ساعات العطش والحر

كان المشهد الذي رآه «تختخ» يُمثِّل شِبه دائرة من التماثيل الجالسة قد تآكلت بفعل العواصف والرمال … فلم يبقَ منها سوى الشكل العام للتمثال … ولكن بقية التفاصيل قد مُحيَت … فلم يبقَ من الرأس والوجه إلا ما يُشبه اليد المقبوضة … ولم يبقَ من الكتفَين والذراعَين إلا خطوط متعرِّجة … وبقية الجسم تبدو مُشوَّهة وممسوخة … ولكن من المؤكَّد أنها تماثيل من صنع الإنسان وليس من صنع الطبيعة … ولم تُسعف «تختخ» الذاكرة عمَّا إذا كان قد قرأ عن وجود منطقة أثرية في هذا المكان …

كان المشهد مَهيبًا ورائعًا في ضوء الفجر البازغ … وقد تناثرَت بين التماثيل وحولها بعض الشجيرات والأعشاب الخضراء … وخلفها كان حائط صلب مرتفع من الصخور الضخمة ممَّا ذكره بمعبد «أبو سمبل»؛ فهل هذه آثار فرعونية!

لم يكن مُهمًّا بالنسبة ﻟ «تختخ» هذه اللحظة أن يتذكَّر التاريخ أو لا يتذكَّره … ولكن الذي كان يُهمُّه في هذه اللحظة ماذا تعني هذه التماثيل بالنسبة له؟! وتجاوز النافذة الصخرية … ووجد الطريق ينحدر بعدها انحدارًا عموديًّا تجاه دائرة التماثيل، فأخذ ينزل محاذرًا، وخلفه «زنجر» يقفز رغم جراحه، حتى وصلوا إلى ما يُشبه باب الدائرة … فتوقَّف «تختخ» قليلًا يتأمَّل التماثيل، وقد زادَت التفاصيل وضوحًا، وبدا المشهد يبعث على الرهبة.

مضى «تختخ» يسير أمام التماثيل … ويتأمَّلها واحدًا واحدًا … وقد نسي للحظات ما هو فيه … وأخذ يتفرَّج باستغراق … ولكن فجأةً أحسَّ ﺑ «زنجر» يقترب منه، ثم يجذب بنطلونه … وأدرك أن «زنجر» يُريد أن يُحدِّثه في شيء ما … فانحنى عليه وأخذ يربت على جسده الذي غطَّته الرمال وآثار الجراح … ووجد الكلب ينتفض وينظر إليه نظراتٍ أدرك «تختخ» على الفور سرها … إن ثمَّة خطرًا قريبًا، و«زنجر» لا يُريد أن ينبح حتى لا يُنبِّه مصدر الخطر إلى وجودهما.

كانَت الخطوة التالية أن يختبئ «تختخ» … حتى يرى ماذا يحدث … وأسرع خلف أحد التماثيل ووقف، وأسرع «زنجر» يقفز هو الآخر ويقف معه … ومرَّت لحظات دون أن يحدث شيء … ثم ظهر من الطرف البعيد للدائرة رأس جمل … ثم رقبته … ثم رجل يجلس على سَنام الجمل …

كانت مفاجأةً كاملةً ﻟ «تختخ» أن يرى هذا المشهد … معناه ببساطة أن ثمَّة حياةً قريبةً جدًّا … واحة أو شيء من هذا القبيل … فمن غير المعقول أن يكون الرجل مسافرًا وحده إذا كان سيقطع مسافةً بعيدة.

وأخذ قلب «تختخ» يدق سريعًا … ماذا خلف هذا الرجل؟ وهل وجوده في هذا المكان له علاقة باختفاء الرجال الخمسة … ثم اختفاء «رضوان» و«محب» … وأحسَّ بالألم العميق وهو يتذكَّر «محب» … أين هو الآن؟

وسار الرجل حتى قطع نصف الدائرة … ومرَّ بالقرب من «تختخ» الذي أخذ يربت على ظهر «زنجر» حتى يبقى ساكنًا، ويرقب الرجل في نفس الوقت … وكان الرجل ملثَّمًا لا يبدو من وجهه سوى عينَيه … وهو يهتز أمامًا وخلفًا مع اهتزاز الجمل الضخم الذي كان يركبه … ولاحظ «تختخ» أن الجمل يحمل خرجَين على جانبَيه … وأنهما منتفخان، ممَّا يُرجِّح أن الرجل يحمل طعامًا إلى مكان قريب.

وعندما مرَّ الرجل الملثَّم … وبدأ يبتعد، برز «تختخ» من مكانه … ونزل بهدوء إلى ساحة التماثيل، وأخذ يتبع الرجل محاذرًا … ووجده يدور مع قاعدة تلٍّ ضخم من الرمال والصخور … فدار معه … ووجد خط سيره يضيق تدريجيًّا، ثم حدثَت المفاجأة الثانية …

سمع «تختخ» صيحةً من بعيد … وانكمش مكانه … وسمع الرجلَ الملثَّم يرد على الصيحة بصيحة مثلها … وعرف أنها صيحة إنذار … وأن هناك حرسًا على المنطقة.

لم يدْرِ «تختخ» إذا كانَت الصيحة تعني أنهم رأوه … أو أنها نوع من كلمة السر … فبقي في مكانه فترة، ثم عندما لم يحدث شيء وقف … وأخذ يتبع آثار الجمل الواضحة في الرمال … حتى أشرف على نهاية قاعدة التل، وتوقَّف قليلًا يبحث عن شيء يختفي خلفه … ووجد صخرةً ضخمةً بارزةً تُمثِّل ساترًا ممتازًا له، فزحف حتى أصبح خلفها وانتظر لحظات، ثم رفع رأسه ونظر … ووقع بصره على أغرب مشهد رآه في حياته … مشهدٍ لم يخطر له على بال!

كان المشهد عبارةً عن واحة صغيرة، نبتَت فيها أشجار الفاكهة، ويُحيط بها عدد من الخيام الكبيرة … كلها بيضاء عدا خيمة واحدة صفراء أكبر من مثيلاتها … وكانَت الواحة مختفيةً تمامًا خلف التلال الصخرية العالية حتى تبدو مكانًا خفيًّا لم يصِل إليه أحد من قبل … ولولا أن «تختخ» كان متأكِّدًا أنه يقظ تمامًا لظن مرةً أخرى أنه يحلم …

وتوالَت المفاجآت … ظهر «محب» … كان يمشي ممزَّق الثياب مربوط اليدَين خلف الظهر … وحوله رجلان مسلَّحان … وأحسَّ «تختخ» بالدم يندفع في رأسه … وكاد يصيح بأعلى صوته مناديًا صديقه العزيز … ولكن ذلك كان معناه القضاء على «محب» وعليه أيضًا.

كان «محب» خارجًا من إحدى الخيام البيضاء متجهًا إلى الخيمة الصفراء … التي كان واضحًا أنها خيمة الزعيم، أو الجهة التي تحكم الواحة … كان «تختخ» على استعداد لأن يفعل أي شيء في العالم ليُبلِّغ رسالةً إلى «محب» … ولكن كيف؟!

لم يكن ذلك ممكنًا أبدًا … فظلَّ جالسًا مكانه ينظر إلى «محب» وهو يسير متعبًا حتى دخل إلى الخيمة الصفراء ودخل معه الحارسان.

أخذ «تختخ» يرقب المشهد … كان واضحًا أن الخيام ليسَت مُقامةً من فترة طويلة، وكانَت هناك حراسة واضحة على مداخل الساحة … وفي الوسط كان ثمَّة قدور كبيرة بها طعام وقد أُوقدت تحتها نيران من الحطب الجاف، ووقف بعض الرجال يتولَّون عملية الطبخ … وأحسَّ «تختخ» بالجوع والعطش … ونظر إلى «زنجر»، كان قابعًا تحت قدمَيه ساكنًا … كأنما يُفكِّر في هذه المغامرة العجيبة … كيف بدأَت … وكيف تنتهي؟!

كان على «تختخ» أن يُفكِّر بسرعةٍ فيما يفعل … هل يعود إلى الطائرة توًّا؟! ولكن هل في الطائرة ما يُساعده على إنقاذ «محب» وبقية الرجال الذين رجح أنهم هم أيضًا قد وقعوا في أيدي هؤلاء الأعراب؟ … وهل فيه من القوة ما يُساعده على الوصول إلى الطائرة؟

فإذا لم يكن سيعود إلى الطائرة فماذا يفعل؟

لقد أخذَت الشمس ترتفع، وبدأَت الحرارة تشتد … وقبل أن يُقرِّر شيئًا ظهر «محب» عائدًا بين حارسَيه، واتجه إلى خيمةٍ في طرف الساحة … ثم ظهر المهندس «رضوان» بعد ذلك مُتجهًا إلى الخيمة الصفراء … كان واضحًا أن ثمَّة استجوابًا يدور في الخيمة الصفراء … وأنه لا بد تمَّ قبل ذلك مع الطيار «حسني»، ومع المستر «كوكس»، ومع العُمَّال الثلاثة … وربما أدَّى هذا الاستجواب إلى ذهاب الأعراب إلى الطائرة للقبض على «نوسة» و«لوزة» أيضًا.

ولكن ماذا يُريد هؤلاء الأعراب بالضبط؟

هذا هو السؤال الذي تصعب الإجابة عليه.

أخذَت هذه الخواطر تدور برأس «تختخ» وهو جالس مكانه … وقرَّر أن يفعل شيئًا … ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بعد هبوط الظلام.

استلقى مكانه يُفكِّر في خطته ويُدبِّر، والوقت يمضي بطيئًا … والشمس تُصليه نيرانًا حاميةً فيتنقَّل من مكانه إلى الظل … ولكن الرمال التي سخنَت تلسعه … وبين لحظة وأخرى ينظر إلى «زنجر» وقد تدلَّى لسانه من العطش.

ودارَت الشمس في السماء، وبدأَت رحلة المغيب وهو يرقب الساحة التي أمامه بين فترة وأخرى … ولاحظ انعدام الحركة في ساعات الظهيرة … ثم عودتها في المساء …

وأخيرًا … بعد أن تعذَّب خلال ساعات النهار الطويل، غربَت الشمس … وبدأ الجو يبرد … ثم هبط الظلام … وانتظر «تختخ» حتى أشرفَت الساعة على العاشرة ليلًا … وهدأَت الحركة، ثم بدأ يتحرَّك …

لقد أدرك من مراقبته الطويلة أن «محب» و«رضوان» في الخيمة التي في طرف الساحة … وربما كان بها «كوكس» و«حسني» وبقية الرجال … وكان عليها حارسان مسلَّحان. دار «تختخ» دورةً واسعةً حول التلال الصخرية حتى نقطة مُعيَّنة حدَّدها خلال النهار، ثم بدأ يقترب من الساحة الواسعة عند طرفها البعيد حيث توجد خيمة الأسرى من زملائه …

اقترب من الخيمة زاحفًا … كان يُدرك أن أي خطأ يمكن أن يُؤدِّي إلى كارثة … وبعد بضع دقائق وجدَ نفسه عند الجانب الخلفي من الخيمة … وفكَّر لحظات … ثم مدَّ يده بهدوء وأخذ يرفع قماش الخيمة تدريجيًّا … ثم مدَّ رأسه ونظر داخل الخيمة … كان الظلام دامسًا … ولا شيء يُمكنه رؤيته، … فقال هامسًا: «محب»! … كان صوته خشنًا من أثر العطش … حتى هو نفسه لم يتعرَّف عليه … بقلبٍ فرح سمع «محب» يُجيب: «توفيق»!

ولكن أحدًا لم يتحرَّك لمساعدته في الدخول … وعرف أنهم مُقيَّدون، فأخذ يُحاول توسيع الفتحة … واستطاع بعد جهد أن يدخل … وأخذَت عيناه تألفان الظلام … وشاهد الرجال الخمسة و«محب» وقد تكوَّموا في وسط الخيمة، ومدَّ يده وأخذ يُحاول فكَّ الحبال الليف الخشنة التي قُيِّدوا بها … كانت مُهمَّةً شاقة … ولكنه لم يكَد يفك أول عقدة حتى اشترك الرجال في فك بقية القيود.

في دقائق قليلة تمَّ تحرير الرجال من قيودهم دون كلمة … فقد كانَت همسة واحدة كافية لدخول الحارسَين … وأخذ الرجال يتسلَّلون من الفتحة التي دخل منها «تختخ»، وبعد لحظات كان «كوكس» و«رضوان» و«محب» وأحد العُمَّال خارج الخيمة … وفي هذه اللحظة سمعوا صوتًا يُنادي … ثم صوت طلقةٍ في الهواء … وأدركوا أن هروبهم قد انكشف.

قال «تختخ»: اجروا!

وجرَوا جميعًا في اتجاه الصخور … وانطلقَت الرصاصات تشق الظلام … وعلى ضوء النجوم والقمر البعيد بدأَت أشباح الأعراب تُغادر خيامها … وبدأَت مطاردة عنيفة بين الصخور والرمال … وصوت طلقات الرصاص يُمزِّق صمت الصحراء الساكنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤