الباب الثالث

سباع البحر والفُقَم

لم يكَدْ كُتَّاب العرب في العصور الوسطى يُفرِّقون بين سباع البحر والفُقَم من ناحيةٍ وبين عرائس البحر المُتقدِّم ذكرُها من ناحيةٍ أخرى، حتى إنَّ الكثير منهم كان يُطلِق على كِلَيهما بنات الماء. والغالِب عندهم في الوصف تشبيه كلٍّ منهما بِحيوان نِصفُه الأعلى امرأة ونِصفُه الأسفل سمكة، فلم تدخُل الاختلافات التشريحية حتى الظاهِر منها في حِسابهم. ونحنُ نُغلِّب أن الأوصاف التي ذَكروها عن تلك الحيوانات النصف إنما هي للفُقَم؛ لأنها أقرَب إلى بيئتهم؛ منها ما يعيش في بحر الروم (المتوسط) ومنها ما يعيش في بحر الخزر (قزوين) بل وفي بحيرة بكال بالتركِستان، وكلُّ هذه أَبْحُر عاش على ضِفافها كثير من هؤلاء الكُتَّاب بينما عرائس البحر ضَيِّقة الانتِشار نسبيًّا، كما أن العرائس لا تدخُل اليابِسة بينما السِّباع والفُقَم تتردَّد عليها، أي أنَّ هناك فُرصةً يُشاهِدها فيها الناس.

ونحن إذا رَجَعْنا إلى الصِّفات الخارجية التي تُميِّز عرائس البحر عن سِباع البحر والفُقَم نجِد أنَّ من أظهَرِها وجود الطَّرَفين الخلفِيَّين في السِّباع والفُقَم (شكل ٣-١) بينما هما مُختفِيان في العرائس، وبينما للعرائس ذَنَب كبير ذو زَعنَفة مُستعرِضة كثيرًا ما تُحاكي زَعْنفة القياطس إذا به قصير ضامِر في السباع والفُقَم. وأهمُّ من كُلِّ هذا أن جسم السِّباع والفُقَم مُغطَّى بطبقةٍ كثيفة من الشَّعر يتحوَّر بعضه عند الفَمِ إلى شارِبٍ قوي ظاهِر بينما جِسم العرائس يكاد يكون عاريًا وشَعر الوَجْه أهلَب قصير. فمِمَّا لا شكَّ فيه أن العرائس تقِف في هذا أقرَب إلى القياطس منها إلى السِّباع والفُقَم.
وسباع البحر والفُقَم ثدييَّات تتبَع فصيلة آكلة اللحوم Carnivora التي منها القِطَط بأنواعها والكِلاب والدِّبَبة وأبناء عُرس وغيرها على ما هو معروف، وقد تَرَكَت سباع البحر والفُقَم اليابِسة من قديمٍ وسكنَت البحر فتكيَّفَت أجسامُها للمعيشة فيها فغدَت تُبايِن آكلَة اللُّحوم في كثيرٍ من الصِّفات الثانويَّة، ولكنَّها مع ذلك آكِلَة لحومٍ أصيلة، تتحقَّق هذه القَرابة في وجود أنيابٍ حادَّةٍ وأضراس ذاتِ أسطُحٍ مُدبَّبة بينما الثَّنايا أي القَواطِع صغيرة، والأعور فيها صغير أو معدوم، وبالمُخِّ تلافِيف كثيرة عميقة التَّلافيف ولذلك تذهب هذه الحيوانات كأذكى ما تكون العَجماوات، ودَليلُنا منها في ذلك الكلبُ والثَّعلب.
fig13
شكل ٣-١: أحد أنواع سِباع البحر (صورة فوتوغرافية خاصة بحديقة الحيوان بالجيزة).

سِباع البحر والفُقَم أقلُّ الثدييَّات البحرية شَبهًا بالأسماك، فالرأس كبير كرأس آكِلة اللحوم، في وسَطِه عينان واسِعتان ويقَع الأنف في مُقدَّمِه لا من فَوقه وينبُت حول الفم شارِبٌ كبير مُكوَّن من شَعرٍ صُلبٍ قوي سميك، ويُوجَد عُنُقٌ ظاهر مُستطيل يتحرَّك عليه الرأس في سهولةٍ كبيرة ذات اليمين وذات الشمال، وللأذُن صِيوان صغير، غير أنه قد يَختفي كليَّةً كما في عرائس البحر والقياطس، وللأنثى زَوج أو زَوجان من الثُّديِّ في منطقة البطن لا الصَّدر كما في عرائس البحر.

وتعيش سباع البحر والفُقَم في البحار البارِدة والمُعتدِلة لا الحارة، كما أنها تستطيع المَعيشة في الأنهار الكبيرة والبِحار المُغلَقة فتُوجَد في بحر قَزوين وبحيرة باكال، ولكنَّها لا تتوغَّل إلى عرض المُحيطات بل تُفضِّل الشواطئ؛ حيث لا غِنى لها عن اليابِسة خاصَّة في فصل التَّزاوج فهي تلِد خارج الماء لا فيه وتُرضِع على البرِّ وتُعلِّم صِغارها السباحة ولا تترُكها حتى تقوى عليها.

أمام هذه الاختِلافات المَوجودة بين سِباع البحر والفُقَم من ناحيةٍ وبين بقيَّة أنواع فَصيلتها آكِلة اللُّحوم من ناحيةٍ أخرى، يُميِّز علماء الحيوان هذه الثدييَّات البحرية تحت اسم آكلة اللحوم ذات الأقدام الزَّعْنَفيَّة Pinnipedia؛ لأنه كما تقدَّم تتحوَّر الأطراف إلى زعانِف هي عِماد الحركة في الماء، كما أنها عِماد الحركة على اليابِسة؛ ولذلك جاءت في تحوُّرِها شاذَّةً فجمعت بين تركيب المَجاديف المعروف في القياطس وعرائس البحر وبين الأطراف الأصليَّة المعروفة في ذوات الأربع من سُكَّان اليابِسة، فآثار الأصابع ظاهِرة من الخارج إلى حد، كما أن طَرف كلِّ أصبُعٍ مُغطًّى من الخارِج بظُفرٍ ظاهِر لا يَختفي إلَّا في القِلَّة من الأنواع. ويستطيع الحيوان أن يُحرِّك أجزاء الطرف الخلفي، المُتَّصِلة مع بعضها في مفاصل ظاهرة، في سُهولةٍ كبيرة حتى إن بَطن القَدَم يتَّجِه في الماء إلى أعلى أثناء السِّباحة، بينما هو على اليابِسة يتَّجِه إلى أسفلَ في الوَضع الطبيعي له فيَعتمِد الحيوان عليه أثناء المَشي. ومِشيَة الحيوان على اليابِسة مِشيَةٌ عجيبة مُتثاقِلة يُلابِس بطنه الأرض فهو يزحَف عليها، ولكنَّه يستطيع أن يَعتمِد على قدَميه وينتصِب واقِفًا باسِطًا يديه في الهواء يُصفِّق بهما أو يضرِب بهما فهما عُضوا دِفاعٍ يَشترِكان مع الفم في العِراك العنيف الذي يَنشَب بين أفراد النوع.

وتَتغذَّى هذه الثدييَّات من الأسماك فهي تَصيدُها بمهارةٍ فائقة تسعى إليها في مواطنها، ومنها ما يتغذَّى من الأنواع المُختلِفة من المَحَّار والأخطبوطات الكبيرة وغير ذلك مما سيرد تفصيله، غير أنها لا تَقتات من الأعشاب كعرائس البحر. وتُهاجِر أنواع من فُقَم المناطق البارِدة في فصل الشتاء إلى الجنوب.

وتُصاد هذه الثدييَّات من أجل فِرائها، فصار صيدُها حِرفةً وتجارة رابحة، ويُحسِن الصيادون الأمريكيون صُنعًا إذ يَخرُجون في أساطيل تدلُّهم الطائرات على أسْرابِ الفُقَم فتُحدِّد لها مَواطِنها بالضَّبط، فيقتلون من هذه الأسراب ما يَشاءون ويترُكون عددًا من الصغار حِفاظًا على الفُقَم من الفناء وإلَّا كان مَصيره مصير بقَر البحر المُتقدِّم ذكره. كما تُصاد هذه الثدييَّات من أجل شحمها المَوجود تحتَ الجِلد، ولكنَّه شحم قليل لا يُوازي شحم القياطس والعرائس في كَمِّه، غير أنه رائق عظيم الفائدة في التشحيم، كما تُصنَع من جلود بعضها حقائب السيِّدات وأكياس النقود.

وتشتمِل هذه الثدييَّات على ثلاث عائلاتٍ تضُمُّ كلٌّ منها عددًا قليلًا من الأجناس، تتبَع كلَّ جِنسٍ أنواعٌ اختلَف الناس في أسمائها؛ فهي تارةً سِباع بحر وتارةً فُقَم، ويرجِع ذلك إلى الأسماء الدَّارِجة (لا العلمِيَّة) التي أطلَقَها عليها الصيَّادون. نذكُر على سبيل المثال:
  • (١)
    فُقم الشمال ذو الفِراء أو دُبُّ البحر Northern FurSeal; Sea Bear واسمه العلمي Otaria ursina وهو ذو قِيمة اقتِصادية عظيمة، يُصاد من أجل فرائه الجيِّد تَتَّخِذه النِّساء زِينةً وكساء، وقد دار حوله في يومٍ ما خلاف كبير بين أُمَم الشَّمال اللذين يتَّخِذون من صَيد دَوابِّ البحر حِرفةً وتجارة.

    ويمتاز هذا الفُقم مع بقيَّة أفراد جِنسه بل عائلته، فهو وحيد فيها، بأنه أقلُّ الأجناس مُلاءمة للبيئة؛ فقَدَماه طَليقتان، وله صِيوان قصير للأذُن وعُنُق ظاهر غير قصير وأنف يقِف عند نهاية الوجه من الأمام كما هي الحال في مُعظم الثدييات البرية. ويتغذَّى من الأسماك والأخطبوطات والحبَّار، ويصِل طول اليافِع حوالي المِترَين.

    وتَجوال هذا الفُقم بين الشمال والجنوب يقِف بين الظواهِر البيولوجية الفريدة. وأقصِد بالتَّجوال الهِجرة، وقد وصَف لنا المؤرِّخون الطبيعيُّون دقائق هذا التَّجوال أو رِحلَة الشتاء والصيف كما يَجوز أن نُسمِّيه، فذكروا أن هذا الفُقم يَجول في الشتاء جماعاتٍ جماعات صغيرة، فالإناث والأجْراء (جمع جَرو وهو الصغير) والذُّكور الصغيرة السنِّ تُشَتِّي عند سواحل كاليفورنيا، بينما تقضي الفُحول الكبيرة الشتاء جنوبي جُزُر الوشيان أو في خليج ألاسكا. فإذا ما أقبلَ فصل التَّزاوج ترجِع الفحول الكبيرة إلى مَواطِن تَزاوُجِها عند جُزُر بريبيلوف الصغيرة التي تبعُد عن ألاسكا بمائتي ميل. وهذه الجُزُر هي عِند الفُقَم الفردوس بِعينه، فتصِل إليها الفُحول، وهنا تنشَب المَعركة بينهم؛ كلٌّ يُريد لنفسه مَنزلًا هو قِطعة من الأرض مساحتها مائة من الأقدام المُربَّعة تُغطِّيها السماء وتحدُّها الجِهات الأربع، وكلَّما كان المكان قريبًا من الشاطئ كلَّما كانت المَعركة من أجله أشد، فينشَب بينهم عِراك قتال بأنيابهم الحادَّة وأيديهم القوية يُثخِنون بعضهم بالجراح ويَصفَعون بعضهم بالأيدي صفعًا مُوجِعًا حتى يَستقِلَّ كلُّ فحلٍ بِمسكنه، وفي هذه الأثناء تبدأ الإناث وهُنَّ حَوامِل رِحلتهُنَّ من الجنوب إلى الشمال فيَقْطَعنَ ثلاثة آلافٍ من الأميال في رحلةٍ قاسية شديدة يَشقُقْنَ طريقهنَّ في بحرٍ عاصفٍ شديد النَّوء حتى يَصِلن إلى الجُزر الصغيرة فيتلقَّاهُنَّ الفحول، وكل غايَتِهن أن تَضع كلُّ ذاتِ حمْلٍ حَمْلها، ويحدُث ذلك عادة بعد أن يَصلنَ بيومٍ أو بعض يوم، وعند وُصولهنَّ يتخاطفُهنَّ الفحول فيبدأ الصِّراع الثاني بينهم أشدَّ هولًا وأفظع منظرًا، وكلَّما كان الفَحل بالِغَ القوة والبأس كلَّما حصل على عددٍ أكبر من الإناث، وهؤلاء في شُغُلٍ عنهم فهنَّ من نصيب القوي الجبَّار فلا يُكلِّفنَ أنفسهُنَّ العناء. وقد يحوز الفَحْل على أربعين زوجةً أو أكثر لا يُلهِيه عَنهنَّ لاهٍ ولا يَشغَله شاغِل، فيَصوم عن الطعام إذ قد اكتنَز من موادِّه الغِذائية في أنسجة جسمه قدرًا كبيرًا قبل أن يصِل إلى الجزر. أما الذكور الصغيرة فلا طاقةَ لها على الصِّراع فتجتمِع في مكانٍ مُنزوٍ وتتَّخِذ منه ناديًا للعُزَّاب تمرَح وتلعَب شأنها شأن الصِّغار. فإذا وَلَدَت الإناث يبدأ دَور التلقيح فيحمِلن من جديد، غير أنَّهنَّ لا يَترُكن الأجْراء فتتولَّى كلُّ أمٍّ جَروَها تُرضِعه على اليابِسة مُتردِّدةً عليه مرَّةً كلَّ يومين تحصُل أثناء ذلك على قُوتِها. والفحل أو رَبُّ العائلة ساهِر عليها جميعها يردُّ عنها كلَّ اعتداءٍ ويَذُود عن حَوضه كأشرَف الرِّجال.

    وتُعلِّم الأمُّ جَروَها العَوم حتى يُتقِنه، كما نُعلِّم نحن الطفل المَشي على الأرض فتبدو الجُزُر كأنَّها فردوس حقيقي يَموج بمئات الألوف من هذه الثدييَّات العَجيبة لا يُعكِّر عليها صَفوَها ويقطَع مرَحها سوى الإنسان؛ إذ هو على علمٍ بمواطِنِها فتَفِد أساطيل الصيد لتقتُل منها أيَّ عددٍ تشاء، ثم تترُك الباقي إبقاءً على النَّوع من الفناء. ومما يجدُر ذِكره أن الفحول تَصوم عن الطعام منذ وُصولِها إلى الجُزر لأنها لو سَعَت إليه لا تأمَن أن تَغتَصِب مَنازِلها فُحول أخرى فتُمسِك عنه ثلاثة أشهر كاملة، أما الإناث، فقد شغَلَتْها رِحلتُها عن الطعام فلا يَقربْنَه حتى يَضعنَ حملهُنَّ، فإذا كان شهر أغسطس تولَّى الذكور الصغيرة والإناث مع أجرائها شَطْر الجنوب إلى سَواحل كاليفورنيا حيث تَقضي هناك فصل الشتاء وترجِع الفحول إلى أوطانها جنوبي جُزر الوشيان بعد أن تكون قد قَضَت ثلاثة أشهر جائعةً ساهِرة قد أدماها القِتال وعضَّها الجوع وأضناها السهر، فتعفو آثار ذلك الفردوس ويُقفِر إلَّا من صُخورٍ يَخِرُّ عليها الماء ويَصفُر من فوقِها الريح لن يعمُره إلَّا ذلك الفُقم في عامِه المُقبِل.

  • (٢)
    حصان البحر Walrus, Sea-Hourse, Morse واسمه العلمي Trichechus فُقم كبير الحَجم يصِل طوله أحد عشر قدَمًا ثَقيل الوزن (شكل ٣-٢) عريض المَنكِبين فيغلُظ جِسمه عندَهما، ثم ينساب إلى الخلف حيث ينتهي بذَنَبٍ قصير جدًّا، ويُغطِّي جِسمه شَعْر قصير بُنِّيٌّ يضرِب إلى الصُّفرة ينقلب كستنائيًّا عند البطن والزَّعانف، ويتساقط الشَّعر في الحِصان الهَرِم.

    فيبدو جِلده مُغضَّنًا كثيرَ الجِراح. ولِحِصان البحر شارِب قوي غليظ تصِل ثَخانَة الشَّعرَة الواحدة منه رِيشة الغُراب يُقال إنه يتَّقي به قوَّةَ تيَّار الماء عن فُرطوسَته ومَنخِره.

    fig14
    شكل ٣-٢: حصان البحر (عن هامرتون).

    ولِحِصان البحر نابان طويلان يُضفيان على الوجه منظرًا مُروِّعًا، وناباه أنياب حقيقية لا كأنياب الفِيل ولكن عاجَهُما أقلُّ قيمة، وهما عُضوا دِفاعه ولكنَّ وظيفتهما الأولى هي الحَفر في قاع البحر وعند الشواطئ للبحث عن أنواع المَحَّار المُختلفة والحيوانات القِشرية التي يتكوَّن منها طعامه، كما يَستعملها الحيوان في التسلُّق على الصُّخور وجِبال الجليد التي يقضي فيها كثيرًا من وَقته. وطريقة بَحثه عن طعامه طريفة فهو يَغوص إلى قاع البحر، ثم يَحرُث القاع بِنابَيْه فيَشقُّه، ثم يصعَد إلى سطح الماء لاستِنشاق الهواء، ثم يعود مُسرِعًا إلى حيث كان ليجمَع ما ظهَر من الأصداف فيُهشِّمها بأضراسه، ثم يبتلِع الأنسِجة الرَّخوة دون المِصراعَيْن.

    وحِصان البحر كالفُقم ذي الفِراء، اجتماعي يُلازِم الشواطئ أو جِبال الجليد العائمة فلا يترُكها إلى عَرض المُحيط ولكنَّه لا يُهاجِر كهِجرة الفُقم بل يتجوَّل من مكانٍ إلى آخر حيث يَتوفَّر القُوت وتضع الأنثى جَروًا أو اثنين على الأكثر في المُدَّة بين إبريل ويُونيو، وتَحنو عليهما حُنوًّا كبيرًا، كما أن حِصان البحر من أكثر الحيوانات حُبًّا لأفراد نَوعه فإذا اعتُديَ على واحدٍ منها اجتمَعَت كلها لتدْفَع عنه شرَّ أعدائه وهي الدِّبَبة القُطبيَّة، فتَخُور خُوارًا شديدًا يُسمَع من مسافةٍ بعيدة. وحِصان البحر مع ذلك حيوان مُسالِم لا يؤذي أحدًا، فإذا اعتُدِيَ عليه انقلَبَ وَحْشًا كاسِرًا.

    ويقطُن حِصان البحر المَناطق المُتجمِّدة الشمالية حيث شُوهِد فيها إلى أقصى ما بلَغَه الإنسان منها، ويتجوَّل جنوبًا حتى خليج سنت لورنس وعند إيسلندة وشواطئ سيبيريا وبحر بهرنج. وهو يُصاد من أجل لَحمِه، فهو غِذاء رئيسي عند الأسكيمو، ومن أجل عاج نابَيْه كما تُصنَع من جِلده المناطق والنِّعال والسُّيور.

  • (٣)
    الفُقم العادي Common Seal واسمه العلمي Phoca vitulina وهو كأجناس عائلته فقُم حقيقي يُلائم البيئة المائية مُلاءمةً كبيرة، فالطَّرَفان الخلفِيَّان مَطروحان إلى الخَلف ولا يُستَعمَلان في المشي، فلا يعتمِد عليهما الحَيوان على اليابِسة بل إنهما عُضوا سباحةٍ لذلك يتحرَّك الحيوان على الأرض بعضلات بدَنِه فيقفِز قفزًا، كما أن صِيوان الأذُن معدوم كليَّةً فيُخالِف في هاتين الصِّفَتين الفُقم ذا الفِراء وحِصان البحر مُخالفةً صريحة.

    ولو أن هذا الفُقم يَسبح ويَغوص بسهولةٍ ويَقتفي فريستَه في الماء إلَّا أنه يَستحمُّ على الشواطئ وقِطَع الجليد العائمة خاصَّةً في فصل التَّزاوُج حيث تلِد الأنثى على البرِّ لا في البحر، وتلِد الأنثى جَروًا واحدًا أو اثنين على الأكثر في حالاتٍ نادِرة، ويُولَد الجَرو مُغطًّى بِفِراءٍ أبيضَ ناعمٍ يتساقَط وَبَره وبعدَها يَلِج الماء فتُعلَّمه أمُّه السِّباحة وتَستغرِق في ذلك وقتًا قصيرًا يصِل إلى بضعِ ساعاتٍ في بعض الأحيان، ويتغذَّى هذا الفُقم من الأسماك والقِشريَّات ونُجوم البحر وطيور الماء. وهو واسِع الانتِشار يُلازِم الشواطئ ولا يُهاجِر إلَّا نادِرًا إلى الجنوب شتاءً وإلى الشمال صيفًا. وهو حيوان وَدِيع لا يؤذي أحدًا ويَسهُل استئناسُه وتدريبه على ضُروبٍ مُختلِفة من الأعمال، وهو يُحِبُّ من يقتنيه ويُطعِمه حُبًّا شديدًا وله ولَعٌ شديد بسَمَاع المُوسيقى فيطرَب لها ويهتزُّ على أنغامها، وحاسَّة الشَّمِّ عنده حادَّة ويصِل طوله من أربعة إلى خمسة أقدام.

  • (٤)
    الفُقم الرَّاهِب Monk-Seal واسمه العلمي Monachus albiventer ويُسمَّى أيضًا الشَّيخ اليهودي وشَيخ البحر، ويقطُن البحر الأبيض المُتوسط (شكل ٣-٣) وقد وَصَفه كثير من كُتَّاب العرَب وَصفًا على جانبٍ غير قليلٍ من الدِّقَّة. أقتَبِسُ هنا وَصفَ الدِّمشقيِّ (نقلًا عن حديث السِّندباد القديم) «وعن بحر الرُّوم: قال المُعتَنون بِتدْوين العجائب أن في بَحر الرُّوم من الحيوان العجيب سَمَكة كصُورة الرَّجُل أحمر اللون كبير الجُثَّة، رأسُه قرعة، أبيض كأنَّه رأس إنسان مَحلوق وجهه طويل وفمُه كتكوين فم القِرد، وله وَدَجان من لِحيَته إلى أصول رَقَبَته كالزِّرَّين بارِزين، وليس له رِجْلان، وله يَدان صغيرتان، وبدَنُه من نِصفه الأسفل سَمَكة بذنَبٍ مفروش، يَظهر بِوَجْه الماء نِصفُه الأعلى ويتلفِتُ برأسه يمينًا وشمالًا، وعيناه كبيرتان كعَيْني البَقَر، مُستديرتان في وجهه، ثم يَغطس على رأسه في الماء، كالمُنقلِب سفلًا من العُلو، وكثيرًا ما يُرى هذا الحَيوان بالقُرب من السواحل بأذيالٍ من الجِبال ذوات المَغائر والمداخل. ومنها مَوضع وَجه الحَجَر من طرابلس الشام.» وليس في وَصف الدِّمشقي خطأ فنِّي سوى قَوله وليس له رِجلان إذ إنهما مَوجودَتان وتكوِّنان الذنَب المفروش الذي يتحدَّث عنه. وفي ظنِّنا أن هذا الفُقم الرَّاهب والفُقم العادي وأشباهَهُما من أنواع الفُقَم التي تَعيش ببحر الخزر وبُحيرة بكال هي التي ذَكر عنها كُتَّاب العرَب وكانت موضوع الطَّريف من قِصَصهم.
    fig15
    شكل ٣-٣: الفُقم الراهب (صورة فوتوغرافية خاصة بمعهد الأحياء المائية بالإسكندرية).

    ويعيش الفُقم الرَّاهب عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط من جُزر البليار غربًا حتى ساحل طرابلس شرقًا، وقد يتوغَّل إلى المُحيط الأطلسي فيصِل إلى جُزر الكنار وماديرة.

    سِباع البحر والفُقَم إذن هي أقلُّ الثدييَّات البحرية مُلاءمةً لحياة الماء ولو أنها تعيش فيه ولا غِنى لها عنه، ولكن لا طاقة لها على البُعد عن اليابِسة تضع عليها صغارها وتُرضعها فهي تُخالف القياطس وعرائس البحر مُخالَفة ظاهرة فهذه تلِد في الماء وتُرضع القياطس فيه بينما تُرضع العرائس من فَوقه. وما دامت سِباع البحر تُرضع على اليابِسة تَحتَّم عليها أن تتحرَّك عليها فظلَّ طرَفاها الخلفِيَّان نامِيَين وانضمَّت أصابعِ كلِّ قدَمٍ بغِشاءٍ جلدي فبَدَت القدَم مُكفَّفةً تُحاكي قدَم الضِّفدَع أو البَطِّ وما شاكَلَهما من حيوان الماء، بينما في العرائس اختفى الطرفان الخلفيَّان تمامًا وفي القياطس أيضًا إلا من آثارٍ صغيرة تكشِف لنا عن انحِدارها من ثدييَّات كانت تقطُن اليابِسة؛ لذلك إذا جنحَت ودَفعَها المَوج إلى البرِّ لا تَستطيع الحرَكة ويَضغَط جِسمُها بثِقَله العظيم على صدرِها فتموت.

    وما دامت سِباع البحر والفُقَم تتردَّد على اليابِسة، لم تختَفِ آذانُها الخارجية فهي في حاجةٍ إليها وكلَّما كان الوقت الذي تَقضيه عليها طويلًا كلَّما كانت الآذان الخارِجية نامِية، فهي أطول في الفُقم ذي الفِراء منها في حِصان البحر بينما يَختفي الصِّيوان في الفُقم العادي والفُقم الراهب احتفاءً تامًّا، وهما كما عرَفْنا يَقضِيان على اليابِسة وقتًا قصيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤