في صندوق الحديد الساخن

كانت كلمة الذئاب كافيةً لكي يُحس المغامرون الخمسة برِعدة … إن وجود هذا العدد الكبير من الذئاب في هذه المنطقة قد يعني أن الرجال الثلاثة قد يذهبون ضحيةً لقطيع الذئاب … ومعنى ذلك أنهم إذا أرادوا أن يتحرَّكوا من مكانهم في اتجاه معسكر البترول … فعليهم أن يتحرَّكوا نهارًا … في قيظ الصحراء اللافح، وفي الشمس الملتهبة المسلَّطة على الرمال.

وقال المهندس «رضوان»: شيء غريب أنهم لم يبحثوا عنا بعدُ بواسطة الطائرات حتى الآن!

ردَّ الطيار: لقد تعطَّل جهاز اللاسلكي وأنا ما زلت فوق النيل قرب انحرافنا مباشرة، وأعتقد أنهم لن يصلوا إلى مكاننا إلا في المساء.

وصمت الطيار لحظات، ثم قال: وربما ظنوا أننا هبطنا في مكاننا العادي … وقد لا يبدءون البحث عنا إلا غدًا … عندما لا نعود في موعدنا!

قال «كوكس»: إذن نتحرَّك فورًا!

نظر «رضوان» إلى المغامرين الخمسة … يسألهم رأيهم … وربما يسألهم أيضًا إذا كان في إمكانهم أن يقطعوا هذه المسافة الطويلة مشيًا على الأقدام … وقد أجاب «تختخ» قائلًا: نستطيع طبعًا أن نمشي هذه المسافة.

كوكس: إذن هيَّا بنا!

رضوان: سنأخذ معنا بعض الطعام والماء … فسوف نعطش … ونحن لا ندري كم من الوقت سنقضي قبل أن نصل إلى المعسكر.

محب: سأصعد لتجهيز الماء والطعام أنا و«عاطف».

وأسرع الولدان يتسلَّقان سُلَّم الطائرة … وتبعتهما «نوسة» و«لوزة»، ووقف الباقون في ظل الطائرة … ينظرون إلى تلال الرمال المحيطة بهم … وكلٌّ منهم يُفكِّر كيف سيقطعون المسافة في هذا الحر.

بعد نحو نصف ساعة نزل «محب» يحمل كيسًا به الطعام … ثم تبعه «عاطف» يحمل إناءً من البلاستيك به الماء … ثم ظهرَت «نوسة» وخلفها «لوزة».

نزل «محب»، ثم نزل «عاطف»، ووضعَت «نوسة» قدمها على أول السلم، ولكن فجأةً وهي تنزل قدمها الأخرى فقدَت توازنها … ودون أن يتمكَّن أحد من عمل شيء كانت قد وقعت على السلَّم وتدحرجَت حتى سقطَت على الأرض.

اندفع «محب» و«عاطف» إليها، ثم تبعهما الباقون … والتفُّوا جميعًا حول «نوسة» التي بدا وجهها شاحبًا ومتوتِّرًا من فرط الألم وهي تضغط على شفتَيها حتى لا تنطلق منها آهة واحدة.

أخذ مستر «كوكس» يفحص «نوسة» وهي تُشير إلى قدمها … وخلع الرجل حذاءها مسرعًا، ثم أخذ يختبر أصابعها … كان يجذب كل إصبع، ثم يثنيه برفق … وفي كل مرة كان وجه «نوسة» يطفر منه العرق … ويتزايد ضغط أسنانها على شفتَيها، ثم قال «كوكس»: لقد الْتوَت قدمها الْتواءً قويًّا … وأعتقد أنها ستتورَّم بسرعة، ويجب أن ترتاح ولا تتحرَّك من مكانها … ولحسن الحظ ليس هناك كسر.

ساعدها المهندس «رضوان» و«تختخ» للوصول إلى ظل الطائرة، ومدَّداها على الرمال … وأحاط بها الأصدقاء وقد بدا على وجوههم الجزع … فقالت «نوسة» وهي تنتزع ابتسامةً من وجهها المتألِّم: أنا بخير … لا داعي للقلق.

قالَت «لوزة» وهي تحتضنها في حنان: أنت على ما يرام!

وقف الرجال الثلاثة يتحدَّثون … وكان واضحًا أن تحرُّكهم الآن أصبح مستحيلًا بعد إصابة «نوسة» … وأن عليهم أن يُفكِّروا في حلٍّ آخر … وقد وصلوا إليه سريعًا … أن يتحرَّك «كوكس» والطيار للوصول إلى معسكر البترول … على أن يبقى «رضوان» مع الأصدقاء الخمسة.

وتوجه «رضوان» إلى الأصدقاء وقال: كيف حالكِ الآن يا «نوسة»؟

نوسة: الحمد لله … إنني على ما يرام.

كان وجه المهندس «رضوان» يعكس ما يحس به من قلق … فهو مسئول عن الأصدقاء الخمسة لأنه هو الذي دعاهم إلى الرحلة … والآن وقد أصبحوا في مأزق بسبب هبوطهم الاضطراري … ثم خروج الرجال الثلاثة دون أن يعودوا، ثم إصابة «نوسة» المفاجئة … كل ذلك أشعره بقلقٍ بالغٍ لم يستطِع إخفاءه وهو يقف بين الأصدقاء … فقد كان ينظر هنا وهناك، وقد بدا عليه التفكير العميق.

قال «تختخ»: يا خالي … إنني أراكَ قلقًا جدًّا … فإذا كان هذا القلق من أجلنا، فأرجوكَ أن تعرف أننا تمرَّنا بما فيه الكفاية على مواجهة المخاطر والمآزق، فلا تخشَ شيئًا علينا.

قال المهندس «رضوان»: إنني آسف جدًّا لهذه الظروف الغريبة!

تختخ: مطلقًا، لماذا تأسف يا خالي؟! … لقد تفضَّلتَ بدعوتنا إلى رحلة الصحراء … وقد وافقنا … نتحمَّل معكم أي ظروف تمر بنا.

رضوان: إنني …

تختخ: أنت رجل طيب يا خالي … ونحن سعداء جدًّا بهذه الرفقة.

تدخَّل «محب» في الحديث قائلًا: قد يُدهشكَ أن تعلم يا سيادة المهندس أنني أعتقد أن أي رحلة لا يمكن أن تكون ممتعةً إلا إذا حدثَت فيها مشاكل ومتاعب نتغلَّب عليها … وكلما سافرتُ في رحلة تمنَّيتُ أن يحدث شيء مثير، وهبوط الطائرة جعل هذه الرحلة مثيرةً حقًّا.

ابتسم «رضوان» وقال: إنكم أولاد مدهشون!

ثم صمت لحظات، وقال: سوف يسير «كوكس» والطيار «حسني» الآن إلى المعسكر وسأبقى معكم.

تختخ: ولماذا تبقى معنا؟ … إن بإمكاننا أن نهتم بشئوننا.

رضوان: لا … من الأفضل أن أبقى … خاصةً بعد إصابة «نوسة».

تختخ: إن «نوسة» سوف تُشفى … وسوف تعودون أنتم قرب المساء، أو يأتي من المعسكر من ترسلونهم.

رضوان: سأبقى معكم … ويكفي أن يذهب «كوكس» و«حسني»، وسوف يُرسلون لنا من المعسكر بعثةً من الرجال.

كان واضحًا أن أي مناقشة مع «رضوان» غير مجدية، فصمت «تختخ» احترامًا لإصرار خاله، واتجه «رضوان» إلى «كوكس» و«حسني» وتحدَّث معهما لحظات … وجاء الاثنان فسلَّما على الأصدقاء، ثم انطلقا، وبعد لحظات غابا وراء أحد التلال الرملية. لم يبقَ من رُكَّاب الطائرة غير المغامرين الخمسة و«زنجر» و«رضوان»، ولم يكن حولهم إلا بحر الرمال الكبير، وهو جزء من أكبر صحراء في العالم، وهي الصحراء الغربية التي تمتد من محاذاة النيل إلى المحيط الأطلسي غربًا.

صعد «رضوان» إلى الطائرة … وبقي الأصدقاء حول «نوسة» … لم يكن عندهم شيء يتحدَّثون فيه؛ فسادهم الصمت.

كان كلٌّ منهم يُفكِّر فيما حدث وفيما يمكن أن يحدث … لم يكن الموقف مُشجِّعًا جدًّا، ولكن المغامرين كان عندهم من الصلابة ما يكفي لمواجهة أي موقف.

كان «زنجر» أكثرهم ضِيقًا … فهو لا يحب هذه المساحات الواسعة الصفراء من الرمال، حيث لا شيء على الإطلاق يمكن أن يراه … لا قطة يُشاكسها ولا كلب يلعب معه … ولا حتى الشاويش «علي» ليُعاكسه … شيء ممل هذا الصمت … وهذه الرمال.

وبدأَت ريح خفيفة تهب تدريجيًّا … تحوَّلَت بعد لحظات إلى عاصفة رملية أخذَت تلسع أجسام الأصدقاء بحبات الرمل، فأسرعوا يحملون «نوسة» ويصعدون إلى الطائرة، وأغلقوا الباب.

كانت الطائرة من الداخل ساخنة … بل شديدة السخونة كأنها فرن … وكانت ضيِّقةً كأنها صندوق من الحديد … وتمدَّد الأصدقاء على المقاعد الحديدية الضيِّقة ينظرون من النوافذ الضيقة المستديرة إلى العاصفة في الخارج، وقد أصبحَت أشد عنفًا. وأخذَت الرمال والحصى تدق جدران الطائرة وكأنها آلاف من الأيدي الصغيرة … وكانَت «نوسة» مستلقيةً على أرضية الطائرة على قطعةٍ من القماش … وقد اشتدَّ الألم في قدمها الملتوية … وتمنَّت في هذه اللحظة أن تجِد نفسها في فراشها … ومعها زجاجة من «البيبسي كولا» الباردة، ولكنه كان بالطبع حلمًا بعيد التحقيق.

كان الوقت يمضي بطيئًا ومملًّا … وكل واحد ينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى، وبدَت العقارب وكأنها لا تتحرَّك … وفجأةً قال «عاطف»: ماذا حدث؟ إننا كمن يجلس في مأتم … ومن المؤسف أننا جميعًا نسينا إحضار جهاز راديو أو «ريكوردر» معنا.

لم يردَّ أحد … فقام «عاطف» ومدَّ يده في حقيبته فأخرج صندوقًا صغيرًا من الورق المقوَّى، أخرج منه الشطرنج وأوراق الكوتشينة وقال: هيَّا بنا نلعب دورًا.

واستجاب الأصدقاء له … وترك المهندس «رضوان» مكانه في مقدمة الطائرة وجاء هو الآخر وانضمَّ إليهم.

اختار المهندس «رضوان» «عاطف» زميلًا له، وكان المنافسان هما «تختخ» و«محب» … وجلسَت «لوزة» و«نوسة» تتفرَّجان، وقد بدأ شوط من لعبة الكوتشينة المعروفة (البصرة). ولم تمضِ سوى دقائق حتى احتدم الصراع بين الأربعة وارتفعَت الصيحات … ونسي الجميع في هذه اللحظات ما مرَّ — وما يمر — بهم من أحداث … وانهمكوا في اللعب والمشاهدة … وأخذَت تعليقات «عاطف» تُثير الضحكات. واستطاع «تختخ» و«محب» أن يكسبا أول جولة في اللعب … ولكن «رضوان» و«عاطف» كسبا الجولة الثانية … وأصبح من الضروري اللعب شوطًا ثالثًا لتحديد الفريق الفائز، وأخذَت الأيدي ترتفع وتهبط في قوة … وكلمات التحدِّي تُطلَق من هنا وهناك، ولكن فجأة — وقبل أن ينتهي الشوط — قالت «لوزة» وهي تتلفَّت حولها: أين «زنجر»؟

هبطَت الكلمات كأنها ماء بارد على نار … فصمت الجميع، وتلفَّتوا حولهم … ولم يكن هناك أثر للكلب الأسود في الطائرة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤