الفصل الثاني

عجيبة تلك الصلة التي تقوم بين مجيدة زوجته وزوجة ابنها ميرفت. فلو كان لمجيدة ابنة ما أحسنت معاملتها وأحبَّتها قدر ما كانت مجيدة تحب ميرفت. حتى إذا اختلف وجدان مع أمه كانت ميرفت تقف إلى جانب حماتها لا إلى جانب زوجها، وتدافع عنها بشتى وسائل الدفاع، فتلجأ إلى وجدان بالحق والمنطق أحيانًا. فإن خذَلها حقٌّ أو وقف بها منطق لجأَت في ذكاء إلى عاطفة البنوة وما تنتظره الأم عند ولدها. وقد كانت أم ميرفت سعدية هانم النبوي تكاد تغار من حب ابنتها لحماتها. إلا أنها لم تحاول أن تُفسِد هذه العَلاقة أو تمسَّها. عن فضلٍ منها كان ذلك أو عن يأسٍ أو عن كليهما معًا، لا أحد يدري.

وكان عزام سعيدًا بهذه العَلاقة غاية السعادة. وكان حين يحاول أن يُقدِّم الحيثيَّات لهذا الواقع المضيء في بيته يجد الأسباب حاضرة من قريب.

فزوجته مجيدة ابنة عمه عزت أبو الفضل. وقد كانت صلة عمه عزت بأخيه عبد المجيد والد عزام صلةَ أخوةٍ وثيقة، حتى إن عزت أقام بالزقازيق المدينة تاركًا لأخيه الإشراف الكامل على الأرض جميعًا. أمَّا عزت فقد تفرَّغ للجلوس مع الأصدقاء في قهوة باروخة في الصباح، والجلوس في النادي بعد الظهر يلعب النرد أو الضمنة سعيدًا بفراغه هذا غاية السعادة، لا يسمح بشيء في العالم أن يُعكِّر صفْوه أو يُفسد متعته. وقد كانت متعة بريئة لا يشوبها منكر. فقد يلعب مع أصدقائه بِرهانٍ، ولكنه رهانٌ هزيل، لا يخيف ولا يُهدِّد أية ثروة مهما يكن مقدارها ضئيلًا. كان إذا خسر عشرة في النرد يدفع عشرين قرشًا، فإذا حمِيَ الوطيس وغلت الدماء في العروق وطغى حبُّ الانتقام عليه إذا وقعت عليه الغلبة ارتفع مقدار الرِّهان وارتفع، ثم لا يعدو الخمسين قرشًا فقط.

أمَّا في الضمنة فقد كان يخسر عشرين قرشًا إذا خسر. فإذا ذكرنا أن اللاعب في هذه الميادين لا يخسر دائمًا ولا يكسِب دائمًا، نجد أن نفقات عزت في متعته هذه كانت لا تُمثِّل شيئًا بالنسبة إلى ثروته.

ولم يُرزَق عزت من زوجته مبروكة النمر ابنة عُمدة ميت ركاب الحاج طه النمر إلا ابنته مجيدة. وقد أسماها مجيدة تقرُّبًا من اسم أخيه وحُبًّا فيه. وكأنما أراد أن يقول له: إن كنت لم تُنجِب إلا الأولاد فقد رزقك الله بالابنة في بيت أخيك.

وقد أدخل عزت مجيدة مدرسة الراهبات بالزقازيق، وظلت بها حتى حصلت على البكالوريا، فهي مثقفةٌ ثقافة فَرنسية عالية. وكان أبوها يصحبها شهرًا أو شهرًا وبعض الشهر إلى الإسكندرية أو رأس البر في المصيف، أمَّا بقية الإجازة فقد كانت تحب أن تقضيَها في العزبة عند عمها، وقد تزور جَدَّها وجَدَّتها في ميت ركاب، ولكن أغلب الوقت كانت تقضيه في بيت عمها.

وكان عزت كثير الزيارة للقاهرة حتى لتذكر مجيدة أن كل الإجازات التي كانت تحلُّ أثناء العام الدراسي كانوا يقضونها في القاهرة في تلك الشقة التي أجَّرها عمها لتكون محل إقامةٍ لوجدان أول الأمر، ثم أصبحَت مَوْئلًا لأسرتَي الأخوين، كلما قصد أحدهما أو كلاهما إلى القاهرة. وقد كان الحاج عبد المجيد بعيد النظر دائمًا؛ ولهذا فقد اختار الشقة واسعة غاية السعة، تستطيع أن تحتويَ الأسرتين جميعًا، لا تضيق بالسادة أو الخدم في وقت معًا. وهكذا وجد من الطبيعيِّ أن يستجيب لأخيه حين طلب إليه أن يشاركه في إيجارها. هكذا نشأت مجيدة في الزقازيق، ولكنها كانت على صلة وثيقة بالحياة، فقد كانت تذهب إلى السينما وتشاهد المسارح وتتابع بما وفَّره لها تعليمها الحركة الأدبية، فهي مُتفتِّحة الذهن رهيفة الحس. تعتبر البواكير الأولى للمرأة المتعلمة في العصر الحديث. وإن كان سخف العصر الحديث قد طغى على تعليم المرأة في بعض الأحيان، فإن أصالة تلك الفترة هي التي كانت تحيط بمجيدة في هاته الأيام. وأيُّ أصالةٍ أعظم من واقعها يمكن أن تحيط بها وهي ترى أسرة أبيها وأسرة عمها واحدة يجمعهم الحب الصادق لا زَيْف فيه ولا مَيْن ولا خداع. ولماذا الخداع؟ وطلب كل فرد مجاب من الأسرتين جميعًا بلا تفرقة، ولا حتى تفكير ما دام الطلب معقولًا لا مبالغة فيه ولا تعسُّف. ولم يكن العنت يعرف طريقًا إلى البيتين جميعًا، فأبوها رجل سمح طيب المعشر ألوف، يحب الناس ويحبونه. وعمها رجل له وقاره ومكانته في قريته وعند الذين يعرفونه.

وهكذا كان عزام يجد أن مجيدة كان يستحيل عليها أن تكون غير هذه السيدة العظيمة في تربيتها لأبنائها، وفي حبها لزوجة ابنها ميرفت التي تقوم معها وزوجة ياسر أيضًا سوسن التي تُقيم مع زوجها في بيتٍ خاصٍّ بهما.

أمَّا مجيدة الزوجة فقد كان حبها لزوجها أمرًا مُقرَّرًا لا يحتاج إلى أي تفكيرٍ، فقد نشأ كلٌّ منهما في منبع واحد، وإن كان هو يكبرها بخمس سنوات وبضعة أشهر، فالذي لا شك فيه أن كُلًّا منهما شهِد طفولة الآخر وعرَفه أوثقَ معرفة منذ بدأ كلٌّ منهما يعي الحياة والأسماء والأشخاص.

كان عزام قد أجمع أمره على الزواج من مجيدة منذ بدأت مراهقته وعرَف كما يعرف الناس جميعًا أن الشاب ينبغي أن يتزوج.

ويُخيَّل إليه أن مجيدة كانت تدرك ما أجمَع عليه أمره دون أن يُشير إلى ذلك بكلمة. وكانت الأسرة جميعًا تدرك هذا المصير، ولكن أحدًا منها لم يذكره لآخر، كان أمرًا مُقرَّرًا في داخل كل فردٍ من أفراد الأسرة، حتى لقد ظنُّوا أن الحديث في شأنه عبثٌ لا معنى له. ولا يستطيع عزام أن يذكر الآن وهو في غمرة هذه الذكريات إن كان أحبَّ مجيدة ذلك الحب الجارف الذي قرأه عنه والذي شهِده يحيط بإخوانه وزملائه، أم أن اعتبار مجيدة هي زوجته المقبلة جعل حبه لها من نوع آخر لا يعرفه إلا قليل من الناس، أولئك الذين تشابهت ظروف حياتهم وظروف الحياة التي نما فيها عزام. كان حبه لها أمرًا مفروغًا منه ليس في الوجد، وفيم الوجد وهو يعلم أن شيئًا لن يقف في سبيل زواجهما؟ ولا فيه الهُيام ولا السهد، فما كان هناك داعٍ إليهما. ربما كان يتشوق لرؤيتها، ولكن أليس الشوق أمرًا طبيعيًّا بين أفراد الأسرة الواحدة؟

وهكذا كان يعيش حياته في القاهرة في اطمئنان على مستقبل البيت الذي سيقيمه للزوجية. وكان يسعى حياته في طهر؛ لأنه كان يرى أن هذا هو الأولى به والأخلق.

ثم ظهرت نرمين. فإذا الحياة عنده تُسفِر عن وجهٍ من المتعة لم يتصور مقدارها قطُّ قبل ليلته هذه في الأريزونا.

ذهب مع نرمين إلى شقتها. وحين حان موعد انصرافه تَحيَّر ماذا يفعل. وبخبرة المرأة المتمرسة قالت له: فلوس لا أقبل منك، ولكن أَحضِر لي هدية معك في المرة القادمة.

مرة قادمة، فكَّر قليلًا وما لبثَت مُتعته الجديدة أن صاحت به: ماذا بك؟ وهل في هذا تردُّد؟

وقالت نرمين: أم تُراك لم تنبسط ولن تكون هناك مرةٌ قادمة!

وصاح من فور الغريزة: بل مرات ومرات. المهم ألا تصرفيني أنتِ.

– لا، اسمع، أنا أعرف أنك في السنة النهائية، وأعرف أنك دائمًا من الأوائل. وحتى أضمن دوام الصلة بيننا لا أحب أن أكون سببًا في تأخُّرك عن التفوق.

وصمَت عزام قليلًا، فقد واجه العقل الغريزة وقال: كلامٌ معقول.

وأكملت نرمين: من الطبيعي أن تُرفِّه عن نفسك في كل يوم خميس.

– معقول.

– إذن فموعدنا الساعة الثامنة كلَّ يوم خميس.

استمرت العَلاقة كما اتفقا أن تكون. وكان يُغدق عليها الهدايا، ولكنها هدايا طلاب على أية حال وإن كانت لا تخلو من ذكاء. فكان يحاول دائمًا أن تكون هديته من الذهب، وبدلًا من أن يأتيَ لها كلَّ أسبوع بهديةٍ هزيلةٍ يأتي لها كل شهر بما يوازي أربعة جنيهات ذهبية. وكان الجنيه الذهبي في ذلك الحين بخمسة جنيهات. وكثرت مطالبه بعض الشيء من أبيه، وكان الأب ذكيًّا يُدرك ما قد يحتاج إليه الشباب من بعض الإنفاق. ولم يكن الأب واسع الثراء. ولكن المال لم يكن مشكلةً بالنسبة إليه على كل حال، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأخيه أيضًا.

كان يوم خميس. لا يزال عزام يذكره وكأنه مرَّ بالأمس القريب. وذهب في موعده إلى نرمين. وكانت الجلسة تبدأ بينهما بالحديث مع كأس ويسكي، وكان لا يزيد عن الكأس قط، وكان الحديث يتناول أمورًا خلقتها الزيارات المتكررة. ولم يكن بينهما في الحديث جسور مشتركة، فلكلٍّ منهما حياته البعيدة كل البعد عن حياة الآخر. كان هو يذاكر بجدية كاملة، وإذا أراد أن يُروِّح عن نفسه فديوان شعر لشاعر من القدماء أو شوقي أو حافظ. وكان مُعجَبًا بشوقي غاية الإعجاب، وكان يعتبره أعظم شاعر في التاريخ العربي قديمه وحديثه. وكان يقرأ كلَّ ما يظهر لأدباء عصره، أولئك الذي نشأ الأدب العربي الحديث على أيديهم: طه حسين، ومحمد حسين هيكل، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، والزيات، والرافعي. وكان جيل عزام يتلقَّف أدب هؤلاء نقطةً نقطة، أو كتابًا كتابًا. كان جيله أشبه ما يكون بالجالسين على أبواب المطابع يختطفون كلَّ كتابٍ يظهر. وهكذا كان الماء يصل إليهم رذاذًا غير منهمر. فلم يكن العمالقة قد أكملوا أدبهم بعد، وإنما كانوا يصنعونه. وفي هذه الفترة التي يعيش عزام في ذكرياتها ظهرت مطالع روايات نجيب محفوظ وقصصه وقصص محمود البدوي ويوسف جوهر وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي القصيرة، وبدأ جيل عزام يتعرَّف عليهم. ولكن كل هذا كان لا يمد هواة الأدب بمدد الينبوع الدائم الجريان، فكان عزام يقرأ مع هؤلاء كتب التراث مثل الأغاني والعقد الفريد والعمدة وغيرها، ويقرأ الشعر العربي القديم والحديث وهو مددٌ لا ينفد. والشعر ليس كالرواية. فقد يستطيع الهاوي أن يقرأ القصيدة مائة مرة، ثم يعود إليها، أمَّا الرواية فهي مرةٌ واحدة، فإن أعجبته غاية الإعجاب فمرتين.

كانت هكذا حياة عزام. ففيم كان يمكن أن يجريَ الحديث بينه وبين نرمين وهي لا تعرف اسمًا واحدًا من كل هذه الأسماء إلا ربما هيكل باشا؛ لأنه كان وزيرًا. وكانت طبعًا لا تدري لماذا أصبح وزيرًا، ولا تعرف أيَّ صلةٍ بينه وبين الأدب. بل هي لا تعرف عن الأدب شيئًا إلا ما تقوله عنه مجلات تلك الأيام مثل المصور وآخر ساعة وروز اليوسف. ومع هذا التنافر في الاهتمامات نشأ نوع من الحديث بين عزام ونرمين. وكان الحديث ممتعًا لكليهما. فقد كانت تروي له عن صديقاتها وصلاتهن وأصدقائهن. وكان يروي لها عن زملائه وعن بيته وعن أبيه وعن أمه وعن مجيدة وعن عمه عزت.

في ذلك الخميس الذي لا ينساه صنعَت له كأس الويسكي وصنعت لنفسها كأسًا وجلسا، وبدأت تقول: هيه، ما الأخبار؟

– أخبار السياسة؟

– أعوذ بالله! لا أكره شيئًا قدها.

– الأخبار يا ستي أن عمي عزت كان يزورنا من يومين.

– وهيه، وما أخباره؟

– الحظ يحالفه في هذه الأيام ويتغلَّب على كل منافسيه في الطاولة. وكسَب الشهر الماضي خمسة جنيهات من الطاولة وحدها.

– أصبح ثريًّا إذن.

– أضاعها في الضمنة.

وضحكت نرمين وهي تقول كلمتها المأثورة: شربات.

وقال عزام وعلى وجه غلالة من الجِديَّة: أتعرفين يا نرمين، أنا لا أحسد أحدًا في حياتي إلا عمي عزت!

– أعوذ بالله! أنت قلبك لبن حليب، لا يمكن أن يحسد أبدًا.

– لا، فعلًا أنا أحسده.

– أنت تحسد؟

– نعم. عمي عزت.

– أنت تحبه؟

– لا أُفرِّق بينه وبين أبي مطلقًا، ولكني أحسده.

– أنت تعني شيئًا لا أفهمه، فحب وحسد لا يجتمعان.

– ربما كان المعنى الذي أقصده لا تُعبِّر عنه كلمة الحسد التعبيرَ الدقيق.

– إذن.

– أتمنى أن أكون مثله.

– يا شيخ لا قدَّر الله.

– ولماذا؟

– بل قل لي أنت، لماذا تريد هذا الذي تريد؟

– لا أحمل همًّا، طيب، لا أزعل من أحد ولا أجعل أحدًا يزعل مني، الدنيا عندي طاولة وضمنة وتسلية. زوجتي تحمل هم البيت، وأخي يُشرِف على الأرض، وأنا أسعد خلق الله.

ونظرت إليه نرمين مليًّا وبدأت مطالع دموع تفور إلى عينيها وهي تقول: أهذه حياة؟

– وما الحياة؟

– أي شيءٍ إلا هذا.

– أرى في عينيكِ …

– نعم.

– هل ذكَّركِ حديثي بشيء؟

– كان أبي مثل عمك، إلا أنه كان يغامر بمبالغَ طائلة حتى أضاع ثروته كلها.

– بالطبع ليس هذا الذي أقصده.

– وكانت النتيجة ما ترى. وهو على قيد الحياة ويعرف المهنة التي أحترفها.

– ولكن عمِّي شيءٌ آخر.

– عمك لن يُضيع ثروته، ولكنه يُضيع حياته.

وتماسكت نرمين وغاضت الدموع.

– ولكنه سعيد ولم يؤذِ أحدًا في حياته، وربما أعان بعض الناس.

– لا تؤاخذني، الحمار أيضًا سعيد، والثور سعيد. في الحياة لا بُدَّ أن يكون هناك فرق بين الإنسان والحيوان. والحيوان أيضًا لا يؤذي أحدًا، وإن كان عمك أعان أحدًا فربما تكون هذه هي الحسنة الوحيدة في حياته. أتراها تكفي؟!

– عمي شخصٌ محترمٌ بين الناس، وهو صديق لصديقه، يعينه عند الحاجة، ورجل طيب بمعنى الكلمة.

وصمتت نرمين لحظاتٍ قصارًا وقالت: عندما يقترب أجله — أطال الله عمره — ويحتويه الفراش الذي يُقدِّمه إلى السماء، وينظر خلفه، بماذا يستطيع أن يلقى في نفسه سعادة؟ إنه صنع شيئًا ذا قيمة. كل ما سيذكره المارس الذي تغلَّب به على أحد أصدقائه.

– لحظة ويصبح عند الذي لا ينفع عنده مال ولا بنون.

– هذه اللحظة هي العمر كله، هي وداع حياة بأكملها.

وكان الذهول يستولي على عزام كلما تحدثت نرمين، حتى إذا انتهت إلى جملته الأخيرة وجد نفسه يحتضنها في قوة: أنت تُخفين بكأس الويسكي الذي نشربه ثروة من الإنسانية.

– لا أُطلِع عليها إلا من أحب.

– إذن …

– نعم أحبك، ولكن أردُّ نفسي عن حبك.

ولم يسأل لماذا وإنما يُطرِق ثم يرفع رأسه: نرمين، أنا نلت اليوم من المتعة ما يزيد على كل الأيام التي التقينا فيها. كأنما تجمعت أيامنا كلها وتضاعفت مئات المرات اليوم. أنا سأنصرف.

واحتضنها كما لم يحتضنها من قبل، وقبَّلَ جبهتها وخدَّيها وانصرف. وتركها في نفسها مشاعر ليست غريبة عليها، ولكنها لا تريد أن تُصدِّقها.

•••

نزل إلى الشارع وبحث عن تليفون، ووجده عند بائع سجائر، وكلَّم والدته: نينا.

– أين أنت؟

– أنا في الشارع.

– ما لك؟ خير؟ أنت قلت إنك ستتأخر؟

– اسمعي ولا تستغربي.

– خير، خوَّفتني؟

– ليس هناك شيءٌ مطلقًا، ولكنِّي أريد أن أرى أبي.

– ماذا به؟ هل سمعت عنه شيئًا؟

– من أين أسمع؟ التليفون بجانبك، ولو كان هناك شيء لا قدَّر الله لعرَفتِ أنت قبلي.

– أنا لا أفهم.

– أتأتين معي إليه؟

– الآن؟

– الآن.

– كيف ستذهب؟

– سأستأجر سيارة.

– أمرك عجيب. على كل حال، وما له، خذني معك.

– هذا فعلًا أحسن.

– لكن يا عزام الامتحان اقترب وهذا ليسانس، وأخشى أن يغضب أبوك الحاج.

– إنه سواد الليل وبكرة نتغدى هنا في مصر.

– الأمر لله، وتقول لي لا تستغربي.

– ستعرفين كل شيء هناك.

– هناك؟!

– هناك.

•••

حين وصل إلى بيت أبيه في البلدة كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بدقائق، وتعجَّب الحاج عبد المجيد، ولكن حين رأى ابنه وزوجته سالمَين لم يمسَّ مشاعرَه قلق. انفرد بهما فورًا، ولم يتمهَّل عزام، بل سارع قائلًا: أبي، أريدك أن تخطب لي.

– أخطب لك! من؟

– مجيدة طبعًا. وهل يمكن أن أخطب إلا مجيدة؟

وازداد تعجُّب الحاج: تجرُّ أمك في عز الليل وتأتي إليَّ الساعة الحادية عشرة من مصر لأخطب لك مجيدة!

– ولم لا؟

– وهل علمتَ أنها ستخطب الليلة إلى أحد آخر؟

– طبعًا لا.

– الكل يعلم أنها لك وأنت لها.

– أعرف.

– فما هذا الهبل الذي تصنعه؟

وكأنما كان عزام في غمرة وأفاق. ماذا صنع؟

وماذا يقول لأبيه الآن وهو يعلم أن أباه يعهده دائمًا عاقلًا مُتَّزنًا لا يأتي شيئًا في غير رويَّةٍ وتفكير.

أيقول له إنه وجد نفسه في لحظة حاسمة من حياته أن عليه أن يختار بين أن يكون إنسانًا ذا قيمة في المجتمع يحترم إنسانيته، وما وهب الله له من عقل ومن حرية في الاختيار، وبين أن يكون إنسانًا يبحث عن المتعة وحدها.

أيقول له إنه أحبَّ تلك الصلة بينه وبين نرمين، وخشيَ أن يتمادى فيها فيحس دائمًا أن ضميره غير راضٍ عنه، فهو من نفسه في عذاب، وهو من متعته في هناء. وإنه أراد الليلة وفورًا أن يختار الهناء النفسي لا الهناء الحسي.

أيقول له إنه يُعدٌّ نفسه لأن يكون قاضيًا، وإن القاضي إذا لم يكن شريفًا في داخله فهيهات له أن يكون شريفًا في أحكامه.

ماذا يقول؟ أطرق طويلًا ثم رفع رأسه إلى أبيه: أنا آسف يا بابا.

– لا بد أن تكون آسفًا.

– فعلًا آسف.

وقالت الأم: أتأتي بي في الظلام لهذا؟! الله يخيبك يا عزام يا ابن بطني!

قال عزام مرة أخرى: يا نينا اعتبريها جنُّونة وقامت بدماغي.

وقال الأب في تؤدة: ثم أنت الآن داخل على امتحان الليسانس. فلماذا لا تنتظر حتى تأخذ الشهادة؟

وقال عزام في حسم: أنت تعرف أنني سآخذها.

– وهل تريد أن أخطبها لك الآن أم أنتظر حتى الصباح؟

– هذا إليك.

– الأمر سيان.

ومدَّ يده إلى التليفون وطلب أخاه في الزقازيق وصاح: عزت!

– خير يا أخويا الحاج، هل هناك شيء؟

– أنت نمت؟

– أنا داخل من النادي الآن فقط.

– طيب اسمع يا سيدي.

وروى له ما صنع عزام. وتمت الخطبة.

•••

حين عاد عزام إلى القاهرة اشترى هدية ثمينة بخمسين جنيهًا وذهب إلى بيت نرمين في وقت كان واثقًا أنه لن يجدها فيه. وفتح الباب بالمِفتاح الذي معه، وترك الهدية في مكان لا تُخطئه العين في البَهْو، ومع الهدية المفتاح، ولم يكتب شيئًا. وحين عادت نرمين ووجدت الهدية والمفتاح عرَفت كل شيء، وأدركت أن مشاعرها يوم تركها لم تخادعها.

•••

منذ ذلك الحين البعيد وعزام يحنُّ إلى تلك الأيام غير البريئة، ويحسُّ بها تدغدغ في حواسه، ويحسُّ في نفسه شوقًا إليها توَّاقًا إلى مرحها. حتى إذا جلس على كرسيِّ النيابة الذي أصبح كرسي القضاء أصبح عزام الذي يعرفه الناس، ولا يعرفون عنه إلا البعد كل البعد عن موطن الشبهات.

كان إنسانَين في إنسان، ونفْسَين في نفس، وقلبَين في قلب، وضميرَين في ضمير. ضمير يُهوِّن عليه اللهو والمتعة حتى وإن تبِعها سكوت على الباطل ورضًا بالخطيئة على أيِّ لونٍ لها. وضمير هو الأصيل فيه، طريقه الحق، وسبيله أني أخاف الله رب العالمين.

وكانت آراؤه في كل شيء تنشُد المَثَل الأعلى، ولكنه كان يغفر في نفسه لمن يحيد عنها حتى وإن حكم عليه بأحكام القانون. فالإنسان فيه يعرف ضعف الإنسان ويرحمه ويغفر له. والقاضي فيه يعرف حق القانون ويستقر في نفسه في ثقة تقترب من ثقة الإيمان بالله أن العالم بغير قانون فوضى، الغابة خير منه. فالغابة — وهي الغابة — لها قانون، أمَّا إذا غفا القانون في دولة أو ناله مساس من استهانة فالحياة كلها ضياع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤