سر المنديل الأحمر

مرَّت لحظات صمت مؤلمة … توقَّف اللعب … دارَت العيون في الطائرة … كان واضحًا جدًّا طبعًا أن «زنجر» غير موجود، لقد نسوه في الخارج عند هبوب العاصفة.

وكانَت العاصفة ما زالَت مستمرَّةً في الخارج أشد عنفًا ممَّا كانَت … والرمال والحصى تدق هيكل الطائرة … وأسرع «محب» إلى إحدى النوافذ الزجاجية ونظر إلى الخارج، ولكن الرؤية كانت مستحيلة … فلم يكن هناك سوى ضبابٍ كثيفٍ من الرمال أحال الجو إلى اللون البني حيث تنعدم الرؤية.

وقفوا جميعًا داخل الطائرة يُفكِّرون فيما يجب عمله … إن الخروج في العاصفة شبه مستحيل … ولكن لم يكن هناك حل آخر … وأسرع «تختخ» إلى باب الطائرة يفتحه، ولم يكد القفل ذو الذراع يدور حتى ضغطَت الرياح على الباب ففتحَته، وكاد يُلقَى ﺑ «تختخ» على الأرض … واندفعَت الرياح تحمل الرمال إلى داخل الطائرة، وأخذ «تختخ» و«محب» و«رضوان» … يُكافحون من أجل الخروج … وحاولَت «لوزة» أن تلحق بهم، ولكن الرياح دفعَتها كأنها ريشة صغيرة … فأمسكَت بأحد المقاعد حتى لا تقع.

أنزل الثلاثة السلَّم … ونزل «تختخ» أولًا … كانت الرمال تلسعه في كل مكان في جسمه … وتملأ عينَيه وفمه … فأخرج منديله وربطه على فمه وأنفه … وكذلك فعل «رضوان» و«محب» … ونزل الثلاثة إلى الأرض وأخذوا ينظرون حولهم، لم يكن هناك أثر ﻟ «زنجر» حول الطائرة … واندفع «تختخ» يسير إلى حيث كانوا يجلسون … ولكن لم يكن «زنجر» هناك، وفي نفس الوقت أخذَت الرياح تقذف بالثلاثة في كل اتجاه … ولم يكن أمامهم ما يمكن عمله إلا العودة إلى الطائرة … ولم تكُن هذه بالمهمة السهلة … فقد كانَت العاصفة تقذف بهم بعيدًا … وفكَّر «تختخ» أن الحل الأفضل هو الزحف على الأرض … رغم الحصى والرمال التي كانَت أكثر قربًا من سطح الأرض … وأخيرًا تمكَّنوا من دخول الطائرة … وكافح الثلاثة كفاحًا عنيفًا حتى تمكَّنوا من إغلاق بابها … ثم وقفوا خلفه يلهثون وقد امتلأَت عيونهم وأُنوفهم بالرمال، وتصبَّب العرق من أجسامهم … ولأول مرة في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر والمواقف الغامضة أحسَّ «تختخ» بالضيق والتعاسة … ففي الأغلب أن «زنجر» قد فُقِد … إمَّا أن تقتله العاصفة الرملية وتدفنه في الرمال … وإمَّا أن يقع فريسةً لعصابة الذئاب التي تُحيط بالمنطقة!

كانَت خسارةً فادحةً بالنسبة للمغامرين الخمسة أن يفقدوا «زنجر» … أكثر من هذا كان فقده بالنسبة ﻟ «تختخ» كارثةً لا يمكن احتمالها … لقد كان صديقه ورفيقه سنوات طويلة.

وجلس الجميع صامتين … وتمدَّد المهندس «رضوان» على أرض الطائرة، ولم تمضِ سوى لحظات حتى استغرق في النوم … وأحاط المغامرون الخمسة ﺑ «نوسة»، ولم يتحدَّث أحد … حتى «عاطف» لم يجد في نفسه ميلًا للحديث … وعندما حان موعد الغداء قام «عاطف» و«محب» و«لوزة» بإعداده … بينما جلس «تختخ» يُحدِّث «نوسة» قائلًا: إنني قلق من أجل الثلاثة الذين خرجوا أمس … لقد تأخَّرَت عودتهم … ولم يصل أحد … أخشى أن تكون الذئاب …

وقبل أن يُتم جملته قالَت «نوسة»: ربما ضلوا الطريق!

تختخ: هذا ممكن.

نوسة: ولكن الطائرات التي كان من المفروض أن تخرج للبحث عنا … لماذا لم تحضر؟

تختخ: لا أدري … ولكن ربما ظنوا أننا وصلنا كما قال الطيار … وقد يبدءون في البحث عنا غدًا.

نوسة: ولكن الطائرات لا تستطيع النزول في هذا المكان!

تختخ: بالطبع لا … ولكن سيكون من الممكن إرسال قافلة سيارات من واحة «سيوة» تأتي لنجدتنا.

وجاءت «لوزة» تحمل الطعام إلى «نوسة» … بعض الساندويتشات من الجبن، وبعض الخيار والطماطم.

قال «محب»: هل نوقظ المهندس «رضوان»؟

تختخ: دَعه نائمًا … فالنوم في هذه الظروف أفضل من الطعام.

وكان تناول الطعام مهمةً صعبةً في جو الرمال والحرارة … خاصةً بالنسبة ﻟ «تختخ» و«محب»، ولم يكُن هناك حلٌّ إلا بلع اللقمة مع كميةٍ من الماء … وكان الماء ساخنًا لشدة الحرارة المسلَّطة على خزَّان المياه في الطائرة … ومن المؤكَّد أن المغامرين الخمسة لم يمرُّوا بظروفٍ أسوأ من هذه الظروف … خاصةً وفقْد «زنجر» يُسبِّب لهم جميعًا نوعًا من اليأس لم يألفوه … فقد كان «زنجر» بالنسبة لهم يعني الكثير … خاصةً في أوقات الشدة والأزمات.

وكانَت «لوزة» وهي تتناول طعامها كلما تذكَّرَت «زنجر» توقَّفت اللقمة في زورها المسدود … وانتهى الطعام … واستلقى المغامرون … بعضهم على المقاعد … وبعضهم على أرضية الطائرة … وما زالَت العاصفة الرملية في الخارج تزأر …

ومضَت الساعات بطيئةً مملة … وبدأَت العاصفة تهدأ تدريجيًّا، وعندما أوشكَت الشمس على الاختفاء … فتح «تختخ» باب الطائرة … ونزل وخلفه «محب» والمهندس «رضوان» الذي استيقظ بعد أن نام ثلاث ساعات كاملة … ثم نزل «عاطف»، وبقيت «لوزة» بجوار «نوسة».

أخذ «تختخ» ينظر حوله. لم يكن هناك أمل أن يجد آثارًا تركها «زنجر» على الرمال … فقد مسحَت العاصفة كل شيء، حتى شكل التلال المحيطة بالطائرة قد تغيَّر … إمَّا بالنقص أو الزيادة … أمَّا الطائرة نفسها فقد غاصَت عجلاتها في الرمال … وأصبح من الواضح أن أي محاولةٍ لتحريكها من مكانها تحتاج إلى جهدٍ كبير … ورغم إحساس الأصدقاء أنهم أصبحوا أسرى الصحراء الواسعة، إلا أن الطقس المنعش بعد اليوم الحار الطويل قد أشعرهم ببعض الراحة.

وفجأة … على الأضواء الأخيرة للشمس الغاربة، بدأَت نقطة سوداء تتحرَّك على تلٍّ بعيد … شاهدها أولًا «عاطف» الذي صاح: شيء يتحرَّك!

وعلى صيحته الْتفتَ الجميع إلى حيث أشار … وانطلقَت من فم «تختخ» كلمة واحدة رنَّت في صمت الصحراء: «زنجر»!

واندفع جاريًا وخلفه «محب» و«عاطف»، واقتربَت النقطة السوداء … ولم تكُن سوى «زنجر» الذي أسرع يرتمي في أحضان «تختخ»، ولاحظ «تختخ» على الفور العرق الذي يُغطِّي شعر الكلب … وأنفاسه المتسارعة … ثم لاحظ شيئًا آخر … قطعة قماشٍ حمراء في فمه!

التفَّ الجميع حول «زنجر» … وأخذ «تختخ» يحتضن الكلب وهو لا يكاد يُصدِّق نفسه أن «زنجر» عاد … ثم برك «محب» و«عاطف» وأخذا يربتان على الكلب في حب … لقد عاد «زنجر»!

قال «محب»: ما هذا الذي في فمه؟

وكأنما أراد «زنجر» أن يردَّ على السؤال … فأسقط قطعة القماش الحمراء من فمه، وتناولها «عاطف» بأصابعه ونشرها … كان من الواضح أنها قطعة من منديل كبير أحمر، وبه مُربَّعات صفراء عريضة … من هذا النوع الذي يستخدمه الفلَّاحون والعمال … وما يُسمَّى بالمنديل المحلاوي.

كان المهندس «رضوان» قد وصل إلى حيث أحاط الأصدقاء ﺑ «زنجر»، وشاهد المنديل فقال: هذا منديل أحد العُمَّال الذين كانوا معنا!

محب: العُمَّال الثلاثة الذين رحلوا أمس؟!

رضوان: نعم … لقد كان معه منديل … وأنا متأكِّد أنه نفس المنديل؛ لأنه كان مقطوعًا من أحد أطرافه … وقد سقط منه وناولته له أثناء الرحيل!

ساد الصمت بعد هذه الجملة … فإن هذا يعني أشياء كثيرة … وبالنسبة للمغامرين كان يعني دليلًا … والدليل هو دائمًا بداية لحل أي لغز.

ولأول مرة في هذه المغامرة المملوءة بالمخاطر بدأَت عقول المغامرين تعمل … منديل أحد العُمَّال أحضره «زنجر» … يعني أن العامل موجود في مكان قريب، ومعناه أيضًا أن عليهم أن يعرفوا … لماذا فقد العامل منديله؟! وأين هو؟! وماذا جرى له؟!

ونظر الثلاثة أحدهم إلى الآخر … فقال «عاطف»: إن على «زنجر» أن يدلنا أين عثر على هذا المنديل.

تختخ: نعم … ولكن الكلب المسكين مرهق جدًّا … لا بد من بعض الطعام، وكمية من الماء، وساعة من الراحة، ثم نبدأ الحديث معه.

وعادوا جميعًا في اتجاه الطائرة … وعندما اقتربوا أطلق «زنجر» نباحًا مبحوحًا … كأنه يُريد أن يقول ﻟ «نوسة» و«لوزة» إنه عاد … ولم تمضِ لحظات حتى ظهرَت «لوزة» على باب الطائرة المفتوح … ولم تستطِع «لوزة» أن تنطق بكلمةٍ واحدة … أو حتى تتحرَّك من مكانها … كل ما فعلَته أن تركَت دموعها التي احتُبسَت طويلًا تتساقط في هدوء.

أسرع «زنجر» يقفز سريعًا … ثم تسلَّق سُلَّم الطائرة وارتمى على قدمَي «لوزة» التي انحنَت وأخذَت تُقبِّله في سعادة … وقد نسيَت كلَّ الظروف السيئة التي يمرُّون بها.

فتح «محب» علبةً من اللحم المحفوظ وضعها أمام «زنجر» … وطبق به كمية من الماء … واندفع الكلب الجائع يأكل ويشرب … والأصدقاء ينظرون إليه وقد أحسُّوا جميعًا أن كلَّ شيء أصبح على ما يُرام بعودة «زنجر» … وبعد أن أكل وشرب استلقى جانبًا، وقام «تختخ» بتنظيف شعره بفوطة … وغسل وجهه ببعض الماء … وهزَّ «زنجر» ذيله في سعادة … ثم جاء أوان الحساب … فقال «تختخ»: أين كنتَ يا «زنجر»؟ وماذا هذا المنديل؟ من أين أحضرته؟

وهزَّ «زنجر» ذيله … كأنه يعرف الأسئلة التي تأتي بعد العثور على دليل، وكان على استعداد للإجابة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤