هارب في ملابس النوم

كان الحديث كله يأتي من ناحية المطبخ، فقرَّر «تختخ» أن يتفادى الالتقاء بالشاويش، وأن يَخرج من الباب الأمامي وفعلًا تقدم بهدوءٍ ناحية الباب ثمَّ وضع يده على «الترباس»، وفتحه بحرصٍ شديدٍ حتى لا يسمعه أحد، ثمَّ فتح الباب بسرعة، وخَطا أول خطوة إلى الخارج … ولكن أكبر مُفاجأة كانت في انتظاره، فقد كان الشاويش «فرقع» يقف أمام الباب.

لم تكن المفاجأة ﻟ «تختخ» وحده، ولكنَّها كانت للشاويش أيضًا، فقد توقع أن يرى أيَّ شيء في العالم حتى الشيطان نفسه، ولكنه لم يتوقَّع أبدًا أن يجد عدوَّه اللدود «تختخ».

أخذ الاثنان يُحملقان أحدهما في الآخر، وكأن كلًّا منهما يرى شبحًا … ومرَّت لحظات، ثم انطلق صوت الشاويش كالمدفع هادِرًا: أنت؟ أنت؟ ماذا تفعل هنا؟ كيف دخلتَ إلى هنا؟ إنَّني أتهمك … أنت … أنت …! استردَّ «تختخ» أعصابه بسرعة وقال للشاويش ببرود: بماذا تتَّهمني أيها الشاويش؟

رد الشاويش في غضب رهيب: أتَّهمك … أتهمك بدخول منزل موضوع تحت إشراف الشرطة … أتهمك بالتدخل في عملي … أتَّهمك بألف تهمة إذا شئت.

قال «تختخ» ببساطة شديدة: إنني الذي أتَّهمك أيها الشاويش، أتهمك بعدم الإنسانية لأنكَ أغلقتَ البيت على قطة صغيرة مسكينة كادت تموت جوعًا بسببك … لقد سمعتُ صوت مُوائها وأنا أسير بجوار المنزل، فدخلت لإنقاذها … وليس هناك إنسان في العالم يَستطيع أن يلومَني على قيامي بهذا العمل الإنساني.

ردَّ الشاويش: قطة! أي قطة! لقد كنتُ هنا أمس واليوم ولم أجد أي قطة … إنك تَضحك عليَّ، وتُبرِّر دخول المنزل دون سبب.

وقبل أن يردَّ «تختخ» تدخَّلت القطة لتحسم النزاع، فأخذت تموء وهي تتمسَّح في قدم «تختخ» الذي انحنى وحملها بين يدَيه، ثمَّ نظر إلى الشاويش في انتصار.

لم يَستطِع الشاويش أن يقول كلمةً واحدة، فقال «تختخ»: وهناك كلب أيضًا … اسمع.

وأخذ الشاويش ينظر إلى البيت الذي كان مُظلمًا بسبب إغلاق النوافذ، فسمع صوتَ كلبٍ يَنبح من بعيد … ثم سمع صوت حمارٍ يَنهق … وحصان يصهل.

نظر الشاويش إلى «تختخ» في رعب، وقد امتلأت رأسُه بالخيالات، وأخذ يُفكِّر، «هل هذا المنزل مسكون بالحيوانات … بالأشباح … ماذا حدث … لقد كنتُ هنا في الصباح ولم يكن هناك شيء على الإطلاق.» ولم يكن الشاويش يتصور بالطبع أن هذه الأصوات كلها كانت تصدر من مكان واحد … من بطن «تختخ»، الذي استغلَّ الإجازة في تعلُّم هذه اللعبة العجيبة … لعبة الكلام من البطن.

بدأ «تختخ» يتحرَّك ليخرج، ولكن الشاويش غير لهجته، وقال بصوتٍ لطيفٍ: على كل حال … تستطيع أن تَبقى هنا بعض الوقت … فإنَّني أحتاج لشخص معي حتى أستطيع الإمساك بهذه الحيوانات إذا كانت موجودة.

قال «تختخ»: لا مانع … ولكني صدقني إنني خائفٌ. فليس من المعقول أن يكون في المنزل كل هذه الحيوانات … إلا إذا كان الأستاذ «فاخر» حول البيت إلى حديقة للحيوانات.

أغلق الشاويش الباب. وأخذ الاثنان يسيران معًا داخل البيت للبحث عن الحيوانات المُختفية. ولكن بالطبع لم يكن هناك أيُّ حيوانات، وظلَّ «تختخ» يُصدر الأصوات من بطنه حتى صاح الشاويش في ضيق: لا يُمكن أن أبقى في هذا المنزل دقيقة أخرى، إنه منزلٌ مسكونٌ … هيا بنا.

عندما وصل «تختخ» إلى الشارع. وجد الأصدقاء الأربعة في انتظاره، فاتجهوا جميعًا إلى منزله حيث اعتادُوا الاجتماع، وفي الطريق قصَّ عليهم «تختخ» قصة الأصوات الغامضة التي يُصدرها من بطنه، والتي أفزعت الشاويش، وجعلتْه يَترك المنزل مُسرعًا، وضحك الأصدقاء طويلًا.

وفي «غرفة العمليات» كما يُسمِّيها الأصدقاء جلسوا جميعًا وقال «تختخ»: والآن أريد أن أسمع ملاحظاتكم على هذا اللغز، ومن الواضح أنه لغزٌ مثيرٌ جدًّا.

كان «محب» قد جمع كل الملاحظات معه، فقال: لقد اتضح لنا أن اللص الذي دخل منزل الأستاذ «فاخر» لم يأتِ من الباب الأمامي. ولكنه قفز من على سور الحديقة ثم دخل من نافذة المطبخ.

تختخ: وما هو الدليل على ذلك؟

محب: لقد دُرنا حول سور الحديقة، ولاحظنا آثار أقدام عميقة في الأرض التي كانت طرية لأنها مروية حديثًا …

تختخ: ملاحظة معقولة جدًّا …

محب: وقد تبعنا آثار الأقدام، فوجدنا أن اللص اختفى وراء بعض الأشجار في الحديقة، ومن الواضح أنه كان مُتضايقًا، فقد كان ينقل قدميه بين لحظةٍ وأخرى، وذلك واضحٌ من آثار الأقدام الكثيرة في مكان واحد.

تختخ: وهل نقلتُم رسمًا لآثار الأقدام؟

محب: طبعًا، وقد قام «عاطف» بهذا العمل لأنه كما نَعرف يُجيد الرسم.

عاطف: أعتقد أنَّ اللصَّ كان يلبس حذاءً من الكاوتش، من النوع الذي يستعمله الرياضيون.

لوزة: وقد عثرت في مكان وقوف الرجل خلف الأشجار على عقبِ سيجارة واحدة، ويبدو أن الشاويش سبقنا وجمع كل الأعقاب الباقية، وقد عرفت أن الشاويش سبقنا لأنَّني شاهدتُ آثار قدمَيه الكبيرتَين في نفس المكان.

تختخ: ملاحظة ذكية.

وجاء الدور على «نوسة» فقالت: تتبَّعنا آثار الأقدام في نافذة المطبخ الخلفية، وقد وجدنا أسفَلَها نصف قالب من الطوب. يبدو أنه الذي استخدمه اللص في كسرِ زجاج النافذة، وربما كان في الإمكان أن نَعثُر على شخص سمع صوت التحطيم لتحديد موعد دخول اللص إلى البيت … ولكن الأهم من ذلك أن هناك آثار أقدام أخرى لشخص خرج من المنزل من الباب الأمامي، ثمَّ دار حول المنزل، وخرج من الباب الخلفي للحديقة.

تختخ: شخص آخر؟ من هو يا ترى؟ وصلتم إلى استنتاج بخصوصه؟ …

محب: إنني شخصيًّا أعتقد أنه الأستاذ «فاخر»، ويبدو أنه أحسَّ باللص عندما دخل المنزل، ولسبب لا أدريه لم يرغب في مواجهته، وهرب.

تختخ: هذا استنتاج معقول جدًّا يا «محب» ولكنَّنا نحتاج إلى أدلة لتأكيده؛ لأنه سيقودنا إلى طريق هامٍّ لمعرفة الحكاية كلها.

محب: إنَّنا لم نجد دليلًا واحدًا يؤيد هذه النظرية، ولكن من المُمكن أن يكون ذلك صحيحًا. لأنَّنا نعرف آثار أقدام اللص، وأقدام الشاويش ولا يبقى أمامنا إلا الأستاذ «فاخر» الذي يُمكن أن تكون الآثار الثالثة هي آثاره، وقد نقلتُ رسمًا لها أحضرناه معنا.

لوزة: إنني أؤيد ما قاله «محب»، والدليل هو أن الأستاذ: «فاخر» لم يكن يُهمُّه ما يحدث في المنزل بعد هربه، ويبدو أنه كان يعرف ما يريده اللص، فأخذه وهرب من المنزل، وترك كل شيء.

تختخ: ملاحظةٌ ذكيةٌ جدًّا يا «لوزة»، وأُضيف إلى هذا أن اللص لو كان يُريد سرقة شيء عادي مثل راديو أو جهاز تليفزيون، أو ملابس أو غير ذلك لما احتاج إلى تحطيم كل شيء بهذه الصورة العجيبة، ومن الواضح أنه كان يبحث عن شيء معيَّن، وأن الأستاذ «فاخر» أخذ هذا الشيء، وهرب.

عاطف: إذا كان الأمر كذلك فأمامنا سؤالان هامَّان لا بدَّ أن نعثر على إجابة عنهما … السؤال الأول أين الأستاذ «فاخر» الآن؟ السؤال الثاني ما هو الشيء الذي حرص «فاخر» على أخذه معه مُضحيًا بكل شيء في المنزل؟

تختخ: سؤالان هامان فعلًا، وعلينا أن نعثر على الإجابة عنهما، والآن، أرجو أن أرى رسم آثار أقدام الأستاذ «فاخر».

وأخرج «عاطف» رسمًا دقيقا لآثار الأقدام، أخذ «تختخ» يتأمله قليلًا ثم قال: إنَّني ألاحظ شيئًا هامًّا هنا، فآثار الأستاذ «فاخر» تؤكد أنه لم يكن يلبس حذاءً في قدمه؛ فموضع الكعبِ خفيف جدًّا، مما يؤكد أنه كان يَلبس الشبشب الذي يستعمله في البيت، ويبدو أنه عندما أحسَّ باللص، أخذ الشيء الهام معه وأسرع بالهرب وهو بملابس النوم.

نوسة: ويُمكن أن أضيف هنا ملاحظة أخرى، فما دامت آثار أقدام الأستاذ «فاخر» خفيفة هكذا، فمعنى هذا أن الشيء الذي أخذه وهرب شيء خفيف، ولو كان ثقيلًا، لكانت آثار الأقدام غائصة في تراب الحديقة المبلَّل.

تختخ: هذه أيضًا ملاحظة مُمتازة، ونحن متأكِّدون الآن أن «فاخر» هو صاحب الآثار الموجودة أمام الباب، وأنه هرب بالشيء الذي جاء اللص للاستيلاء عليه، وأن هذا الشيء خفيفٌ، بل صغيرٌ أيضًا حتى يُمكن أن يحمله معه دون أن يَلفِت أنظار الناس إليه، وهو يسير بملابس النوم في الشارع.

سكت الأصدقاء لحظات بعد هذه السلسلة الممتازة من الاستنتاجات، ثم مدَّ «تختخ» يده في جيبه وقال: لقد تذكَّرتُ الآن أنني عثرتُ على شيء ما بسيط جدًّا، يمكن أن يكون له صلة بحادث السرقة ويمكن ألا يكون … إنه هذا.

وأخرج «تختخ» من جيبه فردة القفاز الصغيرة الحمراء ورفعها أمام الأصدقاء الذين أخذوا يَنظُرون إليها في دهشة.

لوزة: إنها صغيرةٌ جدًّا، ولا يُمكن أن تكون لطفل، إنها في الغالب قفاز عروسة صغيرة مما يَلعب بها الأطفال …

عاطف: أنتِ مثلًا يا «لوزة» عندك عروسة. احمرَّ وجه «لوزة» وهي تقول: نعم، إنَّ عندي عروسة فعلًا، يمكن أن تلبس هذا القفاز.

تختخ: على كل حال، أرجو أن نَفترق الآن، على أن يقوم كل منَّا بتحرياته الخاصة، فقد نستطيع الوصول إلى أدلة جديدة، أو إلى بداية صحيحة لحل اللغز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤