ماذا حدث في الليل؟ …

لو كان «زنجر» يستطيع الكلام … لحلَّ كثيرًا من المشاكل … ولكن برغم ذلك كان ذكاؤه وخبرته بحلِّ الألغاز الغامضة عونًا كبيرًا للأصدقاء … لقد عرف «زنجر» الأسئلة التي وُجِّهت إليه … وكانت الإجابة الوحيدة الممكنة عليها أن يقفز من الطائرة … وأن يتبعه المغامرون …

وقد فعل «زنجر» ذلك بالضبط … ولكن «تختخ» أشار إليه أن يتوقَّف … إنهم الآن ليسوا في المعادي … ولا بد من وضع خطةٍ لتأمين سلامتهم في هذه الصحراء الغامضة.

قال «تختخ»: واضح أن «زنجر» سيقودنا إلى المكان الذي عثر فيه على المنديل … فمن سيذهب؟ … ومن سيبقى؟

ردَّ «محب»: سأذهب معك ويبقى الآخرون.

تدخَّل المهندس «رضوان» في الحديث قائلًا: إن اختفاء الرجال الثلاثة وربما مستر «كوكس» والطيار «حسني» يجعل التحرُّك بعيدًا عن الطائرة محفوفًا بالمخاطر، خاصةً بعد غروب الشمس … فلسنا ندري ماذا حدث لهم … وربما ذهب الخمسة ضحيةً لعصابة الذئاب التي تُحيط بهذا المكان.

وصمت «رضوان» لحظات، ثم قال: لهذا فإنني لا بد أن أشترك معكم في البحث.

أخذ المغامرون يتبادلون النظرات لحظات، ثم قال «محب»: أليس من الأفضل أن يبقى عمي هنا؛ فقد تأتي بعثة الإنقاذ؟

رضوان: لا … سأذهب معكم … وإذا حضرَت بعثة الإنقاذ فسوف تبقى حتى أعود … أمَّا خروجكم وحدكم فمستحيل.

تختخ: في هذه الحالة ستأتي معي أنت و«محب»، ويبقى «عاطف» و«نوسة» و«لوزة» … وعليهم أن يُغلقوا باب الطائرة؛ فالظلام يهبط ولا ندري ماذا يمكن أن يحدث.

رضوان: إذن هيَّا بنا … المهم أن يكون كلبكم هذا يعرف ماذا يفعل.

قال «عاطف»: من المؤكَّد أنه يعرف ما يفعل … أفضل منا.

وابتسم «رضوان» … فقد كان تعليق «عاطف» يعني ببساطة … أنهم يتصرَّفون بطريقةٍ خاطئة … بدليل اختفاء خمسة رجال من المجموعة دون أن يتمكَّنوا من الاتصال بأي مكان يمكن أن يُساعد على إنقاذهم.

وألقى «تختخ» بتعليماته الأخيرة إلى الباقين: أغلقوا باب الطائرة … هناك احتمال ألَّا نعود … في هذه الحالة انتظروا وصول طائرة الإنقاذ … إنها الأمل الوحيد الباقي لنا.

قالَت «لوزة» مرتاعة: احتمال ألَّا تعودوا!

تختخ: احتمال بعيد … ولكن من الممكن أن يحدث!

وتحرَّك الثلاثة «رضوان» و«تختخ» و«محب» … وسبقهم «زنجر» فقفز سُلَّم الطائرة سريعًا … فقد كان يعرف أنه الآن أهم من في الموجودين … إنه ببساطة مفتاح هذا اللغز العجيب …

عندما نزل الثلاثة من الطائرة … كانَت الشمس قد غربَت … وخلَّفَت وراءها أُفقًا يمتزج فيه اللونان الأحمر والأصفر … وجوًّا باردًا منعشًا بعد حرِّ اليوم الطويل. وكان القمر الصغير يبدو بعيدًا جدًّا، ولكنه ينبئ بليل نصف مُضاء.

سار «زنجر» مسرعًا وخلفه «رضوان» ثم «محب» و«تختخ» … وقد اتجه «زنجر» إلى نفس الناحية التي جاء منها … وبعد دقائق كان قد انثنى يسارًا، ثم صعد تلًّا مرتفعًا … وتبعه الثلاثة … وسار «زنجر» بنشاط، وأخذ يصعد ويهبط والثلاثة خلفه وقد أدركهم بعض التعب … فليس السير في الرمال الناعمة سهلًا … فالأقدام تغوص في الرمال، وتبذل العضلات مجهودًا مضاعفًا … ولكنهم على كل حال حافظوا على المسافة بينهم وبين الكلب الأسود المندفع كالسهم … وأخذ الظلام ينتشر تدريجيًّا ولكن الرؤية ظلَّت متاحة …

لم يكن «تختخ» يتوقَّع أن يكون المشوار بهذا الطول … فقال ﻟ «محب»: إن المسافة أبعد ممَّا توقَّعنا.

محب: لقد غاب «زنجر» فترةً طويلة … فمن المؤكَّد أن المسافة طويلة.

كان «تختخ» أكثر الثلاثة … أو الأربعة تعبًا … فقد كان سمينًا … وقد أحسَّ بقدمَيه تتحرَّكان بصعوبة بعد سير نشيط استمرَّ نصف ساعة … وبدأ يتخلَّف قليلًا …

امتدَّت أشباح الثلاثة على الرمال … ثم بدأَت تتلاشى تدريجيًّا مع ازدياد هبوط الظلام … ثم تلاشَت تمامًا … وشمل الظلام والصمت الصحراء … وأصبحَت الرؤية متعذِّرة … ونادى «تختخ» على «زنجر» … وردَّ الكلب بنباحٍ قصير، فسار «تختخ» في اتجاه الصوت.

بدأَت التلال الرملية ترتفع أكثر فأكثر … وبدا واضحًا أن المنطقة التي يسيرون فيها تُمثِّل هضبةً مرتفعة … وظهرَت بعض الصخور الضخمة الغائصة في الرمال … وزاد ذلك من صعوبة السير … ولم يعُد هناك ما يُنير الطريق سوى ضوء النجوم البعيدة التي اشتدَّ لمعانها … والقمر الصغير الهادي … في جانب الأُفق.

ونتيجةً للمرتفعات الكثيرة … بدأ «رضوان» و«محب» و«تختخ» … يتفرَّقون مرغمين … فقد كان على كلٍّ منهم أن يختار طريقًا سهلًا لقدمَيه … ولم تعُد صِلتهم إلا عن طريق الكلب الأسود الذي لم يعُد واضحًا … ولم يبقَ إلا متابعته عن طريق نباحه الذي يُصدره بين لحظةٍ وأخرى.

أحسَّ «تختخ» بعد هذا السير الطويل أنه لا يستطيع الحركة أكثر، لقد تسارعَت أنفاسه … ورغم الجو الليلي المنعش تصبَّب العرق من جسده … وتوقَّفَت قدماه عن الحركة … فتوقَّف قليلًا يلتقط أنفاسه … وقرَّر أن يجلس لحظات … ولكنه خشي أن يتخلَّف كثيرًا عن «زنجر» و«رضوان» و«محب»، فأخذ يشد قدمَيه … وأطلق صفَّارته ﻟ «زنجر» ليتوقَّف … ثم توقَّف ليسمع رد «زنجر» … ولكنه لم يسمع شيئًا … عاود إطلاق الصفَّارة في الليل الساكن … ولكن لم تكن هناك إجابة … وأحسَّ بالقلق؛ فوضع يده على فمه ونادى: «محب»!

وانتظر لحظات … ولكنه لم يسمع ردًّا … وزاد قلقه … ماذا حدث؟ هل تخلَّف أكثر من اللازم، أم حدث شيء؟

استجمع كل قواه وأخذ يجري … كانت طبيعة الأرض قد تغيَّرَت تمامًا وامتلأَت بالصخور … ولاحظ «تختخ» أن مرتفعات سوداء تُواجهه كالأشباح، وأنه يدخل شِبه دائرةٍ من التلال الصخرية … واندفع يجري أكثر وهو يُنادي بأنفاس لاهثة … وفجأةً انزلقَت قدمه، وأحسَّ بنفسه يهوي من مكان مرتفع، وأخذ يتدحرج دون أن يتمكَّن من التوقُّف، ثم اصطدمَت رأسه بصخرةٍ بارزة، ودار رأسه، وشاهد القمر البعيد كأنه نحلة تلف … ثم فقد وعيه.

•••

استيقظ «تختخ» على لسعة برد طافَت بجسمه، وشيء رطب يلعق وجهه … فتح عينَيه وطالعه وجه «زنجر». كان مُتجهِّمًا، وقد التصق بعض شعره بكتفه دليل إصابته … أخذ «تختخ» ينظر حوله … كان ضوء الفجر الشاحب يتسلَّل في الأفق البعيد … ووجد نفسه في حفرة عميقة … وحوله مرتفعات شاهقة من الصخور الحمراء … ومدَّ يده يربت رأس «زنجر» … ثم تذكَّر فجأةً ما حدث أمس ليلًا … أين «محب» وأين المهندس «رضوان»؟!

نظر هنا وهناك وهو يعتمد على ذراعَيه ليجلس، ولكن لم يكن هناك أحدٌ على الإطلاق … ونظر إلى «زنجر» الذي طأطأ رأسه، وأخذ يهز ذيله كأنما يُقدِّم اعتذارًا عن خطأ وقع فيه، وقال «تختخ»: أين «محب»؟

زاد رأس «زنجر» انخفاضًا … وأخذ يُخرج لسانه ويلهث كأنما يقول إنه أيضًا متعب … وإنه آسف.

تحامل «تختخ» على نفسه ووقف، وأخذ ينظر كيف يستطيع الخروج من هذه الحفرة … وكيف يستطيع تسلُّق هذه الصخور الشاهقة … ولفتَ نظره على الفور وجود بعض النباتات الصحراوية … وأدركَ أنه قريب من مكانٍ به ماء … وقد كان يُحس بعطش شديد.

ومدَّ يده يتحسَّس رأسه … كان مصابًا … ولكن لا نزيف … وحمد الله … ثم تحرَّك صاعدًا وهو يتشبَّث بالصخور البارزة … و«زنجر» يتبعه صامتًا … كأنما يقول إن هذه المرة لن يكون دليلَ السير.

أخذ «تختخ» يصعد تدريجيًّا … وكان يتوقَّف بين لحظة وأخرى يستجمع قوته … حتى إذا أصبح في منتصف الطريق شاهد صخرتَين متقاربتَين بينهما فتحة تُشبه نافذةً مستطيلة … وتوقَّع أنه إذا نظر منها سيُمكنه أن يرى المنطقة المحيطة … ولعلَّه يستطيع أن يُحدِّد اتجاهه بالنسبة للطائرة …

اقترب مُتعثِّرًا من النافذة الصخرية وهو يرجو أن يرى شيئًا يبعث فيه الأمل، حتى إذا اقترب من مكان الصخرتَين أخذ يختار موضع قدمَيه … فقد كانَت الصخرتان تقفان وحدهما على ارتفاعٍ كبير، ولو سقط هذه المرة فمن المؤكَّد أنه سيتمزَّق على الصخور المدبَّبة.

أخيرًا استطاع أن يجد موضعًا لقدمَيه … وأطلَّ من خلال النافذة الصخرية، واهتزَّ جسمه فجأة، وكاد يقع على ظهره لولا أنه استطاع في اللحظة الأخيرة أن يُمسك بصخرةٍ ناتئة … ولم يكن فقدان توازنه يعود إلى قدمَيه … ولكن إلى ما شاهدَته عيناه … لقد وقع بصره على أغرب مشهدٍ رآه في حياته … كان مشهدًا أشبه بالأساطير التي يتحدَّث بها الرواة … ولولا أنه تأكَّد أن يقظ تمامًا … لظنَّ أنه يتخيَّل أو يحلم حلمًا أسطوريًّا! …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤