خلاصة كتاب العثمانية

قال أبو عثمان:

قالت العثمانية: أفضل الأمة وأَوْلاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قُحَافة؛ لإسلامه على الوجه الذي لم يُسلم عليه أحد في عصره. وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلامًا، فقال قوم: أبو بكر، وقال قوم: زيد بن حارثة، وقال قوم: خَبَّاب بن الأرَتِّ … وإذا تَفقَّدْنا أخبارهم وأَحصَينا أحاديثهم وعَدَدْنا رجالهم ونظرنا في صحة أسانيدهم، كان الخبر في تَقدُّم إسلام أبي بكر أَعَم ورجالُه أكثر وأسانيدُه أَصَح، وهو بذاك أَشهَر واللفظ فيه أَظهَر، مع الأشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله وبعد وفاته. وليس بين الأشعار والأخبار فَرْقٌ إذا امتَنعَ في مجيئها وأَصلِ مَخرجِها التباعد والاتفاق والتواطؤ … ولكن نَدَع هذا المذهب جانبًا ونَضرِب عنه صَفْحًا، اقتدارًا على الحُجة ووثوقًا بالفَلَجِ والقوة، ونقتصر على أَدنى نازلٍ في أبي بكر، وننزل على حُكمِ الخصم فنقول:

إنَّا وَجَدْنا من يزعم أنه (يعني عليًّا) أسلم قبل زَيْدٍ وخَبَّابٍ، ووَجَدْنا من يزعم أنهما أسلما قبله. وأوسط الأمور أَعدلُها، وأقربها من محبة الجميع ورضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معًا؛ إذ الأخبار متكافئةٌ والآثار متساويةٌ على ما يزعمون، وليست إحدى القضيتَين أَوْلى في صحة العقل من الأُخرى. ثم نستدل على إمامة أبي بكر بما ورد فيه من الحديث وبما أبانه به رسول الله من غيره.

قالوا: فمما رُوي من تقدم إسلامه ما حدَّث به أبو داود بسنده،١ عن أبي هُريرة قال: قال أبو بكر: أنا أَحَقُّكم بهذا الأمر — يعني الخلافة — أَلَستُ أَوَّل من صلى؟!

وروى عَبَّاد بن صُهيب عن يحيى بن عمير عن محمد بن المنكدر، أن رسول الله قال: إن الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافَّةً، فقالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت.

وروى يعلَى بن عبيد قال: جاء رجلٌ إلى ابن عباس فسأله: من كان أَوَّلَ الناس إسلامًا؟ فقال: أما سمعت قول حسَّان بن ثابت:

إذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ
فَاذْكُرْ أَخَاكَ أبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
الثَّانِيَ التَّالِيَ المَحْمُودَ مَشْهَدُهُ
وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا

وقول أبي مِحْجَنٍ:

سَبَقْتَ إلى الإسْلَامِ وَاللهُ شَاهِدٌ
وَكُنْتَ حَبِيبًا بالعَرِيشِ مُشَهَّرَا

وقول كعب بن مالك:

سَبَقْتَ أخَا تَيْمٍ إلى دِينِ أحْمَدٍ
وَكُنْتَ لَدَى الغِيرَانِ فِي الكَهْفِ صَاحِبًا

وروى ابن أبي شيبة بسنده عن النخعي قال: أبو بكر أَوَّلُ من أَسْلم.

وعن عَمْرِو بن عَنْبَسَةَ قال: أتيت النبي وهو بِعكاظٍ، فقلت له: من بايعك على هذا الأمر؟ فقال: بايعني حرٌّ وعبدٌ. فلقد رأيتني يومئذٍ وأنا رابع الإسلام.

قال بعض أصحاب الحديث: يعني بالحر أبا بكر، وبالعبد بلالًا.

وروى الليث بن سعدٍ بسنده عن أبي أُمامة قال: حدَّثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي وهو بعكاظ فقال له: من تبعك؟ فقال: تبعني حر وعبد، أبو بكر وبلال.

وعن أسيد بن صفوان صاحب النبي قال: لما قُبض أبو بكر جاء عليُّ بن أبي طالبٍ فقال: رحمك الله أبا بكر، كُنتَ أَوَّلَ الناس إسلامًا.

وعن عِكْرِمَةَ مولى ابن عباس قال: إذا لقيتُ الهاشميِّين قالوا: علي بن أبي طالب أَوَّلُ من أَسْلم، وإذا لقيتُ الذين يعلمون قالوا: أبو بكر أَوَّلُ من أَسْلم.

قال أبو عثمان: قال العثمانية: فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا عليَّ بن أبي طالب في هذه الطبقة، وقد تعلمون كثرة مُقدِّمِيه والرواية فيه؟! قلنا: قد علمنا الرواية الصحيحة والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدثٌ غَرِيرٌ وطفلٌ صغيرٌ، فلم نُكذِّب الناقلِين، ولم نستطع أن نُلحِق إسلامه بإسلام البالغِين؛ لأن المُقلِّل زعم أنه أسلم وهو ابن خمسِ سنين، والمُكثِر زعم أنه أسلم وهو ابن تسعِ سنين! فالقياس أن يُؤخَذ الأوسط بين الروايتَين وبالأمر بين الأمرَين؟! وإنما يُعرف حق ذلك من باطله بأن تُحصي سِنِيه التي ولي فيها الخلافة وسِنِي عثمان وسِنِي عمر وسِنِي أبي بكر ومقام النبي بالمدينة ومقامه بمكة عند إظهار الدعوة، فإن فعلنا ذلك صح أنه أسلم وهو ابنُ سبعِ سنين، فالتاريخ المُجمَع عليه أنه قُتل في شهر رمضان سنة أربعين.

فإن قالوا: فلعله وهو ابنُ سبعِ سِنينَ أو ثماني سِنين قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لُبه وصدق حَدْسه وانكشاف العواقب له — وإن لم يكن جرَّب الأمور ولا فَاتَح الرجال ولا نَازَع الخصوم — ما يَعرف به جميع ما يجب على البالغ مَعرفتُه والإقرار به؟! قيل لهم: إنما نتكلم على ظواهر الأحوال وما شاهدنا عليه طبائع الأطفال! فإنَّا وَجدْنا حُكم ابنِ سبعِ سِنينَ أو ثمانٍ — ما لم يُعلم باطنُ أَمره وخاصَّة طَبعِه — حُكم الأطفال. وليس لنا أن نُزِيل ظاهر حُكمه، والذي نَعرِف من حالِ أبناءِ جنسه، بِلَعلَّ وعسى؟! لأنَّا وإن كُنَّا لا ندري لَعلَّه قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلَعلَّه قد كان ذا نقص فيها! هذا على تجويز أن يكون عليٌّ في الغيب قد أسلم وهو ابن سَبعٍ أو ثَمانٍ إسلام البالغ! غير أن الحكم على مُجرَى أمثاله وأشكاله الذين أسلموا وهم في مِثلِ سِنه! إذا كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن وتلقين القيِّم ورياضة السائس. فأمَّا عند التحقيق فإنه لا يجوز لمثل ذلك؛ لأنه لو كان أسلم وهو ابن سبعٍ أو ثمانٍ وعَرَف فَضْل ما بين الأنبياء والكهنة وفَرْق ما بين الرسل والسحرة وفرق ما بين خبر النبي والمُنجِّم، وحتى عرف كيد الأريب ومَوضِع الحُجة ونقد التمييز، وكيف يُلبَّس على العقلاء وتُستمال عقول الدَّهْماء، وعرف المُمكِن في الطبع من المُمتنِع، وما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب، وعرف قدْر القُوى وغاية الحِيلة ومُنتهى التمويه والخديعة، وما لا يحتمل أن يُحدِثه إلا الخالق سبحانه، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز، وكيف التحفُّظ من الهوى والاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال — وهذا مع فَرْط الصبا والحداثة وقِلَّة التجارب والمُمارَسة — خروجًا من العادة ومن المعروف مما عليه تركيب هذه الخِلْقة.

وليس يصل أحدٌ إلى معرفة نبيٍّ وكَذبِ مُتنبِّئ حتى تجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها والأسباب التي وصفناها وفصَّلناها. ولو كان عليٌّ على هذه الصفة ومعه هذه الخاصيَّة لكان حُجَّةً على العامة وآيةً تدلُّ على النبوة! ولم يكن الله عز وجل لِيخُصه بمثل هذه الأُعجوبة إلا وهو يريد أن يحتجَّ بها ويجعلها قاطعةً لعُذر الشاهد وحُجةً على الغائب. ولولا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيًّا، وأنه أنطق عيسى في المهد، ما كانا في الحكم إلا كسائر الرسل وما عليه جميع البشر، فإذا لم ينطق لِعليٍّ بذلك قرآنٌ ولا جاء الخبر به مجيء الحُجة القاطعة والمُشاهَدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عَمَّيْه حمزة والعباس، وهما أمَسُّ بمعدنِ جماعِ الخيرِ منه! أو كطباعِ جعفر وعقيل من رجالِ قومه وسادةِ رهطه! ولو أن إنسانًا ادَّعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لِعمَّيه حمزة والعباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه.

ولو لم يَعرِف باطلَ هذه الدعوى من آثَر التقوى وتَحفَّظ من الهوى إلا بترك عليٍّ ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه — وقد نازع الرجالَ وناوأ الأَكفاءَ وجامَع أهل الشورى وولَّى عليه — لكان كافيًا. ومتى لم تصح هذه الدعوى في أيامه ولم يَذكُرْها أهل عصره، فهي عن وُلده أعجز ومنهم أضعف. ولم يَنقُل إلينا ناقلٌ أن عليًّا احتج بذلك في مَوقفٍ ولا ذَكرَه في مجلسٍ ولا قام به خطيبًا ولا أدلى به واثقًا، لا سيما وقد رضيه الرسول عندكم مفزعًا ومُعلِّمًا وجعله للناس إمامًا! ولا ادَّعى له أحدٌ ذلك في عصره كما لم يدَّعِه لنفسه حتى يقول إنسان واحد به: الدليل على إمامته أن النبي دعاه إلى الإسلام أو كَلَّفه التصديق قبل بلوغه ليكون ذلك آيةً للناس في عصره وحُجةً له ولوُلده من بعده! فهذا كان أشد على طَلحَة والزُّبير وعائشة في كل ما ادَّعاه من فضائله وسوابقه وذِكرِ قَرابتِه؟!

فلو أن عليًّا كان بالغًا حيث أسلم لكان إسلام أبي بكرٍ وزيد بن حارثة وخبَّاب بن الأرت أفضل من إسلامه؛ لأن إسلام المُقتَضب الذي لم يَعتَدَّ به ولم يُعوَّدْه ولم يُمَرَّن عليه أفضل من الناشئ الذي رُبِّيَ فيه ونشأ عليه وحُبِّبَ إليه؛ وذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث بلغ وقد أَسقَط إلفُه عنه مُؤُنة الرويَّة والخاطر وكَفَاه علاج القلب واضطراب النفس، وزيدٌ وخبابٌ وأبو بكرٍ يعانون من كُلْفة النظر ومُؤْنة التأمُّل ومَشقَّة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفُهم له ما هو غيرُ خافٍ!

ولو كان عليٌّ حيث أسلم بالغًا مقتضبًا كغيره ممن عَدَدْنا لكان إسلامهم أفضل من إسلامه؛ لأن من أسلم وهو يعلم أن له ظهرًا كأبي طالب وَرِدْءًا كبني هاشم ومَوضِعًا في بني عبدِ مناف، ليس كالحليف والمَوْلى والتابع والعَسِيف٢ وكالرجل من عرض قريش؟! أوَلست تعلم أن قريشًا خاصةً وأهل مكة عامةً لم يَقدِروا على أذى النبي ما كان أبو طالب حيًّا؟ وأيضًا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فِراق الإِلْف مَشقَّة الخاطر، وعليٌّ كان بحضرة الرسول يشاهد الأعلام في كلِّ وقتٍ ويحضر مُنْزَل الوحي. فالبراهين له أَشَد انكشافًا والخواطر على قلبه أَقَل اعتلاجًا، وعلى قدْر الكُلفة والمشقة يَعظُم الفضل ويَكثُر الأجر.

ولأبي بكرٍ فَضيلةٌ في إسلامه، أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق عريض الجاه ذا يسارٍ وغِنًى، يُعظَّم لماله ويُستفاد من رأيه، فخرج من عز الغنى وكثرة الصَّدِيق إلى ذُل الفاقة وعَجْز الوَحدة. وهذا غيرُ إسلامِ من لا حِراكَ به ولا عِزَّ له، تابع غير متبوع؛ لأن من أشد ما يُبتلى الكريم به السبُّ بعد التحيَّة والضرب بعد الهَيْبة والعسر بعد اليسر …! ثم كان أبو بكر داعيةً من دعاة الرسول ، وكان يتلوه في جميع أحواله، فكان الخوف إليه أشد والمكروه نحوه أسرع، وكان ممن تحسن مطالبته ولا يُستحيا من إدراك الثأر عنده؛ لنباهته وبُعد ذكره، والحَدَث صغيرٌ يُزدرى ويُحتقر لِصِغر سنه وخمول ذكره.

وكان أبو بكر من المفتونِين المُعذَّبِين بمكة قبل الهجرة، فضربه نَوْفَلُ بنُ خُوَيْلِدٍ المعروف بابن العدوية مرتَين حتى أدماه، وشَدَّه مع طلحة بن عُبَيْدِ الله في قرَنٍ وجعلهما في الهاجرة عُمَيْرُ بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة؛ ولذلك كانا يُدعَيان: القرينين. ولو لم يكن له غيرُ ذلك لكان لحاقه عسيرًا وبلوغ منزلته شديدًا، ولو كان يومًا واحدًا لكان عظيمًا … وعليُّ بن أبي طالب رافِهٌ وادعٌ، ليس بمطلوب ولا طالب … وليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة وفي غريزته البسالة والشجاعة! ولكنه لم يكن قد تَمَّت أداتُه ولا استكملَت آلته، ورجال الطلب وأصحاب الثأر يُغمِضون ذا الحداثة ويَزدَرون بذي الصِّبا والغرارة إلى أن يَلحق بالرجال ويَخرج من طبع الأطفال.

ولأبي بكرٍ مراتبُ لا يَشرَكه فيها عليٌّ ولا غيره، وذلك قبل الهجرة. فقد علِم الناس أن عليًّا إنما ظهر فضله وانتشر صِيته وامتُحن ولقي المشاق منذ يومِ بَدر، وأنه إنما قاتل في الزمان الذي استوى فيه أهل الإسلام وأهل الشركة وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالًا، وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين. وأبو بكر كان قبل الهجرة مُعذَّبًا مطرودًا مُشرَّدًا في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوضٌ ولا حركة؛ ولذلك قال أبو بكر في خلافته: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام. يقول: في ضعفه.

وإن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي مُقرنِين لأهل مكة ومشركي قريش ومعهم أهل يثرب أصحاب النخيل والآطام والشجاعة والصبر والمواساة والإيثار والمحاماة والعدد الدَّثْرِ والفعل الجَذْل، وبين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يُفتنون ويُشتمون ويُضربون ويُشرَّدون ويُجوَّعون ويُعطَّشون، مَقهورِين لا حِراك بهم وأذلَّاء لا عز لهم وفقراء لا مال عندهم، ومُستخفِين لا يمكنهم إظهار دعوتهم، لفَرْقًا واضحًا … ولقد كانوا في حالٍ أحوجت لوطًا وهو نبي إلى أن قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وقال النبي : «عَجبتُ من أخي لوطٍ كيف قال: أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وهو يأوي إلى الله تعالى!» … ثم لم يكن ذلك يومًا ولا يومَين ولا شهرًا ولا شهرَين ولا عامًا ولا عامَين، ولكن السنين بعد السنين! وكان أغلظ القوم وأشدهم مِحنةً بعد رسول الله : أبو بكر؛ لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ، ثلاث عشرة سنة، وهو أوسط ما قالوا في مقام النبي .

فإن احتج محتج لعلي بالمبيت على الفراش، فبين الغار والفراش فرق واضح! لأن الغار وصحبة أبي بكر للنبي قد نطق به القرآن فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما مما نطق به الكتاب، وأَمْرُ عليٍّ ونومه في الفراش، وإن كان ثابتًا صحيحًا، إلا أنه لم يُذكر في القرآن، وإنما جاء مجيء الروايات والسير، وهذا لا يُوازِن هذا ولا يُكايِله.

وفَرقٌ آخر، وهو أنه لو كان مَبِيت عليٍّ على الفراش جاء مجيءَ كونِ أبي بكر في الغار، لم يكن له في ذلك كبيرُ طاعة؛ لأن الناقلين نقلوا أنه قال له: نم؛ فلن يخْلُصَ إليكَ شيءٌ تكرهه. ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك، ولا قال له: أَنفِق وأَعتِق؛ فإنك لن تفتقر ولن يصل إليك مكروه!

ومن جَحَد كون أبي بكر صاحب رسول الله فقد كفر؛ لأنه جحد نص الكتاب. ثم انظر إلى قوله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَنَا من الفضيلة لأبي بكر؛ لأنه شريك رسول الله في كون الله تعالى معه! وإنزال السكينة. قال كثيرٌ من الناس إنه في الآية مخصوص بأبي بكر؛ لأنه كان محتاجًا إلى السكينة لِما تَداخَله من رقة الطبع البشري، والنبي كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروسٌ من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه. وهذه فضيلةٌ ثالثةٌ لأبي بكر.

وإن كان المبيت على الفراش فضيلة، فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة من عتق المُعذَّبِين وإنفاق المال وكثرة المُستجيبِين، مع فَرقِ ما بين الطاعتَين؛ لأن طاعة الشاب الغَرير والحدَث الصغير الذي في عِزِّ صاحبِه عزُّه ليست كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه (إلَّا) إلى رهطه وعشيرته.

وعلى أنَّا لو نزلنا إلى ما يريدونه جَعلْنا الفِراش كالغار، وخَلصَت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن مُعارِض.

ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جُمَح، فقد كان بنى مسجدًا يُصلِّي فيه ويدعو الناس إلى الإسلام، وكان له صوتٌ رقيق ووجهٌ عتيق، وكان إذا قرأ بكى، فيقف عليه المارَّة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد. فلما أُوذي في الله ومُنع من ذلك المسجد استأذن رسول الله في الهجرة فأذِن له، فأقبل يريد المدينة، (فاعترضه) الكِنَانِيُّ فعقد له جوارًا وقال: والله لا أَدَع مثلك يخرج من مكة. فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد، فمشت قريش إلى جاره الكناني وأَجلَبوا عليه فقال له: دع المسجد وادخل بيتك واصنع فيه ما بدا لك!

وحين رد أبو بكر جوار الكناني وقال: لا أريد جارًا سوى الله! لقي من الأذى والذل والاستخفاف والضرب ما بلغكم. وهذا موجودٌ في جميع السير. وكان آخر ما لقي هو وأهله في أمر الغار وقد طَلبَته قريش وجَعلَت فيه مائةَ بعير كما جَعلَت في النبي ، فلقي أبو جهل أسماء بنت أبي بكر فسألها فكَتمَته، فلطمها حتى رَمَت قُرطًا كان في أُذنها.

ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام وحسن احتجاجه حتى أسلم على يدَيه طلحة والزبير وسعد وعثمان وعبد الرحمن؛ لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله وإلى رسوله.

وقالت أسماء بنت أبي بكر: ما عَرفتُ أبي إلا وهو يَدِين بالدين ولقد رجع إلينا يومَ أسلم فدعانا إلى الإسلام، فما رِمْنَا حتى أسلمنا وأسلم أكثر جلسائه. ولذلك قالوا: من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف. ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنَوا الكثيرة في القَدْر؛ لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى كلهم يصلح للخلافة، وهم أكفاء عليٍّ ومنازعوه الرياسة والإمامة، فهؤلاء أكثر من جميع الناس.

ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك جماعةً من المُعذَّبِين في الله، وهم سِتُّ رقابٍ منهم: بلال وعامر بن فُهيرة وزبيرة النهدية وابنتها، ومرَّ بجارية يعذِّبُها عمر بن الخطاب فابتاعها منه وأعتقها، وأعتق أبا عيسى، فأنزل الله فيه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى إلى آخر السورة.

وقد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله، وكان ماله أربعين ألف درهم، فأنفقه في نوائب الإسلام وحقوقه. ولم يكن خفيف الظهر قليل العيال والنسل فيكون فاقدَ جميعِ اليسارَين! بل كان ذا بنِين وبناتٍ وزوجة وخدم وحشم، ويَعولُ والدَيه وما ولدا. ولم يكن النبي قبل ذلك مشهورًا فيخاف العار في ترك مواساته، فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله، ولقد قال النبي : «ما نفعني مالٌ كما نفعني مال أبي بكر».

وقد تعلمون ما كان يَلقَى أصحاب النبي ببطن مكة من المُشركِين، وحسن صنيع كثيرٍ منهم كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته! وأبو جهل يومئذٍ سيد البطحاء ورئيس الكفر وأمنع أهل مكة. ولقد علمتم أن الزبير سلَّ سيفه واستقبل به المُشركِين لما أُرْجِفَ أن محمدًا قد قُتل، وأن عمر بن الخطاب قال حين أسلم: لا يُعبدُ الله سِرًّا بعد اليوم، وأن سعدًا ضرب بعض المُشرِكين بلَحْيِ جملٍ فأراق دمه. فكل هذه الفضائل لم يكن لعليِّ بن أبي طالب فيها ناقةٌ ولا جمل. وقد قال الله تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا، فإذا كان الله تعالى قد فضَّل من أنفق قبل الفتح لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح، فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة ومن لَدُن مَبعث النبي إلى الهجرة وإلى ما بعد الهجرة؟!

والحُجة العظمى للقائلِين بتفضيلِ عليٍّ قَتْلُه الأقران وخَوضُه الحروب. وليس له في ذلك كبيرُ فضيلة؛ لأن كثرة القتل والمشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أَشَد المِحن وأَعظَم الفضائل وكان دليلًا على الرياسة والتقدُّم، لوجب أن يكون للزبير وأبي دُجانة ومحمد بن مَسْلَمة وابن عفراء والبَراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله ! لأنه لم يقتل بيده إلا رجلًا واحدًا، ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خَالَط الصفوف وإنما كان مُعتزِلًا عنهم في العَريش ومعه أبو بكر. وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران ويُجندِل الأبطال وفوقه من العسكر من لا يَقتُل ولا يُبارِز، وهو الرئيس أو ذو الرأي والمستشار في الحرب؛ لأن للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقُّد ما ليس لغيرهم؛ ولأن الرئيس هو المخصوص بالمُطالَبة وعليه مدار الأمور وبه يستبصر المُقاتِل ويستنصر وباسمه ينهزم العدو، ولو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت وفرَّ هو لم يُغنِ ثبوت الجيش كله وكانت الدَّبْرَةُ عليه، ولو ضُيِّع القوم جميعًا وحُفِظ هو لانتصر وكانت الدولة له؛ ولهذا لا يُضاف النصر والهزيمة إلا إليه. ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يومَ بدرٍ أعظم من جهادِ عليٍّ ذلك اليوم وقتله أبطال قريش!

على أن مَشْي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما تَوهَّمه من لا يعلم باطن الأمر؛ لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أمورًا أخرى لا يُبصرها الناس وإنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه وشجاعته، فربما كان سبب ذلك الهوج، وربما كان الغرارة والحَداثة، وربما كان الإحراج والحميَّة، وربما كان لمحبة النفج والأُحدوثة، وربما كان طباعًا كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل!

فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعةً وفراره معصية؛ لأن نفسه مُعتدِلة كالميزان في استقامة لسانه وكفتَيه، فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعًا وفراره طباعًا.

ووجهٌ آخر، أن عليًّا لو كان كما يزعم شيعته، ما كان له بقتل الأقران كبير فضل ولا عظيم طاعة؛ لأنه قد رُوي عن النبي أنه قال: «ستقاتل بعدي الناكثِين والقاسطِين والمارقِين.» فإذا كان قد وعدَه بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الأقران وعلم أنه منصور عليهم وقاتلهم، فعلى هذا يكون جهاد طلحة والزبير أعظم طاعةً منه! …

ثم قصد الناصرون لعليٍّ والقائلون بتفضيله إلى الأقران الذين قتلهم فأَطرَوهم وغَلَوا فيهم، وليسوا هناك، فمنهم: عمرو بن عبد ود، زكَّوه أشجع من عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارس وبسطام بن قيس! وقد سمعنا بأحاديث الفِجَار وما كان بين قريش ودَوْسٍ وحلف الفضول، فما سمعنا لعمرو بن عبد ود ذكرًا في ذلك!

وقد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر، وما علمنا الوليد حضر حربًا قط قبلها ولا ذُكر فيها!

وقد ثبت أبو بكر مع النبي يوم أُحُد كما ثبت عليٌّ، فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم!

ولأبي بكر في ذلك اليوم مقامٌ مشهود: خرج ابنه عبد الرحمن فارسًا مُكفرًا في الحديد يسأل المُبارَزة ويقول: أنا عبد الرحمن بن عتيق! فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه، فقال له النبي: شِمْ سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك.

على أن أبا بكر وإن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره، فقد بذل الجهد وفعل ما يستطيعه وتبلغه قوته، وإذا بذل المجهود فلا حال أَشرفُ من حاله.

١  حذفت الأسانيد في كل الروايات إلا ما قرب منها.
٢  العسيف: الخادم بأجر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤