مقدمة

إعادة صياغة رواية العولمة

في مطلع عام ١٩٩٧ ألفتُ كتيِّبًا بعنوان «هل تجاوزت العولمة حدود المقبول؟» بعد ذلك بأشهر قليلة انهارت اقتصادات تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وبلدان أخرى في جنوب شرق آسيا، ضحية ضربة مالية دولية قاضية. كانت هذه البلدان تنمو نموًّا متسارعًا على مدى عقود، وصارت محط إعجاب المجتمع المالي الدولي وخبراء التنمية. لكن فجأة لم تعد هذه البلدان آمنة لإيداع الأموال في نظر البنوك الدولية والمستثمرين الدوليين. تلا ذلك تسارُع عمليات سحب الأموال منها، وانحدار أسعار العملات انحدارًا شديدًا، وإفلاس المؤسسات والبنوك، وانهيار اقتصادات المنطقة. هكذا وُلدت الأزمة المالية الآسيوية التي امتدت أولًا نحو روسيا ثم البرازيل ثم انتهى بها المطاف في الأرجنتين، فأطاحت في طريقها إلى الهاوية بصندوق «إدارة رأس المال الطويلة الأجل»؛ وهو صندوق التحوط العملاق الذي كان محط إعجاب الكثيرين في ذلك الوقت.

ربما هنأت نفسي لنفاذ بصيرتي ودقة توقيتي؛ فقد حقق كتابي لناشره، «معهد الاقتصاد الدولي بواشنطن»، مبيعات هائلة، وأظن أن هذا يُعزى جزئيًّا إلى سمعة المعهد، كونه أحد حصون الدفاع المتينة عن العولمة. لكن ما حدث كان أشبه بشروق الشمس من الغرب؛ إذ بدا التشكيك في العولمة أكثر تشويقًا حينما صدر من جهة غير متوقعة بالمرة. «بيت خبرة مؤيد للعولمة ينشر دراسة لأحد أساتذة جامعة هارفرد يحذر فيها من أن العولمة ليست جديرة بالإشادة التي تحظى بها»، كان هذا أمرًا جديرًا بجذب الانتباه!

مع الأسف كنت بعيدًا عن فهم الأمور فهمًا صحيحًا؛ إذ أغفل كتابي الأزمة المختمرة في الأسواق المالية. في الواقع لم يقتصر الأمر على فشلي في استشراف العاصفة الوشيكة، بل قررت تنحية العولمة المالية — تريليونات الدولارات التي يجري تداولها يوميًّا حول العالم في صورة عملات ومشتقات وأصول وأوراق مالية — من الكتاب تمامًا. وفي المقابل، ركزت على الصعوبات التي كانت تُحدِثها التجارة الدولية في السلع في أسواق العمل وتُصَدِّرها للسياسات الاجتماعية. كنت متخوفًا من أن يؤديَ انتعاش التجارة الدولية والتعهيد الخارجي — أي إسناد أداء وظائف لأفراد من خارج البلاد للاستفادة من رخْص الأيدي العاملة — إلى تفاقم مشكلة عدم المساواة، وإبراز مخاطر أسواق العمل، وتآكل التضامن الاجتماعي فيما بين الدول. وأوضحتُ ضرورة إدارة هذه الصراعات من خلال برامج اجتماعية أكثر شمولًا وقواعد دولية أفضل. وقررت أن أكتب هذا الكتاب لأن زملائي في مهنة الاقتصاد كانوا يرفضون تلك المخاوف ويزدرونها ويضيعون فرصة المشاركة في النقاش العام على نحوٍ فاعل. أعتقد أنني كنت وقتئذٍ على حق، وقد ازدادت مهنة الاقتصاد برُمتها منذ ذلك الحين قربًا من الآراء التي أبديتها في ذلك الوقت. لكن ماذا عن التأثير السلبي للعولمة «المالية»؟ ذلك ما لم يخطر بذهني في ذلك الوقت.

في الأعوام التي تلت الأزمة المالية الآسيوية، اتجه بحثي على نحوٍ متزايد إلى فهم الكيفية التي نجحت بها (أو لم تنجح) العولمة المالية؛ لذا، حينما طلب مني صندوق النقد الدولي بعد عشرة أعوام إعداد دراسة حول هذا الموضوع، شعرت بأنني مستعد لذلك. كان عنوان المقال الذي كتبته عام ٢٠٠٧ مع زميلي الذي شاركني في كتابته أرفيند سوبرامانيان: «لِمَ خالفت العولمة المالية التوقعات؟»1 كانت العولمة المالية تبشر بمساعدة أصحاب الأعمال على جمع الأموال وإعادة توزيع المخاطر بتوجيهها نحو المستثمرين الأكثر خبرةً والأفضل قدرةً على تحمُّلها. وكانت الدول النامية ستكون أكثر من يستفيد؛ نظرًا لقلة النقد لديها، وكونها عرضة للعديد من الصدمات، وقلة قدرتها على تنويع الاستثمارات. لكن الأمور لم تجرِ على هذا النحو؛ إذ لم تكن الدول صاحبة الأداء الأفضل — كالصين — هي التي تستقبل تدفقات رأس المال، بل الدول التي «تقرض» الدول الغنية. وكان أداء الدول التي تعتمد على التمويل الدولي يميل إلى السوء. حاول مقالنا أن يشرح لماذا لم يؤدِّ إطلاق العنان للعولمة المالية إلى وصول السلع للدول النامية.

وما إن أرسلنا المقال للطبع حتى اندلعت أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر وعمت أنحاء الولايات المتحدة بالكامل. لقد انفجرت الفقاعة العقارية، وانهارت أسعار الأصول المضمونة برهون عقارية، ونضبت أسواق الائتمان، وفي غضون بضعة أشهر أقدمت شركات وول ستريت على انتحار جماعي. حينئذٍ كان على الحكومة أن تتدخل، أولًا في الولايات المتحدة ثم في عدد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى، من خلال وضع خطة إنقاذ مالي هائلة والاستحواذ على مؤسسات مالية. كانت العولمة المالية تكمن وراء تلك الأزمة؛ إذ كانت الفقاعة العقارية وما شيدته من بنيان ضخم من المشتقات المالية المحفوفة بالمخاطر قد تعاظمت نتيجة الزيادة المفرطة في ادِّخار الدول الآسيوية ودول النفط. وقد تسنَّى الانتشار السلس والسريع لهذه الأزمة من وول ستريت إلى المراكز المالية الأخرى حول العالم نتيجةً لاختلاط الموازنات العامة الناجم عن العولمة المالية. وللمرة الثانية، عجزتُ عن استشراف الحدث الأكبر الذي تتشكل ملامحه وراء الأفق.

بالطبع لم أكن وحدي في ذلك؛ إذ كان الاقتصاديون، عدا قلة قليلة منهم، منشغلين بالتهليل والثناء على الابتكار المالي بدلًا من أن يسلطوا الضوء على المخاطر الناجمة عن تنامي ما بات يطلَق عليه «نظام الظل المصرفي»، وهو محور التمويل غير الخاضع للضوابط التنظيمية الحكومية. وتكرر ما حدث في الأزمة المالية الآسيوية، فلم ينتبه الاقتصاديون للعلامات التحذيرية، وتجاهلوا المخاطر.

لم يكن ينبغي لأيٍّ من هاتين الأزمتين أن تشكِّل مفاجأة كاملة؛ فقد أعقبت الأزمة المالية الآسيوية مئات التحليلات التي خلصت جميعها في نهاية المطاف إلى ما يلي: من الخطورة أن تحاول أي حكومة أن تتمسك بقيمة عُملتها ما دام رأس المال يملك حرية التحرك إلى داخل البلاد وخارجها. وكان بمقدور أي عالم اقتصاد ذي مكانة أن يدرك هذه الحقيقة قبل انهيار العُملة التايلاندية (البات) في أغسطس ١٩٩٧ بوقتٍ كافٍ. علاوةً على أن أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر تمخضت عن الكثير من المؤلفات، وبالنظر إلى جسامة هذه الأزمة وتداعياتها الخطيرة، لا ريب أن قدرًا أكبر بكثير من المؤلفات سوف يُكتب لتناوُلها. لكن بعض النتائج الرئيسية لا يصعب استنتاجها؛ فالأسواق عرضة لتكوين الفقاعات، والرفع المالي غير الخاضع للضوابط التنظيمية يُحدث مخاطر نظامية تؤثر على الاقتصاد ككلٍّ، وغياب الشفافية يقوض الثقة، والتدخل المبكر يكون ضروريًّا حينما توشك الأسواق المالية على الانهيار والإفلاس. ألم نتعلَّم هذا منذ زمن بعيد؛ منذ هوس زهرة التيوليب الشهير في القرن السابع عشر؟

لم يكن السبب في وقوع كلتا الأزمتين أن التنبؤ بحدوثهما كان مستحيلًا، بل لأن أحدًا لم يتنبأ بحدوثهما؛ فقد أفرط الاقتصاديون (ومن يصغون لآرائهم) في الثقة في روايتهم المفضلة آنذاك: إن لدى الأسواق الكفاءة اللازمة، وإن الابتكار المالي يوجه المخاطر نحو الأقدر على تحمُّلها، وإن التنظيم الذاتي أكثر فعالية، والتدخل الحكومي غير مجدٍ وضار. ونسوا أن هناك الكثير من خيوط الرواية الأخرى التي قادت الأمور نحو اتجاهات مختلفة اختلافًا جذريًّا. إن فرط الثقة يَحُول دون وضوح الرؤية. وعلى الرغم من أنني كنت ممن انتقدوا العولمة المالية، فأنا لم أسلم من هذا؛ فقد كنت كغيري من علماء الاقتصاد مستعدًّا لأن أصدق أن اللوائح التنظيمية الاحترازية وسياسات البنوك المركزية شَيدت ما يكفي من الحواجز التي من شأنها أن تقيَ من حدوث الذعر المالي ومن انهيار الاقتصادات المتقدمة، ولم يبقَ سوى إجراء تدابير مماثلة في البلدان النامية. ربما كانت تفاصيل الحبكات الفرعية التي تصورتها مختلفة إلى حدٍّ ما، لكنني كنت أحكي الرواية الأساسية نفسها.

(١) شكوك من كل جانب

حينما تبتلع الأزمات بلدانًا أقل شأنًا في النظام العالمي مثل تايلاند وإندونيسيا، نلقي باللائمة على هذه البلدان لإخفاقاتها وعدم قدرتها على التكيُّف مع مقتضيات النظام. لكن حينما يحدث الأمر ذاته لبلدان محورية في النظام العالمي، نلقي باللائمة على النظام ونقول إن الوقت قد حان لإصلاحه. كانت أزمة عام ٢٠٠٨ المالية الكبرى التي أطاحت بسوق المال في وول ستريت وكسرت شوكة الولايات المتحدة إلى جانب دول صناعية كبرى غيرها؛ قد أذنت ببدء فترة من التحمُّس الوليد للإصلاح. أثارت هذه الأزمات تساؤلات خطيرة بشأن استدامة الرأسمالية العالمية، على الأقل على النحو الذي خبرناه خلال ربع القرن الأخير.

ما الذي كان من شأنه أن يَحُول دون وقوع الأزمة المالية؟ هل كانت المشكلة تكمن في انعدام ضمير مقرضي الرهون العقارية؟ أم في إسراف المقترضين؟ أم في الممارسات الخاطئة من جانب وكالات تصنيف الجدارة الائتمانية؟ أم في إفراط المؤسسات المالية في الاقتراض من أجل الرفع المالي؟ أم في تخمة المدخرات العالمية؟ أم في فرط لين سياسة نظام الاحتياطي الفيدرالي النقدية؟ أم في الضمانات الحكومية التي مُنحت لشركتَي «فاني ماي» و«فريدي ماك»؟ أم في إنقاذ وزارة الخزانة الأمريكية بنك «بير ستيرنز» وشركة «إيه آي جي»؟ أم في إحجامها عن وضع خطة إنقاذ مالي لبنك «ليمان براذرز»؟ أم في الخطر الأخلاقي؟ أم في قلة اللوائح التنظيمية؟ أم في كثرتها؟ لا يزال الجدل الدائر حول تلك الأسئلة محتدمًا، ولا شك أنه سيظل كذلك طويلًا.

وبالنظر إلى الأمور من منظورٍ أوسع سنجد أن هذه الأسئلة لا تُبرز سوى التفاصيل. لكن ما يفوق ذلك أهمية أن روايتنا الأساسية قد فقدت مصداقيتها وجاذبيتها؛ ومن ثم لا بد أن يمر زمن ليس بالقصير كي يتسنَّى إقناع أيٍّ من واضعي السياسات بأن الابتكار المالي قوة جبارة لتحقيق المنفعة، أو أن التنظيم الذاتي يشكِّل أفضل وسيلة لمراقبة الأسواق المالية، أو أن الحكومات يمكنها أن تتوقع أن تدفع المؤسسات المالية الكبيرة ثمن ما اقترفته من أخطاء. إننا بحاجة إلى رواية جديدة لصياغة المرحلة التالية من العولمة. وكلما كانت الرواية الجديدة مدروسة، تحسَّنت حالة اقتصاداتنا.

لم يكن مجال التمويل العالمي هو الوحيد الذي خرج عن السياق المقنع للرواية؛ ففي يوليو ٢٠٠٨، بينما كانت سُحب أزمة الرهون العقارية تتكاثر، انهارت المفاوضات العالمية الرامية إلى الحد من الحواجز التي تعرقل التجارة الدولية وسط قدر كبير من حدة الجدل وتبادُل الاتهامات. كانت هذه المحادثات، التي جرى تنظيمها تحت رعاية منظمة التجارة العالمية وأطلق عليها «جولة الدوحة»، دائرة منذ عام ٢٠٠١. وصارت بالنسبة إلى كثير من الجماعات المناهضة للعولمة رمزًا لما تمارسه الشركات المتعددة الجنسيات من استغلال للعمال وفقراء المزارعين والبيئة. كانت المحادثات هدفًا معتادًا للهجوم، وقد انهارت في النهاية لأسباب أقل أهمية؛ فقد خلصت البلدان النامية، وعلى رأسها الهند والصين، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي لن يمنحاها ما قد يغريها بإلغاء التعريفات الجمركية على منتجاتها الصناعية والزراعية. وبالرغم من استمرار الجهود الرامية لإحياء تلك المحادثات، يبدو أن منظمة التجارة العالمية قد استنفدت ما لديها من أفكار لتعزيز شرعيتها ومنحها الأهمية من جديد.

يختلف النظام التجاري العالمي عن نظيره المالي في جانب مهم واحد؛ ألا وهو أنَّ تآكُل منظومة العلاقات التجارية لا يسفر عن حدوث انفجار بين عشية وضُحاها؛ فحينما ترى الدول أن القوانين شديدة الصرامة ولم تعد تلبي احتياجاتها كما ينبغي، لا تعدم السبل لخرقها. وغالبًا ما تكون النتائج غير ملحوظة في البداية ثم تظهر بمرور الوقت في تراجُع تدريجي عن مبدأَي التعددية وعدم التمييز الأساسيين.

لطالما تذمرت الدول النامية من تحيُّز النظام ضد مصالحها نظرًا لأن الكبار هم دومًا من يضعون القواعد. علاوةً على أن مزيجًا متنوعًا من اللاسلطويين ودعاة حماية البيئة والتقدميين، إلى جانب مصالح نقابية؛ كان ينضم لجبهة هذه الدول بين الحين والآخر في مناهضتها العولمة لأسباب واضحة. لكن الأحداث المهمة التي حدثت في السنوات الأخيرة بيَّنت أن البلدان الغنية لم تعُد راضية هي الأخرى عن هذه القوانين. وينعكس هذا التوجه الجديد من خلال التراجع الملحوظ في دعم العولمة الاقتصادية في البلدان الكبرى كالولايات المتحدة؛ ففي استطلاعٍ للرأي أجرته شبكة «إن بي سي» بالتعاون مع صحيفة «وول ستريت جورنال» حول ما إذا كانت العولمة قد أفادت الاقتصاد الأمريكي، شهدت نسبة من أقرُّوا فائدة العولمة للاقتصاد الأمريكي تراجعًا كبيرًا من ٤٢٪ في يونيو ٢٠٠٧ إلى ٢٥٪ في مارس ٢٠٠٨. ومما يثير الدهشة أن أعراض خيبة الأمل قد بدأت في الظهور من خلال تزايد أعداد من كانوا يؤيدون الفكر الاقتصادي السائد من قَبلُ ثم باتوا يُشككون فيما يُفترض أنها مزايا عظيمة للعولمة.

وهكذا نجد المؤلف الراحل بول صامويلسون — مؤلف أهم الكتب الاقتصادية التعليمية في فترة ما بعد الحرب — يذكِّر زملاءه الاقتصاديين بأن مكاسب الصين من العولمة قد تكون على حساب الولايات المتحدة؛ ونجد السيد بول كروجمان، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام ٢٠٠٨، يدلل على أن التجارة مع الدول المنخفضة الدخل لم تعد أقل من أن تؤثر على عدم المساواة داخل الدول الغنية؛ ونجد آلان بلايندر، النائب السابق لرئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، يُعرب عن قلقه من احتمال تسبُّب الاستعانة بعمالة خارجية دولية في حركة تسريحٍ غير مسبوقة للعمالة الأمريكية؛ وكذلك يُعرب «مارتن وولف» — وهو كاتب عمود في صحيفة «فاينانشال تايمز»، وأحد أفصح المدافعين عن العولمة — عن خيبة أمله حيال ما آلت إليه العولمة المالية؛ وأخيرًا لاري سَمرز، أهم أنصار العولمة في إدارة الرئيس كلينتون والمستشار الاقتصادي للرئيس باراك أوباما، يتحدث عن مخاطر الدخول في سباقٍ لتخفيض الضوابط التنظيمية الوطنية وعن الحاجة إلى وضع معايير دولية للعمالة.

ومع أن تلك المخاوف لا تكاد ترقى إلى مستوى الهجوم السافر الضاري الذي يشنه آخرون مثل الاقتصادي جوزيف ستيجليتس، الحائز على جائزة نوبل، فإنها تشكل تحوُّلًا ملحوظًا في المناخ الفكري العام. علاوةً على أن حتى من ظلوا على إيمانهم بالعولمة غالبًا ما يختلفون اختلافًا شديدًا حول المسلك الذي ينبغي لها أن تسلكه. على سبيل المثال، كان جاجديش باجواتي، أحد أهم مؤيدي حرية التجارة، وفِريد بيرجستين، مدير معهد بيترسون للاقتصاد الدولي المعروف بدعمه للعولمة؛ في طليعة من أكَّدوا أن النقاد أفرطوا في وصف أمراض العولمة وهوَّنوا من قدر فوائدها. لكن مناقشاتهم حول مزايا اتفاقات التجارة الإقليمية — التي كان بيرجستين يؤيدها وكان باجواتي يعارضها — كانت ساخنة سخونة معارضات كلٍّ منهما للكُتَّاب الذين ذكرناهم من قبل.

بالطبع لا أحد من بين هؤلاء الاقتصاديين يناهض العولمة. ولا رغبة لديهم في تراجعها، بل يرغبون في إقامة مؤسسات جديدة ووضْع آليات تعويض — على الصعيد المحلي أو الدولي — من شأنها أن تزيد العولمة فاعلية وعدالة وقدرة على الاستمرار. وعادةً ما تكون اقتراحاتهم حول السياسة التي ينبغي انتهاجها (هذا إنْ حدَّدوها بالأساس) غامضة، ولا تحظى بإجماع كبير. لكن اختلاف الآراء حول مسألة العولمة قد تجاوز — إلى حدٍّ بعيد — حيز الشوارع إلى أعمدة الصحف المالية ومنصات بيوت الخبرة المؤيدة للاتجاه السائد.

وقد بدأ الإجماع الفكري الذي يؤيد نموذجنا الحالي للعولمة في التبخر فعليًّا قبل أن يبتلع الانهيار المالي الكبير الذي وقع عام ٢٠٠٨ اقتصاد العالم. واليوم، اختفى الموقف الواثق لكبار المهللين للعولمة لتحل محله الشكوك والتساؤلات والريبة.

(٢) رواية بديلة

شهد العالم انهيار العولمة مرة بالفعل. كان عصر معيار الذهب — بما ميَّزه من حرية التجارة وحرية انتقال رأس المال — قد انتهى على نحوٍ مفاجئ عام ١٩١٤، ولم يتسنَّ بعثه مجددًا بعد الحرب العالمية الأولى. فهل سنشهد انهيارًا اقتصاديًّا عالميًّا مماثلًا في السنوات المقبلة؟

هذا السؤال ليس من نسج الخيال. فعلى الرغم من أن العولمة أتاحت بلوغ مستويات غير مسبوقة من الرخاء في الدول المتقدمة، ومثلت نعمة هبطت على مئات الملايين من العمال الفقراء في الصين وغيرها من دول آسيا؛ فهي تقوم على ركائز متصدعة. وعلى عكس الأسواق الوطنية التي عادةً ما تحظى بدعم مؤسسات سياسية وتنظيمية محلية، لا تقوم الأسواق العالمية إلا على أرضية هشة؛ إذ لا وجود لهيئة عالمية مضادة للاحتكار، ولا جهة إقراض عالمية تمثل الملاذ الأخير، ولا جهة تنظيمية عالمية، ولا شبكة أمان عالمية، وبطبيعة الحال لا وجود لديمقراطية عالمية. بعبارة أخرى: تعاني الأسواق العالمية من ضعف الحوكمة؛ ومن ثَمَّ فهي معرضة للاضطراب والقصور ولضعف شرعيتها على المستوى الشعبي.

هذا الخلل في التوازن بين الإطار الوطني للحكومات والطابع العالمي للأسواق يشكِّل موطن ضعف العولمة؛ فوجود نظام اقتصادي عالمي صحي يستلزم مواءمة ذكية بين هذين الأمرين. فإذا مُنحت الحكومات قوة مفرطة، فسيؤدي ذلك إلى اتباع سياسة الحمائية (حماية الاقتصاد الوطني) والاكتفاء الذاتي التي تحظر الواردات. وإذا مُنحت الأسواق حرية مفرطة، فسيؤدي ذلك إلى إيجاد اقتصاد عالمي غير مستقر يعوزه الدعم السياسي والاجتماعي من جانب أولئك الذين يُفترض أن يساعدهم الاقتصاد.

حكمت العقودَ الثلاثة التي أعقبت عام ١٩٤٥ اتفاقية بريتون وودز، التي حملت اسم ذلك المنتجع في نيوهامشير الذي اجتمع فيه واضعو السياسات الأمريكيون والبريطانيون مع نظرائهم من دول الحلفاء عام ١٩٤٤، من أجل صياغة النظام الاقتصادي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان نظام بريتون وودز يمثل تعدُّدية سطحية سمحت لواضعي السياسات أن يركزوا على الاحتياجات الاجتماعية والتوظيفية المحلية، مع تمكين التجارة العالمية من التعافي والازدهار. وكانت عبقرية هذا النظام تكمن في أنه حقق توازنًا دعم أهدافًا متعددة دعمًا باهرًا؛ فقد أُزيلت بعض القيود الصارخة المفروضة على حرية سريان التجارة، وفي الوقت نفسه تُركت للحكومات حرية تطبيق سياساتها الاقتصادية المستقلة وإقامة نموذجها المفضل لدولة الرفاهية. وسمح للبلدان النامية أيضًا بتطبيق ما يخصها من استراتيجيات النمو في ظل قيود خارجية محدودة. لكن ظلت تدفقات رأس المال الدولية خاضعة لقيود محكمة. لقد نجحت اتفاقية بريتون وودز نجاحًا مدويًا؛ فقد استعادت الدول الصناعية عافيتها وصارت غنية، في حين شهدت أغلب الدول النامية مستويات نمو اقتصادي غير مسبوقة. وازدهر الاقتصاد العالمي ازدهارًا لم يسبق له مثيل.

لكن نظام بريتون وودز النقدي أثبت في النهاية عدم قابليته للاستمرار مع ازدياد حرية انتقال رأس المال على المستوى الدولي، ومع ما وجهته صدمات أسعار النفط في حقبة السبعينيات من ضربات موجعة للنظم الاقتصادية المتقدمة. وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين حل محل هذا النظام برنامج أكثر طموحًا للتحرر الاقتصادي والتكامل العميق، وهو جهد يرمي إلى إقامة ما يمكن أن نطلق عليه العولمة المفرطة؛ فقد تجاوزت اتفاقيات التجارة الآن اهتمامها التقليدي بمسألة القيود المفروضة على الاستيراد لتصطدم بالسياسات المحلية، وأُزيلت الضوابط التي كانت تحكم أسواق رأس المال الدولية، وصارت الدول النامية تحت ضغط هائل يدفعها لفتح أسواقها أمام التجارة والاستثمارات الخارجية. فعليًّا، صارت العولمة الاقتصادية غايةً في حد ذاتها.

أغفل الاقتصاديون وواضعو السياسات السر الكامن وراء نجاح نموذج عولمة ما بعد الحرب بإجبارهم له على تجاوُز حدوده؛ فكانت النتيجة سلسلة من الإخفاقات. وصارت العولمة المالية في نهاية المطاف تشيع عدم الاستقرار، لا زيادة الاستثمارات وسرعة تحقيق النمو. وأشاعت داخل البلدان الظلم وعدم الأمان بدلًا من تحقيق الفائدة للجميع. شهدت تلك الفترة نجاحات هائلة، تحديدًا في الصين والهند. لكن كما سنرى، كان هذان البلدان هما اللذين اختارا عدم ممارسة لعبة العولمة وفقًا للقواعد الجديدة، بل وفقًا لقواعد اتفاقية بريتون وودز؛ فبدلًا من الانفتاح المطلق على التجارة الدولية والتمويل الدولي، انتهجا استراتيجيات مختلطة اتسمت بقدر كبير من التدخُّل الحكومي من أجل تنويع اقتصادهما. في الوقت نفسه، آلت البلدان التي اتبعت وصفات أكثر التزامًا بالقواعد الجديدة — كبلدان أمريكا اللاتينية — إلى الضعف؛ وهكذا صارت العولمة ضحية نجاحها الذي حققته في بادئ الأمر.

إن إعادة وضع عالمنا الاقتصادي على أساس أكثر أمانًا يتطلب فهمًا أفضل للتوازن الحساس بين الأسواق والحوكمة. سأقدم في هذا الكتاب رواية بديلة تقوم على فكرتين بسيطتين؛ الأولى: أن الأسواق والحكومات عنصران يكمل كلٌّ منهما الآخر، لا بديلان يمكن الاستعاضة بأحدهما عن الآخر. فإذا أردنا أسواقًا أكثر وأفضل، فيجب أن يكون لدينا حوكمة أكثر (وأفضل)؛ فالأسواق لا تعمل على نحوٍ أفضل حيثما تكون الدول أضعف الأطراف، بل حيثما تكون قوية. والثانية: أن ليس للرأسمالية نموذج وحيد.

يمكن تحقيق الرخاء والاستقرار الاقتصادي من خلال اتخاذ مجموعات مختلفة من التدابير المؤسسية في أسواق العمل، والتمويل وحوكمة الشركات والرعاية الاجتماعية، وغيرها من المجالات الأخرى. وقد تختار الدول خيارات متباينة — ويحق لها ذلك دون شك — من بين هذه التدابير وفقًا لاحتياجاتها وقيمها.

قد تبدو هاتان الفكرتان عاديتين لدى سماعهما، لكنهما تؤثران تأثيرات هائلة على العولمة والديمقراطية، وعلى مدى قدرتنا على انتهاج إحداهما في وجود الأخرى؛ فبمجرد أن نفهم أن الأسواق بحاجة إلى مؤسسات عامة لإدارتها وقواعد تنظيمية لكي تعمل على نحوٍ جيد، وحالما نتقبل إمكانية اختلاف تفضيلات الدول فيما يتعلق بالشكل الذي ينبغي لهذه المؤسسات والقواعد التنظيمية أن تتخذه، نكون قد بدأنا في سرد رواية تقودنا نحو نهايات مختلفة اختلافًا جذريًّا.

ولكي أكون أكثر تحديدًا، لنبدأ في فهم ما سأُسميه المعضلة السياسية الأساسية الثلاثية الأبعاد للاقتصاد العالمي، وتتمثل في أننا لا نستطيع أن نجمع في وقت واحد بين انتهاج الديمقراطية، وتقرير المصير الوطني، والعولمة الاقتصادية. فإذا كنا نريد دفع العولمة قدمًا، فعلينا أن نتخلى إما عن الدولة القومية، أو عن السياسات الديمقراطية. وإذا كنا نريد الحفاظ على الديمقراطية وترسيخها، فعلينا أن نختار بين الدولة القومية والتكامل الاقتصادي العالمي. وإذا كنا نريد الحفاظ على الدولة القومية وتقرير المصير، فعلينا أن نختار بين ترسيخ الديمقراطية وترسيخ العولمة. وتكمن أسباب متاعبنا في إحجامنا عن مجابهة هذه الخيارات الحتمية.

وعلى الرغم من أنه من الممكن تعزيز كلٍّ من الديمقراطية والعولمة في آنٍ واحد، تشير المعضلة الثلاثية الأبعاد إلى أن ذلك يتطلب إنشاء مجتمع سياسي عالمي فائق الطموح على نحوٍ لم نشهد له مثيلًا من قبل، ولا يمكن أن نشهده قريبًا. سيتطلب هذا وضع قوانين عالمية بطريقة ديمقراطية، تدعمها آليات مساءلة أكثر كفاءةً بكثير من تلك الموجودة في الوقت الحالي. هذا النوع من الحوكمة العالمية الديمقراطية ضرب من الخيال. سبب ذلك — كما سأبين في طرحي — أن هناك الكثير من الاختلافات بين الدول القومية بحيث يتعذر تكييف احتياجاتها وتفضيلاتها في إطار قواعد ومؤسسات مشتركة. وأيًّا كان شكل الحوكمة العالمية التي نستطيع تكوينها، فلن تدعم سوى نموذج محدود من العولمة الاقتصادية؛ فالتنوع الكبير الذي يميز عالمنا المعاصر لا يجعل العولمة المفرطة تتلاءم مع الديمقراطية.

لذا علينا اتخاذ بعض الخيارات. ودعوني أكُنْ واضحًا بشأن خياري: يجب تقديم الديمقراطية وتقرير المصير الوطني على العولمة المفرطة؛ «فالديمقراطيات يحق لها حماية ترتيباتها المجتمعية، وحينما يتعارض هذا الحق مع متطلبات الاقتصاد العالمي، يجب على الأخير أن يتنحى جانبًا مفسحًا الطريق للأول.»

قد تظن أن هذا المبدأ سيكون غاية العولمة. لكن الأمر ليس كذلك. أتمنى بنهاية هذا الكتاب أن أقنعك بأن إعادة تمكين الديمقراطيات القومية من شأنها أن تضع الاقتصاد العالمي على أسس أكثر متانة وأمانًا. وهنا تكمن أقصى مفارقات العولمة؛ فوجود طبقة رقيقة من الضوابط الدولية التي تتيح للحكومات الوطنية مجالًا كبيرًا للمناورة يدفع العولمة قدمًا. وبإمكانه علاج أمراض العولمة مع الحفاظ على مزاياها الاقتصادية المهمة. إننا بحاجة إلى عولمة ذكية، لا عولمة مفرطة.

(٣) الاقتصاديون أيضًا بشر

افتقر الاقتصاديون والمستشارون السياسيون كثيرًا إلى بُعد النظر حيال ما تولِّده العولمة الاقتصادية من اضطرابات ومواطن ضعف؛ فقد عزَوْا كل عقبة في الطريق إلى عدم الدراية أو إلى ما هو أسوأ؛ إلى ضغوط أصحاب المصالح الشخصية من دعاة الحمائية على اختلاف أطيافهم. ولم يتنبَّهوا كما ينبغي لما يفاقمه السعي المحموم إلى العولمة من صدام منطقي بين القِيم والمُثل المتصارعة. علاوةً على أنهم أغفلوا العلاقة بين الأسواق التي تعمل جيدًا والإجراءات الحكومية الهادفة؛ ومن ثَمَّ كانت وصفاتهم في بعض الأحيان تُحدث ضررًا يفوق ما تحققه من نفع؛ فقد أضاعوا فرصًا لا تُحصى لاستخدام أدوات مهنتهم في إحداث أثر أفضل.

هذا، إذنْ، كتاب آخر عن الاقتصاديين وأفكارهم، وعما يَرْوُونه من قصص لأنفسهم وللآخرين. ويشرح هذا الكتاب كيف شكَّلت تلك القصص عالمنا، وكيف كادت تعجِّل بنهاية ذلك العالم، وكم من هذه الأفكار الاقتصادية يمكن استخدامه الآن لإقامة نظام اقتصادي عالمي أفضل. ربما من الطبيعي أن يرى عالم اقتصادي مثلي أن الأفكار — لا سيما أفكار الاقتصاديين — مهمة للغاية. لكنني أعتقد أن من الصعب المبالغة في التأثير الذي مارسته تلك الأفكار على تشكيل فهمنا للعالم من حولنا، وتشكيل الحوار بين الساسة وغيرهم من صناع القرار، وتضييق نطاق خياراتنا وتوسيعه كذلك. ولا شك أن علماء السياسة وعلماء الاجتماع والمؤرخين وغيرهم سينسبون دورًا مساويًا لمجالاتهم. والخيارات السياسية محكومة ولا شك بالمصالح الخاصة وبتنظيمها السياسي، وباتجاهات مجتمعية أعمق، وبالأحوال التاريخية. لكن بفضل ما يمتاز به علم الاقتصاد من براعة فنية ويقين واضح، كانت له الغلبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل. علاوةً على أنه زوَّدنا باللغة التي نناقش بها السياسة العامة، وشكَّل طوبولوجيا خريطتنا النفسية الجمعية. ذات مرة قال كينز قولته المشهورة: «عادةً ما يقع حتى أشد أصحاب الأعمال عمليةً تحت سيطرة أفكار عالم اقتصادي قضى نحبه منذ زمن بعيد.» لكنني أظن أنه لم يعبِّر عن المشكلة كما ينبغي؛ فقد جاءت الأفكار التي أنتجت السياسات المتبعة خلال الخمسين سنة الأخيرة من اقتصاديين يكونون (في أغلب الأحيان) أحياءً يُرزقون.

ثَمَّةَ اتهام عادةً ما يُلصق بعلماء الاقتصاد ظلمًا؛ إذ يراهم الآخرون متعصبين للسوق ولا يكترثون للمجتمعات أو القيم الاجتماعية أو الأهداف العامة بقدر ما يحرصون على الكفاءة والنمو الاقتصادي. ويقال إنهم يعملون على الترويج للاستهلاك المادي والطمع والأنانية على حساب المعايير الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية التعاونية الأخرى. وصورة عالم الاقتصاد في أذهان أغلب الناس هي صورة ميلتون فريدمان، الذي ظل طوال الوقت يبشر بفضائل السوق الحرة ويحذر من مخاطر التدخل الحكومي في الإسكان والتعليم والصحة والتوظيف والتجارة وغيرها من المجالات. لكن هذه الصورة ليست صحيحة بالمرة؛ فأُطُر العمل التي يستخدمها الاقتصاديون لتحليل العالم من حولهم متنوعة؛ بعضها يتحيز للسوق الحرة وبعضها الآخر لا يفعل ذلك. وكثير من البحوث الاقتصادية في الواقع مُوجَّه نحو فهم أنواع التدخل الحكومي الذي من شأنه أن يحسِّن الأداء الاقتصادي. علاوةً على أن هناك الكثير مما يدرسه الاقتصاديون على نحوٍ متزايد من دوافع غير اقتصادية وسلوكيات اجتماعية تعاونية.

لكن المشكلة ليست أن الاقتصاديين هم دعاة التعصب للسوق الحرة، بل إنهم يعانون من نفس أشكال التحيز الاستدلالي التي يعاني منها الأشخاص العاديون؛ فيميلون إلى التفكير بأسلوب القطيع وإلى الثقة العمياء، معتمدين اعتمادًا مفرطًا على الأدلة التي تدعم الرواية المفضلة لديهم في هذه اللحظة، مع رفض كل ما سواها من الروايات التي لا تتوافق مع قناعتهم توافقًا كاملًا. وهم يتبعون البدع والموضات؛ فيروجون لمجموعات مختلفة من الأفكار باختلاف الزمن. وهم يولون أهمية قصوى للخبرات الحديثة، بينما لا يهتمون بالأحداث التاريخية الأقدم إلا بالقدر القليل. ويميلون إلى المبالغة في التركيز على العلاجات التي تحل آخر الأزمات، بينما لا يعيرون انتباهًا كافيًا للتوترات التي قد تتمخض عن أزمة قادمة. وغالبًا ما يعزون سبب الاعتراض على آرائهم إلى الجهل أو المصلحة الشخصية لا إلى وجود اختلافات حقيقية في تقييم الظروف الأساسية. وهم عشائريون متعصبون؛ لأنهم يمارسون تمييزًا كبيرًا بين مَن ينتمون إليهم ومَن لا ينتمون (أي بين أبناء مهنتهم والآخرين). وكحال حملة أي معرفة متخصصة، يميلون إلى التعجرف حينما يحاول غير المتخصصين اقتحام مجال تخصصهم. بعبارة أخرى: الاقتصاديون ليسوا سوى بشر، ويتصرفون مثلما يتصرف البشر، لا مثل واضعي خطط تعظيم الرفاهية الاجتماعية الخياليين المفرطين في العقلانية، الذين تقوم عليهم أحيانًا نماذج الاقتصاديين.

لكن الاقتصاديين ليسوا كأي فئة أخرى؛ لأنهم هم مهندسو البيئة الفكرية التي تُوضع في إطارها السياسات المحلية والدولية. وهم يحظَوْن بالاحترام، وأصحاب كلمة مسموعة، لكن مما يثير السخرية أن زيادة هذا الاحترام تزيد الوضع الاقتصادي سوءًا؛ فحينما يخطئ الاقتصاديون في فهم أمرٍ ما، كما يفعلون بين الحين والآخر، قد يتسببون في ضرر بالغ.

لكن حينما يكون فهمهم للأمور صحيحًا، يكون دورهم في تحقيق رفاهية الإنسان عظيمًا. فالفضل في عددٍ من أعظم النجاحات الاقتصادية في عصرنا — كإعادة بناء التجارة العالمية في فترة ما بعد الحرب أو صعود الصين والهند — يعود إلى أفكار بسيطة وقوية في الوقت نفسه، جاهد الاقتصاديون بصلابة لنشرها، منها: أن التجارة أفضل من الاكتفاء الذاتي، وأن الحافز أمر مهم، وأن الأسواق هي محرك النمو. وكما سأعرض في ثنايا هذا الكتاب، هناك الكثير في علم الاقتصاد مما يمكن، وينبغي، الإشادة به.

ومن ثَمَّ فإن ما بين أيديكم ليس مجرد مسرحية أخلاقية تصوِّر صراعًا بين الأخيار والأشرار. إنَّ صبري ينفد سريعًا إزاء التقييمات الموجزة التي تُحمِّل الاقتصاديين مسئولية العلل التي يعانيها العالم، مثلما ينفد إزاء البيانات التي يهنئ بها أصوليو السوق أنفسهم؛ لذا لن أشوِّه أفكار الاقتصاديين، أو أهلل لها، وإنما سأعرض كيف استُخدمت أو أسيء استخدامها في مختلِف الأوقات، وأوضِّح كيف يمكننا أن نبنيَ عليها كي ننشئ نموذجًا أفضل للعولمة، يكون أكثر توافقًا مع قِيَمِ مختلِف الدول وطموحاتها، ويتمتع بمزيد من المرونة. لكن إلى الآن، لا تزال آراء الاقتصاديين بمثابة مزيج يتكون في ثلثَيه من عقارٍ ناجعٍ يشفي من علل كثيرة، فيما يتكون في ثلثه المتبقي من زيت الحية الذي يوهَم به الناس أنه يشفي من كل الأمراض. وآمل أن يساعد هذا الكتابُ القارئَ على معرفة الفارق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤