مجموعة من الاحتمالات

لمسَت العجلات رمال الصحراء … ومضَت الطائرة تقفز على الأرض كعصفور أعرج، ثم دارَت بشدة، وتوقَّف صوت المحرِّك … وهدأ كل شيء فجأة، وساد صمت ثقيل … ثم خرج الطيار من كابينته … كان شاحب الوجه قليلًا ولكنه يبتسم، وقال: كل شيء على ما يرام.

تنفَّس الجميع الصُّعَداء، وقال المهندس «رضوان»: أين نحن الآن؟

ردَّ الطيار: في نقطة تبعد عن واحة «سيوة» بنحو ثلاثين كيلومترًا، وبعيدًا عن بئر البترول بنفس المسافة تقريبًا.

كوكس: هل جهاز اللاسلكي يعمل؟

الطيار: للأسف إنه تعطَّل منذ بداية عطل المحرِّك، ولكن من الممكن إصلاحه.

وفتح الطيار باب الطائرة … وتحرَّك الجميع خارجين … ونظرَت «نوسة» وهي تقف على باب الطائرة إلى ما حولها … لم يكُن هناك شيء سوى الرمال، والشمس، ولا شيء آخر.

قال الطيار: أرجو ألَّا يبتعد أحد …

وظهر الرجال الثلاثة الذين كانوا يجلسون في نهاية الطائرة، وقال المهندس «رضوان»: الزملاء «شهاب»، و«قدري»، و«رياض» من عمال البريمة.

لوزة: بريمة؟!

رضوان: إنها آلة الحفر الكبيرة التي تحفر الأرض بحثًا عن البترول … ونُسمِّيها البريمة … لأنها فعلًا تُشبه البريمة التي نفتح بها الزجاجات، وتعمل بنفس الطريقة … وليس هناك فارق سوى الحجم.

وقف «كوكس» و«رضوان» والطيار تحت مقدمة الطائرة يتحدَّثون … ووقف المغامرون الخمسة عند الذيل ومعهم «زنجر». كانوا جميعًا يُفكِّرون في هذا الذي حدث على غير انتظار، وكيف وجدوا أنفسهم في هذه الصحراء القاحلة … بعد مغامرةٍ مثيرةٍ بطائرةٍ صغيرةٍ كادَت تسقط في لحظة، وينتهي كل شيء!

أخذوا ينظرون حولهم … لم تكن هناك سوى تلال الرمال تعلو وتهبط في كل اتجاه … والشمس في السماء تُطل من بعيدٍ وتُرسل أشعَّتها الحارقة على الرمال الساكنة … لم يكن هناك عصفور ولا شجر … ولا حيوان … ولا أثر لأي حياة!

قالت «لوزة» فجأة: كم تتوقَّعون أن يطول بقاؤنا هنا؟

لم يردَّ أحد، ولكن «عاطف» استردَّ روحه المرحة بسرعة وقال: من الممكن أن نبقى هنا إلى الأبد … ونُكوِّن قبيلةً نُسمِّيها قبيلة المغامرين الخمسة.

لم يضحك أحد … حتى «عاطف» نفسه لم يستطِع الابتسام … لقد مرُّوا بدقائق عصيبة في الطائرة … ولكن ربما كانَت الساعات أو الأيام المقبلة أسوأ … ولاحظوا أن «كوكس» و«رضوان» والطيار قد دخلوا الطائرة، ثم عاد الطيار وحده ومعه حقيبة بها بعض الأدوات … وأنه صعد إلى سطح الطائرة وفتح بعض أجزاء غطاء المحرِّك، وأخذ يعمل.

وخرج المهندس «رضوان» من الطائرة وأقبل ناحية الأصدقاء وقال: ما رأيكم؟

ردَّ «محب»: في أيِّ شيء؟

رضوان: فيما حدث؟

نوسة: إنها مسألة ممكن أن تتعرَّض لها أية طائرة.

رضوان: الحمد لله لم يحدث شيء … وسنُحاول إصلاح اللاسلكي والاتصال بمعسكر العمل عند بئر البترول، والاتصال أيضًا بمطار القاهرة لإخطاره بما حدثَ.

تختخ: وإذا لم تتمكَّنوا من إصلاح جهاز اللاسلكي؟

رضوان: من الممكن السير حتى المعسكر … المسافة ليست بعيدةً جدًّا، وسيكون السير ليلًا … وعلى كل حالٍ لقد كان «الطيار» على اتصالٍ بالمطار حتى دخول الصحراء … وأعتقد أنهم سيُرسلون طائرةً للبحث عنا … وسيكون من الممكن العثور علينا بعد أن يسألوا الشركة عن مكان البئر.

محب: والطائرة نفسها … أليس من الممكن إصلاحها؟

رضوان: الطيار يُحاول إصلاح المحرِّك الآن. و«كوكس» يُحاول إصلاح اللاسلكي فله دراية لا بأس بها بأجهزة اللاسلكي.

ومضى الوقت دون أن يحدث شيء، وبدا كل شيء مملًّا وقاسيًا في درجة الحرارة العالية … وفي الصمت … وفي منظر الرمال الممتدَّة إلى ما لا نهاية. وحان موعد الغداء … ولحسن الحظ لم تكن هناك مشكلة في الأكل أو المياه … فقد كان في الطائرة تموين كبير مرسل إلى العاملين في حقل البترول.

وفي الثانية تمامًا التفَّ كل رجال الطائرة حول كميةٍ من الجبن والخيار والخبز، وجلسوا يأكلون في صمت … وقال «كوكس»: إننا نأكل طعام الزملاء في معسكر البئر، وكان المفروض أن يكون هذا الطعام عندهم منذ ساعات.

ردَّ المهندس «رضوان»: على كل حال عندهم أطعمة محفوظة … وكميات إضافية من الماء.

وانتهى الطعام وتفرَّقوا، وجلس «زنجر» وحيدًا عند ذيل الطائرة … كان المشهد الذي أمامه لا يسر … فقد اعتاد الحياة في حديقة منزل «عاطف» حيث الخضرة والهواء والماء الوفير … وهذا اللون الأصفر الذي يُلوِّن كلَّ شيء حوله لا يبعث على الرضا.

وصعد المغامرون الخمسة إلى الطائرة … ولكن الحرارة داخلها كانَت لا تطاق؛ فغادروها إلى ظلها … واستلقَوا على الرمال الساخنة … وقد بدءوا لأول مرة يُحسون بالضيق والملل، ولكن كانوا كعادتهم شجعان فلم يتحدَّثوا عمَّا يشعرون به.

وجاء المساء، وجلس «كوكس» والطيار و«رضوان» يتحدَّثون، واتفقوا على أن تتحرَّك أول بعثة إلى المعسكر بعد أن يبرد الجو … وقد تقرَّر أن تكون أول بعثة هم العُمَّال الثلاثة، على أن يستمر «كوكس» في محاولة إصلاح جهاز اللاسلكي … والطيار في محاولة إصلاح المحرِّك … وعرض «رضوان» أن يذهب مع العُمَّال الثلاثة، ولكن «كوكس» طلب منه أن يبقى … فإذا فشل العُمَّال الثلاثة في الوصول إلى المعسكر؛ قامت البعثة الثانية وفيها «رضوان».

وعندما مالَت الشمس للمغيب … تجهَّز العُمَّال الثلاثة ببعض الطعام والماء، وحدَّد لهم الطيار مكانهم، وأشار إلى نجم ظهر في السماء، وطلب منهم أن يكون دائمًا على يسارهم، وتحرَّك الثلاثة بعد أن ودَّعوا بقية الموجودين.

وشيئًا فشيئًا ساد الظلام الصحراء … وعلى ضوء البطاريات استمرَّت محاولة «كوكس» في إصلاح جهاز اللاسلكي … واستمرَّت محاولة الطيار في إصلاح المحرِّك، بينما جلس «رضوان» … مع المغامرين يتحدَّثون.

قال «تختخ» متسائلًا: متى تتوقَّع أن يصل الرجال الثلاثة إلى المعسكر؟

ردَّ «رضون»: إذا ساروا في الطريق الصحيح فسيصلون قرب منتصف الليل، وفي هذه الحالة فمن المتوقَّع أن تصل إلينا بعثة من رجال البئر في الصباح في سيارة جيب.

محب: وبالنسبة للبحث عنا بالطائرات؟

رضوان: أعتقد أن ذلك سيبدأ غدًا صباحًا … وربما تمكَّنوا في الظهيرة من العثور علينا.

عاطف: إذن ليس لنا هذه الليلة إلا النوم!

ضحك المهندس «رضوان» وقال: وهل كنت تتصوَّر أن تذهب إلى السينما مثلًا؟!

قال «عاطف»: لا … كنتُ أُريد التفرُّج على التليفزيون.

وضحك الأصدقاء؛ فقد كان المهندس «رضوان» متفائلًا.

وتجوَّلوا قليلًا بعيدًا عن الطائرة … وظهر القمر في السماء. كان قمرًا صغيرًا بعيدًا أحال رمال الصحراء إلى اللون الفضي الرمادي … ولكن «نوسة» قالَت: إنه رغم كل شيء يبدو صديقًا … فهو الشيء الوحيد في هذا السكون والفراغ.

وعوى «زنجر»، وتردَّد صوت عوائه في الصحراء الخالية … وأحسَّ الجميع بالوحشة في الليل الساكن وهم يتساءلون عن مصيرهم …

وقال «محب»: لماذا لا نبحث بعيدًا عن الطائرة … لعلنا نجد شيئًا نتسلَّى به؟

تختخ: من الأفضل ألَّا نبتعد … فمن السهل أن نتوه في الصحراء … حيث كل شيء متشابه … تلال الرمال ولا شيء آخر.

محب: ربما نجد واحةً صغيرةً قريبة!

تختخ: إن الواحات كلها معروفة … ولو كانَت هنا واحة لعرف الطيار مكانها على الخريطة.

وجلسَت «لوزة» على الرمال … وجلس بعدها بقية الأصدقاء … كانَت الطائرة واقفةً أمامهم كشبح ضخم قابع على الأرض … صامت ساكن، لا حياة فيه … وفجأةً عوى «زنجر» مرةً أخرى، وتردَّد صدى عوائه في الصمت … ثم سمع الأصدقاء صوت عواء آخر يأتي من بعيد.

قالت «لوزة»: هل هو صدى عواء «زنجر»؟

ردَّ «محب»: لا … إنه كلب آخر!

تختخ: ليس كلبًا في الأغلب … إنما هو ذئب!

نوسة: ذئب؟! وهل في هذه المنطقة القاحلة ذئاب؟

تختخ: بالطبع … ذئاب وغزلان وأرانب برية، وربما بعض الحيوانات المتوحِّشة الأخرى … فقد كانت الصحراء الغربية في الماضي تعج بالأسود!

وأرهف المغامرون آذانهم للعواء الذي أخذ يتكرَّر في فترات متقاربة … وقال «محب»: أعتقد أنه أكثر من ذئب!

نوسة: فلنتحرَّك إلى الطائرة … فقد تكون قافلة من الذئاب الجائعة.

وقام الجميع واتجهوا إلى الطائرة … ووجدوا الرجال الثلاثة «كوكس» و«رضوان» والطيار قد أعدُّوا طعام العشاء، فتناولوه جميعًا في صمت … وصدى عواء الذئاب يتردَّد بين الحين والحين … ويرد عليه «زنجر» … بنباحه العميق الذي يُشبه العواء.

وأمضَوا فترات من الوقت بعد العشاء يتحدَّثون … وكانت كل الأحاديث تدور حول ما سيحدث صباحًا … هل تأتيهم النجدة من على الأرض … أم من السماء؟

وقال الطيار: إذا جاءَت طائرة فإنها لن تستطيع الهبوط في هذا المكان … لقد هبطتُ هبوطًا اضطراريًّا لتوقُّف المحرِّك … والحمد لله أن لم نُصَب بسوء … ولكن أي طائرة أخرى لن تُغامر بالنزول هنا … سيختار قائدها مكانًا أكثر اتساعًا واستواءً.

كوكس: على كل حال لننتظر ونرى.

وقاموا جميعًا للنوم … وكان المهندس «رضوان» قد وضع المأكولات جانبًا، ووسَّع المكان بحيث يجد كلٌّ منهم موضعًا لنومه.

ظلَّت «لوزة» فترةً طويلةً لا تنام … كانَت بجوارها «نوسة» … فحاولَت أن تُحدِّثها، ولكن «نوسة» كانَت مستسلمةً للنوم … وأخذَت «لوزة» تُفكِّر في الغد وطمأنَت نفسها على أنهم سيستيقظون في الصباح على صوت بعثة الإنقاذ التي أتَت من معسكر البترول … وعلى هذا الحلم المتفائل استسلمَت للنوم.

•••

واستيقظَت «لوزة» في الصباح … ولكن حلمها الجميل لم يكن قد تحقَّق … فقد وجدَت الجميع قد سبقوها إلى الخروج من الطائرة … فأسرعَت تنزل هي الأخرى … ولكن كم كانت دهشتها وضيقها عندما وجدَتهم جميعًا يقفون … ولا أحد معهم وهم ينظرون هنا وهناك بحثًا عن شخص أو حتى عن خيال!

نظرَت «لوزة» إلى «تختخ». كان يضع يده فوق عينَيه وينظر كما ينظر الجميع، وأسرعَت تقف بجانبه وقالَت: ألم يظهر أحد؟

تختخ: لا … لم يظهر أحد.

لوزة: ولا الطائرة؟!

تختخ: ولا الطائرة … لا شيء إلا آثار عشراتٍ من الذئاب تجمَّعَت حول الطائرة في الليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤