وساد الصمت داخل الطائرة فلم يتحدَّث أحد … وتشبَّث كلُّ راكبٍ بمقعده حتى لا يقع … ونظرَت «لوزة» ورأَت الأرضَ تقترب منهم بسرعة مخيفة … فأغمضَت عينَيها ومضَت تقرأ بعض آياتٍ من القرآن الكريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤