البناء يتهاوى

١٨٣٧–١٨٣٩

١

في الأسابيع الأولى من عام ١٨٣٧ كان تشارلز داروين شابًّا مشغولًا يعيش في لندن. كان داروين الطموح، المتيقظ فكريًّا من فترة ما بعد المراهقة الكسولة، والمتحمس حيال الفرص، يشرع في تحديد مسار حياته. لم يكن داروين يدرك بُعد المجال المهول للفكرة التي كانت تنمو بداخله. وفي ١٢ فبراير بلغ داروين الثامنة والعشرين.

كان داروين قد عاد إلى الوطن من رحلته حول العالم فوق سفينة المسح «بيجل»، تحديدًا في أكتوبر السابق. كان سعيدًا بالعودة إلى اليابسة، وأن يسير فوق أرضيات لا تتمايل مع الأمواج. أثناء هذه الرحلة — التي كان مخططًا لها في الأساس أن تستمر لسنتين أو ثلاث فقط، لكنها امتدت لنصف عقد من الزمن — غير داروين من نفسه تغييرًا جذريًّا؛ فتحول من خريج مفتقد التركيز درس علم اللاهوت في كامبردج، وله ولع السادة بصيد الطيور وحماس جامعي الخنافس النادرة، ليصير طالبًا جادًّا لعلم الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي. وحتى والده الأرمل، د. روبرت داروين، ذلك الرجل السمين النكد، أمكنه أن يرى ما حدث لداروين من اختلاف. ذات مرة وبخه والده لأنه ليس إلا شابًّا لاهيًا فارغًا، لا يهتم إلا بصيد الطيور والإمساك بالجرذان، وأنه سيكون مصدر عار لنفسه ولكل عائلته على حد قوله. أما الآن فإن شهرة داروين كرحالة عالمي سبقته إلى الوطن، وهكذا هدأ روع الوالد. وعند أول وهلة رأى فيها د. داروين ابنه بعد الرحلة التفت إلى شقيقات تشارلز قائلًا: «عجبًا، لقد تغير شكل رأسه تمامًا!» إذا كان هذا غير حقيقي من حيث الملامح البدنية، إلا أنه مناسب تمامًا كتعبير مجازي. لقد تغير شكل تفكيره، بل سريعًا ما سيزداد تغيرًا.

بعد زيارة سريعة أجراها داروين، رفقة والده وشقيقاته، لبيت الأسرة في شروزبري (وهي بلدة متوسطة الحجم في شروبشاير)، أقام فترة وجيزة في كامبردج قريبًا من رفاقه القدامى في الجامعة، وبعدها وصل إلى المدينة الكبيرة وأجر مسكنًا في منزل بشارع جريت مارلبورو، على مسافة يمكن قطعها مشيًا من المؤسسات العلمية المهمة مثل جمعية علم الحيوان، والمتحف البريطاني. كان داروين يكره لندن، بدخانها وضبابها وصخبها الذي وصفه ديكنز، لكن كانت لديه أسبابه التي تدفعه لتحملها. كانت أيامه مليئة بمتابعة واجبات تتعلق بحصاده العلمي من رحلة السفينة «بيجل». شمل هذا الحصاد حقائق وملاحظات وأفكارًا، إلى جانب جلود الثدييات غير المدبوغة، وجلود الطيور، والزواحف والأسماك المحفوظة كيميائيًّا، والنباتات المجففة، والحفريات. كان أثناء السنوات التي قضتها السفينة في عمليات المسح بأمريكا الجنوبية قد أرسل إلى الوطن صناديق وقوارير وبراميل فيها عيناته من أمريكا الجنوبية، وجلب معه المزيد منها فوق السفينة، ومعظمها الآن أُرسل للخبراء لتحديد هويته ودراسته. عندما بدأ داروين رحلة إبحاره على متن السفينة «بيجل» لم يكن له شأن علمي يذكر، إذ كان ملمًّا بالتاريخ الطبيعي، لكن بغير صفة رسمية، ولم يكن إلا رفيقًا اجتماعيًّا للربان (كان هناك متخصص آخر في التاريخ الطبيعي له صفة رسمية أكثر من داروين، وإن كان أقل حماسًا، وما لبث أن استقال في نوبة من الغيرة)، لكن داروين أثبت نفسه كرجل ذي كفاءة عظيمة. فجمعه المثمر لعينات من مواقع غريبة وخطاباته المعبرة عن قوة ملاحظة حادة منحته بعض الصدى في الأوساط العلمية، حتى قبل وصوله إلى الوطن. نُظر إلى داروين على أنه وافد موهوب، واستُقبلت عيناته استقبالًا طيبًا. وقد وافق ريتشارد أوين، عالم تشريح متألق بالكلية الملكية للجراحين، على وصف حفريات الثدييات، أما جورج ووترهاوس، الذي يعمل أمين متحف، فقد تولى أنواع الثدييات الحية والحشرات، وتولى جون جولد، عالم الطيور المبجل، مهمة وصف الطيور، وتولى توماس بل، وهو طبيب أسنان تحول إلى أستاذ في علم الحيوان، الزواحف. أما داروين نفسه فقد بدأ في هذه الأثناء يؤلف كتابًا. كانت هذه خطوة كبيرة له، تشي بمستوى جديد من الثقة بملاحظاته وآرائه. يؤلف «كتابًا»، تصور! نعم، لأنه رأى أشياء لم يرها قط إلا قلة سواه. لقد جمع الانطباعات والبيانات بحرص. وسيكون هذا الكتاب مزيجًا من سرد أخبار الرحلة، والصور الثقافية والجيولوجيا، والتاريخ الطبيعي، وكل هذا مستمد من يوميات الرحلة.

جرى التعاقد بالفعل على نشر هذا الكتاب الذي لم يُكتب بعد مع أحد الناشرين، وهو ما رتب له ربان السفينة «بيجل»، روبرت فيتزروي، الرجل الكفء والمشاكس في الوقت نفسه، والأرستقراطي المتقلب. كانت نزعة فيتزروي إلى الكمال، وكذلك بعض الظروف المعقدة، هي ما مط زمن الرحلة من عامين إلى ما يقارب الخمسة أعوام. أراد الربان سجلًّا من أجزاء عديدة لرحلات سفينته الأخيرة، ولم يمانع في إدخال كتاب داروين في الصفقة، وكان من المقرر أن يؤلف فيتزروي نفسه كتابًا آخر، إذا أمكنه ذلك. انطلق داروين في العمل وأخذ يكتب بهمة، وقد حفزه أمله في أن يصبح مؤلفًا له عمل منشور. كانت يوميات رحلة السفينة «بيجل» هي لب مادته، لكنه أراد أن يضفي عليها تدفقًا سرديًّا، وأفكارًا قليلة، مع بعض الصقل لما يكتبه. أسرّ داروين لأحد أصدقاء كامبردج، وهو ويليام داروين فوكس (الذي يتفق أنه أيضًا ابن عم بعيد له) باكتشافه أن «الكتابة من أكثر الأعمال مشقة وصعوبة». لكن كان لديه ميزة تجعل مهمته أسهل: منحة سنوية من أبيه. لم يكن مضطرًّا للبحث عن عمل في النهار، على الأقل وقتذاك.

كان داروين مطلوبًا اجتماعيًّا، كرحالة عاد ومعه قصص تروى ويتصادف أيضًا أنه أعزب مرغوب فيه. لفترة من الوقت، كان هذا ملائمًا له تمامًا. وقتها رحب تشارلز ليل — النجم البازغ بين الجيولوجيين الإنجليز الذي غير كتابه المؤلَّف من ثلاثة أجزاء بعنوان «مبادئ الجيولوجيا» طريقة تفكير الناس في علوم الأرض — بداروين كصديق جديد في حماه. وأخذ المخترع تشارلز باباج يدعو داروين إلى حفلات فاخرة. كان شقيق داروين الأكبر، واسمه إرازموس، قد درس الطب، لكن لم تكن لديه الرغبة في ممارسة الطب (ولا الحاجة لهذا، بفضل نقود والدهما)، وكان هذا الشقيق قد استقر بالفعل باعتباره أحد مترفي المدينة. كان إرازموس يستضيف تجمعات صغيرة في مسكنه الخاص في شارع جريت مارلبورو، وجذب معه تشارلز إلى دائرة من الأفراد المتألقين تتضمن الكاتبة السياسية هارييت مارتينو والمؤرخ الاسكتلندي الفظ توماس كارليل. كان ليونارد هورنر، وهو عالم ومعلم بارز، لديه العديد من البنات غير المتزوجات، وكان داروين يزوره لتجاذب الحديث معهن، وإن لم تكن الزيارات كثيرة مثلما يود السيد هورنر. كانت سنوات داروين الخمس فوق السفينة «بيجل» سنوات موحشة، ناهيك عن تناوله الوجبات مع فيتزروي والمقصورة الضيقة التي شاركه فيها ربان وضابط صف بحري، وهكذا عمل خلال شهوره الأولى في لندن على تعويض ذلك، إذ استمتع بالانخراط في أحاديث خفيفة على موائد الطعام، وجذب الانتباه، وصحبة الإناث. انتُخب داروين، بفضل ضمان ليل له، عضوًا في «النادي الأثيني» (في المجموعة نفسها، بمناسبة الحديث عن عالم ديكنز، التي ضمت تشارلز ديكنز نفسه)، وأصبح هذا النادي ملاذه لتناول الطعام بهدوء وقراءة الصحف. حضر داروين اجتماعات جمعية علم الحيوان، والجمعية الجيولوجية، وكان أحيانًا يقدم بنفسه أوراقًا بحثية قصيرة. لم يعقه أي من ذلك عن التقدم في كتابه. كان قد علم نفسه الانضباط على متن السفينة «بيجل»، مثلما تعلم الكثير عن الجيولوجيا والبيولوجيا.

بعد أيام من استقراره في لندن تقابل داروين مع جون جولد ليتحدثا عن عينات طيوره. لفت جولد انتباهه إلى مجموعة كان داروين قد جمعها في أرخبيل جالاباجوس، على بعد ستمائة ميل من الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، أثناء توقف السفينة هناك فترة قصيرة في أواخر سبتمبر وأكتوبر من عام ١٨٣٥، وهي في طريق العودة إلى الوطن بعد دورانها حول العالم. كانت هذه الطيور كلها أميل إلى الحجم الصغير واللون البني، لكن كانت أشكالها وأحجام مناقيرها متباينة. اعتبرها داروين تشكيلة مختلفة من طيور الصعو، وعصافير الدوري، والعصافير الصافرة، وطيور الحسون، ولم يهتم بأن يضع لها بطاقات تبين أي طير أتى من أي جزيرة. بالنظر للأمر من منظور مستقبلي يتضح أن عدم وضع بطاقات تصنيف كان خطأ محبطًا. لكن داروين، كعالم ميداني للتاريخ الطبيعي ذي اهتمامات واسعة، وغير ملتزم بأي نظرية، لم يكن يعرف ما الذي يبحث عنه بالضبط. وفي يناير من عام ١٨٣٧، بعد عودة السفينة «بيجل» بأربعة شهور، استمع داروين لجولد وهو يلقي تقريرًا أوليًّا عن مجموعة طيور الصعو-الدوري-الصافرة في اجتماع لجمعية علم الحيوان. حوى التقرير مفاجأة؛ فهذه الطيور كلها، كما يقول جولد، عصافير حسون. فهناك اثنا عشر نوعًا منها، بمناقير كبيرة وصغيرة ومناقير حادة وكليلة، وهي وثيقة القرابة لكنها متمايزة، وتمثل مجموعة جديدة غير مألوفة بشكل ما. بعد ذلك، في استشارة خاصة مع داروين في مارس ذهب جولد لما هو أبعد، فهناك «ثلاثة عشر» نوعًا من الحسون، كلها مجهولة للعلم. ليس هذا فحسب، فمن بين مجموعة أخرى كان داروين قد تعرف عليها بوصفها من نوع الطائر المحاكي، وجد جولد ثلاثة أنواع متمايزة من الطير المحاكي. بخلاف طيور الحسون، كانت الطيور المحاكية قد وصلت إلى جولد ومعها بطاقات تبين جزرها الأصلية؛ كانت هذه الطيور أقل تباينًا، وأقل في الاختلاط المربك فيما بينها في البرية، فقد كان داروين أكثر تدقيقًا وهو يجمعها. قال جولد إن هناك شيئًا عجيبًا بشأن هذه الطيور المحاكية. فكل نوع، حسب بطاقات تصنيفك، يقطن جزيرة مختلفة.

كانت هذه الأخبار غريبة ومثيرة. نوع واحد لكل جزيرة، وكلها أنواع جديدة! أكد هذا لداروين شيئًا كان قد همس به لنفسه في ملاحظاته عن علم الطيور عندما كانت السفينة «بيجل» لا تزال في البحر. كتب داروين متسائلًا، أليس غريبًا أن تعيش هذه الصنوف المختلفة من الطيور، المتمايزة لكن على صلة قرابة، التي تقوم بأدوار متماثلة، على نحو منفصل فوق جزر متجاورة تجاورًا وثيقًا؟ ربما كانت مجرد متغايرات ذات أصل مشترك، على عكس كل المعرفة التي تلقيناها عن أصل أشكال الحياة كلها. لعل الأمر أنها ليست «مخلوقة» بالمعنى اللاهوتي؛ أي بفعل رباني فيه خلق خاص لكل منها. ربما تصادف وجودها … لا أكثر. قال داروين لنفسه، وليس لأي فرد آخر: «إذا كان هناك أقل أساس لهذه الملاحظات، فسيكون من الجدير تمامًا أن ندرس علم الحيوان في الأرخبيلات؛ لأن مثل هذه الحقائق من شأنها أن تقوض استقرار الأنواع.»

كان داروين مصيبًا في هذا بأكثر مما عرف، فالأنواع لم تكن مستقرة، وحَوَت الجزر بعضًا من أفضل الأدلة على ذلك.

أتت إلى داروين شذرات أخرى من البيانات الباعثة على عدم الراحة، في الوقت نفسه تقريبًا، من تقارير عن عيناته الأخرى. من بين حفريات داروين التي أخذها من البر الرئيسي لأمريكا الجنوبية تعرف ريتشارد أوين على كسلان أرضي عملاق منقرض، ومدرع عملاق منقرض، وحيوان آخر رأى أنه خنزير ماء عملاق منقرض. بدا من قبيل المصادفة المستغربة — لداروين، إن لم يكن لأوين — أن يعثر على هذه الأنواع المنقرضة في المناطق الجغرافية نفسها التي تسكنها النسخ الحية من الكسلان، وخنزير الماء، والمدرع. في الاجتماع التالي لجمعية علم الحيوان في ١٤ مارس، أعلن جون جولد أن السيد داروين اكتشف نوعًا جديدًا من الطيور التي لا تطير، طائر «ريّة» أميل إلى الحجم الصغير — سماه جولد «الريَّة الداروينية» — وذلك في جنوبي بتاجونيا، بالقرب تمامًا من نطاق توزيع طيور الريّة الأكبر المعروفة من قبل. في الوقت نفسه كان توماس بل يعثر على اختلافات في زواحف الإجوانا بين كل جزيرة وأخرى من جزر جالاباجوس. والآن تذكر داروين شيئًا أخبره به نائب حاكم هذه الجزر حول تلك الزواحف الضخمة وهو أنه يمكن تمييزها أيضًا من جزيرة لأخرى عن طريق أشكال صدفتها. ضم داروين هذه الحقائق معًا وسأل نفسه «لماذا؟» لماذا يُعثر على الأشكال التي يشبه الواحد منها الآخر شبهًا وثيقًا، سواء كانت حية أو منقرضة، مجتمعة جنبًا إلى جنب؟

ليس ممكنًا أن نقول متى بالضبط أصبح تشارلز داروين تطوريًّا. فهو لم يقل «وجدتها!» في خطاب، أو ورقة بحثية في إحدى الدوريات أو في حديث محموم لإحدى الجمعيات. فعند هذه النقطة كان حذرًا، وقلقًا، وصامتًا. ولديه سبب قوي لذلك. فقد كانت إنجلترا في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر مكانًا مضطربًا؛ إذ كان الاقتصاد في حالة ركود سيئة، وسُن قانون جديد للفقر يستعيض عن المؤسسات الخيرية عتيقة الطراز ببيوت كئيبة للبر، إلى جانب الحركة «الميثاقية» (المسماة على اسم «ميثاق الشعب»، وهو برنامج لتمكين الطبقة العاملة) التي كانت تحشد الاحتجاجات الجماهيرية للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية. كان علماء الحيوان الفرنسيون، مثل جان باتيست لامارك وإتيين جيفري سان إيلير، قد طرحوا أفكارًا تطورية مبكرة عن التغير التدريجي بين الأنواع، وقد تشرب الراديكاليون الإنجليز والاسكتلنديون هذه الأفكار في حججهم المؤيدة للتغيير الاجتماعي التدريجي، مما سبب قلقًا عصبيًّا عند أعضاء حزب الأحرار الإصلاحي الذي يسيطر على البرلمان، وكذلك عند أساقفة الأنجليكان الذين يديرون الكنيسة القومية، بكل ثرواتها وغيرها من المصالح المخولة لها. ولم يكن من الممكن تجاهل قلق هؤلاء باستخفاف. فالمسيحية كما يفسرها زعماء الأنجليكان ليست العقيدة السائدة في إنجلترا وحسب، بل هي العقيدة «الرسمية». لم تحدث في البلاد أي ثورة منذ عام ١٦٨٨، وكانت الميثاقية بالإضافة إلى الركود الاقتصادي يوحيان بحدوث ثورة أخرى وشيكة. وهكذا، عندما خطا داروين أولى خطواته عبر الخط الفاصل بين العرف والتطور، وجد نفسه قريبًا من خطوط معارك حرب الطبقات وحرب العقيدة. تحرك داروين بحذر، ولم يعلن عن ردته، لكن لا يزال من الممكن تحديد الوقت التقريبي لهذا التحول الفكري: مارس من عام ١٨٣٧، بعد أحاديثه مع جولد وأوين بوقت قصير. لقد تغيرت الأنواع، من نوع لآخر. إنه يعرف ذلك. لكنه فقط لا يعرف كيف يتم.

بعد ذلك بشهور أبدى داروين ملاحظة أخرى، تتعلق بالخصائص الغريبة لحفرياته من أمريكا الجنوبية وكذلك أنواع جالاباجوس التي رآها فقال: «هذه الحقائق (خاصة الأخيرة) هي أصل كل آرائي.» لكنه ظل محتفظًا بهذه الآراء لنفسه.

٢

لم يستخدم داروين كلمة «التطور» إلا لاحقًا، بعد عقود. وفي يوليو من ذلك العام بدأ ما سماه دفاتر ملاحظاته عن «تحول» الأنواع. كان أول هذه الدفاتر في حجم كتيب للجيب مجلد بجلد بني وله مشبك معدني، دفتر صغير يصلح لأن يُحمل في السترة، ومن الخصوصية بما يكفي لأن يحوي أفكارًا جامحة وشكوكًا مخالفة للسائد.

على الغلاف كتب العنوان «ب» فقط. كان قد بدأ دفتر الملاحظات «أ» في الوقت نفسه تقريبًا، وخصصه للجيولوجيا. كتب كعنوان للصفحة الأولى من الدفتر «ب» كلمة Zoonomia، أو «فسيولوجيا الحيوان» نوعًا من الإجلال لكتاب بهذا العنوان نشره منذ أربعين عامًا جده إرازموس داروين. اشتهر إرازموس الأول هذا كطبيب وشاعر شعبي، وكان رجلًا نابضًا بالحيوية ذا شهية عظيمة — فكان شهوانيًّا مصابًا بالنقرس وآراؤه غير تقليدية — وهو والد لمجموعة من الأطفال الشرعيين وغير الشرعيين، ويكتب نظمًا مثيرًا للشهوة عن النباتات. وُرث اسم إرازموس لأحد أعمام تشارلز ثم لشقيقه، في حين نال تشارلز نفسه إرثًا مختلفًا: الميل إلى التأمل العلمي. كتاب «فسيولوجيا الحيوان» هو أساسًا بحث طبي، يتضمن قسمًا أورد فيه إرازموس الكبير أفكارًا تطورية شاردة تخصه؛ إذ اقترح أن «الحيوانات حارة الدماء نشأت كلها عن خيط حي واحد»، وأن خط السلالة المشتركة يملك القدرة «على مواصلة التحسن بواسطة نشاطه الخاص المتأصل فيه». وهذه التحسينات قابلة لأن تُنقل من الوالدين للذرية. لم يحدث قط أن مضى إرازموس داروين في دراسة هذه الفكرة، ولا عمل على توضيحها أو دعمها بالأدلة، لكنه الآن قدم خدمة لحفيده باعتباره رائدًا للعائلة في التفكير التحولي، وأيضًا باعتبار فكره نقطة للانطلاق. أما نسخة تشارلز عن التحول «فسوف» تكون واضحة، ومقنعة ومدعومة في النهاية بالأدلة، وإلا لما سمح لها بأن تُطبع.
كتب داروين مدخلات دفتر ملاحظاته بأسلوب مختصر دون اهتمام كبير بعلامات الترقيم أو قواعد النحو. كان هناك مدخلات مقحمة ومحذوفات واختصارات وهجاء سيئ للكلمات؛ فكان يجد صعوبة في كتابة كلمة «وراثي» فيكتبها heredetary، وكلمة صقلية فيكتبها Scicily (أو لعلها Siicily؟)، وهي جزيرة أقل تفردًا عن جالاباجوس من منظور علم الحيوان، وإن كانت أصعب في هجائها. كان يمارس العصف الذهني. فكانت الكلمات المكتوبة مجرد تسجيل لذاكرته الخاصة. كان يبدأ بأسئلة كبيرة على غرار «لماذا الحياة قصيرة؟» وسيرًا على خطى الجد إرازموس تساءل: لماذا الجنس مهم؟ ومن هذه النقطة ذهب مباشرة إلى تبصر حاسم، وهو أن وعاء المزج في التكاثر الجنسي يتيح بطريقة ما تغاير الكائنات الحية. فالمواليد يختلفون عن الآباء، والأشقاء يختلف كل منهم عن الآخر، إلا إذا كانوا توائم متماثلة. فتتغير أنماط الجسد تغيرًا بسيطًا من جيل لآخر، وكذلك أيضًا مظاهر الفكر والغريزة. إحدى النتائج هي: «التكيف». لكن ما هي النتيجة النهائية؟ ضع زوجًا واحدًا من القطط أو الكلاب فوق إحدى الجزر، كما يقترح داروين، ودعه يتناسل هناك، ويتزايد ببطء في العدد رغم ضغط الأعداء، عندها «من الذي يجرؤ على التنبؤ بالنتيجة؟» تجرأ داروين على الإجابة، لكن لنفسه فقط، فقال: «حسب هذا الرأي، فإن الحيوانات الموجودة فوق جزر منفصلة ينبغي أن تصير مختلفة إذا احتُفظ بها هناك لفترة كافية.» ثمة «شيء ما» بشأن الجزر. لقد ساعدت بساطتها وانعزالها وغرابة حيواناتها، مثل المقدمات المنطقية لتجربة فكرية، في صفاء تفكيره.

لنأخذ، كمثال، ما في جالاباجوس من زواحف وطيور محاكية، أو حتى الثعالب الصغيرة التي رآها داروين في جزر فولكلاند. كتب داروين: «كل نوع يتغير.» هذا وحده إقرار جريء، يتناقض بوضوح مع المعتقدات المتفق عليها، سواء في العلم أو الدين. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأنواع المتغيرة تميل إلى الافتراق باستمرار بعضها عن بعض، منتجة، ما سماه داروين مجازفًا، الثغرات بين الأجناس وفئات أوسع للتصنيف، كالعائلة والرتبة والطائفة؛ إنه تنوع الحياة. رسم داروين في إحدى صفحات دفتر الملاحظات شكلًا توضيحيًّا تقريبيًّا لخط سلالة، مثل جذع شجرة ينقسم إلى فروع. ووضع عند نهاية كل فرع حرفًا يمثل أحد الأنواع. فهناك الطيور والثدييات، والفقاريات والحشرات، وحتى الحيوانات والنباتات؛ كلها أفرع من جذع واحد أصلي. كان عقله ينطلق محلقًا. ثم كتب: «السماء وحدها تعرف هل يتفق هذا مع الطبيعة: الحذر، الحذر.» إياك والتسرع يا تشارلز. كن حذرًا.

اللافت للنظر في دفتر الملاحظات «ب»، إلى جانب ما يمثله من دليل خاص عن قفزته إلى التفكير التطوري، هو مدى اتساع الحقائق، والأفكار، والمصادر، والموضوعات التي أخذ داروين بالفعل يعمل عليها معًا، والتي سيظل بعضها باقيًا كأعمدة لبحثه وحججه طيلة عقود تالية من السنين. فهم داروين تمامًا فكرة التكيف، ورأى أن التغاير بين الذرية يجعل التكيف ممكنًا. استوعب داروين أهمية الجغرافيا البيولوجية (أي الأنماط الجغرافية لتوزيع الأنواع) وأهمية التصنيف (كيف أن الأشياء الحية يمكن فرزها في جماعات) وذلك كأدلة على وقوع التحول وتباعد الأنواع. جذب داروين الانتباه للبنى الضامرة؛ تلك الأعضاء والأطراف التي تبدو أصغر وأكثر بدائية من أن تكون مفيدة، وكأنها لم تتشكل كاملة، أو أصابها العطب لاحقًا. بقايا الأعضاء هذه موجودة حتى لدى البشر. لماذا يملك الرجال حلمات أثداء؟ يريد داروين ذلك الباحث القلق أن يعرف السبب. لماذا يملك بعض أنواع الخنافس، خاصة في الجزر العاصفة، أجنحة مثبتة جيدًا لا فائدة لها تحت جنيحات غمدية مدمجة (تلك الأغطية الصدفية للأجنحة) لا يمكن لها أبدًا أن تنفتح؟ لماذا يُخلق شيء لا لزوم له كهذا؟

الخنافس التي لا تطير فيها ما يكفي من الإلغاز، ولكن داروين كان يتعجب أيضًا من الطيور التي لا تطير، بما لديها من أجنحة ضئيلة ناتئة، كالنعام والبطريق والريّة، التي رآها في باتاجونيا، وطيور الأبتركس (الكيوي) في نيوزيلندا. كتب داروين: «الكيوي مثال جيد على البقايا العظمية.» لم يكن داروين قد جمع أحد طيور الكيوي أثناء توقف السفينة «بيجل» عند نيوزيلندا، بل حتى لم يلمح واحدًا منها، ولم يسمها بالكيوي حسب اسمها بلغة شعب الماوُوري المحلي. لكنه عرف من قراءاته ما يكفي لذكر هذه الطيور كجزء صغير من اللغز العظيم، الذي سيعثر عليه لاحقًا.

٣

لعامين ظل داروين يعيش حياة غريبة مزدوجة، كجاسوس في دهاليز المؤسسة العلمية البريطانية، التي كانت وقتذاك تتناغم تناغمًا وثيقًا مع الفكر الأنجليكاني التقليدي وتحتل مكانة راسخة في تراث التاريخ الطبيعي اللاهوتي.

لم تكن البيولوجيا قد بزغت بعد كمهنة علمانية. كانت دراسة الطبيعة طريقًا إلى التقوى. كان الكثيرون من المتخصصين البارزين في التاريخ الطبيعي رجال دين يلقون المواعظ يوم الأحد ويعملون لبقية الأسبوع في مراقبة الطيور أو صيد الحشرات، مثل جلبرت وايت الذي ألف كتابًا صغيرًا عذبًا عن اكتساب المعرفة بالملاحظة، عنوانه «التاريخ الطبيعي لسلبورن»، نشر لأول مرة في عام ١٧٨٩. وكان ابن حداد اسمه جون راي، تعلم في أكسفورد (وكانت وقتها جامعة أنجليكانية مثل كامبردج)، قد تحدث عن الفكرة نفسها في عام ١٦٩١ في كتابه «حكمة الرب كما تظهر في أعمال الخلق». ثم أعاد ويليام بالي التأكيد على الفكرة عينها في عام ١٨٠٢ في كتابه «التاريخ الطبيعي اللاهوتي»، وعنوانه الفرعي «الأدلة على وجود الذات الإلهية وصفاتها، مأخوذة من مظاهر الطبيعة»، وهو كتاب قرأه داروين من باب التسلية أثناء دراسته في كامبردج. تسبب بالي في شيوع تشبيه صانع الساعات الإلهي حين قال: عندما نجد ساعة قابعة فوق الأرض نستنتج أن حِرَفيًّا ذكيًّا قد صنعها؛ عندما نجد حيوانات ونباتات صممت تصميمًا معقدًا وتتكيف على نحو رائع، ينبغي بالمثل أن نستنتج أن خالقًا قديرًا حكيمًا قد صنعها. نُشرت سلسلة من الكتب في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بعنوان «رسائل بريدجووتر»، تحوي ثماني مقولات أخرى لباحثين لهم احترامهم الكبير، تطرح الحجة نفسها حول حكمة الرب وقدرته ودوره المباشر في خلق العالم الطبيعي جزءًا بعد جزء. ويليام هيويل أحد مؤلفي هذه الرسائل، وهو باحث موسوعي وفيلسوف علمي يذيع نفوذه في أوساط كثيرة، وهو الذي ابتدع كلمة عالم Scientist في الإنجليزية. تناولت رسالة هيويل علمي الفلك والطبيعة «بالإشارة إلى التاريخ الطبيعي اللاهوتي».

يقبع خلف التاريخ الطبيعي اللاهوتي عند بالي أشكال أعمق وأقدم حتى من الإيمان التقليدي، مثل نظرية الجوهر، وهي الفكرة القائلة إن الحقيقة يدعمها من أسفل عدد محدد من «الأصناف الطبيعية»، وهي الأنماط الجوهرية أو النماذج الأولية للكيانات التي تُرى في العالم. يعود أصل هذه النظرية إلى أفلاطون. على نهج أفلاطون، رأى أتباع نظرية الجوهر أن هذه الصنوف الطبيعية متفردة ولا تقبل التغير، وأن الأجسام المادية هي مجرد تجسيدات غير دقيقة لها. مثال على ذلك، كان يعتقد أن الأشكال الهندسية صنوف طبيعية؛ فالمثلثات لها دائمًا ثلاثة أضلاع، قد تتنوع في خصائصها الثانوية (متساوية الأضلاع، متساوية الساقين، مختلفة الأضلاع) لكنها تتميز للأبد عن المستطيلات أو المثمنات. العناصر الكيميائية اللاعضوية مثال آخر؛ فالحديد هو الحديد دائمًا، والرصاص هو الرصاص دائمًا، إلا إذا وجد أحد الخيميائيين طريقة سحرية لتحويله إلى ذهب. أنواع الحيوان والنبات تُعد أيضًا أصنافًا طبيعية، تتمايز تميزًا صارمًا ولا تقبل التغير، مع أن أفراد الكلاب أو الدجاج قد تتباين «داخل» صنوفها محددة الأطر. حسب هذا الرأي يكون الشكل الأساسي لأحد الأنواع أكثر جوهرية واستمرارية عن الأفراد الذين يجسدونه في وقت معين. هذا هو ما كان يعنيه ويليام هيويل عندما كتب في عام ١٨٣٧ مؤكدًا أن: «الأنواع لها وجود حقيقي في الطبيعة، ولا يوجد تحول من نوع لآخر.» والإيمان بغير ذلك معناه نبذ فرض يتداخل نسيجه مع التعاليم الكنسية وأفكار النظام المدني.

كانت اهتمامات هيويل وكتاباته تدور عن الجيولوجيا، والتعدين، والاقتصاد السياسي، والفلسفة الأخلاقية، والأدب الألماني، وعلمي الفلك والبيولوجيا أيضًا، وقد غدا هيويل واحدًا من كبار مفكري زمانه. يأتي تعليقه على الأنواع من مؤلفه «تاريخ العلوم الاستقرائية» الذي أنتجه في جيل ثقافي لاحق، وفي ظل وجود روح علمية أكثر صرامة عما في مؤلَّف بالي «التاريخ الطبيعي اللاهوتي». هناك علماء وفلاسفة بريطانيون آخرون معاصرون لهيويل، مثل جون هيرشل وجون ستيوارت ميل، كانوا مؤمنين بالمثل بهذا الاعتقاد الباقي عن الأصناف الطبيعية، وظل هذا الاعتقاد دفينًا أسفل خلافاتهم حول المنهج والمنطق العلميين. وفي فرنسا طرح جورج كوفيير، العالم البارز في التشريح المقارن، نظامًا لتصنيف الحيوان — قسم فيه كل نوع إلى أربعة «تفرعات» كبرى أو مجموعات — اعتمد أيضًا على افتراضات نظرية الجوهر. بالنسبة لكوفيير كان العثور على النظام في عالم الحيوان يعني قراءة الأدلة الموجودة في كل نوع بحثًا عن المطابقة مع الجوهر الذي يقوم عليه، لا الإشارات التي تقترح التغير والتباعد عبر الزمن. تتبع ديفيد هَل، أحد فلاسفة العلم في عصرنا، هذا المسار لنظرية الجوهر في التفكير البيولوجي في أوائل القرن التاسع عشر. ويستنتج هَل أنه: «نادرًا ما حدث في تاريخ الأفكار أن اختلفت نظرية علمية مثل هذا الاختلاف الواسع مع أحد المبادئ الغيبية كاختلاف نظرية التطور مع مبدأ عدم قابلية الأنواع للتغير.»

قرأ داروين لهيرشل، كما قرأ لبالي عندما كان في كامبردج. كان هيويل أستاذًا للتعدين هناك. كانت نظريتا الجوهر واللاهوت الطبيعي تملآن عالم داروين مثلما يملؤه دخان الفحم ورائحة روث الخيل. من الحقيقي أنهما لم تكونا وجهتي النظر المعاصرتين الوحيدتين عن العالم الطبيعي. كانت كليات الطب الخاصة في لندن وإدنبره مأوى لأفكار أكثر جموحًا خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بما في ذلك بعض النسخ المبتسرة من مذهب التقدمية التطورية. لكن هذه المؤسسات — التي كانت توظف بعض متخصصي التشريح المحترفين الذين يعلّمون الطلبة بواسطة تشريح الأجساد البشرية، والذين يعيشون على مرتباتهم وليس على ثروات موروثة، والذين يميلون تجاه السياسات الأصولية — كانت غريبة على داروين، بالرغم من تقليد ممارسة الطب السائد في عائلته. لقد حاول هو نفسه دراسة الطب في إدنبره وهو في السادسة عشرة، سائرًا على نهج أخيه (وتحت رعاية أبيه)، لكنه كره هذه الدراسة. فبعد أن أمضى عامين سئم من المحاضرات وروَّعته العمليات الجراحية الدموية التي تجرى بدون مخدر. وهكذا انطلق لكامبردج ليتلقى تعليمًا أقل إثارة، لكن أقل ترويعًا أيضًا. وأثناء دراسته في كامبردج، في كلية كرايست، انجرف تجاه الرسامة الكهنوتية، ليس كنتيجة لنداء داخلي (لم يكن داروين ورعًا) ولا نتيجة التزام كنسي (فقد كانت عائلة أمه من الموحدين، كما أنه ينحدر من الجهة الأخرى من آل داروين ذوي التفكير الحر مثل والده وجده إرازموس الكبير). لكنه فعل هذا من منطلق اختيار أخف الطرق ضررًا، لأنه كان يتيح له أن يعثر على موقع محترم ﮐ «عالم طبيعة كاهن» حسب نموذج جلبرت وايت، إلا أن رحلة السفينة «بيجل» قاطعت هذه الخطط؛ فقد حملته السفينة بعيدًا عن كلية كرايست، لكنها في النهاية عادت به إلى نفس السياق الاجتماعي الذي خلفه وراءه حيث يوجد الكثير من العلميين من معلميه وأصدقائه ومعارفه — أمثال جون هنسلو وآدم سيدجويك في كامبردج، وليونارد جنينز، وعالم الحشرات فريدريك هوب، وويليام هيويل نفسه — وكلهم رجال دين أنجليكان. بل حتى تشارلز ليل مثله العلمي الأعلى، كان قد صبغ كتابه «مبادئ الجيولوجيا» بوجهة نظر تقليدية للخلق البيولوجي. خلال عامي ١٨٣٧ و١٨٣٨ أخذ داروين يسلح نفسه حتى يصدمهم ويروعهم جميعًا. كانت وجهة نظره عن الأنواع المتحولة تتعارض على نحو مباشر مع مذهب الجوهر ومع كل التفكير اللاهوتي التقي ذي النكهة العلمية الذي ركن إليه. أخذ داروين يصب تأملاته السوداوية في دفاتر ملاحظات التحول ويتصرف أمام الناس كعالم تاريخ طبيعي بازغ شاب مرحب به اجتماعيًّا.

أخذ داروين يقلل من نشاطه الاجتماعي، معتذرًا بأنه مشغول للغاية، ثم أضاف إلى أعماله اليومية وإلى منزلته بأن وافق على القيام بدور سكرتير الجمعية الجيولوجية، تحت رئاسة هيويل. أنهى داروين مسودة يوميات السفينة «بيجل» (لكن لم يكن بالإمكان نشرها قبل أن يكون كتاب فيتزروي جاهزًا)، واستطاع بلباقته أن يؤمن لنفسه مغامرة نشر كبيرة أخرى: كتابًا مختصرًا رغم سخاء مادته يسمى «علم الحيوان في رحلة «بيجل»، سفينة أسطول صاحبة الجلالة». سيكون هو محرر هذا الكتاب متعدد الأجزاء عن «علم الحيوان»، فيجمع الإسهامات من مستشاريه الخبراء، ويكتب المقدمات والتعليقات، ويزوده بالصور الإيضاحية باهظة التكلفة، وكل هذا سيمول بمنحة من وزارة مالية صاحبة الجلالة. أصبح داروين الآن منغرسًا داخل النسيج المتماسك للحكومة والكنيسة وعلم السادة المهذبين. لكن في دخيلته واصل التحدث إلى نفسه في دفاتر ملاحظاته التي تحرض على العصيان.

عندما ملأ داروين دفتر الملاحظات «ب» بدأ دفترًا جديدًا، ذا غلاف جلدي أحمر داكن وعنونه بالدفتر «ج»، وما لبث أن تلاه الدفتر «د» ثم «ﻫ»، وقد خصصها جميعًا للتحول. قرأ داروين بتوسع في أدبيات الاستكشاف والتاريخ الطبيعي، إضافة إلى مجموعة متنوعة منتقاة من كتب عن تربية الحيوان والنبات، والتاريخ، وفلسفة العلم، وبدأ يوجه أسئلة مبهمة لأي شخص يعرف أي شيء عن المواضيع الغريبة المستهدفة التي تثير اهتمامه. استخلص المعلومات من أبيه، كمصدر عاصف للمعرفة المكتسبة عن الخصائص العقلية البشرية، وكذلك البستاني الذي يعمل عند أبيه. ووجه أسئلة لمربي الماشية عن التغاير والتوارث بين الأنواع المدجنة. كانت هناك أمور مجهولة كثيرة يجب النظر فيها: كيف تعمل الوراثة؟ ما الفارق بين الأنواع والتغايرات؟ ما الذي يمكن استنتاجه من أنماط توزيع الأنواع في أرجاء العالم؟ لاحظ داروين أن كل جزر الأقيانوس لديها عظاءة سقنقور بخطوط ذهبية. والخنازير البرية في فوكلاند ينمو لها شعر خشن بلون الطوب الأحمر. وكتب أن طير الرفراف في مولوكاس لا يكاد يختلف عن الرفراف الأوروبي، إلا في منقاره الأطول والأكثر حدة. هل هما نوعان منفصلان من الرفراف، أم أنهما تغايران للنوع نفسه؟ وهناك طير الشبنم في غينيا الجديدة، والتنريق في مدغشقر، والوزغة في سانت هيلينا. لا توجد ثعابين في جزر المحيط الهادي الأوسط، كما كتب داروين. أدخلت الأرانب السوداء جزر فوكلاند في ١٧٦٤، وقد أنجبت ذرية تغاير لونها عبر العقود. إشارات وإشارات وإشارات. ما الذي تعنيه، وكيف تتوافق بعضها مع بعض؟ وقواق جاوة مقابل وقواق سومطرة والفلبين، أهي أنواع أم تغايرات؟ كان داروين يريد كل قطعة ممكنة من البيانات المتعلقة بالموضوع، أيًّا كان المصدر. ذهب إلى حديقة الحيوان في منتزه ريجنت بارك ليرى قرود الأورانجوتان التي حصلت عليها حديثًا. أصبح يجمع في نهم حقائق تبدو وكأنها غير مترابطة. كان يجهد مخه ليربط بينها. كان هذا برنامجًا مكثفًا من البحث والتفكير، وكل هذا في ساعات يختلسها من التزاماته العامة.

قال: «لا بد أن التغيرات في الأنواع بطيئة جدًّا»، فلن تقارب في سرعتها ما يحدث عندما يختار المربون بالتدجين الحيوانات التي يريدون استيلادها. لكن سواء أكانت هذه التغيرات بطيئة أو غير بطيئة كانت هناك مشكلة يجب التعامل معها: فإذا واصلت الحيوانات التوالد فيما بينها بحرية، ألن تنمحي الاختلافات التكيفية تمامًا؟ وإذا حدث هذا، فإن «كل التغير الذي تراكم لا يمكن تمريره». ربما يمنع الانفصال ذلك بطريقة ما. لعل العقم بين الأشكال المختلفة، مثل عقم الحيوانات الهجينة بالاستيلاد، يسمح للتغير المتراكم بأن يظل باقيًا. بحلول ذلك الوقت أصبح يضع في دفتر ملاحظاته بعض تعليقات فيها زهو بالنفس تدور حول «نظريتي»، وإن كان الأمر سابقًا للأوان. فنظريته لم تكن قد تكاملت بعد. كان يتلمس الطريق ليرى مدى ما تصل إليه الظاهرة، ناهيك عن العثور على آلية لتفسيرها. وأخذ ينصح نفسه: «عليك أن تدرس الحروب بين الكائنات الحية.» فلتتصور أن الإنسان لم يوجد، وأن القرود وهي تتكاثر وتتحسن أنتجت في النهاية كائنًا ذكيًّا بديلًا ما، كائنًا يشبه الإنسان لكنه ليس بإنسان، كائنًا انحدر عن حيوان شجري بأربع أيدٍ. هذا أمر يصعب استيعابه، بكل تأكيد، لكنه لن يكون أصعب كثيرًا من فكرة ليل عن العمليات البطيئة المتراكمة المسئولة عن كل التأثيرات الكبيرة في الجيولوجيا. حدث داروين نفسه قائلًا، فلتتذكر الأبتركس. لو كانت نيوزيلندا انقسمت إلى جزر كثيرة، هل كنا سنجد الآن أنواعًا كثيرة من الأبتركس؟

في ربيع ١٨٣٨، وبعد امتلاء خمس وسبعين صفحة في دفتر الملاحظات «ج» تضخمت ثقة داروين بنفسه. وقد أقر أن تلمُّس الإجابة عن هذه الأسئلة كان «أقصى الجهود مشقة وإيلامًا للعقل»، وأن مصاعبها لا يمكن حلها أبدًا دون تأمل طويل أو بواسطة أحد الأشخاص ممن يتحيزون ضد الفكرة كلها. لكنك بمجرد أن تسلم بأن «الأنواع قد يتحول أحدها إلى آخر»، فإن «البنيان كله يترنح ويتهاوى». ويقول داروين موجِّهًا نفسه، انظر للعالم من حولك. هيا ادرس تدرج الأشكال الوسيطة. ادرس التوزيع الجغرافي. ادرس سجل الحفريات، والتداخل الجغرافي بين الكائنات المنقرضة ومثيلاتها من الأنواع الحية. ثم قال متحمسًا، تدبر كل هذه الأدلة، وعندها فإن «البنيان يتهاوى»!

كان البنيان هو التاريخ الطبيعي اللاهوتي. فقد «تهاوى» بالنسبة لداروين. ووراء تلك الستارة السميكة المعلقة رأى داروين حقيقة التطور. لم يكن الأمر مجرد طيور محاكية، وأرانب، وعظاءة سقنقور، بل العالم الطبيعي بأسره. كتب داروين، وهو يجرب الأفكار حول أعظم نقاطه خطرًا: «ولكن الإنسان — الإنسان الرائع — استثناء لذلك.» ثم لم يلبث أن أضاف مرة أخرى أنه من الواضح أن الإنسان حيوان ثديي. إنه ليس بإله. إن لديه بعض الغرائز والمشاعر المماثلة لما عند الحيوان. وبعد ثلاثة سطور من أول عبارات داروين عن الإنسان نفاها، واستنتج جازمًا أن لا، «الإنسان ليس استثناءً.» بعدها لم يتراجع تشارلز داروين أبدًا عن هذه الفكرة الثاقبة الرهيبة، رغم الضغوط والتبعات.

٤

هل أمرض ذلك داروين؟ هذا ممكن. تزامنت أبحاث داروين على دفاتر ملاحظات التحول مع شكاواه المبكرة حول ما غدا اعتلالًا صحيًّا مزمنًا. كانت الأعراض غامضة — اضطراب بدقات القلب، غثيان، قيء، نوبات صداع، هياج عصبي، انتفاخ جامح للبطن بالغازات — أعراض غامضة ولكنها كافية لأن تجعله بائسًا وأن تبطئ من عمله. هل كان ممن يتوهمون المرض؟ أو كان مصابًا بالتهاب الأعصاب؟ هل أصابته لدغة حشرة ما ونَقلت له مرضًا مؤذيًا أثناء توقف السفينة «بيجل» في الأرجنتين؟ ذُكرت تخمينات كثيرة، لكن حتى اليوم لا يعرف أحد سبب مرضه.

قبل الرحلة مباشرة عانى داروين من بعض التعب في القلب، ربما كان ذلك انعكاسًا لحالة الانتظار العصبي التي كان فيها. بدا داروين فيما عدا ذلك شابًّا سليم الصحة. وظل قويًّا نشطًا أغلب تلك السنوات الخمس. نعم، كان يعاني دوار البحر، وأحيانًا نوبة سوء هضم أو حمى، وهذا أمر ليس بمستغرب من شخص غريب عن المناطق الحارة، لكنه أثناء الرسو على الشاطئ في أمريكا الجنوبية تمكن من القيام برحلات طويلة خطرة، سيرًا على الأقدام وركوبًا. كان بعد عودته قد زاد وزنه ستة عشر رطلًا، وهذه علامة طيبة على أن الطعام في «النادي الأثيني» كان يروق له. وما لبث أن كتب في سبتمبر من عام ١٨٣٧ خطابًا لجون هنسلو المشرف القديم عليه في كامبردج يقول له: «لم أكن في صحة جيدة جدًّا مؤخرًا وعندي خفقان متعب في القلب.» وأضاف داروين أن أطباءه نصحوه بأن يكف عن العمل وأن يقضي إجازة في الريف، وأنه سينفذ نصيحتهم. «أشعر بأني يجب أن أنال قليلًا من الراحة، وإلا فسأنهار.» وبعد أن أمضى أسابيع قليلة في البيت في شروزبري مع والده وشقيقاته، كتب ثانية لهنسلو قائلًا: «أي شيء يثير انفعالي لا يلبث بعدها أن يرهقني تمامًا ويسبب خفقانًا سيئًا بالقلب.» كانت التجمعات الاجتماعية تستثير انفعاله، والحوارات الحامية تستثير انفعاله، كما كان الخلاف، أو مجرد التفكير فيه، يثير انفعاله إلى درجة كبيرة. بعد ذلك بثمانية شهور كرر لصديقه القديم دبليو دي فوكس نفس العبارة غير الواضحة: «لم أكن في صحة جيدة جدًّا مؤخرًا …» كان لديه الكثير ليفعله، وأيضًا الكثير ليتعلمه ويتدبره. لم يملك ترف الوقوع فريسة للمرض. إلا أن عبء العمل اليومي المتعلق بالسفينة «بيجل»، وإحساسه بالمهمة الرهيبة المتعلقة بالتحول لم يفيدا معدته. وما زاد الأمور تعقيدًا هو تفكيره في الزواج (وربما تصور أن هذا سوف يبسط الأمور).

لم يكن يفكر في الزواج من فتاة بعينها، وإنما فكر فحسب في «الزواج» كوضع اجتماعي، كمنزلة، كخطوة في تقدم الإنسان. هل ينبغي أن يقدم عليه؟ لا يبدو أن بنات ليونارد هورنر جذبن انتباهه، ربما كن أكثر نشاطًا وحيوية مما ينبغي. لم يذكر أي مرشحة يفضلها، إلا أن مسألة الزواج سيطرت أكثر على عقله، وسبب هذا يتعلق في جزء منه بمسألة أخرى بدت ملحة هي الأخرى: النقود. كيف سيتمكن على المدى الطويل من أن يسدد فواتيره؟ إن عليه أن يأكل، وأن يشتري الكتب. وكان يرى أنه يريد أن يسافر ثانية (سفرًا أكثر راحة من السفر فوق سفينة أسطول مزدحمة). ربما تغطي مخصصاته المالية الحالية كل ذلك، لكنها لن تغطي تكاليف الزوجة والأطفال. عند هذه النقطة كان داروين، غير الواثق من حجم ثروة والده المهيب أو مدى كرمه، يتصور أن اختيار الزواج سيعني أن يكيف نفسه لضرورة العمل لقاء مرتب. يعمل ماذا؟ إنه لم ينهِ تعليمه الطبي قط، وهو بالتأكيد غير لائق لأن يتنكر كرجل دين، وذلك باعتبار ما يؤمن به وما لا يؤمن به. نظر في أمر أن يدبر الحصول على منصب أستاذ في كامبردج، ربما في الجيولوجيا. هكذا حاول داروين غير الاجتماعي والمنهجي والميال للإصابة بالقلق أن يعالج مسألة حيرته بشأن الزواج والنقود مثلما تعامل مع فكرة التحول؛ بواسطة تدوين الملاحظات. ولأنه كان مقتصدًا في الأوراق، وليس فقط في الوقت والجهد، دون ملاحظاته فوق الجوانب الخالية لخطاب من ليونارد هورنر. وربما كانت هذه طريقته لطي صفحة بنات هورنر.

«إذا لم أتزوج!» هكذا كتب كعنوان لأحد الأقسام، ثم كتب تحته قائمة لسيناريو من المزايا. السفر عبر أوروبا. قد يذهب إلى أمريكا، ويزاول بعض النشاط الجيولوجي في الولايات المتحدة أو المكسيك. أو سيحصل على بيت أفضل في لندن، قرب متنزه ريجنتس بارك، ويبحث في مسألة الأنواع. يمكنه الاحتفاظ بحصان، ويقوم بجولات في الصيف، ويجعل من نفسه جامعًا متخصصًا في سلالة ما من العينات الحيوانية ويدرس علاقاتها البيولوجية، لا يبدو الأمر سيئًا. ثم كتب: «لو تزوجت!» ثم قائمة أخرى، أغلبها من العيوب، وكأنه يوضحها لنفسه ليتقيها. «الشعور بالواجب لأن تعمل مقابل المال.» لا جولات صيفية، لا رحلات إلى الريف، لا مجموعات كبيرة من العينات الحيوانية، لا كتب. تبًّا. هل يستطيع أن يتحمل ذلك، ويعيش في لندن في بيت صغير مليء بالأطفال وروائح الطعام الكئيبة التي تشي بالفقر، وكأنه سجين؟ قد تكون كامبردج أفضل من ذلك، لو استطاع الحصول على منصب أستاذ. «إن مصيري هو أن أكون أستاذًا بكامبردج أو أكون رجلًا فقيرًا»، هكذا كان يفكر. كان داروين مخطئًا. لكن استسلامه لهذين الخيارين يطرح أنه كان في حاجة ملحة لزوجة.

كان في حاجة إلى هدنة من التفكير. وفي أواخر يونيو من عام ١٨٣٨ انطلق بعيدًا عن لندن وضغوطها — بعيدًا عن عمله في تحرير مجلة «علم الحيوان»، وواجباته اليومية للجمعية الجيولوجية، وبعيدًا أيضًا فيما يحتمل عن دفاتر ملاحظاته السرية، إلا عندما يدس الدفتر «ج» في أحد جيوبه — وذهب إلى اسكتلندا ليجري بعضًا من الأبحاث الميدانية الجيولوجية. زار هناك وادي جلين روي، بمنطقة المرتفعات الجبلية، والمشهور بوجود مصاطب غريبة عبر منحدراته لا تفسير لها. سواء أكان في إجازة أم لا، دائمًا كان داروين ملاحظًا بارعًا ومنظِّرًا مثابرًا. وبعد ثمانية أيام في جلين روي كوّن فكرته الخاصة عن أصل هذه المصاطب، وما إن عاد إلى لندن حتى أوجد الوقت لكتابة ورقة علمية عن جلين روي وسط كل أعماله الأخرى. على أنه وهو في طريقه إلى الجنوب توقف ثانية في شروزبري في زيارة عائلية.

عندما تحدث داروين إلى والده نال منه نصيحة فظة مرحة: توقف عن القلق على المال، سيكون لديك الكثير، هيا تزوج قبل أن تصبح أكبر عمرًا من أن تستمتع بالأطفال. كان د. داروين نفسه في عمر الثالثة والأربعين عندما ولد له تشارلز. ساعدت الأخبار الطيبة عن الدعم المالي داروين على إعادة تنظيم تفكيره. فخطط صفحة أخرى منظمة عن مزايا الزواج وعيوبه، وفي هذه المرة كانت كلمة «الزواج» على رأس العمود الأطول إلى اليسار، أما «عدم الزواج» فكانت على رأس العمود الأقصر إلى اليمين. سيمنحه الزواج رفيقة دائمة وصديقة عند عمر الشيخوخة، ستكون «أفضل على أي حال من الكلب». لم يكن من المحتمل التفكير في تمضية كل حياته في شيء سوى العمل وحده. «فقط تصور لنفسك وجود زوجة رقيقة لطيفة فوق أريكة، مع مدفأة جيدة، والكتب، وربما الموسيقى.» لم تكن بنات هورنر يتلاءمن مع هذه الصورة. وكتب بعد أن قلب الصفحة: «ثبت أن الزواج ضروري … متى؟ عاجلًا أم آجلًا.» السؤال الآخر الذي كان يمكن أن يضيفه هو: الزواج ممن؟

قبل العودة إلى لندن عرج على أبناء خئولته، آل ويدجوود (المشهورين بتجارة الخزف التي كونت ثروة العائلة)، وزارهم في قصرهم في المقاطعة المجاورة. كان هذا أكثر البيوت أمانًا بعد بيت أسرته. ومع الوضع في الاعتبار فظاظة أبيه وما لخاله جوشيا ويدجوود من ود داعم، ربما كان هذا أكثر البيوت أمانًا على الإطلاق. هذا كل ما في الأمر. كما كانت هناك بنات غير متزوجات في أسرة ويدجوود.

٥

وقتها كان داروين قد بدأ دفتر الملاحظات «د»، الثالث في سلسلته عن التحول. كتب داروين: «نظريتي نظرية جسورة»، وهو يقصد نظريته الكبيرة عن الأنواع، وليس النظرية الصغيرة التي أعدها لتوه عن جلين روي، «ونظريتي تحاول أن تشرح، أو تؤكد إمكانية شرح أي غريزة في الحيوانات.» نعم، إنها تؤكد أن غرائز الحيوان «يمكن شرحها»، بل أكثر من ذلك بكثير، لكنها «لا تشرح» تلك الظواهر، بل هي تذكر حقيقة أن الأنواع تترابط فيما بينها من خلال سلف مشترك. لم يكن داروين قد اقترح بعدُ آلية للطريقة التي تحدث بها التحولات. وواصل داروين التفكير، فسجل بعض الحقائق عن البط الموسكوفي، وماشية ساسكس ذات الرءوس البيضاء، وحشرة الحباحب، ثم مرة أخرى الأبتركس. استعان داروين باكتشاف ريتشارد أوين، عالم التشريح، أن تركيب الهيكل العظمي للزواحف يماثل كثيرًا تركيب الهيكل العظمي للطيور، كما هو واضح في النعام صغير السن. لكن أوين لم ينحُ إلى استنتاج الكثير من التماثل بين الزواحف والطيور مثلما فعل داروين. كتب داروين بدفتر الملاحظات: «لا بد أن هناك قانونًا ما يقضي بأنه أيًّا كان التنظيم الذي يحوزه حيوان ما، فإنه ينحو إلى زيادته وتحسينه.» لكن ما هو هذا القانون؟ إنه ما زال لا يعرفه.

بالرغم من الوقت الذي ضاع منه بسبب مرضه غير المفسَّر في بداية الصيف، فإنه بحلول الخريف كان قد عاد ثانية إلى عمله الروتيني. هكذا أنهى ورقة بحثه عن جلين روي، وأخذ يعمل على مسودة مطبوعة جيولوجية أخرى من المطبوعات التي لا تنتهي عن رحلة السفينة «بيجل». وفكر مليًّا في التحول، كما أنه، بشهادة دفتر يوميات صغير آخر، «فكر كثيرًا في الدين». طريقة التدوين مبهمة، لكن يمكننا أن نفترض أن هذا لم يكن نابعًا من شعور بالتقوى. ربما كان قلقًا من الصراع القائم بين التعاليم الدينية، كما تتضح من خلال التاريخ الطبيعي اللاهوتي، من ناحية، وبين الرأي الذي يعتنقه الآن عن الأصول. أخذ يبحث في الحقائق، ووجهات النظر البديلة، والمراجع، ويقرأ يوميات بعثة استكشافية لشرق أستراليا، والسيرة الذاتية لإدوارد جلبرت، وكتاب جون راي «حكمة الرب»، وثلاثة أجزاء من سيرة والتر سكوت. وقرأ كتبًا عن الطيور، وجبل إتنا، وعلم الفراسة، ونظرية المعرفة، وعن باراجواي. بعد ذلك، في سبتمبر من ذلك العام ١٨٣٨، شرع في قراءة الطبعة السادسة من مؤلف توماس مالتوس «مقال عن مبادئ السكان».

لا بد أنه كان يعرف شيئًا عن مالتوس من قبل، عن طريق الانتشار الثقافي؛ بالطريقة نفسها التي يعرف بها الشخص المثقف في وقتنا الحالي شيئًا، ولو على نحو مبهم، عن ميلتون فريدمان أو جان بول سارتر. كان لأخيه شريكة طعام أثيرة هي هارييت مارتينو، وكانت تعمل بحماس على نشر آراء مالتوس. نُشر «مقال عن السكان» لأول مرة في عام ١٧٩٨، دون ذكر اسم الكاتب، ثم حدث توسع في الطبعات اللاحقة، وطُرح فيه تحليل موضوعي لمتخصص في الاقتصاد السياسي يدعم البرنامج الصارم لحزب الأحرار لإصلاح نظام الرفاه الاجتماعي. رأى مالتوس أن الإحسان دون حساب أمر سيئ وغير مفيد. فكل ما يفعله هو تشجيع الزيادة السكانية بين الفقراء، دون أن يولّد أي زيادة مكافئة في المخزون القومي للطعام. ينتج عن هذا زيادة في الأسعار لكل الأفراد. حتى يمكن حل مشكلة انتشار الفقر أو على الأقل تخفيفها، يجب وقف إعطاء المعونة بلا تردد، وإجبار الفقراء على أن يتنافسوا كعمال أو أن يُحبسوا في إصلاحيات، وأن يُثقَّفوا بالأضرار الناجمة عن الإسراف في التكاثر. هذا هو المنطق الاجتماعي المالتوسي، وهو منطق يستتبع التحلي بفكر صارم، ومع القليل من المبالغة أو التشويه يمكن حتى أن يبدو أكثر صرامة. لكن داروين كان يملك روحًا لطيفة كريمة، وربما وجد ذلك قاسيًا أكثر مما ينبغي، كما نُقل عنه.

ربما ما لم يعرفه داروين إلى أن أصبح كتاب مالتوس بين يديه هو أن الكتاب ذكر عشائر الحيوان والنبات مثلما ذكر عشائر السكان من البشر. ففي أول صفحة أعاد مالتوس صياغة نص لبنجامين فرانكلين، من بين الناس كلهم، يفيد بأن كل نوع لديه نزعة لأن يتكاثر بما يتجاوز الموارد المتاحة له، وأنه لا شيء يقيد إجمالي عدد الأفراد سوى «تزاحمهم وتداخلهم بعضهم مع بعض في وسائل العيش». يفترض فرانكلين أنه لو أُخلي كوكبنا من الحياة، وبُذر فيه من جديد صنف واحد أو صنفان لا غير — نبات الشمر مثلًا، أو أفراد من الإنجليز — فسنجد خلال زمن قصير نسبيًّا أن كوكب الأرض سيجتاحه الإنجليز ونبات الشمر فقط. إن المعدل الطبيعي لزيادة السكان معدل هندسي؛ بمعنى أن أي مجموعة من السكان تنمو مع كل جيل من خلال «التضاعف» وليس «الإضافة». يرى مالتوس أنه فيما يخص البشر، فإن معدل الزيادة يؤدي إلى تضاعف عدد السكان كل خمس وعشرين سنة. بالنسبة للشمر، الذي يثمر المئات من الثمار الضئيلة في كل نبتة، يكون هذا المعدل أكبر كثيرًا. لكن المعدل الطبيعي ما هو إلا إمكانية بيولوجية؛ فنادرًا ما تحدث مثل هذه الزيادات المتطرفة. وفي الظروف العادية تمنع «القيود»، حسب تسمية مالتوس لها، الزيادة السكانية الجامحة على كوكب مزدحم، إذا ما قورن بكوكب خالٍ.

القيد الأقصى هو الجوع. في حالة البشر ينتج ذلك عن حقيقة أنه بينما يتزايد السكان بمتوالية هندسية، فإن الجهود المتواصلة لإخلاء الأرض للزراعة والتحسين الزراعي تؤدي لزيادة مخزون الطعام بمتوالية عددية فقط. بمعنى أن المتوالية الهندسية ٢، ٤، ٨، ١٦، ٣٢، ٦٤، ١٢٨، تزيد على نحو جامح عن المتوالية العددية ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، ٨. لكن مخزون الطعام يحد على نحو مباشر من أعداد السكان أثناء المجاعات فقط. ثمة قيد آخر اختياري: اتخاذ القرار بالامتناع عن الزواج، أو الزواج في سن متأخرة، أو التحكم في عدد المواليد (وهو ما لا يوافق عليه مالتوس، القس المتمسك بآراء العصر ما قبل الفيكتوري). ثمة قيود أخرى لها مفعولها المستمر: التزاحم المفرط، أو العمل الضار بالصحة، أو الفقر المدقع، أو سوء رعاية الأطفال، أو الأمراض المتوطنة، أو الأوبئة، أو الحرب، وأي شيء آخر قد يساهم في إحداث العقم، أو الامتناع عن ممارسة الجنس، أو الموت المبكر. كتب مالتوس قائلًا إنه بصفة عامة يمكنك أن تختصر هذه العوامل كلها في «ضبط النفس الأخلاقي، والرذيلة والبؤس». قرأ داروين هذا فدوت في رأسه فكرة. كان اهتمامه بضبط النفس الأخلاقي والرذيلة أقل من اهتمامه بما قد يعنيه «البؤس» للطائر المحاكي، أو السلحفاة، أو أحد القردة العليا، أو ساق نبات الشمر.

تدبر، في دفتر ملاحظاته «د»، «الحروب بين الأنواع كاستنتاج من مالتوس». كتب داروين أن تزايد عدد أفراد الحيوانات بمتوالية هندسية، كما هو الحال مع الإنسان، تحده قيود مالتوس هذه. أخذ يتخيل كل شيء من جديد. لنأخذ طيور أوروبا مثلًا. إنها معروفة جيدًا لمتخصصي التاريخ الطبيعي، وأعدادها مستقرة نسبيًّا (أو كانت هكذا على أي حال في زمنه). في كل سنة يعاني كل نوع معدلًا ثابتًا للوفيات بسبب الافتراس من قبل الصقور، أو البرد، أو لأسباب أخرى، وهو ما يحافظ تقريبًا على المستوى الصافي لعدد الطيور في مقابل معدل التزايد بالإفراخ. يظل مخزون الطعام محدودًا، وتظل المساحات المتاحة لعمل الأعشاش محدودة، إلا أن عمليات التزاوج ووضع البيض وفقسه كلها تستمر في الضغط ضد هذه القيود. كل الأمور تترابط فيما بينها وتتوازن على نحو ليس بالسهل. فإذا قل عدد الصقور فسيؤثر ذلك بطريقة ما على أعداد الطيور التي تفترسها الصقور. هكذا أصبح داروين يرى بوضوح ما يعنيه الافتراس والمنافسة والإفراط في التكاثر والموت، وما يترتب على هذه الأمور من نتائج. كتب قائلًا: «يستطيع المرء أن يقول إن هناك قوة تشبه مائة ألف وتد تدق»، وأنها تحاول أن «تفرض كل نوع من البنى المتكيفة داخل الثغرات الموجودة في اقتصاد الطبيعة، أو بالأحرى إنها هي التي تشكل الثغرات بأن تدفع البنى الأضعف خارجًا.» ويضيف داروين أن النتيجة النهائية لكل هذا الدق بالأوتاد «لا بد أن تكون فرز البنية الملائمة، وتكييفها للتغير».

لقد خط فكرته الكبيرة في كلمات مختزلة مكتوبة دون عناية. وبعد ذلك بسنوات سوف يبين التفاصيل بوضوح ويسميها «الانتخاب الطبيعي».

٦

استمر استخدام كلمة الأوتاد كاستعارة في دفتر ملاحظاته في الثامن والعشرين من سبتمبر. ثم حدث أمر عجيب، نتيجة لهذه الفكرة الثاقبة الخطيرة: لا شيء. احتفظ داروين بأوراقه ولم يعلن عن شيء للعالم.

واصل سرًّا التأملات الفكرية في دفتر الملاحظات، وأنهى الدفتر «د» بفيض من التعليقات حول «الاختلافات» (أي التغايرات) بين الذرية كنتيجة للتكاثر الجنسي، وبدأ دفتر الملاحظات التالي «ﻫ» في سلسلة دفاتره عن التحول بإشارات متزايدة الثقة فيما يسميه «نظريتي». تفسر نظريته كيف يمكن أن تتراكم هذه الاختلافات الصغيرة إلى تكيفات خاصة بظروف مختلفة. أدرك داروين أن نظريته ستكون أكبر من قدرة الآخرين على الاستيعاب. وفي محاولة لتجزئة أفكاره بدأ داروين أيضًا دفتر ملاحظات آخر عنوانه «ن» خصصه ﻟ «تساؤلاته الغيبية» التي تستثيرها الأفكار العلمية التي يتدارسها. هل للكلب ضمير؟ هل للنحلة حس بالمسئولية الجماعية؟ هل الضمير البشري مجرد شكل آخر للغريزة الموروثة؛ تكيف من أجل السلوك الاجتماعي؟ هل العقل البشري مجرد وظيفة من وظائف الجسم البشري؟ هل تنشأ فكرة الإله طبيعيًّا في عقول البشر من هذا الضمير الغريزي؟ كان منذ شهور سابقة قد طرح السؤال نفسه تقريبًا عن الإله والضمير — عما إذا كان «حب الرب» هو نتيجة لبنية المخ — وما لبث بعدها أن وبخ نفسه في بهجة قائلًا: «ويحك أيها المادي النزعة!» أصبحت ماديته الآن أكثر عمقًا ورسوخًا، وأقل إرباكًا. ومع ذلك ظل يشعر بأنه غير مستعد لذكر رأيه علنًا. كان يعرف أن هناك بالفعل عددًا كافيًا من التطوريين الماديين المتطرفين المنخرطين في نزاعات سياسية حول الميثاقية، وإتاحة التعليم الطبي، والتغييرات في «قانون الفقراء»، لكنهم ليسوا النوع الملائم له من الناس.

كان هذا الموسم أكثر فصول حياة داروين إرباكًا. فتوقف عن كتابة الخطابات لأصدقائه وأسرته. وانشغل بالمهام المتعلقة برحلته على السفينة «بيجل»، ومتابعة جزء من كتابه «علم الحيوان» في المطبعة وإضافة تمهيد ﻟ «يوميات» رحلته. ومارس واجباته سكرتيرًا للجمعية الجيولوجية. أخذت صحته تسوء، على نحو ليس له تفسير، وأصبح في حاجة للراحة. كان لا يبوح بأكثر أفكاره جدية إلا لدفاتر ملاحظاته. وقد كتب فيها: «بعد إثبات أن أجساد البشر والحيوانات هي من طراز واحد، سيكون من التزيد النظر في أمر العقول.» وأضاف: «لكنني لن أتهرب من هذه الصعوبة.» وفي أوائل نوفمبر كان يوجد موضوعان يهيمنان على ملاحظاته: أهمية الجنس، والبحث عن القوانين. التكاثر الجنسي (كأمر متميز عن التكاثر الخضري أو التبرعم، حيث ينتج الميكروب الفرد أو النبات الفرد نسخة مماثلة لنفسه) يستلزم وجود مفارقة التغاير الموروث — بمعنى وجود اختلافات بسيطة بين الوالدين والذرية، كنتيجة لمزج العناصر الآتية من الوالدين الاثنين.

هناك قوانين أساسية (خلاف رغبة السماء) تحكم وقوع تغاير الأنواع وتحولها. أراد داروين إلقاء الضوء على «قوانين الحياة» تلك. وبينما داروين غارق وسط هذا الإحساس العميق بالخطر والانفعال والعزلة، فعل شيئًا متهورًا على غير عادته. فقد وثب داروين إلى قطار متجه إلى ستافوردشاير، وظهر في بيت خاله جوشيا ويدجوود، وطلب يد إيما، ابنة خاله، للزواج. كانت وثبة متهورة تجاه الأمان.

دهشت إيما لطلبه. كانت إيما فتاة ورعة حلوة المعشر تبلغ الثلاثين، على شفير ما كان يعتبر في تلك الأيام أنه حالة عنوسة. كانت هي وشقيقة أكبر حدباء آخر من بقي في البيت من بنات ويدجوود. كانت تعرف تشارلز طيلة حياتها كلها تقريبًا، بوصفه ابن عمتها الأقرب إلى سنها (وإن كانت هي أكبر قليلًا في العمر)، وكانت الأسرتان تربطهما صلات زواج عديدة. كانت أم تشارلز التي ماتت وهو في الثامنة أخت الخال جوشيا، وقبل تقدمه المفاجئ هذا لإيما بسنة لا غير، كانت كارولين شقيقة تشارلز قد تزوجت أكبر أبناء ويدجوود، واسمه جوشيا هو الآخر. بل حتى جدة تشارلز من ناحية ويدجوود، أي أم والدته، كانت من أسرة ويدجوود بالميلاد وتزوجت ابن عم لها، ويدجوود آخر. كان من الشائع في تلك الأيام وتلك الدوائر أن يتم الزواج بين أبناء العمومة أو الخئولة من الدرجة الأولى، وإن كان هذا لا يعني أن الناس لم يكونوا واعين بأن الإكثار من الاستيلاد الداخلي أكثر مما ينبغي يمكن أن يجلب المتاعب، وإلا لكانوا قد تزوجوا من شقيقاتهم وأشقائهن. من الناحية الإيجابية الزواج بين أبناء العمومة والخئولة يُبقي ثروات العائلة متجمعة معًا. لذا ربما كان زواج تشارلز وإيما بديهيًّا بشكل ما. وربما فكر به مرتبو الزيجات بعائلة ويدجوود مليًّا أكثر من طرفي الزيجة نفسيهما. على أنه مع تزايد عمر هذين القريبين لم يبدُ من المرجح أن يحدث الأمر. كان تشارلز قد أبدى بعض الاهتمام بإيما أثناء زيارته في يوليو، وإن لم يكن بحماس كافٍ يوحي بأن هذه المحادثات القليلة قد تشكل توددًا. والآن ها هو يأتي دون توقع — بعد أن أجرى حساباته الخاصة للمزايا والعيوب واستنتج أنه ينبغي أن يتزوج من «شخص ما» — ويتقدم بنفسه في تواضع، وإن كان على نحو مباغت، ليطلب يدها.

كانت المفاجأة من نصيب كلا الطرفين. فحينما وافقت إيما في التو على طلبه أصابه الذهول. بعد ذلك سمح الاثنان لأنفسهما باستيعاب الفكرة. لم تتردد أي صيحات احتفال في ذلك اليوم في المنزل. كان شعور إيما هو «الارتباك» وليس الدوار، وأحس تشارلز بصداع. أما الآخرون كلهم، بما فيهم الأبوان، فقد عبروا عن موافقتهم بصخب متحفظ. بالطبع، تشارلي وإيما، يا لهما من ثنائي مثالي!

لم يكن الأمر مثاليًّا. أحد أوجه هذا هو التعارض بين مسيحية إيما المتقدة، والمؤسسة على الكتاب المقدس، وبين ما حدث لتشارلز مؤخرًا من تردٍّ في غياهب عدم الإيمان. لم يكن تشارلز نفسه يعرف بعدُ إلى أي مدى سيصل به هذا التردي أو أين سيحط به. على أن والده كان قد حذره، ربما منذ شهور لا أكثر، من أن الرجل الذي لديه شكوك لاهوتية ينبغي أن يحجبها عن زوجته. حسب رأي هذا الطبيب العنيد، لن يكسب أحد أي شيء عندما يُعطي للمرأة سببًا لأن تنزعج حول خلاص روح زوجها. ربما ستمضي الأمور بينهما على أحسن وجه، حتى يصاب أحدهما بالمرض، وعندها سوف تعاني الزوجة بتعاسة من التفكير فيما سيكون من انفصال أبدي، وهو ما سيجعله تعسًا هو أيضًا. سرعان ما تجاهل تشارلز نصيحة أبيه (التي ربما كانت أكثر النصائح تبصرًا، إن لم تكن أحكم شيء قاله د. داروين لابنه قط)، وأخبر إيما ببعض من أفكاره الخارجة على الإجماع. من الأرجح أنه لم يثر موضوعات التحول، وأسلاف القرود، وفكرة الربوبية كغريزة متوارثة، أو لغز حلمات أثداء الذكور، لكن مهما يكن ما اعترف به من تجديف، فقد كان فيه ما يكفي لأن تسميه إيما «الفراغ المؤلم بيننا». لكنها ما لبثت أن أبدت ابتهاجًا وشكرته لصراحته، وقد طمأنت نفسها بأن «الشكوك الأمينة النابعة من ضمير حي لا يمكن أن تكون خطيئة».

شكوك؟ هذا وصف مهذب للأمر. وقتذاك كان لدى داروين إطار جديد بالكامل من المعتقدات العلمية والغيبية، وليس مجرد شكوك. لكن إذا كانت إيما راغبة في أن تتلاقى أصابعهما معًا عبر الفراغ وتتجاهل الأمر، فهو راغب في ذلك بالمثل. إنه لم يضع في قوائمه التي أعدها على نحو أشبه بقوائم كتبة الحسابات عن مزايا الزواج أن الزوجة ينبغي أن تكون رفيقة روح تشاركه الفلسفة عينها وندًّا ثقافيًّا. أخبر صديقه ليل في خطاب يعلن فيه الخطوبة بما يشعر به تجاه إيما من أخلص الحب، ومن الامتنان من كل قلبه؛ الامتنان لأنها «قبلت شخصًا» مثله. ربما كان هذا تصريحًا صادقًا، تصريحًا كشف عنه أكثر مما يود: فحبه فاتر لكنه مخلص، أما امتنانه فقوي.

بعد العودة إلى لندن عاد لفترة وجيزة إلى دفتر الملاحظات «ﻫ» قبل أن تجرفه أمور البحث عن منزل وغير ذلك من التجهيزات المنزلية. كتب قرب نهاية نوفمبر بعلامات ترقيمه المتخبطة المعتادة:
ثلاثة مبادئ تفسر كل شيء:
  • (١)

    الأحفاد. مثل. الأجداد.

  • (٢)

    النزعة إلى التغير البسيط … خاصة فيما يخص التغير الجسدي.

  • (٣)

    الخصوبة الكبيرة بالتناسب مع دعم الوالدين.

كان هذا التعبير الصريح القاطع أول استعراض كامل للشروط الثلاثة السببية للانتخاب الطبيعي: (١) الاستمرار الوراثي عبر أجيال عديدة. (٢) تغايرات تراكمية بين الذرية. (٣) العامل المالتوسي للمعدل الطبيعي لزيادة السكان، الذي ينتج عنه عدد كبير من الأفراد لا يمكن إعالتهم. ضع هذه العوامل معًا وسيكون لديك تفسير لكيفية وقوع تحول الأنواع.

لننحِ دفتر الملاحظات جانبًا. كتب داروين في دفتر يومياته الخاص: «ضاع مني بالكامل الأسبوع الأخير من نوفمبر.» هل كان يشكو، أم يعتذر، أم يتفاخر مازحًا بحس المرح الذي وجده حديثًا؟ في أوائل ديسمبر وصلت إيما إلى المدينة وأقامت أسبوعين مع شقيقها وزوجته، وأثناء هذه الفترة ألقت هي وتشارلز بأنفسهما في الهرج المرح المصاحب لإقامة بيت للأسرة. ثم عادت إيما إلى ستافوردشاير. شغل تشارلز نفسه حتى نهاية السنة بالبحث عن منزل، وبعض من القراءة، مع اضطراره للرقاد المتقطع بسبب مرضه الغامض. وبعد أن اتخذ قراره في مسألة الزواج، أصبح لا يطيق صبرًا على إتمام الزفاف. كانت خطاباته لإيما كلها ابتهاج. وفي أحد هذه الخطابات وصف نفسه، في نهاية يوم طويل، بأنه «خامل وفارغ البال».

في التاسع والعشرين من يناير ١٨٣٩ تزوجا في كنيسة صغيرة قرب قصر ويدجوود. لم يأتِ شقيق تشارلز من لندن لحضور الحدث، وبقيت أم إيما في المنزل لمرضها. وضع د. داروين والخال جوشيا ترتيبات مالية سخية، سجلت رسميًّا في مكتب سجلات المقاطعة: ١٠٠٠٠ من الجنيهات من د. داروين الثري، و٥٠٠٠ من الجنيهات من جانب ويدجوود، تستثمر لمصلحة العروسين الجديدين بفائدة قدرها ٤ في المائة سنويًّا. يعني هذا أن تشارلز لن يحتاج لعمل وأنهما سيكون لديهما خدم في المنزل. كانا شابين ذوي أصل من عائلات غنية مقتصدة. أدى مراسم الزواج الكاهن المبجل آلان ويدجوود، ابن عم وخال الجميع. لم يكن هناك حفل استقبال، لكن ليس السبب في ذلك هو عجز آل ويدجوود عن تحمل تكاليف الحفل. ولم يكن هناك شهر عسل، لكن ليس سبب ذلك هو عدم رغبة الزوجين في البقاء منفردين.

رحل تشارلز وإيما عن ستافوردشاير في ذلك اليوم. وكنوع من الاحتفال بالزواج تشاركا في أكل شطائر وشرب زجاجة ماء في القطار المتجه إلى لندن. كان هذا هو أسلوبهما الذي اختاراه. كانا زوجين هادئين، لا يميلان إلى الإسراف في التعبير عن مشاعرهما. كما أن على داروين أن يعود إلى العمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤