مطاردة في الظلام

من بين الأصدقاء الخمسة، كان «تختخ» و«محب»، هما اللذان عثَرا على بداية خيط يُمكِن أن يُؤدي إلى كشف غموض اللغز العجيب.

فقد تذكر «محب» أن المنزل الذي بين منزلهم، ومنزل الأستاذ «فاخر» فيه صديق له اسمه «هشام» من هواة تربية الطيور المُغرِّدة، وفكَّر «محب» أن يزوره لعلَّه يجد عنده بعض المعلومات عن السرقة … فمن الجائز أن يكون قد سمع شيئًا أو لاحظ شيئًا في أثناء وقوع السرقة.

ولم يَكدْ «محب» يصل إلى هذه الفكرة حتى اتجه إلى صديقه «هشام» وهو يُفكِّر في طريقة يبدأ بها الحديث معه.

استقبل «هشام» «محب» … بالترحاب، وبعد أن جلسا قليلًا في غرفة الصالون قال «محب»: إنَّني أريد أن أتفرج على مجموعتك من الطيور يا «هشام»!

هشام: يُسعدني جدًّا يا «محب»، ولعلَّك تتعلَّق بهذه الهواية الجميلة … وأنا على استعدادٍ لأن أُهديَ إليك بعض العصافير لتبدأ بها هذه الهواية.

اتَّجه الصديقان إلى أقفاص العصافير التي يُربِّيها «هشام» ولاحظ محب أنها في شرفة جانبية تطلُّ على المنزل المسروق، وعندما دخلا الشرفة أخذت الدهشة «محب» عندما شاهد الأقفاص الكثيرة المعلَّقة على الجدران، وأصوات العصافير الرقيقة وهي تُزقزق طائرة هنا وهناك بين الأقفاص الكبيرة.

قال «هشام»: لقد بدأت هذه المجموعة الكبيرة بعصفورَين صغيرَين، وكان ذلك منذ ثلاثة أعوام … وها أنت ذا ترى أن مجموعتي قد وصلت إلى أكثر من مائة عصفور من مختلف الأنواع.

وأدرك «محب» أنه يستطيع أن يبدأ الحديث عن الحادث ببعض الأسئلة فقال لهشام: ما هي أشهر أنواع العصافير المُغرِّدة يا «هشام»؟

هشام: البلابل، والكروان، والكناريا.

محب: وهل كلها طيور مصرية؟

هشام: لا، ولكن الكروان عصفور مصري، وهو عصفور يحب الغناء ليلًا.

محب: مُدهِش جدًّا … يغني ليلًا؟

هشام: نعم، وأنا أحيانًا أسهر للاستماع إلى عصافير الكروان وهي تمرُّ بالقرب من منزلنا.

محب: وهل كنتَ ساهرًا مساءَ أمس يا هشام؟

هشام: نعم؛ ففي أيام الإجازة أسمح لنفسي ببعض السهر، خاصة والدنيا حرٌّ، والنسيم ليلًا مُمتع.

محب: ألم تُلاحظ شيئًا غير عادي؟

هشام: بلى؛ ففي الساعة العاشرة مساءً، خرجت إلى البلكونة أتابع صوت كروان يمرُّ بالقرب من بيتنا، وكانت بقية عصافير الكروان في أقفاصها تردُّ عليه … فلاحظت أن الأستاذ «فاخر» يجلس في غرفة مكتبه كعادته يكتب … وكان الراديو مفتوحًا على البرنامج الموسيقي … فجلست قليلًا أستمع إليه ثم دخلت … ونمتُ بعد ذلك بنصف ساعة تقريبًا.

محب: هذه أشياء عاديةٌ … ما هو الشيء غير العادي إذن؟

هشام: سأقولُ لك … ففي الساعة الواحدة والنصف تقريبًا استيقظت فجأةً على صوت غريب … لا أعرف ما هو الآن، وخشيتُ أن تكون قطة قد تسلَّلت إلى الشرفة مُحاوِلة خطف العصافير كما يحدث أحيانًا، فخرجت إلى الشرفة … ولاحظت أن منزل الأستاذ «فاخر» مُظلمٌ تمامًا، عدا المطبخ الذي كان مضاءً … ولكن ليس بالنور العادي، ولكن بنورٍ مُتحرِّك، كالذي يصدر من بطارية.

محب: وهل رأيتَ حامل المصباح؟

هشام: لا، ولم يكن ذلك مُمكنًا.

محب: والصوت الذي استيقظتَ عليه، هل كان مثل صوت زجاج يتحطم؟

هشام: تقريبًا … ولكنِّي لست متأكدًا.

محب: ألم تلاحظ وجود أحد في حديقة المنزل، أو شخصٍ يَجري؟

هشام: لعلَّك تُفكِّر في السرقة التي حدثت في منزل الأستاذ «فاخر»؟ لقد خطر ذلك ببالي في الصباح عندما حضر الشاويش «علي» إلى الفيلا، وعلمتُ من طبَّاخِنا بحادث السرقة.

محب: شكرًا يا «هشام»، واسمح لي أن أتركَك الآن، وسوف أحضر مرةً أخرى للحديث عن عصافيرك المُدهِشة.

وأسرع «محب» يُغادر المنزل، متوجهًا إلى «تختخ» الذي استقبله باهتمام، وأخذ يَستمِع إلى المعلومات التي حصل عليها ثم قال ﻟ «محب»: تقرير رائعٌ يا «محب» وسوف تُفيدني هذه المعلومات في المغامرة التي سأقوم بها الليلة.

محب: أي مغامرةٍ؟

تختخ: لقد لاحظت أن هناك إصلاحًا يَجري في الشوارع المحيطة بمنزلكم، ولا بد أن هناك حارسًا وسوف أحاول الليلة الحديث معه؛ فقد يكون قد شاهَدَ الأستاذ «فاخر» وهو يَجري بالبيجامة، وسوف أقول له إنه قريبٌ لي اعتاد السير في أثناء نومه … فكما تعلم هناك أشخاص مُصابون بمرض السير في أثناء النوم.

محب: وكيف تستطيع الخروج ليلًا؟

تختخ: سوف أقول لوالدتي إني سأخرج مع «زنجر» في نزهة ليلية، ما دمنا لا نخرج نهارًا في الحر.

في المساء أخذ «تختخ» إذنًا من والدته بالخروج، ثم دخل «غرفة العمليات» حيث تَنكَّر في ثياب ولدٍ أكبر سنًّا، ثم أخذ «زنجر» وانحرف من باب الحديقة الخلفي حتى لا يراه أحد.

سار «تختخ» و«زنجر» يتبعه حتى وصل إلى قرب منزل «محب»، وكما توقع شاهد حارسًا يجلس بجوار الأدوات التي يستخدمها العمال في إصلاح الشارع.

كان الحارس قد أشعل النار في بعض الأخشاب، وأخذ في إعداد كوب من الشاي في كوز من الصفيح. تقدم «تختخ» من الرجل، وألقى عليه التحية فردَّ الرجل باحترام.

قال «تختخ»: هل أستطيع أن أجد عندك كوبًا من الماء؟

قال الرجل بكرمٍ: نعم عندي، وتفضل شايًا أيضًا.

تختخ: شكرًا، في الواقع إن معي بعض الفطائر، نستطيع أن نقتسمها، ونشرب الشاي معًا.

سُرَّ الحارس كثيرًا لأنه وجد فطائر يأكلها بدلًا من العيش والجبن، وفعلًا أخرج «تختخ» كمية من الفطائر اللذيذة كان قد أحضرها من المطبخ، ووضعها أمام الرجل.

قال «تختخ»: هل يأتي إليك أشخاص كثيرُون ليلًا؟

الحارس: لا، أحيانًا يمرُّ الشاويش للاطمئنان، وأحيانًا يسألُني بعض الناس عن أسماء الشوارع.

تختخ: وهل كنتَ هنا أمس ليلًا؟

الحارس: نعم، فأنا أحضر كل ليلة بعد انصراف العُمال لأحرس أدواتهم.

تختخ: ألم ترَ أمس حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد مُنتصَف الليل رجلًا يجري بالبيجاما؟ إنه قريبي، وقد اعتاد السير في أثناء نومه.

الحارس: نعم، لم أشاهدْه، ولعله مرَّ من خلفي دون أن أراه … ولكنِّي سمعت من زميلي الذي يَحرُس أدوات العُمال على كورنيش النيل، أنه شاهد شخصًا له مثل هذه الأوصاف يَجري على الكورنيش!

تختخ: وما اسم هذا الحارس؟

الحارس: اسمه «سيد»، وستجدُه قريبًا من الكازينو.

لم يَكد الحديث يَنتهي حتى سمع «تختخ» جرس دراجة يدقُّ بإلحاحٍ في بداية الشارع، فعرف فيه فورًا جرس دراجة الشاويش، فأسرع يشكر الحارس ثم سحب «زنجر»، وانطلق مسرعًا، وهو يَختفي في الظلام حتى لا يراه الشاويش.

أسرع «تختخ» إلى كورنيش النيل، واقترب من الكازينو، فرأى الحارس «سيد» يَجلس بجوار كومة كبيرة من الأحجار والأدوات، فاقترب منه وحيَّاه، ثمَّ قال له: لقد جئتُ من عند صديقِك الحارس، وكنتُ قد سألته عن قريب لي يسير وهو نائمٌ، فقال لي إنك شاهدتَه ليلة أمس.

قال «سيد»: فعلًا، ولكنِّي أعتقد أنه لم يكن نائمًا؛ فقد كان يجري وهو يَحمل بيده حقيبة أو كيسًا، واتَّجه إلى هذا الجانب من النيل. وقبل أن يُتمَّ الرجل حديثه، سمع «تختخ» جرس الدراجة مرةً أخرى، فأدرك أنه الشاويش يسير في نفس الطريق، وأنه يسأل عن الأستاذ «فاخر» أسرع «تختخ» يختفي خلف الكورنيش، وهو يُربِّت على ظهر «زنجر» حتى لا يُحدِث صوتًا. واستطاع من مكانه أن يرى الشاويش وهو يتحدَّث مع «سيد»، واستطاع أيضًا أن يسمع كلامه؛ فقد كان يتحدث بصوتٍ مرتفعٍ.

قال الشاويش: هل رأيتَ أمس رجلًا يسير بالبيجاما؟

الحارس: ولماذا تسأل عنه يا حضرة الشاويش؟ هل هو قريبك أنت أيضًا؟

الشاويش: قريبي، من الذي قال لك إنه قريبه؟

الحارس: شابٌّ سمين، له شاربٌ رفيعٌ، كان هنا منذ لحظات وسألني عن قريب له في ملابس النوم يسير ليلًا.

الشاويش: شاب سمين لقد فهمت … لقد فهمت، اسمع … سوف يعود هذا الشاب من هذا الطريق، وسأَختفي قريبًا منك، فإذا عاد عليك أن تهزَّ مصباحك يمينًا ويسارًا حتى أحضر للقبض عليه.

واختفى الشاويش في الظلام — منتظرًا عودة «تختخ». وقرَّر «تختخ» أن يقبل تحدِّي الشاويش، وأن يعود إليه، ولكن في شكل آخر مختلف. لقد نزع شاربه، وأخرج مَسحوقًا أسود من جيبه فلوث به وجهه، ثم أخرج من جيبه حقيبة من القماش، وأسرع يلتقط بعض الأحجار، ويملؤها بها.

وفي دقائق كان «تختخ» قد تحوَّل إلى رجلٍ أسود محنيِّ الظهر، يَحمل حقيبة ثقيلة، ثم اتجه وهو يتوجَّع إلى مكان الحارس الذي لم يكدْ يَراه من بعيد حتى ظنَّه الشاب، فهز مصباحه يمينًا ويسارًا، فأسرع الشاويش إليه وهو متوقع أن يجد «تختخ»، ولكنه وجد رجلًا عجوزًا يسير بمشقة، وهو يحمل حقيبة ثقيلة.

فكَّر الشاويش لحظات، ثم قرَّر أن يتبع الرجل العجوز لعلَّه يصل إلى شيء، وهكذا سار في الظلام متابعًا «تختخ»، دون أن يرى الكلب الأسود الذي كان من الصعب رؤيته في الظلام.

وصل «تختخ» إلى النيل مرةً أخرى، واجتاز سور الكورنيش ثم وصَل إلى شاطئ النيل، وألقى بالحقيبة في الماء.

أسرع الشاويش حتى وصَل إلى «تختخ» وصاح به: من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟ وماذا ألقيت في الماء؟

تختخ: أنا رجل مسكين … شيَّال … وهذه الحقيبة ملكٌ للأستاذ «فاخر»، وقد طلب منِّي إلقاءها في النيل.

الشاويش: «فاخر» … «فاخر». هل تعرف «فاخر»؟

تختخ: طبعًا أعرفه يا سيادة الشاويش، وقد طلب منِّي هذه الخدمة.

الشاويش: وماذا كان في هذه الحقيبة؟

تختخ: لا أدري يا سيدي … ربما كان فيها جثَّة، أو طوب، أو أي شيء آخر.

أخذ «تختخ» يبتعد عن الشاويش خطوة فخطوة، وكان الشاويش مُهتمًّا بالحقيبة التي أُلقيَت في النهر، فأخذ يُحدِّق في الماء، وفجأة أطلق «تختخ» ساقَيه للريح … وقبل أن يتمكَّن الشاويش من اللحاق به كان قد اختفى في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤